محاضرة فجرت أزمة سياسية انتهت بإقالة مدير المكتبة الوطنية

كمال زايت
(الجزائر)

أدونيسعاشت الجزائر على مدار أسبوعين ما أضحى يعرف بـ "عاصفة أدونيس"، فالشاعر السوري الذي زار الجزائر بدعوة رسمية من المكتبة الوطنية، رحل وخلف وراءه زوبعة أبت أن تهدأ إلا بعد أن أطاحت برأس مدير المكتبة الوطنية أمين الزاوي، الذي كان "كبش فداء" بشهادة كثير من المتتبعين للشأن الثقافي والسياسي أيضا، على اعتبار أن القضية كانت لها خلفيات سياسية غير ظاهرة للعيان.

لم يكن أحد يتوقع أن يتحول الحدث الثقافي المتمثل في زيارة أدونيس للجزائر، وهي الأولى من نوعها، إلى أزمة حقيقية متعددة الأوجه.

الأجواء التي صاحبت الإعلان عن قدوم الشاعر كانت احتفالية، وقاعة المحاضرات الخاصة بالمكتبة الوطنية الواقعة بحي "الحامة" في العاصمة غصت بحضور متميز، كان بينهم مثقفون وإعلاميون وحتى مسؤولون سابقون تسابقوا للظفر بمقعد لسماع محاضرة "أدونيس" وكان ذلك بتاريخ 15 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

وما زاد في الإقبال على هذه المحاضرة هو الدعاية التي قامت بها الصحف اليومية، فقد خرجت معظمها بخبر "أدونيس في الجزائر" على صدر صفحاتها، وكانت من المرات القليلة التي تجمع فيها الصحف على إبراز الحدث نفسه، خاصة في المجال الثقافي.

الشاعر السوري علي أحمد سعيد اسبر المعروف بأدونيس ألقى محاضرة عنوانها "نحو ممانعة جذرية وشاملة". وبدا في البداية أن الموضوع سياسي أكثر منه ثقافياً، ولكن بعض العبارات التي وردت في المحاضرة بشأن الإسلام، كانت بمثابة قنابل موقوتة على استعداد للانفجار في أية لحظة.

أدونيس لم يكن مجاملا في كلامه، وقال بأن العالم العربي يعيش حالة انقراض حضاري، وأن العرب ليس لديهم ما يقدمونه لمستقبل العالم، معتبرا بأنه لو اجتمع العالم الأوروبي والآسيوي والعربي وكل الأجناس ليقدموا مقترحات وتصورات لمستقبل العالم والبشرية ومعالجة المشاكل القائمة، فلن يكون بإمكان العرب تقديم شيء.

كما انتقد الشاعر استمرار العنف والتصاقه بالنظام الإسلامي، مشيرا إلى أن الإسلام اقترن اقترانا عضويا بالسلطة والعنف، وأضاف أن اللغة العربية ترشح دما منذ خمسة عشر قرنا، "بدليل أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا مقتولين".

ورغم أن الشاعر السوري حاول الاستدراك بالقول أنه" ليس ضد الدين، ولكن يجب التمييز بين الدين كقناعة فردية وبين تحويله كأداة للتسلط والإقصاء"، إلا أن الرصاصة كانت قد خرجت.
ومضى في حديثه عن الدين الإسلامي، مشددا على أن هذا الأخير لا يعيش أزمة إيمان بل أزمة قراءة، وضرب مثالا بالديانة المسيحية في أوروبا، معتبرا أن النقد الذي وجه إليها أدى إلى إحيائها بعد أن قتلتها الكنيسة، وخلص إلى القول: "اننا لا نتجرأ على النقد وطرح الأسئلة أعطوني فقط اسم مفكر عربي واحد أقدم على هذا الأمر؟".

الهدوء الذي يسبق العاصفة

في اليوم التالي خرجت معظم الصحف اليومية بمقالات عن محاضرة الشاعر السوري، ولم تسجل أية صحيفة بأن هناك مسائل سلبية في تلك التصريحات، بل إن جريدة الشروق (خاصة) استضافت أدونيس مجددا في ندوة، قال فيها أن العرب والمسلمين ما يزالون يعالجون واقعهم السلبي بذهنية الماضي.
واعتبر أن الخطاب الديني "مجرد لغة"، وقال بشأن التفاف الشارع حوله: "إن هذه العودة القوية للتيار الديني وهذا الالتفاف حول ما يسمى المشروع الإسلامي، كما يفهم ويمارس اليوم، هو دليل آخر على الانقراض الحضاري العربي".

