يضعنا انقطاع الجمهور اليوم عن الشعر في فخاخ أسئلة كثيرة. السؤال عن تفاعل الشعر مع الحياة اليومية؟ وهل الشعر نخبوي أو أنه قادر على ملامسة أوجاع وهموم واهتمامات الناس بكل طبقاتهم؟ وهل الشعر كفن خاضع لمستقبل يحدد مساره الجمهور ويوجهه؟ فالشعر المعاصر شبه غائب أو هو غائب فعلا من حوارات الجمهور اليومية، من صفوف المدارس، من المكتبات، من الصحف اليومية، كل ذلك له دلالته بزعم المراقبين، على غياب الشعر عن الشعوب، أو وجود شعوب الشعر غائب عن تفكيرها، أو مغيّب.
وحين يدور الحديث هنا عن المعنى الكمي لجمهور الشعر اليوم، ترانا نحدد حضور الشعر بحضور الجمهور وهو مفهوم ملتبس الاول ينطلق من فكرة اللاجدوى، والثاني يبحث دائما عن جدوى.
في هذا التحقيق توجهنا بالسؤال إلى عدد من الشعراء العرب على اختلاف أجيالهم وتجاربهم ووصلتنا مشاركات من بعضهم سلطت الضوء على جوانب مختلفة من هذه المسألة.. قالوا:
ما الشعر؟ ما الجمهور؟
الشاعر العراقي المقيم في لندن عبد الكريم كاصد أجاب بقوله: «أشك أنّ موضوعا كهذا جديّ تماما لسبب بسيط هو أننا نختلف، بكلّ تأكيد، حول مفهومي الشعر والجمهور. ما الشعر؟ ما الجمهور؟ وهذا الاختلاف ضرورة من ضرورات الحياة والشعر معاً، مثلما نختلف حول الوقائع المطروحة في التساؤلات. هل الشعر غائب تماما عمّا ذُكر في التحقيق؟
هناك مكتبات كاملة مختصة بالشعر وحده دون سواه، أتحدث هنا عن لندن، تحتوي على ما يبعث على الدهشة حقّاً، من الكتب والأشرطة والفيديوهات والأفلام .. إلخ، وهذا ما يدعونا إلى التساؤل: هل نحن أمة الشعر كما ندّعي؟
إضافة إلى المدارس التي تدرس الشعراء القدامى والمحدثين ومن أعقبهم من شعراء الأجيال الأخرى، وهذه المدارس لا تكتفي بذلك بل تدعو الشعراء بين فترة وأخرى لزيارتها والحوار مع طلبتها. أما الجامعات والمؤسسات التي تدرّس الشعر فهي لا حصر لها.
إنّ أعداد الكتب الصادرة عن الشعراء، قدامى ومحدثين، وحدها ما يثير الفضول، في الوقت الذي لا نجد عن بعض شعرائنا الكبار حتى دراسة واحدة يمكن الركون إليها. كم من الكتب عن أحمد شوقي أو الجواهري أو الرصافي مثلا دون ذكر الشعراء المحدثين الذين يمكن أن نختلف حول قيمتهم الشعرية في مجتمعاتنا المتخلفة التي تبحث عن علاقة الشعر بالجمهور ولا تبحث عن تخلفها: أسبابه وكيفية الخروج منه.
ما يثر الانتباه أيضاً أنّ ثمة مؤسسات ثقافية عديدة تدرّس كيفية كتابة الشعر. وهذا ما نستهجنه نحن باعتبار الشعر وحياً صرفا لا تشوبه صنعة ما.
يؤسفني أن أقول أن كثيراً من الشعر الجماهيري أو ما يسمى بالجماهيري، وهو ليس جماهيريا أبداً، هو من الشعر الهابط الذي لا يحتوي على أية قيمة شعرية أو ثقافية أو حياتية. مثلما نقرأ الأطنان من الشعر الآخر الذي يسمّى غامضا، الذي لا يحتوي أيضاً على أية قيمة من القيم التي ذكرناها، وهو ليس غامضاً بسبب عمقه بل بسبب سطحيته وتشوشه وعالمه المختلط الذي لا يفضي إلى شيء. هناك من جهة أخرى شعراء كتبوا قصائد عصية على الفهم لدى الجمهرة الواسعة من الناس ولكن ذلك لم يحل دون شهرتهم وتتويجهم باعتبارهم شعراء أمة لعمق عالمهم الشعريّ، وامتداداته في الماضي والمستقبل، واستشرافاته الإنسانية، مما يجعله عصيّاً على من يطلب السهولة في التعامل مع الشعر.
