يوما ما كتب عبد اللطيف الربيع:
'يوم الجمعة أغتسل من نفسي
وأتعطر برائحة المقبرة
أنا خشب الخطيئة'.
حينها ترقب اليمانيون قصيدته التالية، غير أنه فاجأهم، بأن رحل، وكان غيابه في يوم جمعة.
ورحل ابن آل مغموم، يوم الثاني والعشرين من شهر ابريل عام 1993م، ذلك اليوم الذي كان يشهد فرحة اليمانيين واستعدادهم، وكان هو كذلك، لممارسة أولي خطوات الديمقراطية في اليمن، اذ كان يوم 27 ابريل هو يوم انتخاب أول مجلس نواب علي هذا النحو في اليمن بعد توحيد شطريه، وقبل ذلك أيضا!.. وكان عبداللطيف الربيع أحد الأصوات البارزة، والواعية، التي عملت طويلا بالكلمة الصحفية، والقصيدة، ولوحة الرسم التشكيلي، من أجل الوحدة والديمقراطية، فكان متعدد المواهب والأنشطة والحضور، وعليه كان يجمع مثقفو اليمن والمبدعون، وبحب شديد!'.
فرحان آل مغموم!
كانت صحيفة (المستقبل) لسان حال الحزب الاشتراكي، والتي صدرت بعد الوحدة مباشرة، من أهم الصحف في هذا الوقت وأقواها علي الساحة اليمنية، بعد محاولات منها لاستكتاب عبداللطيف الربيع، وافق، علي أن يكتب زاوية صغيرة كمربع ثابت في الصفحة الأخيرة من الصحيفة، وكان يوقع هذه الزاوية، التي ألبت عليه منابر المساجد بشكل يكاد يكون دائما، باسم: فرحان آل مغموم، وكانت بعنوان (شر البلية)، تناول فيها العديد من القضايا اليمنية والعربية، بالإشارة والتلميح والمعالجة المكثفة.. كتب عن سبب اختياره لذلك الاسم: '... أما فرحان فهو اسمي، فأنا والحمد لله عشت زمن العزة، عصر الثورة اليمنية والعربية والوحدة، وان شاء الله سأعيش عصر الإصلاح والديمقراطية، أما (آل مغموم) فهو لقب ورثته عن أجدادي الذين عاشوا وماتوا في عصر كهنوت الإمامة وبطش الاستعمار.
عبداللطيف، أيها الربيع.. أهكذا؟
أجل هكذا، مات عبداللطيف في أواخر عقده الرابع، رحل بشكل مفاجئ.. سكت عن القصيدة واللوحة والفكرة الجميلة التي امتاز بالتقاطها، بعد أن كان يملأ اليمن حيوية وآمالا، وأحلاما للبسطاء..! يقول عن الظروف التي مات فيها، صديقه الشاعر عبدالعزيز البغدادي، والمحامي صاحب الدفاع عن قضايا الرأي والإبداع التي يحتسب أمام القضاء اليمني فيها وعليها، ومن أشهر القضايا التي ترافع فيها عبدالعزيز البغدادي قضية الحسبة التي رفعت علي رائد الرواية اليمنية محمد عبدالولي الذي مات في حادثة طائرة عام 1971م، وروايته (صنعاء مدينة مفتوحة)، وعلي صحيفة الثقافية ورئيس تحريرها بسبب نشرها لهذه الرواية، علي حلقات، وكان ذلك، طبعا، بعد أكثر من عقدين علي طباعتها، كما ترافع أيضا عبدالعزيز البغدادي، في قضية مجلة الحكمة اليمانية، لسان حال اتحاد الكتاب والأدباء اليمنيين التي احتسب ضدها أمام المحاكم اليمنية (بعد قضية صنعاء مدينة مفتوحة) وكانت الحسبة بسبب قصة قصيرة نشرتها المجلة لقاص يمني، مات قبل القضية، أيضا، بما يقرب من ثلاث سنوات، وغيرها من قضايا الإبداع والفكر والرأي التي اشتهر بها وبمرافعاته فيها عن حرية الإبداع والرأي، المحامي الشاعر عبدالعزيز البغدادي؟ والذي كان من ألصق الأصدقاء بعبداللطيف الربيع، كتب البغدادي، في وفاة عبداللطيف: 'كان موته من أبرز الفواجع التي أصيب ويصاب بها الوطن في حملة الحصاد.. لقد مثل انعدام الأكسوجين، والذي لو وجد لتخطي أزمته، فاجعة الفواجع، لا لأسرته التي ظلت خلال أزمته تجوب صنعاء بحثا عن ذرة أكسوجين، بل مثل ذلك الفاجعة لكل محبي صنعاء، الذين كان عبداللطيف أكثرهم حبا لها، فاجعة هائلة خاصة وأن أكبر مستشفيات صنعاء واليمن، والذي يحمل اسم مستشفي الثورة، لا يملك أنبوبة أكسوجين واحدة عامرة، من بين أكثر من مائة أسطوانة، كلها كانت فارغة، وملقاة عند بوابة المستشفي، وفي هذا تعبير قوي علي تحدي الملكيين والاستعمار والإمامة علي الثورة ورجالها ومنجزاتها... آه أيها الوطن حتي الهواء النقي الذي احتاجه منك عاشقك 'الربيع'.. قد حرمته منه!... غادر صنعاء التي طالما تحرق بها ولعا، في قصائده ولوحاته التشكيلية، غادرها وهو ملتهب بالحلم المتوهج لها، لقد سكنه هم الوطن، الحلم، القصيدة.. وضن عليه بقطرة أكسوجين!..
وقال المقالح..!
'يا نشيد الإنشاد في الكائنات الصديقة/ أيامنا الآدمية/ تمضي سدي/ تتناثر صفراء باردة الروح/ داكنة لا طريق تؤدي إليه/ السلام علي القمر لاشيء فيه/ السلام على الأمهات يلدن جيوشا من الخائفين/ المخيفين/ يخرجن من زمن كالرماد/ إلى زمن كالرماد/ وما بين نار الحريق/ ونار الصقيع/ جنائز هاربة يتكرر فيها الذهول/ يفوح النهار برائحة الموت/ ينفرط الوقت/ والأفق يسقط/ يغدو رصيفا يطارده الحزن والأتربة...!
كانت تلك الأبيات من قصيدة للدكتور عبدالعزيز المقالح، رثي بها صديقه عبداللطيف الربيع، في ديوانه (أبجدية الروح). كان المقالح والربيع صديقين منذ طفولتهما، عاشا سويا معاناة وآلام وطنهما، وحلما معا بغد أحسن وأروع لعاصمتهما صنعاء ولليمن، ولوطنهما العربي الكبير، قال الدكتور المقالح في احدي المقالات التي كتبها عن صديقه عبداللطيف الربيع، في رحيله: '... مات طفل الدهشة في الشعر، وطفل الدهشة في الرسم، الطفل الفنان الذي كان يمسك بأطراف اللغة، كما يمسك بأطراف اللون ويصنع من الاثنين مزيجا مبهرا، هو الفن ببدائع وروائع اكتشافاته. لقد مشيت مع عبداللطيف أياما، وأياما، نزرع شوارع هذه العاصمة، وفي كل منعطف يحدثني عن تفاصيل الحلم الذي كان يملأ وجدانه، حلم تحويل هذه المدينة إلى متحف للجمال، ولذلك اختار العمل في أمانة العاصمة لكي يتمكن في يوم من الأيام من أداء الأمانة الفنية، وقد ذهب قبل أن يشهد حلمه الكبير ويري صنعاء وقد تخلصت من غشاوة الغبار.
في مصر القديمة وشارع الترعة البولاقية!
