أحمد خلف
(العراق)

( 1 )

رجل الضبابظلت فكرة الكتابة عن حسين مردان تراودني منذ عرفته عن كثب في مطلع عام 1969، حين عملنا معاً في الإذاعة والتلفزيون (قسمها الثقافي) وقد التزمنا صداقته بوفاء ومحبة انا والصديق حميد الخاقاني، كان يجد فينا ملاذين من ليل وحدته وعسرها، بل وثقلها علي روحه، فكنا نلازمه غالباً، في نهاره حتي ساعة متأخرة من ليله بطيء الخطوات، وعلي مدي أربع سنوات متتالية،
كان يأتي القسم الثقافي ويلقي حقيبته الجلدية (كأنه يلقي علي منضدة الكتابة خرج أيامه المتوارية ونحن نراه أو نرسل اليه نظرة عابرة من زاوية العين فنجده قد حمل الكثير من أتعابه كان ذلك مرتسماً علي جبهته أو في نظرة يلقيها علينا وقد ضيق من حاجبيه الكثيفين وهو يزفر ويتمتم بعبارات غير مكتملة متذمراً من حرارة الصيف اللاهب أو برودة الشتاء اللاسعة غير انه كان في كل هذا وذاك محط أنظارنا كأننا لا نريد له ان يتعب أو ينال منه الزمن الذي كان احد خصومه التقليديين وكان كثيراً ما يلعنه سواء في السراء أو الضراء فحسين مردان كانت عباراته تتسم بهجائه القوي الغيبـية أو في ظواهر الطبيعة التي تبدو اكبر من طاقته علي التحمل) بعد انقضاء الشطر الاول من صباح يومه، آتياً من مجلة ألف باء ـ وقد سلمها مقاله الأسبوعي، الذي يجلبه عادة منشوراً في المجلة، في الأسبوع المقبل. وكان أما انه يفرض علينا قراءته أو يقرأه علينا بصوته، كنا نصغي اليه وكان حميد أكثر مني عناية في الرد عليه أو في الإصغاء إليه، وحسين مردان مولع بنفسه حد الشعور بالغبن المقصود من قبل الآخرين، فكانت عناية الخاقاني تبعث الرضا في أعطافه، إما فوضويتي التي كنت القي بها عليه بين حين وآخر، فغالباً ما كانت تثير حفيظته وسخطه، وظلت علاقتي به بين مد وجزر حتي وفاته 4 / 10 / 1972، وقد ذكر الدكتور علي جواد الطاهر عنه، في كتابه (من يفرك الصدأ) الصادر في بغداد سنة 1988 قوله: (.. ولكن الذي حدث انه لم ير الكتاب، كتاباً مطبوعاً، فقد توفي سنة 1972، وصدر الكتاب يوم وفاته أو خلال أيام رحيله). والكتاب الذي يقصده الطاهر، هو (الأزهار تورق في الصاعقة) (1) آخر ما أصدره الراحل حسين مردان من مؤلفات، والذي اقتنيتُ منه نسختين، الاولى احتفظتُ بها لنفسي، أما الثانية فقد كتبتُ علي صفحتها الاولى إهداء لصديق كان يعمل معلماً في الستينات في احدي قري الموصل، يأتي الى بغداد في زيارات متباعدة الى ان ترك سلك التعليم وغادرنا الى باريس قبل أكثر من ربع قرن من الآن، واقصد به الشاعر حسين عجة، وليس حسين مردان، الذي اخترت الكتابة عنه تلبية لفكرة راودتني وعاشت معي ردحاً طويلاً من الزمن، خصوصاً وان الكثير من أصدقائي يعرف مدي علاقتي الوثيقة به. لقد جاء في صفحة الإهداء ما نصه:
(العزيز حسين عجة... رحل حسين مردان وبقيت كلماته ومجموعة مواقفه وذكرياته، وهذه المقالات تعكس شخصية حسين مردان بضعفها وقوتها، بقسوتها وليونتها، أريد لك ان تقرأ الكتاب لتدرك جوهر رجل حقيقي، رجل من الشارع، عاش ومات منفياً وغريباً عنا، هو حسين مردان. التوقيع ثم التاريخ 16 / 11/ 1972).