يرى إليوت في إحدى مقالاته أنّ جماهيرية الشاعر ليست بالضرورة متأتية من فهمه من قبل جمهوره وإنما هي متأتية من تقييمه باعتباره شاعراً كبيراً أو شاعر أمة هو مبعث افتخار حتى من لا يقرأ شعره في أمته. وهذا ما لمسته بنفسي حين قدم الجواهري، أواخر الستينات، إلى البصرة للمشاركة في مهرجان المربد، بعد منفى طويل حيث خرج الناس ينتظرون ساعاتٍ متلهفين لرؤيته. كان من بينهم نساؤنا الأميات القادمات برفقة أطفالهنّ.
قد تكون الجماهيرية، بمفهومها السلبيّ العريض مقياساً لشعبية هذا الزعيم أو ذاك، هذا الحزب أو ذاك ولكنها لن تكون مقياساً أبداً للشعر وحتّى هنا كثيراً ما يخالط هذا المقياس الكذب والتزوير. ثمة مقاييس أخرى هي ألصق بالشعر من هذا المقياس الذي يمكن أن يدخل عاملاً من عوامل أخرى تدعو إلى التأمل والدرس. غير أننا حين ندقّق في لفظة «جماهير» ذاتها نجد أنها تحتوي على فئات لديها من الوعي ورهافة التذوّق وفهم الشعر ما يفوق وعي وفهم الكثير من الشعراء وأدعياء الشعر.
إن مشكلة الشعر، في الكثير من الأحيان، لا تكمن في علاقته بالجمهور بل بالمؤسسات الأكاديمية المتحجرة، والمحنطين من أساتذة وأدعياء شعر وموظفي ثقافة وأعلام مشوّه لا يرى في الشعر إلاّ ما هو قابل للتسويق جماهيرياً كان أم غير جماهيريّ، غامضاً كان أم واضحاً.. المهم أن يكون سلعة للتسويق لا تؤذي أحداً.
لم يسء الجمهور للشعراء الكبار: بدر شاكر السياب والرصافي والجماهري وأميلي ديكنسون وهوبكنز وشعراء عظام لم يستطيعوا أن ينشروا في حياتهم حتى قصيدة واحدة، وإنما الذي أساء إلى هؤلاء هي المؤسسات ومحنطوها وسوء الفهم الذي قوبلوا به من قبل هذه المؤسسات. أما الحديث عن السلطات وما يحفل به تاريخها من بطش أو اعتقال أو نفي للشعراء فهو حديث لا يسرّ أحداً أبداً في عالمنا المليئ بالعسف والمتشدّق بديمقراطية كاذبة تتسع لكلّ شيء إلاّ الشعر الذي يريدونه نمطاً واحداً.. جماهيريّاً بعد أن فقدت هذه الصفة مصداقيتها في التطبيقات الفجة المشوّهة لما يسمّى بـالثقافة الجماهيرية التي هي أبعد ما تكون عن الجماهير. وإذا ما سلّمنا أن الجماهير بفئاتها العريضة المتنوعة غائبة عن الشعر الحالي، فهل هي غائبة حقّاً عن تراثها وشعراء أمتها الماضين؟ وهذا لا يمكن إلاّ إذا كان هناك خلل في بنية المجتمع ذاته وبنية المؤسسات وليس في الجماهير ذاتها.