كنت (معد هذا الملف) قد تعرفت علي عبداللطيف الربيع، حينما أقمت في صنعاء، للعمل بها، في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وتوطدت الصداقة بيننا لتوافقنا في كثير من الاهتمامات.. دعاني لزيارة مرسمه الذي كان يشغل الطابق الأرضي من منزله في صنعاء، وما كنت أعرف عن موسمه هذا شيئا، علي الرغم من جلسات (المقيل) الأسبوعية التي كانت تجمع الأصدقاء في 'ديوانه' بأعلى طوابق بيته هذا. فكان لا يتكلم عن لوحاته ولا مرسمه، قال لي وأنا أدلف إلى هذا الاتيليه، لا أسمح إلا للأعزاء للغاية بدخول محرابي!.. وتركني أقف متأملا رسوماته الزيتية، والفحمية، المعلقة علي حواملها، أو الجدران، والملفوفة في الأركان. وانتابني علي الرغم من عدم تخصصي في هذا الفن الرائع إحساس ما، عبرت له عنه حال جلوسنا في الديوان بالطابق الأعلى، بانتظار الأصدقاء الذي أوشك موعد مجيئهم (للمقيل) علي الاقتراب، قلت له، كأنني يا عزيزي أشم في لوحاتك كلها، تقريبا، رائحة مصر القديمة، وحواري القاهرة العتيقة! ابتسم، وكأنه سافر زمنا وهو يحكي لي من خلف تلك البوابة التي ما كنت أظنها ستنفتح عليه بكل تلك الأشجان، قال عبداللطيف الربيع لي: حينما سافرت إلى مصر، وكنت طفلا تقريبا، لم أحزن علي فراق الأصدقاء، ولم أبك أبدا، كان ذلك في سنة 1958م، عشت في مصر سنوات تكويني النفسي، والثقافي، وبعد أن حصلت عام 1963م علي الثانوية العامة، وكان علي أن أدرس الفن والهندسة بمنحة في المجر، بكيت بكاء مرا، وحزنت حزنا شديدا، لفراقي مصر وأصدقائي فيها، كنت في مصر خلال مرحلتي الإعدادية والثانوية، علي غير عادة ما يكون عليه الطلبة اليمنيين، بل والعرب.. فلقد كان زملائي الطلبة، من العباسية، ومصر القديمة، وشبرا، في مدرسة لاظوغلي من أعز الأصدقاء لي، كنت واحدا من عائلة الكثيرين منهم، عشقت هذه الأحياء، وأحببت أهل أصدقائي محبتي لأهلي، بل أكثر.. كنت ان غبت أسبوعا واحدا عن زيارة بيت عمي ميخائيل أبوصديقي سمير، يرسلون في طلبي والسؤال عني، وكثيرا ما طلب عمي ميخائيل من المشرف علي السكن، الأستاذ شوقي، أذكره (دعوناه فيما بعد لزيارة صنعاء) أن يعتبرني في زيارة أمه وأبيه وأخوته، والمبيت عندهم، ولا يقلق علي.. كانوا في شارع الترعة البولاقية، بعد أن عملت في أمانة العاصمة صنعاء، وكنت ومازلت، أنزل مصر، لظروف عملي، فور أن تنتهي أيام الاستضافة الرسمية لي في محافظة القاهرة، أتفرغ أياما بعدها لزيارة سمير وعائلة عمي ميخائيل كلها التي كانت لي هي الأهل والعائلة، وكذلك الأصدقاء الآخرون، والأهل في العباسية ومصر القديمة!
عشت بعمق ومحبة مولد الحسين والسيدة زينب، والسيد البدوي في طنطا، ومساجد القاهرة الفاطمية ومناسباتها طوقت مصر من الإسكندرية إلى أسوان!
السلال والربيع!
العقيد، والكاتب علي عبدالله السلال، كتب في عزاء عبداللطيف الربيع، بصحيفة الثورة اليمنية: 'إلى الأخوة من آل الربيع: إذا والدكم الراحل العظيم القاضي محمد الربيع قد سقط في ميدان الكفاح في سبيل تحقيق حكم الشورى بمشاركته في ثورة 1948، فإن أخاكم الشاعر والفنان المهندس، عبداللطيف قد سقط في نفس الميدان لإكماله مهمة والده في تحقيق المسيرة الديمقراطية وإقامة المجتمع المدني، واذا كان القدر قد حرمه من فرصته في مواصلة نضاله من داخل البرلمان المنتخب فإنه قد ترك هذه المهمة لأولاده وزملاء نضاله من بعده وهي أمانة في أعناقهم لن ترتاح روحه إلا إذا تحققت كل أحلامه، وما حققه شعبنا في أول انتخابات ديمقراطية يعتبر وفاء له ولأمثاله من المناضلين الشجعان'.