عاش وحيداً ومات غريباً

هذه الفكرة التي لازمتني منذ السنوات الاولى لعلاقتي به، في انه (عاش وحيداً ومات منفياً وغريباً عنا) راحت تتجسد مع مضي الأيام والشهور وقد تركز ثقلها الحقيقي في داخلي بعد قراءتي لكتابه (الأزهار تورق داخل الصاعقة) ولم تتمكن الأيام من زحزحة الفكرة أو تخفيف ثقلها.. ان الكتابة عن شاعر وإنسان مثل حسين مردان تتطلب جهداً وصبراً واضحين، وعاطفة تم ترويضها لئلا ينساق المرء وراء انفعالات محتدمة قد تلغي في طريقها الكثير من الأزهار المورقة علي حد تعبيـر حسين مردان نفسه، ان الطريقة المثلي في كتابة سيرة حياة كاتب، هي التماهي معه، أي ان نتبادل المواقع والحالات فيما بيننا، كأنني اكتب عن نفسي في بعض جوانبها من خلاله، وهكذا يكون حسين مردان موضوعي الذي اشرع بسرده دون النظر اليه من فوق. علماً، ان كاتب القصة والرواية لا يستطيع التخلي عن طريقته في السرد وصياغته الأدبية للحالات والمواقف، لذا سيكون فرضاً علينا مزج الوقائع بالتصورات والخيال، لكي يصبح من اليسير التوفر علي كتابة منفتحة علي شخصية حرة لم تكن أدبية فقط، بل شخصية غير نمطية ذات وعي بالأحداث التي مرت بنا في حينه. والذين يعرفون حسين مردان يستطيعون الكتابة أو التحدث عنه الآن أفضل بكثير مما كان علي قيد الحياة، اذ لم يكن وجوده الكثيف بيننا ليسمح للآخرين بتأمله والتفكير الجاد بسيرته وتجربته ما دام حياً يعيش بيننا. لقد شكلت الكتابة مع السفر ونظرته المحتدمة الى الأشياء وما يعترض حياته من آراء خص بها المرأة وعلاقته الصاخبة القلقة بها وعدم استقرار راحة باله إضافة الى تعلقه و طموحه في الكتابة مما جعل هذه الحياة شائكة ومتداخلة وتكاد تطغي علي نتاجه الأدبي كله، هذا الذي احمله عنه، كان احد مسببات تأخر الكتابة عن شخصيته، فمن أي الابواب أو المحطات ينبغي لنا الدخول الى حياة زاخرة بالأحداث والمواقف، ولعله من بين احد الشعراء الذين دفعهم الشعر الى السجن من اجل (قصائد عارية) في وقت لم يكن فيه الشعر يشكل خطراً علي الملائكة أو الشياطين، ليرسم له مساراً مضاداً لغيره من أبناء جيله، ولتعطي الناس صورة واضحة عن رجل حقيقي وصف نفسه دون بهرجة أو مساحيق لتزيين صورته: (انا رجل شارع حقيقي، بل أنا أكثر من ذلك، أنني شيخ المشردين في العراق وفي العالم، وتشردي لا يرجع لأسباب اقتصادية أو سياسية.. ولكنني عبد حرية لا تطاق.. أنني مصاب بمرض خبيث هو الملل، بالإضافة الى شعور مركز ومرعب بالوحدة، فيومي كله هو سلسلة هروب من الملل والعزلة ومن الحرية، وقد دفعني ذلك كله الى البحث عن لذائذ والعاب مختلفة للتخلص أو الابتعاد بين فترة وأخرى عن جهنمي هذه، فتوصلت الى حقيقة مخيفة ومفجعة وهي أنني محكوم بالركض وراء المستحيل وان الموت هو الدرب الوحيد الذي يصل الى الهدوء). تقصدت اجتزاء هذا المقطع الطويل نسبياً من مقالته ـ الثورة والنعومة ـ من كتابه:- الأزهار تورق في الصاعقة، لا لأن المقطع يعبر أفضل من سواه من أجزاء الكتاب ومقالاته، بل لأن كتابه هذا سيكون بوابة الدخول الى عالمه، ليتيسر لنا قراءة عذابه الخاص، عذاب وحدته وعزلته التي كان مبعثها الملل بحيث صار الموت هو دربه الوحيد الذي يصل به الى الهدوء. ان ملازمتي شبه الدائمة له علي مدي أربع سنوات تجعلني اكتب عنه بثقة، اعني عن إحساسه المروع بالوحدة بين الآخرين وهو في المركز منهم وفي الصدارة بينهم، يتحدث ـ باستمرار ـ عن ذاته المتعالية وعن عبقريته الأدبية غير المتحققة، أي عن شرطه الذاتي في ان يعيش كشخص ضروري للآخرين. ان وجوده محفوف بمجموعة من اللوازم والثوابت حتي وان بدت للآخرين مجرد أوهام، لكنها بالنسبة له غدت حقائق تفترسه في معايشتها اليومية الدائمة. هنا، أحاول الكتابة عن إحباطه الداخلي، عبر تلمسي لذلك الطيف المارق الذي سأجاهد للامساك به ليصبح الأمر واضحاً وفي نصابه، ان أفضل طريقة لاحتواء حياة حسين مردان وفيض مشاعره وأحاسيسه تجاه الأشياء التي مرت به وعايشته وعشت بعضها معه، هو الاسترسال في الكتابة عن كل شئ يدخل في حيازته أو حياته. ولكنني وجدت هذا وحده لا يكفي، اذ أن حسين مردان، ما كان له ان يغادر بلدته ويأتي الى بغداد ما لم يضع في رأسه حلماً طرياً أراد له ان ينمو ويكبر، إلا وهو حلم الشاب الذي يريد غزو بغداد بالشعر والثقافة والأفكار الغريبة. إذن، لا يمكن إزاحة جانب علي حساب جانب آخر، لذا فقد جعلت كتابة (آخر ما أنتجه): الأزهار تورق داخل الصاعقة، دليل قراءتي لسيرته ولن أتتبع هذه السيرة تتبعاً خيطياً، بقدر ما اترك لها من خلال عدد من نصوصه ان تمنحني فرصة التقاط تلك العلامات الدالة علي إحساسه العميق بالوحدة التي كانت تقض مضجعه وما تنتجه هذه الوحدة من خيبات مريرة وهو الذي ما كف في أحيان كثيرة يردد علينا:

وسوي الروم خلف ظهركَ رومُ
فعلي أي جانبيك تميل ؟

لن يقنعني احد من معارفنا، ان حسين مردان لم يكن وحيداً ومعزولاً وهو بين الآخرين. ان ليلة واحدة في مطلع سنة 1970، عشناها معه في احد البارات في بغداد، امتدت حتي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، انا والصديق حميد الخاقاني أثارت فزعي بشأن وحدته التي بدت لي راسخة تماماً، وذلك عندما تركناه وحيداً يجرُ خطاه في شارع الرشيد باتجاه الباب الشرقي واذا كانت الريح تصفر في الطرقات كان الليل أيضا يتلقي أكداس الظلام والعتمة في زوايا الشارع ومنعطفاته والرجل الكهل، يغص بالشعر والكآبة ولم يلتفت الى الوراء قط، بل غيبه الظلام، ليس هذا مشهداً قصصياً أحاط بي لكتابته الآن، إنما حقيقة انقلها، عندما قال لي صاحبي: لقد أتعبته بالمناكدة والنقاش.. وتخيلت ساعة غضبه مني حين تحدث عن السياب بقسوة كاشفاً عن بعض عيوبه في سلوكه الشخصي، فقد اعترضت علي خلطه السلوك بالإبداع، صاح بي: أنت دائماً تعترض علي ما أقول:... كان حسين قد دعانا للسهر معه تلك الليلة في فندق العراق، ورحب بنا عامل البار ترحيباً مؤثراً اذ شمل حسين مردان بكل أشكال العناية، مما جعله يمنح رأسه الشموخ الكافي نحو الاعلى وقد توجه العامل بالتحية التي تظهره أمامنا كشخص معروف ومحبوب أيضا. لم ينبس بحرف، لكنه أشار علينا بالجلوس بحركة من رأسه، وتحدث حسين مردان خلال الجلسة المسائية عن كل شئ خطر في رأسه. تحدث طويلاً عن سفراته المتعددة وعن صداقاته لأبرز الشخصيات السياسية، تحدث عن الأكراد والشيوعيين والحكومة عن أشخاص نعرفهم جيداً وتجلي في كلماته أكثر عندما انعطف الحديث نحو النساء، تغيرت نبرة صوته وأصبحت نكهة العبارات لها مذاقاً خاصاً، انعكست علي سخائه وكرمه كلما وجد في نفوسنا صدي لكلماته، وزاد في ذلك كثيراً، حتي أصبح من اللازم سؤاله عن نتيجة كل علاقة له بالمرأة التي أشار إليها الآن أو قبل ساعة ! علي ان كل ما قاله وتحدث به كان مجرد توصيف لا ممارسة فيه، أو استجابة لدعواته للمرأة ولن اقل ادعاؤه، كانت أسماء النساء تتقافز أمامنا من فمه، مغلفاً كل واحدة منهن بغلاف خصها وحدها به أو صفة جمالية أو جنسية أو وصفاً يليق بامرأة قصدها الشاعر في مقالته أو قصيدته الأخيرة، ونساء الشاعر، هنا، صرعي التولع به وبكلامه ونوادره وبعضهن مأخوذات بطلعته وفي طريقه لعن الصلع المبكر والأنف الكبير الذي ينمو بعد الأربعين، وكنا نصغي ونهز رأسينا بإعجاب في بداية الجلسة، ولما امتدت بنا الساعات، رأيته وقد ثقل لسانه بعض الشئ، قال لنا: هيا لنذهب.. سمعتها منه قاطعة لا تردد فيها، أحطناه معاً وأخذناه خارج الفندق، لم أره قد ارتبك أو تعثر في خطوه فقد كان كبرياؤه اكبر من جلستنا كلها، ربما لأنه لم يشأ ان يظهر أمامنا ثملاً أو متعباً.

الشعر لا يغزو قلب امرأة

لم يقل لنا احد من قبل ان كان حسين مردان يعرف قبل غيره، انه لم يكن يملك مؤهلات الشكل الجميل (وأنت بكل تجاعيدك وبكل قيمك.. ولكنني.. وهل سمعت عن امرأة تعلقت بدماغ، أنت تقتلني ياصوتي.. وبكيت مع نفسي..) كان يعلم ان الأمر لم يكن كما يتمني ولكنه كان يصر، وقد ظلت هذه احدي معضلاته الشخصية التي ستتحكم بمصير وحدته وإحساسه العميق بأنه غير مرغوب من النساء، وهو يدرك أن لا الشعر ولا الحكمة ولا الإبداع (أي منهم) يكفي لغزو قلب امرأة أو الاستيلاء عليه: (إنني رجل حكم عليه بالوحدة) ثم: (وأنها من نفس الطين الملعون) نري ان عبارته الثانية تخص المرأة التي أشاحت عنه، أما العبارة الاولى فأنها تعني جهنم الموقدة والتي لا تنتهي إلا بالموت الذي يصل الى الهدوء التام. دائماً، كنت أراه كمرجل يغلي بالأفكار والآراء وتعاسة خيباته، لم يتحقق شئ، واذا ما داهمه الغضب فأني أراه وقد استفزت كل جوارحه وعلت جبهته سحابة من غيض لا تحتمل، وفي سيره يظل يتهادي وقد حسبته أول الأمر يمثل ذلك تمثيلاً، لكنه كان ينفعل بهمومه حقيقة لا نكران لها. وفي الليلة التي تركناه يقطع شارع الرشيد ظل منظره المؤلم قد أثار كآبتي، رأيناه ينسل من الضوء الى الظلام وبالعكس، حتي راح يغيب عنا شيئاً فشيئاً، ولو استدار نحو الوراء مرة واحدة، لوجدنا متسمرين في مكاننا لم نبرحه بعد كأننا أردنا الاطمئنان الى غيابه أو وصوله لغايته، كان عليه ـ في تلك الليلة ـ ان يستقل الباص أو التاكسي الى منطقة البلديات حديثة العهد في البناء والتشييد، وبيته الذي لا ادري أين أصبح الآن، هو مأواه وملجأه الوحيد، ومن هنا وحدته وعزلته المكانية التي لا يستبدلها بعد رجلة طويلة من التشرد والهيام في الطرقات والأزقة والغرف نصف المعتمة الرطبة في الأمكنة الأكثر فقراً (وعندما كان يهيمن النعاس علي عيني كنتُ الجأ الى اقرب بستان للحصول علي غفوة صغيرة، وكان عدوي الوحيد في تلك الفنادق الهوائية هو البعوض، ولم أزل امقت هذه المخلوقات اللئيمة حتي هذه اللحظة) الى البيت أيها الشاعر الذي اخذ منه الملل مأخذاً جعله يترنح، ولن تنفعك العبارات الراكضة علي لسانك في انك عبقري ودكتاتور أدب، ولن يصدق احد ما تقوله أبدا، والسيدة التي كتبتَ عنها القصائد والفت المقالات لن تلتفت الى حيرتك وعذابك، لأن لديها ما يشغلها ويجعلك خارج دائرة تفكيرها، وانشغالها بفارسها سبب عزلتك ووحدتك الأزلية. إننا من جانبنا، نحن أصدقاؤك نعلم الى أي حد أنت حزين ومتألم، ويوم القينا عليك نظرتنا الأخيرة (وكنا جمع غفير من الأدباء والمثقفين العراقيين من الذين أحبوه تماماً وقد زاره الجميع، من كل الأحزاب الوطنية ومن كل النحل والملل، وكان التعريف الذي يود سماعه ليوصف به، انه كاتب وشاعر تقدمي. كان يقول عن هذه العبارة: إنها لا تثير الزعل في نفوس الجميع). كان الموت صامتاً، بل خجلاً لأنه تجاسر علي رجل شاعر مثل حسين مردان. وشاهدنا لحظة الجزع الأخيرة من موته كيف ارتسمت علي محياه وهو مسجي علي سرير المستشفي. كان يدرك نتيجة الم جلطة القلب الثانية التي داهمته، نتيجتها هو الرحيل، والغريب ان حسين مردان كان في اعلي مراحل صعوده الوظيفي عندما ودعنا وغاب الى الأبد بحيث لم يتمتع طويلاً بهذا الصعود الوظيفي الذي حتماً كان يتمناه، حيث كان تعيـينه في تلك الفترة مديراً ثقافياً في إذاعة بغداد، وغرفته حافلة بالأصوات النسائية، التي شنفت آذانه طويلاً، اذ كلما تردد في تنفيذ احد طلبات العاملين، يرسلون إليه احدي الجميلات لتغيير رأيه، وكثيراً ما تنجح الحيلة، وهو يردد أمامنا بعد ان تخلو غرفته: (إنا ضعيف أمام الجمال). ورغم هذا الولع الجنوني بالمرأة والتعلق بها، إلا ان قصائده لم تكن تصل الى مستوي عذابه. فقد بدأ يدرك ان الشعر قد خيبه كما فعلت المرأة به، اذ انحسر اسمه في الدراسات ولم يعد يرد كواحد من الشعراء المحدثين في أية مقالة تأتي علي ذكر الشعر الحديث، كانت لوعته محتدمة، وراح في أيامه الأخيرة يتذكر إطراء الآخرين له فيما مضي من أيام، أيام عبد المجيد الو نداوي وعبد الرزاق الشيخ علي وعبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان وبلند الحيدري، حيث كان يحظي بالاهتمام منهم ويجد من يصغي إليه، ويعطيه قصيدة ليسمع منه رأيه بها (... ولم يكن هذا الزائر أو ذاك يأتي لرؤيتنا فقط، بل ليقرأ علينا قصيدته أو قصته الجديدة، وكانت مثل هذه الأعمال الأدبية تطرح من قبل صاحبها للنقد والمناقشة بكل تواضع للحصول علي تزكيتها أو الحكم بإعدامها). وبعد أن غابت شمس الشعر عن سمائه اذ برزت أسماء جديدة، اكتفي بالقول عن نفسه: إنني طراز خاص، مستمداً التسمية من عنوان احد دواوينه وكنا نلمس عذابه الداخلي ذاك، ولأن حميد الخاقاني كان شاعراً أيضا فقد ظل يواسيه وكثيراً ما يعلن ثورته علي تلك المواساة التي تجعل منه حزيناً جداً لأنه يدرك مدي خطورة اعترافه بتراجع سطوته الشعرية أمام حضور الشعراء الجدد، الذين قدموا قصائد لا يستطيع حسين مردان نكران أهميتها ورغم إعجابه الصريح بعدد من هؤلاء الشعراء، إلا انه كان يهاجمهم علي استحياء كهجومه علي عبد الوهاب البياتي الذي قال عنه: ــ لماذا يكثر من واو العطف في قصائده ان لم يكن ضعفاً في تركيبة القصيدة ؟ وفي مرات كثيرة كنا نصغي إليه دونما تعليق أو كثير كلام، لأننا نعلم انه يبالغ في إصدار أحكامه نتيجة انفعاله وغضبه الشديدين. والحق، كانت موهبته الشعرية لا تعينه علي خلق قصيدة توازي ما كان يعانيه من شغف بالمرأة، ما لم يلجأ الى الخطاب المباشر الذي يدين سلوكها وتمنعها في الاستجابة لحبه، واذكر تماماً، ليلة عذابه، التي أمضاها يحاول كتابة قصيدة حرة علي غرار قصيدة السياب الشهيرة ـ أنشودة المطر ـ وكان مدعواً الى احد المهرجانات لإلقائها، كان ذلك في البصرة واغلب الظن في سنة 1971، فجعل لها لازمة شعرية علي غرار، اللازمة المعروفة في أنشودة المطر، وهي.. مطر. مطر. مطر. فما كان منه ألا ان استبدل هذه المفردة بمفردة أخري هي: رطبٌ. رطبٌ. رطبٌ. وقد أعانه الخاقاني علي تبديل العديد من أبياتها حتي كادت تخرج كلها من بين يديه، مما جعلني اختلي بـ: حميد جانباً واهمس له علي انفراد: سيعرف بعض الشعراء انك كنت وراء قصيدة حسين، لأنهم يعرفون طبيعة مفرداتك.

ألف ياء - الزمان - 18/01/2004 -

( 2 )

شيء من سيرة شاعر الطرقات والمقاهي
حسين مردان: سيرة رجل خفنا عليه

ظلت فكرة الكتابة عن حسين مردان تراودني منذ عرفته عن كثب في مطلع عام 1969، حين عملنا معاً في الإذاعة والتلفزيون (قسمها الثقافي) وقد التزمنا صداقته بوفاء ومحبة أنا والصديق حميد الخاقاني، كان يجد فينا ملاذين من ليل وحدته وعسرها، بل وثقلها علي روحه، فكنا نلازمه غالباً، في نهاره حتي ساعة متأخرة من ليله بطيء الخطوات، وعلي مدي أربع سنوات متتالية،

سورة علي الخاقاني

كان بودي ألا ادخل هذا المدخل علي شعر حسين مردان، بل تمنيت الاستمرار في الحديث عن الدوافع الخفية لعزلته رغم وجوده بين أصدقائه، وأتحدث عن المرأة التي طوحت بعرشه دون التوغل في تاريخها أو طبيعة تفكيرها أو نوع نظرتها إليه وقد تركته يجتر عشرات الصور والأخيلة التي لم تكن تنتهي عند حد، كنا نعرف هذه المرأة وندرك جمالها وقوة حضورها عليه، بل سطوتها وتعاملها الفوقي معه، ولأن الجمال كان يصرعه بكل يسر، فقد كان يضفي علي جمال تلك السيدة من مخيلته صوراً لا وجود لها إلا في عقله فقط. كنا ندرك ذلك وندري بسواه من الحالات التي يبتدعها قلبه وعقله، لم يشأ ولو لمرة واحدة ان تحدث عنها بسوء أبداً، ولكنه بين حين وآخر، يعلن عن استحالة الوصول إليها، ولما أراد حميد الخاقاني مشاطرته الإعجاب بها أعلن ثورته علي الخاقاني، بحيث بدأ يخشاه تماماً، خصوصاً وأن السيدة قد قابلت الأخير باحترام واستئناس، مما اغضب حسين مردان كثيراً وجعله في حالة من الزعل، ما لبث ان تراجع عنه حالما أكد له حميد انه لا يتجاسر علي فعلٍ يغضب أبا علي، عندئذ انفتحت أساريره وقادنا معاً الى اقرب مطعم يستهويه تناول الغداء فيه. غير ان حسين لم يكن ليكتفي بهذا الحب البرئ الذي تفرضه السيدة الفنانة حال لقاء أي رجل بها، كان يريد الوصول الى القلب والجسد، لذا راح يستبدل هذه بأخرى لا تقل عنها جمالاً وحضوراً، وظل يصوغ النساء ويؤلف لهن القصص علي هواه، فالجسد (جسد المرأة التي يحبها) كانت له حيازة تامة وحضور قوي شديد البأس عليه، والجسد هو الذي كدس العواطف في سويداء القلب المرهف الحزين وجعلها وقف التنفيذ، فكيف يكون الحال مع الجسد / المستحيل، كيف يمكن له ان يتصرف إزاء هذه الاستحالة ويحط الرحال في اثاكا والطريق وعر والزاد قليل ؟ وانتَ لا تملك الى ذلك وسيلة ولم تدخر حيلة وما وهبَتك الطبيعة مما وهبته لخلق الله الآخرين: (وفجأة أقبلت قامة بيضاء ذات رقة غزالية، واستقرت علي بعد خطوتين من يدي، كانت قد وعدتني برؤيتها واخلفتْ، ومع ذلك ففي سبيل غمزة واحدة منها اخترق مائة خندق للموت). لا يمكن طرح مقارنة لصالحه بين استعداده للموت في خندق حبها وبين ما كان يعانيه أو ما يشيعه من حوله من تعلق العديد من سيدات المجتمع البرجوازي، البغدادي الذي يحمل له صورة معتقة، لها رائحة القدم، والبذخ البغدادي الذي يصل حد الإسراف:
(أنتما لا تصدقان أني أمضيت حتي منتصف الليل معها بحضور زوجها وكنتُ سيد المائدة المليئة بأنواع الأطايب). ثم ما يلبث ان يعطي المشهد كله دفعة واحدة، يصفها، يصف بيتها ومائدتها وحضورها القوي المؤثر والذي شغف بهِ حسين مردان كما تولع بالاستدارة الجميلة والنظرة الساحرة والضحكة الرقيقة المزدانة بالنبرة التي لا تنسي، وحين كان يحدثنا عن معشوقته وغالباً ما تختلط علينا الأسماء والصور وتضيع من رؤوسنا بداية الخيط، فلا نملك إلا الإصغاء وترديد إشارات التعجب وانأ كنا لا نعجب من كلامه، فما هي ذريعة التعجب من حديث شاعر مسترسل في الكلام، وقد تمكن من خلط الحابل بالنابل في رؤوسنا بحيث يصبح من العسير علينا الشك أو اليقين، فقد ضاع الفارق بينهما وتلاشت الفوارق بين فلانه بيضاء البشرة أو تلك السمراء ذات البشرة الناعمة. نعرف علي وجه اليقين الذي لا يريد حسين مردان ان نعرفه، ان الخيال قد اجتاح الواقع وان من يتحدث إلينا بكل هذا القهر هو الشاعر وليس الرجل، أما النساء في رحلاته المتعددة والتي غالباً ما تكون استنبول هي المحطة الأم في اغلب السفرات، فقد كان يروي لنا عنهن قصصه وحكاياته دون تردد، لأن ما من احد قد شهد تلك الأحداث أو الحكايات التي كان صوته المتوتر يجسدها بالصور، وهي حكايات سرعان ما نكتشف في الليلة التالية انحرافها عن الليلة السابقة لها، وحين نذكره أو نريد تعديل سير الرواية، في ان المرأة التي يصفها الآن لا تتطابق مع ما قاله عنها في ليلة ماضية، دائماً، كان يجد العذر في أننا لم نكن نصغي له في تلك الليلة، اذ المقصودة بكلام اليوم ليست فلانة بل أخري غيرها، وقد تعلقت بحبه من النظرة الاولى: (ولسوف اغسل كل آثار الشفاه المطبوعة فوق قمصاني الحريرية وان عزائي الوحيد هو أني لم افقد صفة الأسد أبدا) وتؤكد هذه (الـ: أبداً) علي نزعته في تدمير الشك لدي قرائه، بعد ما أكدها لنفسه، ولأنها دخلت في لا وعيه من أنها حقيقة، وانه لم يفقد صفة الأسد أبدا، يظل في خاطرنا سؤال ملح عن أية صفة من صفات الأسد يقصد ؟ لستُ هنا في معرض الحديث عن الجانب الطريف في شخصية حسين مردان فهذا أمر تركنا الحديث عنه لغيرنا وهو جانب غني وثر بالتأكيد: (... لأنك واضحة الحنان بحيث تعجز جرأتي عن خداعي، ولو أنني أستاذ لا ضريب له في إلقاء المداعبات أمام وجه الحسان). أظن ان هذه احدي ميادينه المفضلة حيث لا يباريه أحد، وكنا نراه كيف تتفجر موهبته بإلقاء الطرائف والمداعبات حال وجود سيدة يكن لها احتراماً خاصاً أو ميلاً عاطفياً بسيطاً، وكان حاجباه الكثيفان وامتلاء جسده كله، يعطي تحفيزاً مباشراً لتفجير الضحك الذي كان مبتغاه خصوصاً إذا كانت السيدة لها رنة في ضحكتها ونوع من الدلال، فالفكرة تكون قد اجتاحته في الاستمرار بإرسال المزيد من الطرائف والذكريات، وحالما ينفرط الشمل بذهاب السيدة تراه يطلق حسرة أو علامة غيض ويعود القهقرى الى سابق عهده في الحزن علي أيامه الماضية المتوارية ويده قبض الريح.


كبرياء الجمال

كان حسين مردان أكثر من أي شخص أو صديق عرفناه خشية من الموت لئلا يداهمه في زاوية قصية أو ركن ناء وكان يتمني ألا يحدث هذا معه في البيت وهو وحيد لا يكون معه احد ليخبرنا برحيله، ولم نكن نصدق ان هذا الجبل من العناد يحمل بين أعطافه خوفاً مزمناً من الموت أو يخشي الوحدة القاتلة، (في تلك اللحظة الحزينة، لحظة موتي. ظهرت عزيزتي الحقيقية فنهضت الموسيقي في أعماقي). دائماً كنا نراه يربط بين الحب والموت يضعهما في قارب واحد، ان احدهما يغذي الآخر ولعلهما مترابطان في إيقاعهما السري علي روحه، كأن إنقاذ هذه الروح لا يتم إلا من خلال ذلك الحب، بضحكة امرأة أو استلطافها أو كلمة رقيقة تسمعها له، فيعود الانتشاء والهيام ليسكراه ناسياً سطوة موته الذي كان يراه يتبعه كالظل، مطارداً منه لائذاًً بعيون النساء وتهادي أجسادهن الباذخة، النساء الجميلات سليلات الترف والنعمة. واذا تأملنا ـ الأزهار تورق في الصاعقة ـ لن نعثر علي مقالة من مقالاته التي خص بها حياته الاجتماعية تخلو من كلمة الموت، نعم، الحب والموت ركيزتان شاخصتان في حياته الأدبية وسواها، فقد كانت تتنازعه ثوابت مستقرة شأن العديد من الشعراء الرومانسيين المعذبين، الحب/المستحيل والشعور بالموت المتربص به، ولعل الكتابة هي الوسيلة الوحيدة لديه للتخلص من المعضلتين. الحب المستحيل لأن ما من محفز يدفع المرأة التي يتمني نحوه: (ولقد استعبدتني برقتها عندما رفضت الإيماءة غير المباشرة الى المرارة التي يطفح بها شكلي.. ان احدب نوتردام يربح الجولة الاولى.. ملاك من العراق ! إنها معجزة، لقد سبق لي ان أمسكت عدة نظرات منها فوق وجهي. فهل بدأت تفكر)؟كيف تهيأ له ان يصف نفسه بأحدب نوتردام؟ أية لحظة يأس انتابته ليشبه نفسه ببطل فيكتور هيجو الشهير بقبحه ودمامته ؟ وكيف تجرأ من كان يظن نفسه عبقرياً ودكتاتور أدب، ان يتساءل (فهل بدأت تفكر بي؟) كانت لديه عاطفة موزعة على دزينة من السيدات الحسناوات لا يدري من منهن ستتربع الى الأبد وسط قلبه، لماذا لا يدعهن كلهن يستولين عليه: (في تلك اللحظة، لحظة بزوغك داخل روحي، اكتب رسالة الى امرأة أخرى). والغريب أنهن معروفات في الوسط الثقافي، منعمات ويحظين باحترام فائق، ومحسودات من زميلاتهن الأخريات لا بسبب الجمال الشفاف الذي يتمتعن به، بل لمكانتهن العالية، ومواهب بعضهن أو لانحدار البعض الآخر الطبقي. بعضهن (أساسا) عاليات الجناب، مترفعات مليئات بكبرياء الجمال الذي لابد له من فرض سطوته علي من يلتقيهن، وكان يأخذنا أنا والخاقاني معه بين حين وآخر لنلتقي بإحداهن كأنه يعلن بصمت عن حاجته لشهادة أحدنا علي تولعهن بهِ، والحق، كنتُ اعني تولعه هو بهن، اذ ما ان تحط أقدامنا في غرفة إحداهن حتي نجد خلاف منطقه ودعواه. كانت هذه المعادلة الجدية شديدة البأس في حياته، تتجاذبه بالقوة التي يهيمن عليه الموت أو العزلة، وكان طرفا المعادلة يتحددان بين أمانيه المحبطة وبين مثول الحبيب الجاني، القاسي بين يديه دونما يحق له ان يمس الفاكهة المحرمة. ولم يكن ينسي أيام فقره وجوعه وانحداره الذي كان يتلخص (في شبابه حتي بلوغ الأربعين تقريباً) بالفاقة والتشرد وعدم الاستقرار حتي تهيأ له بناء بيته البسيط المتواضع في البلديات، وله فيه انشغالات متعددة من بينها البحث عن نوعية جديدة من الأطعمة الفاخرة كأنه حين يفعل ذلك إنما ليسكت صراخ جوعه القديم ولينهي الى الأبد شبح شهيته غير المتحققة فيما مضي من أيام. ان طموحه يتلخص في إنهاء هيمنة ماضي الخمسينات الثقيل رغم ما كان فيه من مسرات (وقلتُ لنفسي.. من هذا الرصيف الرمادي ستبدأ مسيرتي الصعبة نحو قمة الجبل). علي ان في الخمسينات كان يجد من يعينه ويتلقفه، وقد حدثنا عن شخصيات سياسية معجبة بنمط حياته وعن أصدقاء ينظرون إليه بمزيد من الاحترام، وكان معروفاً عنه صداقته لشخصيات بارزة في الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يرأسه الأستاذ كامل الجادرجي ونائبه الأستاذ محمد حديد، ولا أرى في علاقته بهما إلا محاولة منهما لمساعدته فقط، فقد عمل في صحافة الحزب مصححاً ومتابعاً. غير ان علاقته بالقوي الوطنية تلك مسألة بحد ذاتها بحاجة الى قراءة خاصة.
كان لابد له من متنفسٍ للخلاص من ثقل حبه/المستحيل، وهاجس الموت الذي ظل يلاحقه، ولا متنفسٍ إلا في الكتابة، ميدانه الرحب الذي يصول فيه ويجول حسب هواه، يكتب المقالة الأسبوعية الى مجلة ألف باء، والقصيدة النثرية، والخاطرة ويمزج بين اشتراطات كل واحدة منها بالأخرى جاعلاً منها في الأخير عجينة سردية تخصه وحده، يكشف من خلال صراحته المعهودة عن مكنون عذابه، ربما كان يظن فيما يكتبه سيولد الدهشة أو العجب لدي الآخرين والأخريات حين يقرأون له المقالات والقصائد، وهو يمتدح ما يكتبه قبل ان يظهر في المجلة ويتوعد به الآخرين، إذا ما تيسر لهم قراءة مقاله القادم، إذن، هذا هو الميدان الذي سيجيد اللعب فيه فيترك تعلمه ان يمارس دوره في تزجيه الوهم الذي يعيشه، واري ان من لا وهم أو حلم لديه لا يمكنه الاستمرار في لعبة الكتابة، التي يري فيها بعضنا تعويضاً نفسياً عن أشيائنا الجميلة المفقودة (ليتَ شعري هل يستطيع سلطاني الأدبي ان يجذبك ولو قليلا؟ أنا لا أريد ان اجعل منك محراباً لعبادة جديدة). انه التعويض الصعب علي الآخرين من غير المبدعين والكتاب المطبوعين، والحق ان الكتابة في جوهرها نعمة وعافية يفوز بها عدد من الناس، لكنهم سيكتشفون جوهر عذابهم من خلالها، لأنها تفتح أمامهم سبل العاقبة المريرة وتفضح دواخلهم كلما توغلوا في دروب المعرفة الشائكة، ولم يكن حسين مردان قليل التوغل في قراءاته وفي تثقيف نفسه أو تربية حسه الجمالي، كان يري في قراءاته المستمرة هدايا مجانية ونعمة قد لا تعوض بشئ آخر كالحب، مع ان الأخير لا يقوده إلا للحسرات، أما الكتابة فهي تقود الى التعويض عن الخسارات والي الربح الضائع وسط الفشل والملل، ولا يمكن نسيان مقالته الرائدة في الفن التشكيلي عن ماهية اللون والنظرة المتروية للون وانعكاسه في اللوحة، ان هذه المقالة ومقالات أخرى تكشف عن مقدرته وعمق استيعابه لثقافته التي حاول البعض نكرانها عليه.. يقول الدكتور علي جواد الطاهر عن مقدرة حسين مردان في كتابة المقالة: (ان للمقالة المردانية خطها العالي من الإبداع، وخط لصاحبها الذي يميزه في تاريخ المقالة العربية، فضلاً عن العراقية). ومقالته في الفن التشكيلي نموذج متقدم للفهم السليم الذي ميز اغلب مقالاته التي خص بها قضايا الأدب والفن: (.. ومعني ذلك ان للجو وانعكاسات الضوء أثرها في مظهر اللون، وقد وضع احد العلماء الفرنسيين قانوناً عن التباين الحقيقي للون، فالظل ليس مظلماً ـ كما لاحظ عدد من التأثريين ـ بل هو ـ ضوء ولون مجاور ـ ولكن الانقلاب الحقيقي في استعمال اللون لم يحدث قبل مجئ طلائع الفن الحديث) إنني أدعو معظم الفنانين التشكيليين الشباب لقراءة مقالة حسين مردان هذه، التي وجهها الى صديقه الفنان ضياء العزاوي، ان حكمتها تتضح خلال قراءتنا لها، فقد كان تركيزه علي كشف أهمية اللون تعبير عن استفادته الجادة من قراءاته.


قصور الخيال

لعل الشئ الوحيد الذي لم أكن أميل إليه في أدب حسين مردان، هو استخدامه للتشبيهات في بناء المقالة التي تهتم بالمرأة، فقد كانت هذه التشبيهات احدي قصور خياله الذي لم يكن يرغب في تطويره لأن نظرته الى الخيال، كانت نظرة محافظة أو هي علي اقل تقدير مأخوذة من استهجان الواقعيين للخيال علي اعتباره مجرد أحلام زائدة عن اللزوم وان التوغل والاستطراد في المشاهد التي تخلقها المخيلة أمر يستهجنه العاقل، وهو يقول في مقالة له خص بها الخيال بعنوان / لنمنع الماء عن شجرة الخيال/ما نصه: (ان الخيال يقرب الأشياء بحيث نكاد نلمسها بأصابعنا فتستجيب لمداعبة الفرح الذي نخلقه بواسطة الوهم، بل هناك من يغطس في خياله ويرفض الخروج منه حتي الموت.. ومثل هذا الانسان لا يجهل حقيقة الحياة كلياً، ولكنه يفضل عدم النهوض والصراع فيتجه علي الرغم منه الى الانغماس في الحلم، وهذا ما يدعونا الى الحذر الشديد من مسايرة المخيلة والاعتماد علي جمال صوتنا بين حيطان الحمام) وينم تحذيره لنا من الإصابة بهذا المرض، أي التحذير من الانسياق وراء الخيال، عن استهانة للقيم الجمالية التي يمنحها لنا الخيال، أن حسين مردان الحالم بحياة أفضل والمشرد طيلة سنوات وعقود ينبغي ان تكون للخيال لديه قيمة عليا في الاستفادة منه في كتاباته، غير انه وبحكم فطرته وتلقائيته جاء تصوره لمعني الخيال قاصراً وقد وضع نصب عينيه، الترجمة اللغوية للخيال، فما دام الخيال نقيض الواقع، فأنه يعتبر الخيال مرضاً، والمخيلة المنغمسة في التخيل هي مخيلة مشلولة. ولنتأمل عنوان مقالته (لنمنع الماء عن شجرة الخيال) ولا نريد التذكير بدلالة الماء علي الخصب والنماء، إنما الماء نقيض الصلابة والجفاف والتيبس، ومن هذا أدركت ترددي بقبول تشبيهاته التي ضمنها مقالاته التي عنيت بالمرأة، كحبيبة أو صديقة: (.. كتلة كافور ميت.. وقفت كمعضد من فضة.. أنبوب حليب في زجاجة سمراء.. فهي ليست سوي حبة عنب أشقر.. لا استطيع ان أرى الحوض فارغاً من الشبوط).. ان حسين مردان لا يعير مخيلته اهتماماً لتطويرها وأحسب ان هذا ناتج للفهم الواقعي (المتسم بالنظرة الأحادية للشئ) الذي كان سائداً في تلك المرحلة الخمسينية، التي تربي عليها عقله وما فرضته عليه تلك المرحلة من نواميس وقواعد انضباط والتزام باشتراطات الواقعية التي لا تميل الى الذهاب بعيداً عن قضايا الناس. أي إلا يوغل الكاتب في بعث الصورة المتخيلة لأن في هذا ابتعاد عن القضايا الجماهيرية الملحة، فالخيال مرض خبيث كما صور له، ولم تكن لديه الرغبة كما يتضح في الاستفادة من طاقة المخيلة حين تكون نشطة علي تعميق المشهد، والتشبيهات التي استعنا بها كانت كلها تخص المرأة والحب وتعلقه الجنوني بها، وهو موضوع أثير لديه ولا احد ينكر انه أعطي للمرأة بالقدر الذي أعطاه للشعر أو فن الكتابة، رغم ان مقالاته الأخرى التي خص بها الأدب والفن والذكريات والمقاهي الأدبية، لم يكن فيها المجال كافياً لاستغلال التشبيهات التي اشرنا إليها ولعل أفضل ما تجلت طاقته التعبيرية والحسية، هي سلسلة المقالات التي كتبها عن المقاهي الأدبية فقد كانت تشكل حيزاً ملموساً من سيرة ذاتية، وهي أربع مقالات رسم من خلالها طبيعة الأرضية التي كان أدباء الخمسينات يتحركون عليها، ومن الواضح ان المقاهي الأدبية كانت المنتجع المثالي للمثقفين العراقيين، وقد استطاع الأدباء من تأسيس مقاهيهم بدل المنتديات وهي معروفة، ابتداءً من مقهى الزهاوي وانتهاءً بالبرازيلية، (ان المقهى كانت تعتبر البيت الدائم