سيظل الشّعر نخبويا
في المقابل ينظر الشاعر المصري المقيم في بلجيكا عماد فؤاد إلى جمهور الشعر من زاوية أخرى ويتفق كثيرا مع فكرة إساءة المؤسسات الثقافية للشعر والشعراء، يقول: «أجد نفسي مع الرأي القائل بأنَّ الشّ.عر مغيب، ذلك لأن النَّاس الآن مشغولون بما هو أهم، وهي لقمة العيش، لا أظن أن رجلاً عادياً يُطحن يومياً يهتم بأمر الشّ.عر أو جديده، الشّ.عر جمهوره نخبوي، وسيظل نخبوياً مادام هو فن نخبوي، ولكن سيظل قارئ الشّ.عر موجوداً، ما دام الشّ.عر نفسه موجودا.
أنت في أسئلة تحقيقك وضعت يدك على أسباب تغييب الشّ.عر، ومنها مكتباتنا المدرسية ومناهجنا التعليمية المتخلّ.فة، تلك التي تربّ.ي ملكة الحفظ والإنشاد لدى الطلبة، ولا تحاول أن تنمّ.ي فيهم ملكة الرأي الخاص النابع من قناعاتهم الشخصية والذاتية، ليس وحده الشّ.عر هو المغيب يا صديقي، في ظنّ.ي أن هناك الكثير من الفنون المغيبة، لدينا الكثير من المظاهر الثقافية التي يرثى لها عربياً، الشّ.عر في العالم كله يشهد تراجعاً، وعلينا أن نحاول معالجة أسباب هذا التراجع، لا بسكب الدموع على الأطلال كما فعلنا ونفعل طوال العقود الخمسة الماضية، ولكن بأن تتبنى المؤسسات الثقافية العربية مواهب حقيقية كما تفعل مؤسسات العالم المختلفة، وألا ندمر مواهبنا الجديدة على أحجار كتابات أسمائنا المكرسة التي لا تسمح بمرور أي روح تحمل جديداً.
تسألني عن الجمهور، ولا أعرف بماذا أستطيع أن أعرّ.ف هذا الفصيل المبهم والفضفاض، الجمهور هو أشقائي وأصدقائي ومعارفي الذين يقرأون ما أكتبه قبل نشره، هو أمّ.ي التي لم تتعلَّم القراءة ولا الكتابة كي تخرج مباضع النقاد وتحول قصيدتي إلى جثة، هو شقيقتاي المحجبتان اللتان تخجلان من قصيدتي حين تتعرَّى، هو زوج شقيقتي الملتحي الذي لا يقرب أنامله من كتاب لي مخافة الدَّنس، هو أبي الذي يفرح بكل كتاب جديد لي ويوزّ.عه على أصدقائه ومعارفه دون أن يهتم بقراءة الصفحة الأولى منه!، الجمهور كلمة كبيرة، أكبر من قصيدتي وأكبر من هذه السطور، وأكبر من محاولتي لاستيعابه، لذا عوَّدت نفسي على عدم الاهتمام به، وأكتب قصيدتي دون محاولة إرضائه، فهو لن يرضى أبداً، سيظل الشّ.عر نخبوياً، طالما ظل وجود الكتاب في بيوتنا العربية استثناءً عن قاعدة المعتاد!
حين نستجيب ننتهي
ولا يبتعد الشاعر الأردني موسى حوامدة كثيرا عن رأي كاصد وفؤاد، ويقول منطلقا من إشكالية صناعة الذائقة الشعرية: الذائقة العربية لم تتحرر عموما من أسر الماضي والموروث، بمعنى أنها لا زالت تئن تحت سطوة الشعر القديم وتحت ثقل النظرة المعادية للشعر، وإذا كانت الذائقة الشعرية قد تحولت كثيرا لدى الكثير من الشعراء والمشتغلين بالشعر لكنها لم تتحرك كثيرا بل ربما لم تتزحزح لدى الجمهور العريض.
عدا عن دخول المجتمعات العربية عموما قيمٌ جديدة ومتغيرة، ففي الدول الغنية طغت النزعات الاستهلاكية والمادية، بينما شلّ الفقر حاجة الناس للثقافة في الدول الفقيرة، فانعطبت الروح في الطرفين.