وصاحب 'الرهينة'!
قال لي يوما الصديق الحميم زيد مطيع دماج، القاص الروائي اليمني، صاحب رواية 'الرهينة' التي طبعت لأكثر من مرة، في أكثر من دولة عربية، وفي مصر ضمن مكتبة القراءة للجميع، كما ترجمت لأكثر من لغة، قال وهو يطلعني علي صورة بورتريه زيتي له: تعرف أنها رسم عبداللطيف، رحمه الله، أهداها لي؟!. وكنت أعرفهما (رحمهما الله) صديقين حميمين بشكل خاص جدا، سألت زيد يومها، عن سبب تلك الحميمية الشديدة؟!.. قال: تعارفنا مذ كنا طفلين، في المدرسة الأحمدية بتعز، أنا قادم من قريتي الجبلية، مبهورا ومندهشا بالمدينة التي أراها لأول مرة، وهو كذلك. آت من قريته في السهل المرتفع، ربطتنا صداقة منذ تعارفنا، كنا أصغر سنا وجسما من باقي تلاميذ المدرسة، كان الصف الثالث هو منتهي مراحل المدرسة الأحمدية، بل نهاية المراحل التعليمية (الحديثة) في اليمن. كان والدي ووالده زميلي كفاح ونضال. في العام 1954، دبر لي والدي طريقة لذهابي إلى مصر لإكمال تعليمي، وفي نفس العام سافر عبداللطيف أيضا بطريقة أخري دبرها له أهله، وكان هو الأسبق في سفره، أعتقد أنني كنت أكبره بسنة واحدة، علي الرغم من إصراره الدائم علي أنها أكثر من سنة، كان الدافع لأن نعجل بسفرنا إلى مصر، الأستاذ المصري عبدالغني مبروك، الذي كان يولينا أنا وعبداللطيف رعاية خاصة، فكنا متأثرين بكلامه لنا عن مصر وعبدالناصر والعروبة والوحدة، والمدن المصرية والطائرات والقطارات والسينما... أذكر أنه قال لنا، عبداللطيف وأنا، وكنا في سكنه الذي كان يفتحه لنا خاصة، لمساعدتنا في دروسنا (بدون أجر طبعا)، قال وهو في غاية الغضب: الإمام أحمد ده (جحش)، اعتبرناه، أنا وعبداللطيف، يمدح الإمام، فضحكنا مندهشين، لأنه لم يكن يمدحه لنا، علاوة علي معرفته بأننا أبناء مناضلين ضد الإمام!، غير أننا فيما بعد ضحكنا من أنفسنا حين عرفنا أن كلمة (جحش) هذه تعني في لهجتنا 0صعبي) أي حمار صغير!. غبنا، عن بعضنا البعض، عشر سنوات كاملة، من عام 1958م إلى عام 1968م، كان فيها يدرس في القاهرة، وأنا في بني سويف وطنطا، وعندما حصل كل منا علي شهادة الثانوية، سافر هو إلى المجر، وبقيت أنا أكمل دراستي في جامعة القاهرة ثم عدنا إلى اليمن، 1968، ولم نفترق أبدا، كما تري، ويواصل زيد مطيع كلامه: للمقيل مع عبداللطيف نكهة خاصة، مثل نكهة البن اليمني، كانت أروع المقايل في منزله، خاصة عندما عاد صديقنا الدكتور المقالح إلى صنعاء من القاهرة، في مقيله التقينا بأكبر الأدباء والمفكرين العرب والأجانب، كان لقيل عبداللطيف طعم كطعم ليالي ألف ليلة وليلة. كان عبداللطيف، الفتي المشتعل بيننا بالآراء الحادة التي سبقت زماننا، كان صاحب النكتة السياسية التي يكتبها هو، ونخشى نحن من قراءتها. كان مدهشا في نمط حياته اليومية، وفي نقاشاته العديدة التنوع، في حبه لتناول إفطاره في المطاعم الشعبية بأحياء صنعاء، كان يقول دائما أنه (يدلع نفسه!)!