وحاول الشاعر مجددا التوضيح بأنه ليس ضد الدين، ولا ضد الإيمان، وأنه يؤمن بحرية المعتقد، مشددا على أنه يرفض رفضا مطلقا، أن تحتكر أي جهة الخطاب الديني باسم أيديولوجيا دينية معينة، بهدف استغلالها سياسيا، معتبرا أن "الدين في الأصل غاية وليس وسيلة، وأنه شيء مقدس عند المؤمنين لا يليق أن يستغل لأغراض سياسية منحطة".

وعرّج الشاعر على مسألة وضع المرأة في القرآن، مؤكدا أنه "لا وجود لنص في القرآن الكريم، يحقق وجود المرأة كذات مستقلة عن التوابع"، مشيرا إلى أن المرأة كإنسان وكذات "لا وجود لها قانونيا في النص القرآني، وأنها ليست حرة ولا هي سيدة مصيرها، وإنما هناك ذوات أو نساء توابع".

وقال أيضا "ليس ثمة نص واحد واضح يحدد حرية المرأة وذاتها المستقلة، وإنما هناك تأويلات أو قراءات الفقهاء"، و ذكر "أن المرأة يوم القيامة لا وجود لها كذات في الجنة، وإنما هي مجرد حورية للاستمتاع، والقرآن لم يفصل في هذه القضية، ولم يعط للمرأة الحرية والتقدير كما يدعي البعض"، ووصل أدونيس إلى نتيجة "أن الرجل مفضل على المرأة في النص القرآني".

ومضى يومان على هذه التصريحات وغادر أدونيس الجزائر، واعتقد الكثيرون أنها زيارة وانتهت، ولم يكن أحد يتصور أن القنبلة ستنفجر قريبا، وأنها ستكون بمثابة كرة ثلجية تكبر كلما انحدرت من الجبل.

فجأة أصدر رئيس جمعية العلماء المسلمين (تأسست خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر) بيانا شديد اللهجة تجاه تصريحات أدونيس، وكان هذا البيان الذي نشرته جريدة "الخبر" (خاصة) بمثابة عود الكبريت الذي أشعل الأزمة.

الشيخ عبد الرحمن شيبان قال في بيانه أن ما جاء في كلام أدونيس هو "أراجيف وقحة من شاعر إباحي ملحد"، معتبرا أن الشاعر ''تطاول على الإسلام وعلماء الإسلام في أرض الجهاد والاجتهاد، أرض المليون ونصف المليون شهيد، وفي رحاب المكتبة الوطنية الجزائرية (ذاكرة الأمة)".

وأضاف البيان: ''إن الشاعر طعن في التعاليم الإسلامية الصريحة، قرآنا وسنة، وقام بالتجريح السافر، الساخر في حق علماء الإسلام وفقهائه المجتهدين، القدماء والمعاصرين"، "وإنه دعا المسلمين إلى التخلي عن الدين بمثل أقواله: "إن طريق النهضة لا يتقدم بنا كمسلمين، إلا إذا أحدثنا قطيعة تامة مع تراثنا الديني، وتبنينا منظومة فكرية حداثية ترفض تقديس المقدسات الإسلامية".

واعتبر شيبان أن أدونيس أساء للإسلام لما قال: "إن العودة إلى الإسلام تعني انقراضنا الحضاري''، و: "المرأة" لا وجود قانونياً لها في النص القرآني"، و"أنها ليست حرة ولا سيدة مصيرها''، وأنها: ''أداة لإشباع غريزة الرجل".

كرة الثلج

وبدا غريبا أن جمعية العلماء المسلمين هي التي تحركت، في الوقت الذي لم تتحرك فيه أحزاب التيار الإسلامي، ولا حتى رموز التيار السلفي، الذين لا يفوتون عادة فرصة مثل هذه للظهور، مع أن الجمعية لم يسبق أن أثارت أي نوع من أنواع الجدل.

ولعل الموقف الوحيد المعبر عنه من جانب الأحزاب الإسلامية هو سؤال شفوي تقدم به نائب بالبرلمان لوزيرة الثقافة خليدة تومي. لكن النائب عبد العزيز منصور صاحب السؤال المنتمي سياسيا إلى حركة مجتمع السلم (تيار إسلامي وعضو في التحالف الرئاسي) أقدم على ذلك بمبادرة شخصية، وحزبه لم يكن موافقا على ذلك معتبرا أن ما قام به النائب "مزايدة" لا طائل من ورائها.