المشكلة الثانية أن السعي نحو فنية عالية في القصيدة سيبعدك بالتأكيد عن رغبة الناس وذائقتهم، ولذا ينعزل الشعراء عن مجتمعاتهم كثيرا، لكن هذا ضروري لأن الاستجابة الى الجمهور ستغرقنا في التفاهة اكثر، وربما تسبب هبوط المستوى الفني كثيرا، وتلبية طلبات الجمهور قد تدفع الكثيرين لكتابة الشعر الشعبي او كتابة شعر الغزل أو قصائد الحب أو الهاب حماس الناس بما يريدون، من ناحية وطنية ودينية. حين نستجيب ننتهي، وحين لا نستجيب ونذهب مع حركة القصيدة وتطورها سنخسر الجمهور وهذا هو المطلوب، لأن خسارة الجمهور هنا ربح أكيد، نعوزها لضرورة الشعرية وللاستمرار في تطوير حركة الشعر العربي عموما.
أفهم أن البعض قد يستهجن كلامي وربما ينظر له من باب العجز عن الوصول للناس وهذا ليس عيبا ايضا حتى لو كان صحيحا فالوصول للناس ضمن شروطهم فضيحة لا يقبلها الشعر نفسه.
المشكلة التي طرحتها هنا مثل قنبلة عنقودية فعلا؛ وهي ليست محصورة في الجمهور، فالشعراء أيضا لديهم مشاكل كثيرة وأولها النفاق الذين يبدونه للجمهور ومحاولة التقرب منه، ومن جهة ثانية محاولة التقرب من النقاد، فيما يتكلف البعض كتابة لا تنبع من روحه ومفهومه للشعر، وللحياة، فتظهر كتابات ليست أصيلة بل تتمشى في زي غيرها، وهي تغازل فكرة خاطئة وفمها قاصر للشعر، فتذهب القصائد الى أودية سحيقة وبعيدة وهنا تضيع الخطوات.
شخصيا إن كنت تسألني، لا أطمح للتحول إلى شاعر جماهيري لان لذلك شروطا اعجز عن تلبيتها، فما أفكر فيه واعتقد به وما أرغب بكتابته يبعدني دائما عن الجمهور ويضعني في صف معاد له، ولست قادرا على ترويض نفسي لمواصفات أو مقاييس، ولذا أهرب منفردا لا أبحث عن تصفيق ولا استحسان.
وختاما، ليس بالضرورة ان يكون الشعر جماهيريا فالجماهيرية مقتل خطير، وحتى لو استمرت حالة الغثيان والأزمات، فليس مطلوبا ان نحلها لأن في الحل او البحث عن حل طريق هلاك أيضا.
الضلال المغوي
الشاعرة البحرينية فوزية السندي لم تبتعد كثيرا عن آراء الشعراء السابقين وأخذت العلاقة بين الشعر والجمهور إلى أبعاد أخرى، قالت: «كل هذه المظاهر تتعلق بتداعيات قيم الاستهلاك على الصعيد الثقافي، المسألة لا تتعلق بالشعر وحده، لكنها تتأسس لتدمير تاريخ وحضارة عربية، محو هوية وشرفة إبداعية تتباهى بها الأمم».
وتسترسل السندي «ان إشكالية التواصل بين المتلقي والعمل الفني تتمحور في كل مناحي الإبداع، هل هناك تداول جاد للكتاب الإبداعي في فوضى معارض الكتاب خارج كتب الطبخ والفضائح والأدلجة بتنويعاتها العقائدية والفكرية؟ هل ثمة متابعة رصينة للمسرح أو الموسيقى أو الفن التشكيلي؟ المصاب يتعلق ببنية مجتمعية قائمة على ترويج ثقافة استهلاكية بلغت من الهشاشة والانهزام حد تسييد التجهيل في كل وسائلنا الإعلامية ومؤسساتنا التعليمية، محو الهوية، تعميم العامية، هكذا تنهج دوائر الفعل الثقافي والإعلامي في مجتمعاتنا بتيسير أطماع المؤسسات الصناعية الغربية برساميلها الطاغية لإعادة تدوير عائدات النفط واسترجاع مدفوعاتها من هذه الشعوب عبر السيطرة على رغباتهم الاستهلاكية، تغييب «الجمهور» وتوجيه رغائبه نحو اهتمامات بعيدة عن تحدياته الإنسانية والحضارية.