عبداللطيف المهموم بالرؤية الواعية!
كتب الباحث اليمني المعروف، عبدالباري طاهر، في صحيفة الثوري لسان حال الحزب الاشتراكي اليمني: روح 'فازعة' التي نسجتها من قيم المجد ومن قيم اليمن: وديانها وسهولها وجبالها وكانت ريشتك تدهش أعظم نقاد الفن التشكيلي، أما نكاتك يالطيف فعلى قسوتها هي أعذب من قول الصدق أمام أساطير الفساد'.
وعنه يقول أحمد قاسم دماج!
توجهت إلى المثقف المفكر الشاعر أحمد قاسم دماج، ألتمس عنده ذكريات، لا أعتقد أبدا أنها بهتت لديه، فكنت أعرف أيضا، أن شيئا آخر يربط الراحل، وأحمد قاسم، معا، وفضلا عن أن أحمد قاسم يرأس الآن ولدورات سابقة عديدة، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، فاهتماماته وتكوينه السياسي الوطني النضالي، كقومي عربي مؤسس في اليمن، وكعروبي نهضوي، هو ما جعلني أسأله عن صديقه الذي رحل منذ عقد من الزمان، قال أحمد قاسم دماج عن عبداللطيف: 'كان وهو المفكر السياسي، مستوعبا لحقائق العصر، متأملا بعمق، وصفاء في أطوار ومستجدات زمن لا تحسب مستجداته بالأعوام، أو الشهور، وإنما بالأيام والساعات! لقد توطدت علي مدي ربع قرن صداقتي الحميمة به، بعبداللطيف المبدع المفكر الانسان، وأشهد أن اللقاء به والبقاء معه، كان يبعث البهجة في النفس ويشحذ الذهن، ويدفع إلى المزيد من المعرفة والتأمل والعمق في آن واحد... لم تكن السياسة عنده تعصبا ولا حذلقة يتحكم فيها حساب الربح والخسارة، فيما هو شخصي، ولم يكن يعرف من السياسة أساليب الذرائعية النفعية ولا حتي الاسم.. السياسة عند عبداللطيف كانت، حتي آخر اللحظات، التزاما فكريا واضحا، بكل ما في الكلمة من معني.. كانت عنده تبدأ من الوطن الانسان والأرض، ثم تتسع لتشمل الإنسانية، الأمة، فتزداد اتساعا لتشمل الإنسانية كلها..
الربيع و.. 'انهزامات الصوت'!
'قد كنت أنت وقد كونتني قلما/ والآن أنت أنا في دفتر الألم/ قد فرقتنا بحار أنت أملحها/ وصرت ربان شط الخوف والعدم/... ولا تمائم أوتاد تقيم بنا/ ديارنا أعجمتها سكتة الغنم/ ولا نجائبنا بيض فنطلقها/ إلى فضاء سواد القرب والرحم/ ولا شياطيننا أوفت لنا ذمما/ ولا القريحة أشفت علة الكلم/....'
تلك أبيات من قصيدة للراحل عبداللطيف الربيع بعنوان 'إنهزامات الصوت'، وهي قصيدة عمودية من القصيدة المغناة ومن الشكل الذي قليلا ما كتبه وفي قصيدة له بعنوان 'رسام' كتب يقول: 'يخرج في الصباح/ ويعود مخمورا عند منتصف الليل/ يخرج في الصباح/ ويعود مخمورا عند منتصف الليل/ يخرج في الصباح/ ويعود مخمورا عند منتصف الليل/ أحبار. أصباغ/ قماش أبيض مشدود/ ولا شيء آخر/ في غرفة الرسام الذي/ لا يعود مخمورا عند منتصف الليل'.