غير أن النائب قال في سؤاله أن الشاعر السوري من خلال تصريحاته "طعن صراحة في الثوابت والتعاليم الإسلامية من الكتاب والسنة". وأضاف مخاطبا الوزيرة: "ألا تعلمين بأن ما قام به أدونيس هو تسفيه ساخر لعلماء الإسلام قديما وحديثا، فكيف لشاعر إباحي ملحد أن يتطاول على الإسلام في أرض الإسلام ؟ أليس الإسلام دين الدولة كما ينص على ذلك الدستور الجزائري؟، وكيف لوزارة الثقافة ولمدير المكتبة الوطنية جلب مثل هؤلاء الذين يدعون صراحة إلى نزع القداسة عن المقدسات الإسلامية "؟

وابتداء من يوم الأحد 19 تشرين الأول/ أكتوبر راجت إشاعة بشأن إقالة أمين الزاوي مدير المكتبة الوطنية، على خلفية الضجة التي أثارتها تصريحات أدونيس، الذي قدم إلى الجزائر بدعوة من مدير المكتبة الوطنية، ولكن الإشاعة لم تتأكد، وظل الزاوي في مكتبه يتابع تطورات هذه الأزمة.

القضية أخذت أبعادا أخرى، عندما سأل الصحافيون في يوم الثلاثاء 21 تشرين الأول (أكتوبر) وزير الإعلام الناطق باسم الحكومة عن موقف حكومته من الجدل الذي أثاره الشاعر السوري، فجاءت إجابة الوزير عبد الرشيد بوكرزازة دبلوماسية، مؤكدا على أن الأمر يتعلق بجدل ثقافي.

وبعد ساعتين تقريبا من هذا التصريح كانت وزيرة الثقافة خليدة تومي تعقد مؤتمرا صحافيا بمناسبة انعقاد اجتماع وزراء الثقافة العرب، وكانت تتوقع أن يطرح عليها الصحافيون سؤالا بشأن زيارة أدونيس وتداعياتها، فأجابت دون أن تشفي غليل السائلين، إذ اعتبرت أن ردود فعل الجزائريين تجاه تصريحات الشاعر السوري سلوك جيد يعبر عن يقظة المجتمع الجزائري ضد أي قضية تمس بدينه وشخصيته، غير أنها نفت علمها بوجود سؤال شفوي ينتظرها في البرلمان، والذي لم تجب عنه حتى الآن.
ولم يفهم أحد من كلام الوزيرة إن كانت غاضبة أو عاتبة أو راضية على مدير المكتبة الوطنية الذي وجه الدعوة إلى الشاعر السوري.

الضربة القاضية

لم يكن الصراع القائم بين وزيرة الثقافة ومدير المكتبة الوطنية خافيا على أحد من متتبعي الشأن الثقافي، بل إن الوزيرة سجلت نقاطا في أحد فصول هذا الصراع، وذلك بإقالة زوجة الزاوي الشاعرة ربيعة جلطي، التي كانت تشغل منصب مديرة بالوزارة، لذا جاءت قضية أدونيس من جهة، وقضية كتاب الصحافي محمد بن شيكو لتعجل بالحسم في الصراع القائم بين الطرفين منذ حوالي 3 سنوات.
وبن شيكو هو كاتب صحافي كان يترأس تحرير جريدة "لوماتان" (خاصة) المتوقفة عن الصدور، وسبق أن دخل السجن بين 2004 و2006 لمدة عامين، بعد أن اتهم بتهريب أموال، في حين يصر هو على أنه دفع ثمن كتاباته الصحافية خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية التي جرت في نيسان (أبريل) 2004، وكذا إصداره كتاب "بوتفليقة..بهتان جزائري".

وكان الصحافي بن شيكو يستعد لإصدار كتاب جديد يحمل عنوان "دفاتر صحيفة رجل حر"، قبل أن تقدم الشرطة على مصادرة مخطوط الكتاب من المطبعة، رغم أن بن شيكو قال بأنه حصل على الرقم التسلسلي لكتابه من المكتبة الوطنية. وقد أعلنت الوزيرة من جهتها أنها هي من قرر مصادرة الكتاب، بدعوى تضمنه إساءة لمسؤولين كبار في الدولة، في مقدمتهم رئيس الجمهورية ووزير الداخلية.

وبعد أن توفرت للوزيرة فرصتان يصعب تعويضهما، من جهة زيارة أدونيس وتصريحاته، ومن جهة أخرى كتاب بن شيكو الممنوع من الصدور، حانت ساعة الحســم، ونزل في يوم الأحد 26 تشرين الأول (أكتوبر) خبر إقالة أمين الزاوي من المكتبة الوطنية، وتناولته معظم الصحف في أعدادها الصادرة صبيحة اليوم التالي، دون أن تعلن الخبر أية جهة رسمية، لكنها كلها نسبته إلى "مصادر موثوقة"، دون أن تحدد الجهة التي اتخذت القرار، على اعتبار أن قرار الإقالة حمله 3 من كوادر الوزارة.

