استوقفتنا ظاهرة الفنانين التشكيليين الذين يكتبون شعرا. فذهبنا الى بعضهم وطرحنا عليهم الأسئلة التالية: لماذا تكتبون الشعر؟ وهل تكتبون الشعر على هامش الرسم؟ وما هي علاقة الرسم بالشعر؟
عن كتابة الشعر، يقول الفنان التشكيلي جميل ملاعب إنه عندما يضعف الرسام، يصبح شاعرا، وان الشعر لا يحتاج الى خيال عند الرسام. «عندما أعجز عن التأمل البصري، ألجأ الى حاسة السمع، وأحول كل ما أسمعه الى قصيدة».
ويضيف ملاعب «أنا مفطور على الشعر منذ صغري، كون المنهج الدراسي الأكاديمي يركز كثيرا على الشعر. كنا نتعلم في المدرسة قصائد لخليل مطران، وفي عمر الـ17 كان الأستاذ يحدثني عن المتنبي وفؤاد سليمان. فمن الطبيعي اذاً أن ألجأ الى كتابة الشعر».
أما الفنان التشكيلي عادل قديح فقال إنه يكتب الشعر عندما لا يستطيع التعبير عن الشيء الذي يخالجه بالرسم. «أكتب ما لا أستطيع أن أرسمه أحيانا. تقنيات النص ودوافع الكتابة تختلف كليا عن آليات توليف العمل الفني، لذلك وجدت نفسي مدفوعا من حين الى آخر الى كتابة نصوص أسماها غيري شعرية ولا أعرف أنا ماذا أسميها».
الفنانة باسمة بطولي تقول إن الاتجاه نحو الشعر او الرسم يتوقف على اللحظة التي يكون فيها الفنان. «هذه اللحظة مؤثرة في ذاك أو ذاك، وهما يتوقفان على تفهمك للحالة التي أنت فيها. قد يكون الرسم متجهاً الى الأشياء التي يستوعبها النظر أو البصر، والشعر يتجه أكثر نحو الأفكار المجردة».
أما الفنان عدنان خوجا فيقول ان الشعر والرسم هما وعاء بالنسبة له، وعاء يستوعب الحالة التي يمر بها. «المهم بالنسبة لي هو إيصال الرسالة، الشعر والرسم والمسرح هي أدوات لإيصال هذه الرسالة».
الفنانة سهى صباغ أجابت باقتضاب وقالت إنها تكتب الشعر لأنها تشعر برغبة في كتابته، وهو يخوّلها التعبير عن ذاتها بطريقة مختلفة عن الرسم.
أما الفنان اياد كنعان فيعتبر أن اللغة تمنحه إمكانات لا متناهية من اللعب بالكلمات، وتساعده على تجنب أي تعبير نمطي، وهذا ما يعطي الشعر تدفقه ويجعله نشاطا متجددا. «أكتب الشعر بنفس الطريقة التي أرسم فيها، فكما أقوم بتفكيك المنظومة البصرية والزخرفية داخل العمل الفني، أقوم بتفكيك المنظومة الموسيقية (العروضية) داخل القصيدة، بحثا عن موسيقى خاصة».
ويضيف كنعان أنه لم يرغب يوما في أن يكون شاعرا، أو أن يعرَّف كشاعر، ولم يسع الى ذلك. «لم أكن واثقا مما أفعله في البداية، لكنني مع الوقت وانغماسي في القراءة النقدية حول قصيدة النثر، وخاصة عندما قرأت (صنعة الشعر) لبورخيس، أحسست أنني (ربما) أسير في الاتجاه الصحيح. أنا بالنهاية أمارس النشاطين الفني والشعري بحثا عن عمق إنساني يعطي للإبداع ضرورته كفعل إنساني بامتياز».
حتى لو عاش الفنانون هذه الازدواجية الفنية بين الرسم والشعر، لا بد أن يكون هناك موهبة على هامش الأخرى، وأن يكون مشروعهم الأساسي هو الشعر أو الرسم، لا الاثنين معا. لذلك طرحنا عليهم السؤال التالي هل تكتبون الشعر على هامش الرسم؟ بعضهم اعترف لنا بأن الرسم هو مشروعه الأساسي والشعر هو هامشي بالنسبة له، أما البعض الآخر فقال إنه يتعاطى مع الشعر بجدية تضاهي تعاطيه مع الرسم. وبرأيه ما من موهبة على حساب الأخرى. ومن الممكن أن يكون الفنان مبدعا في فنين في آن واحد.
الفنان التشكيلي عادل قديح أخبرنا أنه يكتب الشعر على هامش الرسم. «أنا أعتبر نفسي بالمقام الأول والأخير فنانا تشكيليا وباحثا في مجال الفنون التشكيلية. لذلك أنا محترف في هذا المجال، لدرجة أن مهنتي الإبداعية تلك تلبستني، ووجهتني، ورسمت أسلوب حياتي كليا. فلا أنا شاعر محترف ولا أطرح نفسي كذلك. كل ما في الأمر أنني أرغب بتنويع خطابي بين البصري والكلامي. أنا بصري بامتياز». ويضيف قديح أنه يحاول أحيانا أن يقرأ قصيدة لشاعر كبير كمحمود درويش، ومحمد الماغوط ونزار قباني وغيرهم... وينتشي من كتاباتهم، «وأقول هل سيتاح لي أن أصمم لغة مشابهة بنفس الكسوف التركيبي؟ وأجيب هذا لن يحصل أبدا. ولأن الفكرة لا تراودني الا من موقع الابداع، فإنني أكتفي بلوحتي».