لكل منا.. وحتى الأعضاء الذين كانوا يقيمون في بغداد كانوا يتناولون الغداء معنا في أكثر الأحيان وكنا نقدر مثل هذه التضحية العظيمة لأنهم يحرمون أنفسهم من أطايب الطعام من اجل البقاء بقربنا). غير ان اكتشافه للمقهى كان نتيجة حاجته للمأوي وقد وجد فيه ضالته، اذ جاء هذا المتوحد الفقير تحف به الفاقة وعدم المقدرة علي السكن في بيت أو شقة أو فندق، ان ما لديه من نقود ربما لا تكفيه لسد رمق يومه، حيث جاء الى بغداد يراوده حلم واسع وكبير لأن يصبح شاعراً يشار إليه بالبنان كما يقال:(فجأة قررت هجر المدرسة والمجئ الى بغداد، كنتُ حينذاك في العشرين من عمري.. كتلة نار وسيوف.. وتلقفني شارع الرشيد..) وسوف يظل زميلاً دائماً للتشرد وهو محق حين أطلق علي نفسه شيخ المشردين:(وفي تلك الأيام الرهيبة التقيت بوجه الجوع الأصفر، فكنتُ لا أتناول في اليوم أكثر من وجبة واحدة، صمونة نصف صفراء مع كأس من الشربت). ومن هناك سوف تبدأ مسيرته الأدبية الصعبة، والحق، أنها مسيرة حياة لا يملك لها من الذخيرة شئ فقد جاء الى بغداد خالي الوفاض، لا مال ولا أطيان ولا أهل لديه، غير ان الحرمان يمكن ان يوحد جهود الآخرين في سبيل الاستمرار في العيش (فعلبة الدخان التي تطرح علي الطاولة تكون مشاعة للجميع). وسوف نري ان ما يلقي علي الطاولة سيتقاسمه الجميع، ولابد لحسه الطبقي ان يفرز حالات من الوعي بالناس ونواياهم وانتماءاتهم، ولقد عقد مقارنة صريحة بين مقهى الزهاوي حيث يلتقي فيه بمجموعة ينتسب إليها طبقياً، زهير احمد القيسي وغائب طعمة فرمان ورشيد ياسين، وغيرهم، ولابد له من التفريق بين الزهاوي كمقهى و ـ كافيه سويس ـ من الأدباء المتبرجزين والذين يجد لديهم ما يعوزه من حالة مادية، (في تلك الفترة وصل جبرا ابراهيم جبرا الى العراق وانضم الى جماعة كافية سويس والتي كانت ترتبط بنا أيضا، ولكننا لم نكن لنهتم بهم كثيراً لما يبدو عليهم من مظاهر الترف البرجوازي ومن هؤلاء، الرسام جواد سليم ونجيب المانع وعبد الملك نوري ونزار الملائكة ونزار سليم..) ومن الواضح أنه كان يتنقل بين هذه المقاهي، التي هي تعبـير حقيقي علي التباين المادي والطبقي بين رواد المقهييـن (الزهاوي و كافيه سويس) وان ما يتمتع به حسين مردان من رهافة حس هو الذي دفعه لكتابة عبارة في المقال: (... ولكن وفائي الطبقي كان يدفعني الى العودة الى أصدقائي القدماء.) ولو لم يكن الجوع والحرمان جانبين أساسيـين في بلورة وعيه وحياته معاً، لما تشكل لديه ذلك الحس العجيب بالامتياز الذي تتمتع به كافيه سويس عن حسن عجمي والزهاوي.. أنني لا أبالغ حين أقول ان مقالاته عن المقاهي الأدبية، كانت ترجمة لسيرته الذاتية في بداية تكونه الإبداعي والاجتماعي (2)، وان العديد من مقالات: الأزهار تورق في الصاعقة، تلقي الضوء الكافي علي تلك الحياة الصاخبة التي عاشها حسين مردان وحيداً ومعزولاً بين الآخرين.

(1) الهوامش المقوسة بأقواس التنصيص كلها أخذت من كتاب الأزهار تورق في الصاعقة، لـ: حسين مردان، لذا لم نجد ضرورة الى ترقيمها.
(2) ليست هذه صورة متكاملة عن حياة حسين مردان، شاعر الطرقات والمقاهي الأدبية، الذي حرم في مطلع شبابه من أية متعة، عدا الصبوة التي تخلقها له القصيدة أو الحوارات المتعددة الطويلة في المقاهي الأدبية، غير ان من يشاء تلمس جزء من بحر الحرمان المرداني، يستطيع ان يستشف ذلك عبر قراءة ذائقية خاصة لمجموعته الشعرية (قصائد عارية) وهو ما نطمح الخوض في غماره لاحقا.

جريدة (الزمان) - التاريخ 2004 - 1 - 20