وعبداللطيف الربيع، فرحان آل مغموم، الشاعر الرسام الكاتب السياسي اليمني، والذي مات عن 47 عاما، عاش الظرف اليمني بواقعه الاجتماعي السياسي الذي تأثر به ككثيرين من المبدعين اليمنيين الذين تأثرت مواهبهم الإبداعية بذلك الظرف من تاريخ اليمن، فتعرقلت تلك المواهب قليلا أو كثيرا، أو ماتت وهي حينئذ في مهدها، حالة ظرفها بالطبع داخل هذا الإطار اليمني والذي يمكن تلخيصه بإيجاز شديد في حكم إمامي جعل من اليمن سجنا كبيرا انقطع من فيه اليمنيون عن العالم الخارجي، وثورات لم تنجح مثل ثورة 1948م وحركة انقلاب عام 1955م وغيرهما من حركات التمرد الشعبية التي كان القمع الإمامي قد أخذ أبعادا أكثر قهرا وتسلطا قبل أن تنجح الثورة التي غيرت وجه اليمن تماما، ثورة 1962م، والتي لاقت هي الأخرى من الرجعية العربية القوية، ومن قوي الاستعمار الخارجي، مقاومة ومواجهة استمرت تعمل بقوة علي إجهاض تلك الثورة التي قامت في جنوب الجزيرة العربية، وكان من الممكن نجاح تلك القوي وإسقاط هذه الثورة، لولا استماتة أبناء اليمن الحالمين بالتغيير، والقوي العربية الثورية التي وقفت بصلابة تساند الثورة العربية اليمنية، تلك القوي التي تمثلت في ثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر، الذي زلزل عرش بريطانيا، الأسد العجوز، في مستعمرتها التي صارت هي التاج بعد الهند، 'عدن' التي وقف عبدالناصر في أحد ميادين مدينة تعز اليمنية، المجاورة لعدن، وخاطب الأسد البريطاني فيها قائلا: 'علي البريطاني وبريطانيا أن تحمل عصاها وترحل عن عدن'. كل تلك الظروف وبكل تأكيد أثرت علي الإبداع اليمني سلبا وإيجابا، وعلي المبدعين اليمنيين، وعبداللطيف الربيع واحد منهم، ولد عبداللطيف عام 1946م في قرية من قري محافظة تعز اسمها (خاو)، أنهي دراسته الثانوية في القاهرة (مصر) عام 1963م كما حصل علي دبلوم دراسات عليا في تخطيط المدن عام 1978م من بريطانيا، وعلي شهادة بحث في مجال إدارة الخدمات من جامعة (بوهوم) في ألمانيا، كما حصل أيضا علي شهادة في مجال الدراسات الحضرية من جامعة (هارفارد) الأمريكية، ودرس عبداللطيف الفن التشكيلي في المعهد الحر بالقاهرة، وكون مع مجموعة من الفنانين التشكيليين اليمنيين، جمعية لهم في صنعاء، كان هو أمينها العام، وكان كذلك عضوا باتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وعضوا بمنظمة السلم والتضامن، وشارك في معارض تشكيلية عديدة محليةوعربية، أصدر ديوانين، عنهما، وعن تجربته الشعرية ورؤاه فيهما، لابد من قراءة نقدية موجزة لهما، وكانت ضالتنا مسجلة في كتاب بعنوان 'ثلاثية النقد' طبعة أولي عام 2000م!
'فازعة'.. 'الكفن.. الجسد'!
في هذا الكتاب النقدي (ثلاثية نقدية) للشاعر الناقد الدكتور عبدالعزيز المقالح، نجده يقول: '... بين يدي الآن ديوانان من الشعر اختار لهما صاحبهما الشاعر والفنان التشكيلي 'عبداللطيف الربيع' وهو من أبرز الأصوات الشابة في حركة الشعر الجديد في اليمن صفة الكتاب بدلا من الديوان، وهما 'كتاب: الكفن.. الجسد' و'كتاب: فازعة'، والكتاب الأول أو بالأصح الديوان الأول يضم عددا من القصائد المتنوعة من حيث التجارب والأساليب، بينما يشكل الكتاب الثاني قصيدة طويلة تجسد مجموعة من الإسقاطات المتلاحقة والحوار المتداخل في ضرب من السيرة الذاتية... وقبل الاقتراب من فضاء الكتاب الأول للشاعر، لابد من إزاحة الكفن الشكل والسؤال عن الجسد القصيدة، ولن يتسن لنا ذلك إلا إذا أثبتنا بادئ ذي بدء أننا لسنا من الذين قد تنطلي عليهم حيلة التواضع أو من الذين يقعون في فخاخ المفارقات الذكية سواء في عنوان الكتاب الديوان، أم في مفردات القصائد، نحن إذن مع 'كتاب الكفن.. الجسد' في صحبة ديوان من الشعر يضاف إلى قائمة الأعمال الشعرية في يمن ما بعد الثورة، وهو ديوان يطالعنا بأسلوب يمثل الفترة الزمنية الراهنة، زمن ما بعد العشرين عاما علي قيام ثورة سبتمبر التي أعادت الضوء إلى الجفون والخضرة إلى الأرض، ولأن هذا هو زمن أسلوب الديوان فإنه لا يستعير من الأساليب القديمة شيئا، وقد لا يستعير من أساليب الستينيات والسبعينيات سوي القليل، إنه يمثل فنيا احتجاجا آخر علي النمطية السائدة في القصيدة العربية الحديثة، وفي الوقت ذاته وهذا هو الأهم يمثل مضمونا احتجاجيا عميقا علي بقايا نمطية التفكير، وعلي الرغم من أن التجربة الشعرية في الديوان تحاول الجمع بين الجميل والمخيف، بين المدهش والمهين، بين الأنيس والمنفر، بين اللوحة والقصيدة، فإنها من خلال هذه الثنائية أو الصوت المزدوج تحاول أن تعكس بانفعالية وبشعرية حادة، المستوي غير المعلن لواقع القصيدة في هذا الجزء شبه المهمل أدبيا من العالم، كما استطاع المؤلف أن يوظف موهبته التشكيلية الإبداعية ليمنح القصيدة فضاءات وأبعادا لونية غير مألوفة، والقصيدة الأولي في الديوان وعنوانها (حروف الجن) تبدأ هكذا في مخاطبة الماضي: أيها الماضي لا تقل لا... لم يطلب الشاعر إلى الماضي أن يرحل، وأن يتركنا للحاضر والمستقبل، لو فعل ذلك لكان قد وقع خارج الخطاب الشعري، لكنه استخدم للتعبير عن ضيقه بالماضي بنية تعبيرية جديدة توحي بهذا الضيق دون أن تشير إليه مباشرة، وتكسب الصورة الشعرية ثراء وتنوعا...
هذا اليوم لم يمت أحد/ هكذا قالت لي نافذة المدينة/ يوم الجمعة أغتسل من نفسي/ وأتعطر برائحة المقبرة/ 'بمن أقيم صلاة الفرح؟؟؟'/ أنا خشب الخطيئة/ دقوا مسامير الفضيلة في جسدي/ لامعة كلماتي مثل صفائح الحزن/ وحادة مثل نصل البكاء/....'.
وعن ديوان عبداللطيف، الثاني، يقول د/ المقالح: '... 'وفازعة' اسم جدة الشاعر، وقد يكون استعار هذا الاسم كمعادل موضوعي ينسجم من خلال إسقاطاته المجسمة لحركة الثورة ولملامح (اليمن الأم) هذه التي يعود معها إلى طفولته ويتذكر أحداثا تختلط فيها السيرة الذاتية بسيرة الوطن ويمتزج فيها الخاص بالعام، ويبدو أنه اختار لحظة البداية لتكون شديدة الارتباط بمصرع الثورة الدستورية عام 1948م عندما تحولت اليمن إلى حطام بائس وإلى مقبرة للأحزان والمخاوف.
'ولبست البلاد حدادا عليك،/ لي الآن مقبرتان أري بهما/ ولي الآن عمران/ عمر أموت به كل يوم/ وعمر أخاف عليه من العيش/ هذا أنا:/ ثنل خوفي ينخر في جسدي/ والقصيدة تنخل حزني/ ولم يبق لي الحبر... / إلا دمي.../ كيف أكتب والموت نبضي/ وقلبي دواة تجف بها الكلمات'.
أخبار الأدب - 4 يوليو 2004