«تغلي ألواني في عروقي/ كراية لا تخفق/ كشكوى لا تهتف/ كأنها فراغ/ أرسمك كإيماءات تطير في الفضاء/ أرسمك فتطير الى رمادي» سهى صباغ توافق قديح الرأي وأوضحت لنا باقتضاب أن مشروعها الاساسي هو الرسم، وأنها تكتب الشعر على هامش الرسم. «حلق ذقنه/ رقص/ فقد التقيا/ وجها لوجه.../ مد لها يده/ فصافحته/ ابتسم لها/ فبادلته الابتسام./ قالت له/ قبلني.../ كالمجنونة ضحكت فرحا السماء.../ نام خدهاعلى خده.../تسلل البرد الى جسديهما/ فأحكما الغطاء.../ حلق ذقنه/ أخيرا/ انتهى الخصام/ فكّ الحداد.../ حلق ذقنه.../ تعطّر/ رقص في بهو البيت. قصيدة «حلق ذقنه».
فنان متكاملان
اياد كنعان يعتبر أن الشعر حالة وجدانية وشعورية مصاحبة لنشاطه كفنان. «هي شكل من أشكال الرياضة الذهنية إذا جاز التعبير، أهرب من الرسم إلى الشعر والعكس».
«قالوا: قلتُ: عدلتَ... فنمتَ...فمتَّ/ دون ألم النهايات التراجيدية/ غافياً على خد معطفك الرمادي.
قلتَ: سأغفو لأستريح هنا/ قصيا في اللا مكان واللا زمان/ في المؤقت /في الطارئ من الحيز والوقت.
جلستَ لتستريح/ فلم يفزعْك المسافرون.
وغفل عن روحك رجالُ الأمن اليقظون/ حتى من ذبابة/ تبول على معطف سائح سويسري.
طرت على جناح طائرة أقلعت للتوِّ/ متسللًا دون تذكرة/ إلى فردوسك المفقود... من قصيدة «عدلتَ فنمتَ فمتَّ»
أما ملاعب فكان رأيه مختلفا بعض الشيء عن زملائه اذ يعتبر أن ما من فن عنده على هامش الآخر: «الشعر عندي ليس على هامش الرسم. ولا الرسم على هامش الشعر. ليس لدي مشروع اساسي. اني في الحياة كي أختبر الأشياء فقط». «كانت الساعات كلها عقارب، وكان رغيفك يقطعني من الرصيف الى الرصيف». الجزائر 1972.
الفنان عدنان خوجا أيضا يوافق ملاعب الرأي ويعتبر أنه ما من فن على هامش الآخر .»أكتب الشعر وأرسم منذ أربعين سنة. وأدخلتُ بعض قصائدي الى لوحاتي». ويضيف: «أحيانا أشعر أني سأواظب على كتابة الشعر وسأستغني عن الرسم. لكني أعود الى الرسم. وأحيانا أشتاق الى اللون واللوحة وأنسى الشعر، لكني أعود في ما بعد الى الكتابة، لأنها تتيح لي التعبير بطريقة مختلفة».
«أخذت وجه البحر/ من براثن الصخور/ حضنته بين أناملي/ بكى.../ مثل طفل صغير /ثم انتشى/ مثل زهرة اقحوان /نثرت أمواجه فوق كفيّ/ قطرة قطرة /وكان الغروب /يسعى خلف ذيل الشمس/ ثم رميت به نحو الفضاء... من قصيدة «تجليات طفل عاشق».
موهبتان
الفنانة التشكيلية باسمة بطولي تعتبر كذلك أنه ليس من الضروري على الاطلاق أن يكون الرسم على هامش الشعر او الشعر على هامش الرسم. وتعتقد بطولي أن هذا السؤال نابع من كون الناس لا يعترفون لأي موهوب بموهبتين في آن واحد. وتضيف: وقال في فني سعيد عقل: «لا أجمل من رسومها إلا شعرها وليس أجمل من شعرها إلا رسومها».
وتوضح لنا بطولي أنها تحاول دائما ألا تخوض في مجال اذا لم تكن متمكنة من لغته ومن تقنيته. «لكل من الرسم والشعر لغته الخاصة وتقنيته الخاصة. وهذان الفنان هما من ينبوع واحد وهو الوجدان الذي يتحول مرة الى كلمات ومرة أخرى الى ألوان وخطوط».