الإبداع على مر العصور كان ولم يزل خط الدفاع الأول عن حرية الكائنات، بدءا من ذاك الكائن الرخوي المحتمي في صدفته وهو يحول انتهاك الرملة لطراوة عزلته إلى لؤلؤة فاتنة، في تجربة الشعر العربي الراهن لا توجد إشكاليات تتعلق بتفرده أو بحضوره المتميز، ولنا أن نسال: بماذا تحتفي المؤسسات الثقافية الغربية من نتاجات العرب الإبداعية؟ هل تحتفي بالمنجزات العلمية أو الاكتشافات التقنية أو الفكرية والنقدية والفلسفية، تلك المؤسسات تستضيف وتترجم وتحاور الإبداع العربي بما يشتمل عليه من شعر ورواية وتشكيل وموسيقى، وغيرها من الفنون التراثية والمعاصرة، لكونه المنجز الوحيد الذي أتقنه المبدعون العرب وهنا أشير للإبداع المتميز الذي استطاع أن يفرض فرادته على الآخر.
أن ضعف التواصل مع التجارب الإبداعية تحقق نتيجة ضعف فعل القراءة وليس انعدام الكتابة، الشعر الحديث غير موجود في مناهجنا التعليمية ولا وسائلنا الإعلامية بما يليق به، ما عدا ندرة من أمسيات خجولة، كما لعبت الهجمة التي تعرض لها الشعر الحديث على كل المنابر والتي ما زالت رحاها مستمرة دوراً مشيناً في تعميق الهوة بينه وبين القراء، وهذه من مصائب ثقافة الاستهلاك تجاه واقعنا الثقافي المتأسس على جملة من الانهيارات القيمية والرؤيوية تجلت في سيطرة الثقافة الواحدية، غياب مكونات المجتمع المدني المتحضر المشتغل على لغة الإبداع ومحاورة الآخر لتحقيق الشراكة في صناعة العالم، مما أدى لتخلق واقع استهلاكي شل حياتنا بأكملها، ضمن اقتصاديات غير منتجة، هكذا تعرض الإبداع المنشغل بدفوعاته وبتميزه لصعوبات بالغة للتواصل والآخر، هذا الذي تم إشغاله وإلهاؤه بالابتذال الاستهلاكي السلعي والثقافي عبر سياسات إعلامية قائمة على التجهيل المستمر.
ضد كل ذلك، يتقد التحدي الإبداعي، لما للشعر من طاقة تعبيرية قادرة على الكشف وملامسة أعماق الروح لا أوجاع الناس فحسب، بل نبض الكون، هذا هو الشعر، أما الهذر المتمثل في اللغو السائد واستسهال الكتابة فلا يسمى شعراً، ثمة شعر يتلو ما تراه الروح بهدوء بالغ، وثمة شعر تحتشد له الأكف وهو يهدر على المنصات، وللمتلقي حرية الاختيار بينهما.
أما أن يكون للشعر شأن «جماهيري» فأعتقد أن هذا المفهوم الديماغوجي أتقنت تسويقه حمى الشعارات، عندما كان الشاعر يستند لترويج قصيدته النارية على الحزب أو المؤسسة الأدبية التي تدعمه، عندما كان الدعاة يسندون ضجيجه بالتصفيق وحماس الهتافات، حيث لا صوت يعلو على صوت المعركة التي رفعت راياتها المهترئة مبكراً.
منذ ذلك الوقت، والشعر يتعرض لتحديات فنية لا تتكئ على نحت الحرف بحرية بالغة، تضفير الصورة الشعرية بابتهالات حكيمة، جريئة في تصديها للحدوث، مضامين متغايرة، تحديات غير مرتهنة للآخر، بل للذات في انشطارها نحو الآخر.
عودة الشعر لمعتركه الحقيقي هذا، أذابت الضلال المغوي المتعلق بجماهيريته وصخب الكفوف، أعاده لقارئ وحيد مثله، يلتذ بقراءة الحروف دون وهم واحد يتعلق بذرى المجد وندهة الخلود.
