أكثر من سبعين عاماً مرت على موت الشاعر الاسباني (الغرناطي) فيدريكو غارسيا لوركا، لكن يبقى أن العثور على كل تركة له هو شأن عظيم يثير الفضول، يساعد بالكشف عن جوانب أخرى من حياة الشاعر القتيل. كما هي الحال مع الرسائل التي كتبها إلى أهله والتي عُثر عليها قبل فترة قريبة. الرسائل التي نُترجم عينة منها هنا، تكشف عن الجانب الإنساني الحميم للشاعر الأندلسي وعن احتفائه بالتفاصيل اليومية الصغيرة.
المجمع الطلابي في مدريد، 1920
والداي العزيزان:
ما زلت في مدريد الحبيبة، أشعر بالراحة التامة، أنا سعيد جداً. شؤوني تتحقق بآلاف العجائب. لا أبالغ القول إنني أحرز نجاحات حقيقية. مدريد هي المكان الوحيد للعمل، وقبل ذلك لكسب صداقات عديدة.
أمس كنت مع خوان رامون خيمينيز (صاحب "أنا وحماري" والحائز على جائزة نوبل للآداب. ن. و) الذي أسعدته كتاباتي، لدرجة أنه رجاني أن أتركها لكي يقرأها لزوجته.
انه رجل مصاب بالوهن العصبي الشديد ومسلٍ جداً. قولوا لميغيل بيثارو بأن تلك هي وقفة محببة من طرفه لأنه أوصاني به. دون خوان رامون استقبلني بروب أسود، وجلسنا على أريكة مريحة. كان مصراً في دعوته لي، لكي أزوره كلما استطعت إلى بيته لكي نقرأ ونعزف على البيانو. لقد وددنا بعضنا.
الشعراء الشباب في مدريد يترقبون بتلهف زيارة الشاعر طاغور. أما في ما يتعلق بماركينا، فإن كل ما أقوله عن ماركينا، هو قليل. قبل ليلة أمس قدمتني بشكل إطرائي لمارتينيز سييرا وكنا حتى وقت متأخر في "الكاميرينو دي لا بارثيناس". إنها ممثلة فاتنة.
ماركينا تخرج كل الأيام معي تقدمني إلى مختلف معارفها. أمس تعرفت على بيدرو دي ريبيدا وعلى زونييغا صاحب أطول لسان عرفته في حياتي.
في النهاية أموري تجري بصورة رائعة. في العام القادم سآتي لزيارتكم، لكي أرمي بنفسي من قبة الحمراء.
أنا منكب على العمل جداً. حتى الغد ودعوا أبنكم الذي يجلكم، فيديريكو.
كنت كتبت أكثر لكن التفاصيل كثيرة لدرجة أنني لا أملك ما أقوله لكم وما أشرحه لكم.
تحياتي إلى كل أرائك مقهى (الميدا) المدهشة.
دمتم لي دائماً.
المجمع الطلابي في مدريد، عام 1921
والداي العزيزان: في النهاية، وبسبب علاقات ديبلوماسية، ألغيت الزيارة المقررة التي كان من المؤمل أن يقوم بها الشاعر رابيندراث طاغور لعمل دعاية مناهضة لبريطانيا، نعم، للأسف لم يأتِ الشاعر الكبير، الأمر الذي سيكون للكثير منا مزعجاً، رغم أنني ولقول الحق شعرت قليلاً بالراحة، وكأن عبئاً ازُيح عن كاهلي، لأن المسؤولية التي وقعت عليّ لتنظيم الاحتفال هنا له في المجمع الطلابي كانت كبيرة جداً. بدل ذلك سيأتي في شهر أكتوبر القادم، وسيكون كل شيء أكثر تنظيماً وأكثر استعداداً.