وفي اليوم التالي قرر الزاوي الذي احتفظ بالصمت منذ اندلاع الجدل بشأن زيارة الشاعر السوري أدونيس أن يتكلم، وقال عبر أعمدة جريدة "الخبر" أن تنحيته كانت بسبب "أكاذيب'' رفعت إلى رئيس الجمهورية، ''من قبل وزارة الثقافة أو جهات أخرى''، معتبرا أن قرار تنحيته ''تشويه للديمقراطية الصاعدة في الجزائر".

وأكد مدير المكتبة المقال على أنه بعث محاضرة الشاعر السوري أدونيس، قبل أن يلقيها، إلى الرئيس بوتفليقة، مشددا على "أن المحاضرة لم تسئ للإسلام ولم تمس الرسول الكريم''. ومضى يقول ''زيارة أدونيس مفخرة للجزائر؛ لأننا بلد متفتح والمثقفون الجزائريون يدافعون عن التعددية ( ) كما أن أدونيس مفكر معترف به عالميا وعربيا، وهو على بعد خطوتين من نوبل، لذا فقدومه إلى الجزائر حدث ثقافي مهم".
أما فيما يتعلق برد فعل جمعية العلماء المسلمين، فكشف عن أنه بعث المحاضرة في وقت سابق للشيخ عبد الرحمن شيبان، وأنه طلب منه أن يقرأها، وأن ينشرها في جريدة البصائر (لسان حال الجمعية) ليطلع الجميع على ما قاله أدونيس في المكتبة الوطنية.

واعتبر الزاوي أن ما رفع للرئيس عن علاقة المكتبة الوطنية ببن شيكو، "كذب في كذب"، مذكرا بأن المكتبة ليست مؤسسة رقابة، وليست مؤسسة ترخص للنشر، بل تمنح الأرقام التسلسلية لدور النشر، وأنه رقم عالمي يمكن الحصول عليه بأي طريقة كانت، حتى عن طريق الانترنت دون المرور بالمكتبة الوطنية، وألح الزاوي على أن الرقم التسلسلي ليس رخصة أو ترخيصا للنشر، فهو رقم للتسجيل فقط".

واعتبر الزاوي في الأخير أن ما أزعج الوزارة الوصية بالخصوص، هو أن المكتبة الوطنية أصبحت موقع إشعاع جزائري وعربي ودولي:" بهذه الأكاذيب التي قدمت للرئيس أرادوا تشويه صورة الجزائر، وتكسير الديمقراطية الصاعدة في الجزائر، علما بأنه كثيرا ما تحدث في خطبه عن التسامح والاختلاف والدفاع عن صورة الجزائر الثقافية".

ردود فعل

وفي إطار ردود الفعل التي خلفتها إقالة أمين الزاوي وجهت 45 شخصية ثقافية وإعلامية وأدبية عريضة إلى الرئيس بوتفليقة، معبرة عن استيائها من الحملة التي استهدفت الشاعر أدونيس، وكذا إقالة مدير المكتبة الوطنية.

وطالب أصحاب الرسالة الرئيس بالتدخل "لتدارك الأخطاء التي ارتكبت، ورفعا للضرر بوقفة غايتها المثلى بناء جزائر للجميع، قوامها الروح والعقل وآلتها المؤسسات الديمقراطية الحديثة".

وأعرب أصحاب الرسالة عن قلقهم مما يشعرون به من مخاطر كبرى تمس أسس الإنسان والدولة والحياة، مشددين على أن التراجع الفكري بلغ حدا مخيفا، انحسرت معه مساحات الرأي إلى مستوى يؤسف له مما يهدد يوميا حرياتنا الفردية وحقنا في الاختلاف والتنوع المكرسين دينا ودستورا، ويضعها تحت رحمة الإقصاء والتعسف في السلطة.

ودعا أصحاب الرسالة الرئيس للوقوف ضد ''مخططات قطع الألسنة وكسر الأقلام والعودة إلى الأحادية وثقافة نفي الذات".

واعتبروا أن بناء الدولة تترصده معاول الهدم ونزوات العدمية والتطرف والقفز في المجهول، مشددين على أن الحجر على الفكر والحريات الأساسية يصنع آليا أوكارا للعنف والتفكك".

وأجمع كثير من المثقفين والإعلاميين على أن إقالة أمين الزاوي خسارة كبيرة للثقافة الجزائرية، وأنه هدم لآخر مؤسسة ثقافية كانت تؤدي دورها، معتبرين أن الجدل الذي أثير حول زيارة أدونيس مفتعل، وأن وزيرة الثقافة استغلت الفرصة لتصفية حساب قديم مع أمين الزاوي والتخلص منه بالضربة القاضية.

القدس العربي
04/11/2008