إن علاقة الشعر كمعطى ثقافي حضاري إبداعي مع «الجمهور» يتأثر بعوامل عديدة منها مستوى العمل الفني والذائقة الفنية والمعرفية للمتلقي التي تستطيع مواكبة الرؤية الشعرية. أما فيما يتعلق باهتمام النخب فهي مسألة متاحة لهم بحرية وتندغم ضمن ذائقتهم الفنية، كل فن له بؤر نخبوية تتسع شيئا فشيئاً مع ارتقاء الشعوب الحضاري».
أفول زمن النجومية
أما الشاعر الكويتي سعد الجوير فيقارن بين الرؤية القديمة والحديثة للجمهور وسقوط فكرة الشاعر النجم، يقول: «في حديثنا عن شعراء الستينات والسبعينات إنما نتحدث عن قامات شعرية أكسبها متانتها ووقع حضورها الشأن الثقافي العام آنذاك، من صراعات مباشرة مع القوى الفكرية الجديدة التي كانت تدخل بكل عنفوانها في خضم المعاش العربي، متوازية مع ما هو يومي. مما جعل من شعراء ذلك الزمن «نجوماً» يُتطلع اليهم ويُعول عليهم، أملاً بخلق قاعدة جماهيرية يمكن الدخول بها في معترك إنساني حول زمن - قيد الإنجاز - قادر على الدخول إلى الساحة العالمية بكل ما تحمله من تغيرات سريعة. مما جعل الشعر ضامناً حضوره باعتباره «الصوت الأعلى» في توصيل «المخزون المختزل» للعامة بشكل مباشر وصريح، فكان الحديث عنه بين الجمهور تماماً كالحديث عن السياسة، أو «البورصة» هذه الأيام!.
يتابع الجمهور شاعره، أمسية بعد أخرى، وديواناً تلو آخر.. هذا كله جعل للشعر حضوره الطاغي في المناهج المدرسية منذ المراحل الدراسية الأولى، وحتى التعليم الجامعي. أما الآن مع ظهور آخر علامات «المنجز الزمني المرتقب» بتحول العالم إلى قرية صغيرة، تراجع مفهوم «النجومية» في الشعر برمته، وبات الشعر ضرباً من الترف الثقافي في نظر العامة على أقل تقدير!.
إن من أصعب المراحل التي يمرّ فيها المجتمع الإنساني، وأخطرها المرحلة التي تكون فيها قضيته الأولى «البحث عن قضية!» الأمر الذي يجعله بكامل أفراده - في زحمة التساؤلات المعاشة جراء قضايا متداخلة منتجة على المستوى التعقيدي - يجعلهم واضعي أصابعهم في آذانهم مكممين أفواههم، متذرعين بما يمكن أن يكون سببا لانشغالهم عن المهم بالأهم «الطارئ» كعدم القدرة على مواجهة غلاء السلع الاستهلاكية مثلاً!.
مساهمة في ذلك الجهات «المُؤمرة» على شأن الثقافة في المجتمع، من قبل الدولة، بعبث مدروس من الدرجة الأولى!. بممكنات عظيمة مدفوعة من قبل يد عليا تجاه تكريس «المكرور» من ناحية، وما ليس له علاقة بالحقيقة الثقافية من خلال الأقلام المحلية من ناحية أخرى. فيكثر حضور الأسماء «مدفوعة الثمن» في المحافل الأدبية، بين وقت وآخر.
في النهاية يكون النجاح مقطوع النظير في تضليل ومسخ صورة الكاتب في نظر الجماهير، التي بلا أدنى شك تم تفعيل مقدرات الدولة جميعها لإنجاح هكذا مشروع، وقد تمت - في النهاية - العملية بنجاح تام!.
مرة سألتني الزميلة الكاتبة فتحية الحداد، عن إمكان عمل ريبورتاج حول معرفة الصورة الذهنية عن الشاعر في دخيلة تلاميذ المدارس، فأجبتها أنه عندما كنت في المرحلة المتوسطة، لم أتخيل الشاعر إلا بوجه شيطاني، وأفكار مريبة، لا يريد سوى أن يكون ذاته، وأن يصبح الجميع على شاكلته!! وأنا الذي تعشقت الشعر منذ مراحلي الدراسية الأولى، ولا أتوانى عن حفظ حتى النصوص غير المقررة! فكيف يا ترى مرسومة صورة الشاعر لدى أبنائنا اليوم؟!.