أعمل كثيراً فقط في أيام الآحاد (مثل اليوم) أرتاح قليلاً، أذهب أتنزه في هذه الطبيعة البيلازكيسية (نسبة للرسام الإسباني بلازكيس. ن.و) لما يُطلقون عليه البرادو. الآن مع سندويشة في اليد (وجبة الضحى) أذهب في جولة مع عصبة من الأصدقاء، تتكون من شاعر، وموسيقي وناقد (لكي يكتمل الأمر)، نحن في طريقنا إلى الجبال التي لن نعود منها حتى مغيب الشمس... هكذا أنا أسود من الشمس مثل واحد من أنغولا.
كتبي هي في طور التنضيد. غداً سأكتب إليكما وأتحدث عنها بالتفصيل، قررت أن أكون ناشراً لكتبي نفسها، بعد أن أقنعني دون خوان رامون، ولأسباب منطقية. قررت أن أمنح حيزاً أكبر لمختارات من قصائد قديمة (مجموعة شعرية بالأحرى) وبعدها مباشرة أنشر كتاباً اشتغلت عليه هنا في مدريد يحوي أعمالاً جديدة استثنائية على شكل سونيتات أعتقد أنها أكثر حبكة من كل ما أنتجته حتى الآن.
الكتاب الثاني هذا سيكون مؤثراً أكثر، أظن أنه سيكون الأكثر تقدماً مما أُنتج في الشعر وهو بمثابة المختبر الأول لشاعر مثلي، لكنه من جانب آخر كتاب ممتع وبسيط.
سأبعث غداً واحدة من هذه السونيتات لباكيتو (فرانسيسكو غارسيا لوركا، أخ الشاعر. ن.و) ـ بعنوان "من المرايا" ـ لكي يرى كيف أن ما قرأناه قبلاً لا يمكن أن يفوق ما سيقرأه وحسب، بل سيبدو ما كتبته قبله كذباً. أتضرع إليكما أن ترسلا 150 بيزيتا (العملة الإسبانية. ن.و)، لأن حالي سيئة بما يخص الفلوس وقضيت وقتاً طويلاً بدونها لكي لا تقولوا أنني مبذر، حدثت لي أمور كثيرة بالمصادفة مثل عرض النقود من قبل ابانييز، ورغم أنني لا أملك سنتاً واحداً، رفضت العرض المغري ذلك بسبب الكياسة.
فضلاً عن ذلك، دعوت دون فيرناندو للغداء في "توليدو"، وكان عليّ أن أذهب وأطلب منه نقوداً لصديق، ويُزعجني أنني لم أُرجعها له مباشرة.
غداً سأحدثكما.
تحيات إلى دون أنتونيو سغورا.
قبلات كثيرة لأخواني، تحياتي للعائلة
ولكما قبلة من ابنكما، فيديريكو.
دون فرناندو كان يتحدث عن باكيتو
وكان يمدحه بشكل مفرط.
بوينيس أيريس، 1933
والداي العزيزان و أخواني: عند اليوم الثالث من إقامتي في بوينس أيريس استلمت رسالتكم، كم سُررت بها. أنا محرج بسبب الهدايا التي أحصل عليها هنا، وبسبب الاحتفاء الذي أعيشه يومياً. أنا مرهق بعض الشيء، بسبب الصحبة الكثيرة وبسبب الشعبية. هنا، في هذه المدينة الكبيرة، أملك شهرة مصارع ثيران. قبل بضعة أيام حضرت لافتتاح أحد المسارح، وعندما رآني الجمهور، بدأ بالتصفيق ولم يتوقفوا إلا بعد وقت طويل وكان عليّ أن أعبر عن شكري من مقصورة المسرح. مرت لحظة سيئة، لأن هذه الأشياء هي غير متوقعة في حياتي. سترون الجرائد.
الضجة حولي، بدأت منذ وصولي إلى عاصمة الأوروغواي، مونتيفيديو. هناك فاجأني صحفيو بوينس أيريس لكي يبدأوا بكتابة الريبورتاجات عني، لا أعرف عدد الصور التي أخذوها لي.
كانديو، سفير الأرجنتين في الأوروغواي، وعائلة موراس صعدوا إلى الباخرة لكي يحيوني، وكان بصحبتهم بعض السيدات بأيديهن ألبومات لجمع التواقيع، لم يغب الصحافيون طبعاً عن الاستقبال. كل هذا الاحتفاء جاء نتيجة للنجاح غير المحدود الذي لاقته "أعراس الدم". الناس هنا في أميركا اللاتينية يحبون الشاعر فوق كل شيء. من الصعب عليكما امتلاك صورة عما جرى هنا، وكيف أن الجمهور استمع لي اليوم في محاضرة، أصغوا بمتعة وانتباه. كان أمراً غير معقول! لا يمر يوم لا أتسلم فيه رسائل من بعض الآنسات هنا (أفترض أنهن مخبولات، شغوفات) يقلن لي أشياء نبيلة، ستقرأونها!
في الباخرة، بين مونتيفيديو وبوينس أيريس، قتلوني بالمقابلات، وعند الوصول لبوينس أيريس كان هناك حشد كبير من الناس انتظروني عند المرسى، بينهم، وزير خارجية كولومبيا وشعراء ومصورون. كان المنظر مرعباً بالنسبة لي. عند النزول من الباخرة صفقوا لي جميعاً. فجأة سمعت صوتاً يهتف: فيديريكو! فيديريكو! آي! آي!، كانت زوجة "كوكا" مع طفلتها، إلى جانبها ماتيلدا، امرأة ابن العم باستور، ومجموعة من "فوينته باكيروس" (البلدة التي وُلد فيها الشاعر. المترجم). ستقرأون الصحافة. وعندما التقط المصورون الصور للمجموعة، انخرطوا بالبكاء، وهم يرددون: "إنه من قريتنا، إنه من قريتنا! من الفوينته!". لا أخفي عليكما، أن الدموع انهمرت من عينيّ أنا الآخر. كانوا قد دفعوا خمس بيزيتات من أجل السماح لهم بالدخول للمرسى وكانوا قد تابعوا وقصوا كل الصور التي نُشرت في الصحف قبل وصولي. أمر مفهوم وقابل للشرح في حالتهم، لأنهم منذ سنوات لم يروا شخصاً قادماً من الوفينته، وها أنا قدمت شخصياً من هناك، رأوني غير مصدقين، وفرحوا جداً عندما رأوني استقبلهم بفرح، وأعانقهم واحداً بعد الآخر. منذ ذلك الحين بدا كل العالم لطيفاً بالنسبة لهم. ماذا قالت أمك عني؟ سألتني زوجة كوكا، وأنا قلت لها بأنك تتذكرينها جيداً، بعد ذلك جاؤوا لرؤيتي في الفندق (أنا في فندق كاستلار، في لا بينيدا دي مايو، أحد فنادق بوينس أيريس الكبيرة)، لقد حركوا مشاعري كثيراً لأنهم يتكلمون عن بابا باحترام وحنان كبيرين؛ وفي البعد بدا لي سلوكهم مثالاً أسطورياً للحب العظيم الذي يكنه المرء لبيته. يتذكرون كثيراً كونجيتا، تصوروا هتفوا بحياة الفونتيه أمامي أكثر من مرة.
يوم 24 هو يوم إعادة عرض الافتتاح لـ"أعراس الدم"، في مسرح آبينيدا، تذاكر المسرح نافدة لمدة ثلاثة أيام. هذا اليوم سيكون أمراً كبيراً بسبب الحشد الذي سيحركه الأسبان. طبعاً عشت استقبالاً مشابهاً، لكن ما حدث هنا فاق التصور، لكي تأخذوا ذلك في الاعتبار. "لولا ميمبريس"، مثلت دورها بشكل عظيم، هذا ما يقوله الناس عنها هنا. السفير الإسباني، الذي رأى العمل خمس أو ست مرات، قال لي بأنها لعبت دورها بشكل عظيم. "لولا" ستظهر للمرة الأولى أمام الجمهور في مدريد، وأنا على يقين أنها ستجعل المسرح يزدحم بالجمهور هناك.
قبلات كثيرة لأخواني، تحياتي للعائلة
ولكما قبلة من ابنكما، فيديريكو.
المستقبل
الاحد 2 أيلول 2007