«وأنت الشط كن سفري الطويلا.. /أحب مدى الوصول اللا وصولا../ هي الأفلاك نقطفها بهدب/ وتبقى للأكف المستحيلا/ كما الحلم الجميل، أعيد إني/ أنا حققته.. حلما جميلا/ وأرحل.. فيك أبحث.. عنك.. عنى /كما في الري نستجدي الغليلا... من قصيدة «مدار الفصول».
مصادر الوحي كثيرة عند الفنان. فأحيانا منظر طبيعي قد يوحي له بلوحة أو بقصيدة أو بالاثنين معا. يقول الكاتب الفرنسي فلوبير ما يولّد الوحي الشعري هم مشهد البحر، الحب، المرأة الخ.
ولكن السؤال هل يمكن لفن أن يوحي بفن آخر، كأن توحي لوحة للفنان بقصيدة أو القصيدة تدفعه للرسم؟ وما علاقة الشعر بالرسم. «الرسم هو شعر نراه بدل أن نشعر به، والشعر هو رسم نشعر به بدل أن نراه» على حد قول الرسام الكبير ليوناردو دي فنشي.
سألنا الفنانين هل يؤثر الرسم على الشعر وهل من الممكن أن يشكل أحد هذين الفنين مصدر وحي للآخر؟ معظم الاجابات صبت في اتجاه واحد وهي أن الفنون تلتقي ببعضها البعض، وكل فن يؤثر على الآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
الفنان جميل ملاعب مثلا قال إن الشعر يوحي له بالرسم، «بما أني فنان تشكيلي، أحول كل شيء الى لوحة. والرسم بالنسبة لي هو شعر بصري.. والشعر ليس أسهل من الرسم، الرسم بالنسبة لي أسهل».
ويعتقد ملاعب أن كل الفنون تلتقي ببعضها البعض. وأن المهم في الفن هو امتلاك اللغة. واذا كانت الفكرة عظيمة ولم يكن من لغة قوية تعبر عنها، تصبح بسيطة.
«الوردة هي الوردة، تستطيعين أن ترسميها أو تكتبي عنها او تصوريها بواسطة الكاميرا، أو تموسقيها أو تمثليها أو تكميئيها، فهذا شأنك. الفن هو طريقة تحويلها وهندستها وتلوينها ووضعها من جديد. فتفاحة سيزان تشبه تفاح لبنان، لكنها في لوحته هي عنصر تركيبي جمالي هندسي تشكيلي. وهي بحاجة الى دراسة ونقد ولبلاغة وصفية في شرحها».
اياد كنعان يوافق ملاعب الرأي ويعتبر ان هناك علاقة راسخة بين أوجه النشاط الإبداعي الإنساني، خاصة بين الفنون وأن جميع الفنون تنهل معانيها من شكل من أشكال الصورة المتخيلة الضبابية التي يسعى الجميع لاستجلائها بطرق مختلفة. «الرسام مثلا يحاول التقاطها بالألوان والخطوط والمساحات، الشاعر بالتراكيب والجمل الشعرية وموسيقى الكلمات، ووقعها على أذن المستمع، كذلك المعماري والموسيقي والمسرحي. الكل يتحرك في فضاء صوري متشابك. لا يمكن الفصل بين الفنون فكلها تنهل من نبع واحد هي مخيلة الإنسان المبدع، وكل نشـاط فـني يلهـم الآخر».
الفنان عادل قديح يشارك زملاءه الرأي ويقول «أنا مؤمن بوحدة الفنون، لذلك فإن نصا أكتبه أو يكتبه غيري يكون مدعاة إبداع بصري لدي.أصوغ كتابات من لوحتي والكتابة أيضا تفتح لي آفاق عمل فني آخر».
عدنان خوجا بدوره يقول إن اللوحة قد توحي له بقصيدة أو القصيدة قد توحي له بلوحة.. «وأيضا عندما أتأثر بصورة أو بوضع سياسي معين، أعبر بالكتابة او بالرسم او بالاثنين معا».
أما الفنانة سهى صباغ فتعتبر أن الشعر يتأثر بالرسم والرسم يتأثر بالشعر ولكن بشكل غير مباشر.
بطولي بدروها تعتبر أن الشعر من الممكن أن يؤثر على الرسم لكن لكل هذين الفنين شخصية مستقلة.
«يعتبر الناس أحيانا أن الرسم هو ترجمة للشعر، عندما نستعمل اللوحات كمكمل للشعر في بعض المجموعات الشعرية وهذا خطأ في التقدير. فالشعر له شخصيته الخاصة والرسم له شخصية منفصلة أيضا».
وتعتبر بطولي أننا نرسم كل ما هو بصري والبصر له لغته. ونكتب ما يتعلق بحاسة السمع لأن الشعر لغته سمعية. وأن الشعر والرسم يتشاركان في أمر واحد وهو أنهما يعكسان قدرة الفنان أو الشاعر على الاستيحاء. «قد يكون مصدر الوحي للقصيدة أي شيء، كلوحة او النظرة مثلا، كما أن اللوحة قد تستوحى أيضا من أي شيء يمكن أن يوحي بالشعر، ككلمة أو منظر طبيعي أو قطعة موسيقية أو ابتسامة».
السفير- 10-7-2014