جمهوري الذي يحضر لسماع شعري، أو يحضر لسماع ما يقال عن شعري، هو ذاته من يلعنني، كل يوم، ويتمنى أن يشهد في حياته ساعة إعلاني اعتزالي القلم، أو اختفائي عن العالم فجأة وبلا أثر!.
جمهور الشعر اليوم، لا يمكن أن نطلق عليه مصطلح «جمهور» فوقع الكلمة يعطي فخامة غريبة، تعيدنا للواقع العربي في ستينات وسبعينات القرن المنصرم، كما تحدثت أعلاه. إنما هم مجموعة الشعراء الذين نراهم بشكل متكرر في كل مناسبة أدبية، فألفناهم كما ألفنا وجود المنصة، وكراسي القاعة المكتومة، وحفظنا أسماءهم عن ظهر قلب، تماماً كما حفظنا عبارة «مساء الخير» قبل البدء بقراءة آخر قصائدنا!».
فضاء جامع
أخيرا يرى الشاعر اللبناني إسكندر حبش أن الشعر فضاء واسع لا يحدّ وثمة أمل في مستقبله، يقول: «أعتقد أنه من الصعب تحديد الشعر في حيّز واحد معين، أي هل هو «نخبوي» أم أنه «قادر على ملامسة أوجاع وهموم واهتمامات الناس...». في رأيي، الشعر أكبر من ذلك، بالأحرى أريده أن يكون أكثر من هذا، لأنه يجمع كل هذه الفضاءات ولا يتحدد بإطار معين. يمكن له أن يكون كل شيء، ويمكن له أن يعبر عن كل شيء، فل.مَ إذن نرغب في تقييده، تقييد هذه الحرية في العبارة الشعرية».
وبما أنه، انطلاقا من هذه الفكرة، هو هذه الحرية القصوى، لذلك نجده لا يبحث عن أحد، أي ليس الشعر هو من يبحث عن الجمهور بل على الجمهور أن يبحث عن الحرية، عن العبارة الشعرية التي توافقه.
ومع ذلك، ما يطرحه السؤال، يشير إلى عدد من الإشكاليات التي نظن أن الشعر اليوم يعانيها. لكني لا أجد أن المسألة سوداوية إلى هذه الدرجة، إذ هناك عدد كبير من صحف العالم العربي، لا تزال تنشر القصائد، وهناك صحف ما زالت تجري الحوارات واللقاءات مع الشعراء، وصحف ثالثة، تجري عروضا للمجموعات والدواوين الصادرة حديثا، وهنا بالذات، في هذه الصفحة، ثمة تحقيق عن دور الشعر. إذن لايزال الشعر حاضرا في حياتنا اليومية ولايزال يجد مكانا عند القراء. قد تكون نسبة قرائه أصبحت أقل، ربما هذا صحيح، لأن الشعر الجديد، بحاجة إلى وقت لكي يحفر في وعي الناس. إذ إن غالبية قراء مجتمعاتنا تربت على نوع من الشعر وهي بحاجة إلى وقت كي تستطيع التخلص من رواسب الماضي.
لنأخذ فكرة بسيطة، حين بدأت قصيدة النثر، كانت الغالبية ضدها، حتى الشعراء أنفسهم، لكن لو نظرنا اليوم إلى المشهد الشعري العربي، لوجدنا أن أغلب شعراء اليوم، يكتبون هذه القصيدة النثرية، أي كنا بحاجة إلى وقت كي تملك هذه القصيدة حضورها. بهذا المعنى أعتقد أن القصيدة الجديدة، بحاجة أيضا إلى وقت كي تجد قراءها.
كل ما أرغب في قوله، إنني من المتفائلين بمستقبل الشعر. ببساطة، لا يمكن له أن يختفي، إذ كما قلت هو هذه الحرية القصوى، ولا حياة من دون حرية».
القبس
19 و 20 مارس 2008
إقرأ أيضاً: