تقديم... الفرح المختلس

محمد شعير

محمد شعير "أيها الشعر. يا أيها الفرح المختلس. كل ما كنت أكتب في هذه الصفحة الورقية . صادرته العسس". هكذا وصف أمل دنقل منذ سنين فرحه المختلس: الشعر. وهو وصف يصلح للكتابة كلها.. ويمتد من أمل دنقل إلى الأجيال الأحدث. الوصف وحده، ولكن الكتابة الجديدة تتجاوز أمل وصلاح عبدالصبور وحجازي... تستفيد منهم كما تستفيد من آخرين بداية من شهرزاد.. والمتنبي وأبونواس، وأدونيس ووديع سعادة، وسركون بولص. هنا شهادات من شعراء مصريين، لم ينجز الكثيرون منهم سوى ديوان واحد، بعضهم أصدر أكثر من ديوان. الشهادات لا تعبر عن كل المشهد الشعري المصري، بل هي جزء من هذا المشهد المتعدد والثري. نحن أمام قصيدة تستوعب منجزات الحداثة وما بعدها، تستوعب وتمتص ما سبقها، لتنتج أسلوبها الخاص، أيضا المتعدد حيث اللغة البسيطة، وحيث العوالم الإسطورية والفلكلورية، تستلهم الصورة الجديدة، أو تحيلك إلى ألبومات موسيقية، ولا تحمل يقيناً تجاه العالم أو انحيازاً إيديولوجياً مغلقاً، إنها قصيدة عن خراب العالم... قصيدة همها الأكبر هو التجريب.. وحدها غواية التجريب، وهز الثابت واليقيني.. قصيدة لغة وشكلا ومضموناً هي بمثابة "ثورة".. على السلطة الأبوية، والثوابت المقدسة!

***

" فأسٌ وحُفراتٌ في اللحم "

مؤمن سمير

  مؤمن سمير أكتب نصاً متواصلاً أثناء المشي والنوم والعمل والجنس .. لم أعد أثق أن المرأة الغامضة التي تُساكنني وتمضي طول المساء بخفتها الغامضة ونظراتها الوحشية وهالاتها الملعونة ومخالبها هي أمي .. وإذا اخترت بينها وبين التي تصلي طول الوقت لا أتردد في اختيار (الشعرية) لأنها أكثر اكتنازاً .. من هنا أمرض باستمرار وتكون نوبات ألمي أكثر حدة ونوبات كرهي لكل هذا الجحيم أعمق وأعمق.
طول الوقت ودائماً كان وضعي وكينونتي الحقة: أن أراقب بكل الاهتمام والتوتر كل خيوط اللعبة الدائرة بين الداخل والخارج: سُمْك كل خيطٍ وقدرته وأحزانه وطول عمره ومدى انطلاق خياله .. وكنت لحد فترة قريبة أظن أنني لا أكتب إلا تحت تأثير تعقد الخارج الذي لا أفهمه وأرتبك إزاءه فأعيد صياغته بعد تجريحه وخدشه بشظايا مراياي المرتعشة .. لكني أفقت على مؤامرةٍ ما .. مؤامرتي الدائمة وقد أخذت شكلها .. نصوصي صارت تكتب نفسها بطريقتها ورائحتها ولونها هي .. ابتسمتُ في البداية كأي عجوزٍ طيب بالضرورة ثم اتسَعَت حدقتاي بعدها مباشرة .. قلتُ اِهدأْ ، مع الخبرة والمران أصبحت النصوص تعرف أجسادها المندسة في الغابة البعيدة فلا أُمسك القلم إلا لأدون ما هو محفورٌ فعلاً وجاهز، على صورة جمل شعرية تحت بعضها وأخرى مكتوبة بطريقة السطر الشعري العرضية .. يعني يَصْنَعُ الخارج العالم في البدء ـ العالم لا يُخلق إلا حين أراهُ؟!! - ثم يُصاغ عبر الخبرة: الدربة ومسارات الداخل الغامض، إلى أن تصل الجريمة إلى هذه الهيئة وفي ذلك الإهاب (النص) .. في هذه الصورة البسيطة، الكلاسيكية بل والشعبية عن العلاقة بين أطراف عملية الكتابة، أين المشكلة وأين تكمن المؤامرة التي زادت علاقتي بالشعر هستيريَّةً وارتباكاً وكوابيس تسقطني بالشهور تحت وطأة كل تنانين وعفاريت الكون؟ الفخ والمشكلة هو شكي الدائم في وجودي ذاته وفيما أقبض عليه وما أُحِسُّهُ وبالتالي في أن تكون اللعبة طبيعية هكذا ومنطقية هكذا .. يعني أوقن بعد كل قصيدة أن يكون (الداخل) الملتاث، الذي أنا بالفعل على مسافة مرعبة منه، أعاينها وأشم رائحة بارودها المحترق، وكل هذا بسببك أيها الشعر، أن يكون داخلي هو الصانع والخالق الوحيد بلا أي منازعٍ أو شريك .. أي أن الخارج المسكين ما هو إلا طريدة ساقطة في فخي اللزج والموحش .. الخارج قيمة متخلخلة وضعيفة وغامضة وعلاقتي بها أبعد من أن تكون مسبباً لأي نص وأساساً له .. أنا وقد قبعت سنوات في صحراء حقيقية ثم في أخرى افتراضية على هيئة غرفة، لا خارج عندي .. لا أختزن ولكني أبتكر: رباً وعبيداً وفلاحين وتماسيح وأسواراً وغرباناً .. ساعدتني الكتب وريشة الرسامين .. صنعت أباً وأماً واخترت لهم الكراهية لأنها أكثر درامية، وغابات وحيوانات وحروباً .. ليسوا هم في الحقيقة وليسوا صوراً معكوسة ولا بالتضاد منهم، إنهم صوري ومستنسخاتي، من الشخص القابع في غرفة بعيدة يحقن الهواء بالسم .. وهذا الظن / اليقين الدائم عندي يرعبني ويحزنني ويزيد حياتي تعقيداً .. أنا مجرمٌ كامل ويَفِحُّ بالزَبَدِ مثل أي أفعى .. خلعني الشعر من كينونتي وصاغني وحشاً .. الوحش يكمن في إضفاء الصدق على كل هذه الأوهام والموجودات والصور والكتابة، صدقي أنا وأمراضي أنا .. وحشٌ حقاً لكن إحساس الذنب بعد عَبِّ الدماء والشهيق هو فخي ومقبرتي ومرايا انتقام الآلهة .. طول الأيام ومن كل النوافذ وفي التنفس ..
نشرتُ 11 ديواناً وأنقذت من حرائقي عدة مخطوطات جاهزة .. لا قداسة ولا رفض عندي للعبة أو تقنية أو طريقة في الكتابة .. كل ما هو لمصلحة بناء الجملة ثم النص ككل أشفطه شفطاً بكل دمي وكل ما هو ضدها أكشطه بفأسي المسنونة الحادة منذ الأزل ـ واسألوا ذراعي البعيدة هناك - ومثلما اهتديتُ لقصيدة النثر بعد كتابة في أراضٍ أخرى لم أشوفها تنتمي لي ولا تشبهني، وأمتص من ساعتها كل إمكانيات اتساع هذه القصيدة في تجاربي وألعابي التي هي هذا الحريق المسمى بالكتابة - أتمنى أن تكون علاقتي بالشعر أقل حروباً وقتلاً وأشلاءً وضحايا وأن يبوح لي بمداخله المتغيرة كل يوم بدون أن يذلني أو يمزق لحمي بالسوط ـ لا أقول له لا تكن عصياً ومستحيلاً وبعيداً كما هو سره ونقطته التي نزل بها من أعلى الجبل - ولكن فقط كن أكثر إنسانية مع صاحبك المقتول .. فقط حتى أنجو من كل قصيدة وأعود لنفسي بعين ترى وأذن تسمع ومخالب لا تمزق عميقاً ..

([) مؤمن سمير: مواليد 1975 ـ صدر له عدة دواوين منها: "بور تريه أخير، لكونشرتو العتمة"، "غاية النشوة"، "هواء جاف يجرح الملامح"، " عالقٌ في الغَمْرِ كالغابة كالأسلاف".

***

دِين هذا الزمان

محمود عاطف

محمود عاطف  في مكتبة مركز الشباب بمدينتي الصغيرة قرأت صلاح عبد الصبور والبياتي وأمل دنقل، وشعراء محليين يكتبون قصيدة النثر ولا تتعدى شهرتهم حدود محافظتنا. ظل دنقل الأقرب لي في هذه الفترة، تحديدًا لأجل قصيدته "مقتل كليب والوصايا العشر" الشهيرة بـ"لا تصالح"، وربما كان سبب القرب هو انتماءاتي الإسلامية وقتها والتي تتقاطع في أحد حدودها مع انتماءات أمل القومية.
ربما كان هذا الانعتاق من أسر الإسلام السياسي، هو ما صالحني بمعنى ما على قصيدة النثر. خطفني سركون بعنوان ديوانه "حامل الفانوس في ليل الذئاب". لم أقرأ شيئًا مثل هذا من قبل. جمالٌ خالص ولغة رائقة وعذوبة. تلا ذلك قراءتي لـ"يوسف رخا" ثم معرفتي به فيما بعد، وتحوّل هذه المعرفة لصداقة ستكون سببًا في تفجير طاقات لم أكن أدركها في نفسي وانفتاح طُرق لم أكن أعرفها فيما وفيمن حولي. قرأت علاء خالد وأحمد يماني وإيمان مرسال وياسر عبد اللطيف وأحمد شافعي، ومن المغرب محمود عبد الوهاب، ومن لبنان ناظم السيد وعباس بيضون. أنا أتحدث عن بعض قراءاتي الشعرية فقط. كتبت في هذه الفترة قصائد تحمل بلاغة منفلوطية وإن كانت تسعى للاقتراب من كتابة التسعينيين وموسيقاها، إلى أن كانت ورشة الكتابة في مكتبة الكتب خان بإشراف رخا نفسه، ومِن حولنا أجواء مشحونة بالثورة ثم تفجّر شررها يوم الخامس والعشرين من يناير. ديواني الأوّل الذي صدر منذ فترة قصيرة وحمل عنوان "فلّاح هذا الزمان" هو نتاج هذه الورشة وابن تجربتها. قرأنا وسمعنا بعضنا البعض، وقرأنا التسعينيين، وسمعنا سركون ووديع سعادة. كان هؤلاء هم الأقرب لأرواحنا وذوقنا الأدبي؛ حتى أنني نزلت للتظاهرات ظُهر ٢٥ يناير 2011 أحمل في جيب الجاكيت، قريبًا من قلبي، ديوان "أماكن خاطئة" لأحمد يماني.
أنا اكتشفت قصيدة النثر متأخرًا، لكن الوعد الذي قدّمته لي مذّاك الحين ظل سبباً دائمًا للفرحة. البحث عما يخصّك، عن أوجاعك ورغباتك الحقيقية، أن تحكي نفسك بنفسك دونما استعارة أصابع أحد، هذا ما أسكنتني فيه قصيدة النثر وكتّابها من جيل التسعينيات تحديدًا.
كتب عباس العقاد "والشعر من نَفَس الرحمن مقتبسٌ، والشاعر الفذّ بين الناس رحمنُ"، وهو ما أذكّر نفسي به دائمًا وأتمناه لعلّي أكونه يومًا ما؛ فالشعر يظل دائمًا وأبدًا وبكل بساطة: الكلام الحلو.

محمود عاطف ـ شاعر مصري ولد عام 1984 ـ درس الهندسة ـ صدر له ديوان" فلاح هذا الزمان".

***

التعبير عن المجردات

منتصر عبد الموجود

  منتصر عبد الموجود البدايات فردوس بعيد حيث الوعي المرتبك يطلق طاقات المتعة والاجتراء على ما نجهله، هكذا الحال مع ديوانك الأول المنشور في بداية عقدك الثالث، احتجت عبور عتبة الأربعين لتتعلم أنك لا تستحق كل هذا الخجل كلما رجعت إلى صفحاته المصفرة، فالأجدر بك ثوب الحنين إلى وعي مرتبك يحفظ حقك في المتعة والاجتراء... هكذا كان آدم في فردوسه.. وهكذا يكون الشاعر في ديوانه الأول الذي بصدوره تملكك هاجس مرعب.. هل ما حققته قاعدة يُبنى عليها أم استثناء عابر؟ الرعب المستمد قوته من واقع متحجر، لا تجابهه روحك إلا بلعبة تبادل المقاعد؛ فتحيل الاستثناء قاعدة والعكس... فاتحة لك فرجة لعبور القصائد... وأنت في طريقك إلى العمل، وأنت تنساب ظاهرياً مع تيار الخوف المحيط بك لزيارة مسؤول من مكتب الوزير، وأنت في طريقك إلى عمل إضافي بلا مال يهبك رفاهية الجلوس على المقهى حتى يحين موعد العمل؛ فتمشي في الشوارع مردداً قصائد قديمة أو كاتباً في ذهنك واحدة جديدة؛ حتى إذا هدأت روحك القلقة، تضع طموحاً... التعبير عن المجردات عبر صياغات ورؤى تنتمي لعالم الحواس لا الذهن، تسعد بالكتاب الثاني برغم ما تدخره لك الأربعون من صفعة أخرى في المستقبل، تخبرك أن ما أنجزته باعد أكثر بينك وبين فردوسك الأول.
لم تقتنع أن الدين كما تعرفه وتؤمن به ضد الحداثة، ولم تقتنع بتنظيرات من نوع كسر التابو، رحابة روحك منحتك بصيرة قادرة على التمييز بين من يكسرون التابو كمجرد التزام بالتنظير المشكوك في طرحه، وبين القريبين من قلبك بنصوصهم التي يضعها الواقفون على البر في خانة التابو، بينما هي المفعمة باشتباكات الذات مع الوجود قد تسامت إلى درجة تنفي فكرة وجود التابو. بهذه الروح وبفضل من أدين لقصائدهم الجميلة تعاملت مع الموروث الديني في الديوان الثالث متخففاً من عبء التابو ومن غباء المتشددين للحداثة أو للرؤية المغلوطة للدين؛ فجاء الكتاب مربكاً.. هناك من رآه يجترئ على المقدس، وهناك من رآه معالجة للقصص الديني تنبع من رؤية شاعر مسلم سني، ومنهم من التقط الموجة الصحيحة ورأى نصوصاً تزخر بمتعة الشعر.
تفرغ من هاجس القاعدة والاستثناء متجها إلى هاجس أصعب، هل أنت شاعر يعيد نفسه ويراكم النصوص، أم صاحب مشروع إبداعي لا تنفصل صياغة ملامحه عن لحظة الإبداع التي تتركها تحت وطأة السعي خلف لقمة العيش.

([) منتصر عبد الموجود: مواليد 1973 ـ صدر له عدة دواوين منها: "حروب وهزائم"، الحنين سلة.. المفقودات"، ثمة أشياء لن يجربها".

***

كي لا تصير الرومانتيكية بلهاء

جورج ضرغام

جورج ضرغام أردت أن أكون شاعرا كي أشبه "طانيوس ضرغام" وهو أحد أقاربي وكان شاعرا وخورياً، وجاء ذكره في "معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين". يوما ذهب هو وجدي إلى أمسية لحافظ ابراهيم فاستقبلهما شاعر النيل بقوله:
صعد الزئير من العرين فقلتُ ما هذا الضجيج دوت له الأهرام
فأجبتُ هذا شاعر الأرز الذي ألّف الزئير لأنه ضرغام
لهذا أردت أن أكون مثله شاعرا. لماذا الشعر؟ لأن لا أحد مات في شموخ عبيد بن الأبرص، لا أحد عاش في جمال أنسي الحاج ودرويش، لا أحد ناضل مثل الماغوط وحلمي سالم. (الشعر دندنة الطريق الطويل.. هواء للأشجار المتعبة والنساء المصابة بضيق تنفس عاطفي.. الشعر دليل الشجن.. وصايا الملائكة للطيبين.. سيرة الأشباح الأليفة.. والشعراء أنبياء أقل ضجيجا).
ارتكزت في تجربتي على "الايروتيكا" باعتبارها وسيلة لمواجهة الرجعية والفاشية الدينية التي كانت تحكم مصر آنذاك: (يدي صالحة للحب والمقاومة.. يد الآن تكفي لمواجهة النهد والفاشية) وقدمتها إلى القارئ المجنون، والباحث والطبيب النفسي.
للصورة المكتوبة أو المرسومة "أورجازم"، فلو أثارت قارئها أو ناظرها فاعلم انه مريض يستحق العلاج. ومن هنا كانت "الايروتيكا" هي المقاومة والوسيلة الأنجح.
استعملت ما أسميها "اللغة المتوحشة" كي تنبت للقصيدة أنياب لتدافع عن نفسها في وجه كل فاشي ورجعي. الشاعر الانكليزي فليب لاركن استعمل هذا ليقف ضد رتابة وروتينية المجتمع الانكليزي، وايضا الاميركي تشارلز بوكوفسكي.
الفن حين يكون بديلا للقبح سوف يفتته، ثم يشكله بوعي جديد كـ"مبلولة دوشان". غير صحيح ما يتداول أن الشعر انتهى. الشعر فقد وظيفته القديمة كمذياع للثورات والحشد الجماهيري بظروف تطور الصحافة و"توك شو". فدور الصحافي الأن أسرع من دور شاعر في الحراك الجماهيري. وهذه هي الطريقة القديمة التى يتعاملون بها مع الشعر باعتباره "ظاهرة صوتية"، وهذا غير صحيح، فالشعر ظاهرة جمالية.
شاعر النثر ليس شاعرا جماهيريا كالشاعرالشعبي أو الستيني. بل هو منظر للأيديولوجيات. متنوعا ومجربا لكل مذهب سواء كان غربيا أو عربيا. نحن من المحيط للخليج أصحاب حضارة وتنوع عرقي وديني ولنا فولكلور يمكن الاستفادة منه. نكبتنا الوحيدة هي البربرية التي نشأت من إصرارنا على الأُحادية، سواء في الفن أو الحياة، ومعاداة كل تنوع وتعدد، والنضال بالفنون والآداب هو الحل.

([) جورج درغام: مواليد 1982ـ صدر له ديوان"هيستريا شتاء قاهرى".

****

نقد العقول الحجرية

عبد الرحيم طايع

عبد الرحيم طايع  القبض على التفاصيل... بل تفاصيل التفاصيل... الميل إلى الفلسفة الناضجة... الاستفادة (العميقة) من المشاهدات الحياتية اليومية... استدعاء الألوان في النص بحيث لا تكون عبئًا عليه (مع الدراية الأكيدة باللغة واللهجة وإيقاعهما وبلاغتهما وأسرارهما) وألا تلهيك قضايا الإنسان عن قضايا الكائنات مهما حقرت في العين وما ألصقها به وما أحوج كل منهما إلى الآخر لكننا ننسى؛ كل هذا يمكن أن يشكل ملمحاً من ملامح كتابة جديدة، لن يؤديها، أظل أقول لنفسي، إلا واع نابه، هو، بالجملة العقلية والوجدانية، ماكر كبير "أرجو أن أكون أنا هو"!
...الحداثة، في تعريف مصغر بسيط أحبذه، هي التعامل مع الواقع بالعقل والعلم والتكنولوجيا؛ وقد صار الواقع بحاجة إلى تعامل مماثل معه حقاً وصدقاً، وإلا ستتأخر الحياة، مع الإيمان الكامل بجملة القيم الإيجابية التي يتحجج أصحاب العقول الحجرية باضمحلالها، مع تطور وجوه العالم، بل يمعنون في سوء ظنهم؛ واصفين الكتاب التقدميين بالتخوين والتكفير وما إليهما!

abdelraheemtaya67@gmail.com

عبد الرحيم طايع: صدر له "سبع تنويعات"، "غرقانين"، "اخترت القطار للسفر"، "روايح فل تحريرها".

***

بوتقة الحياة

مروة أبو ضيف

مروة أبو ضيف تجربتي مع الشعر بدأت مبكرا جداً ، كنت طفلة ما زلت وبدأت أكتب بالعامية المصرية أشعارا قصيرة وصغيرة مثل سني، وقتها لقيت تشجيعا كبيرا من أبي الذي أحضر لي "سبورة وطبشورا" لأستمر بالكتابة. ظلت الكتابة تكبر معي بخطوات صغيرة لكنها مستمرة، حتى وصلت الى الفضاء الالكتروني حيث حمى المنتديات كان هذا مما يقارب اثني عشرة عاما مضت كنت أكتب تحت اسم مستعار بل ربما أسماء مستعارة، أنتقل من منتدى لآخر، أكتب وأقرأ وأنتظر التعليقات بفروغ صبر، المنتديات كانت فضاء واسعا للكتابة لكن تحكمها الشللية تماماً كما هي الحال في الوسط الثقافي المصري، كلما ازداد عدد أصدقائك وتعليقاتك اللطيفة على القصائد المختلفة كلما ازداد وجودك ومتابعوك ومادحوك، لكنها كانت تجربة ثرية قرأت من خلالها لأسماء كثيرة تكتب بحرفية عالية مثل سوزان خواتمي، خلف خلف، وغيرهما الكثير، الأجمل من كل هذا أني تعرفت الى مجموعة من الاصدقاء، شعراء ايضا، وانتقلت الصداقة من الفضاء الالكتروني الى أرض الواقع. مع الوقت ضاقت بنا جميعا المنتديات التي فوق الشللية التي تملأها، يتحكم فيها ايضا المسؤولون عن المنتدى برفع مواضيع معينة وحذف غيرها كرقباء علينا جميعا، ومن هنا جاءت فكرة "نون" موقع أدبي قررنا إصداره بأموالنا وأفكارنا البسيطة والحرة، الموقع لقي احتفاءً من عدد من الشعراء الكبار أمثال عماد صلاح، ولقي دعما، حتى اننا وقتها تلقينا دعوة للظهور على القناة الثقافية المصرية وبالطبع لبينا هذه الدعوة. لم تصمد "نون" كثيرا كعادة المشروعات الثقافية الشابة الطموحة، لكن مرحلة اخرى من الكتابة بدأت معنا جميعا حيث ظهرت وقتها حمى "البلوج" فصمم كل منا فضاءه الخاص جداً بلا رقيب من قريب أو بعيد وصار يكتب كل ما يحلو له بالطريقة التي يراها مناسبة ويستقبل التعليقات ممن يريد التعليق. ولان الشعر تجربة شخصية ذاتية جداً، فقد كان ملاصقا لروحي يتغير مع تغيرها، وكنت قد مررت بتجارب كثيرة بحياتي صهرتني وشكلتني أكثر من مرة فبدأت الكتابة تتبلور في شكل قصائد رغم إصرار قديم على الحفاظ على شكل النصوص الحرة. لو نظرت الى الوراء وحاولت أن ألخص تجربتي مع الشعر لقلت بوتقة الحياة التي صهرت روحي بين تجارب كثيرة من موت وهجرة وتصوف وخذلان.

([) مروة أبو ضيف: مواليد 1980 ـ أصدرت ديوان ـ "أقص أيامي وأنثرها في الهواء".

***

قصيدة لا تتوقع الانتصار على عدو

آية نبيه

آية نبيه  غالبًا، عند محاولة مدح قصيدة نثر، يُذكر أنها "تهتم بالتفاصيل اليومية"، ما صار مكررًا وسخيفًا، ولم يعد ضروريًا لوصف قصيدة بأنها جيدة، إن كان كذلك في السابق. لا أعتقد أن شيئًا آخر ضروري. قد تكون السمة المشتركة الباقية التي من الممكن أن تميز الشعر في صورته اليوم عن غيره من النصوص الأدبية هي تأثيره، وهو ما لا يمكن توصيفه. اليوم لكل كاتب قصيدته، يخترعها فتضع لنفسها السمات الأخرى الخاصة بها، ويمكن أن تكون كل قصيدة لنفس الشاعر تجربة مختلفة في موضوعها وبنيتها ومفرداتها. وبالتالي لا أجد أن هناك نموذجًا محددًا للقصيدة يصلح لتمثيل "الشعر الجديد"، ولا تعريفات نهائية؛ مجرد أفكار تواصل تطورها.
سمعت قصيدة النثر التسعينية قبل أن أقرأها، وأعجبني هذا النوع الأدبي قبل أن أعرف اسمه، تصنيف النص ليس هو الأساسي في النهاية. اتسع مفهوم القصيدة، وقصيدة اليوم قد تتشابه في مشهديتها مع القصة القصيرة أو تكون شكلا مختصرًا جدًا في تسلسلها من رواية لم تكتب. ورأيي أن تداخل الأنواع الأدبية في مصلحة الكتابة، فلا يحتكر الشعر كاتبيه أو العكس، ولا ينحصر كاتبه في شكل محدد يتوقعه من النص، مساحات أكبر للتجربة وأقل للتأطير.
نشتبك مع الواقع يوميًا، ولا نتمكن دائمًا من المشاركة في تشكيله، وكذلك قصيدة اليوم، لا تهرب فتنشأ من الخيال التام بل تواجه وتصوغ الواقع كما يراه كاتبها، الواقع الذي كلما ازداد سوءًا ازدادت جرأة القصيدة. قد تكون مجرد طريقة أخرى للتوثيق، أو تكون مقاومة غير مقصودة في حروب يومية للعالم المقلوب في الشارع/ لصراخ السياسيين وعرائسهم المتحركة على الشاشات/ للصراعات الدائرة حول خيارات بسيطة، وللثقل الذي نواجهه يوميًا لنتذكر أنه ليس الطبيعي، الأهم ربما أنها لا تتوقع الانتصار على أي عدو.

([) آيه نبيه ـ شاعرة ومترجمة ـ يصدر لها قريبا ديوان "تمارين عامة لتطوير مهارات الأرق".

****

كشبحٍ يرفُّ بجناحٍ واحدٍ

محمد أبو زيد

محمد أبو زيد أتذكر ذلك جيداً الآن، كنت أبكي كمن أصيب بمسٍّ. أبكي وأرتجف من دون سبب، ثم أكتب فأهدأ. أهدأ تماماً. تنتظم أنفاسي. أهدأ. فأكتب، وأكتب، وأكتب، وما زلت أكتب من وقتها حتى الآن. أول قصيدة لم تختلف عن ثاني قصيدة عن القصيدة العاشرة عن آخر قصيدة، لم تختلف الأسئلة بل تزيد، تتراكم فتخلق نصوصاً جديدة، لا إجابات، فأعيش معذباً بالأسئلة، بلعنتي، بقصيدة تدور في الفراغ. نعمتها حياتي، نقمتها الجواب الذي لا يصل.
ذات مرة، استيقظت فوجدت نفسي في العراء. لا شيء حولي سوى عواء الريح، والحياة التي لا تُحتمل في الخارج، الحياة التي لا أحتملها، فقررت أن أحصّن نفسي ببيت، أجرّب أشكال الكتابة المختلفة، أتنقل ما بين السرد، والشعر، ما بين القصيدة العمودية إلى التفعيلية إلى قصيدة النثر، يعلو البيت ويظلني، يدفعني لمواصلة الحياة، تتراكم القصائد كحائط صد ضد الموت، الموت الذي يقترب كلما ابتعدت القصيدة.
ستة دواوين متراصة لا تقول شيئاً، أم تقول؟. أمد يدي فأُخرِجُ يدي، ذراعي، جسدي، روحي، هل قُلتُ شيئاً، لم أقل. بعد كل ديوان جديد أقرر أن أبدأ من البداية، أقول لنفسي: لم يكن هذا ما أردت قوله، لم أكن أقصد هذا. أنتهي لأبدأ من جديد، لا أكاد أنتهي حتى أبدأ، لا أعرف هل أشعر بالامتنان أم بالحنق، تتراص الدواوين كأدلة اتهام، كمشانق متجاورة فارغة من رأس كان معلقاً فيها.
أفكّر الآن في الطفل الذي فقد أمه فقرر أن يكتب قصيدة يسائل بها الموت، عن الفتى الذي كان يقود الدراجة خمسة كيلومترات كل يوم إلى المدرسة وعينه تُحوّل الحقول حوله والمقابر والسيارات إلى نصوص، يتوقف في منتصف الطريق ويكتب، عن الشاب الذي ركب القطار، فرأى نصوصه في وجوه الفقراء النائمين غير مهتمين باهتزاز العربات العتيقة، عن الطائرة التي حطّت، عن السيارة التي وصلت، عن القطار الذي هدر ثم صمت؛ فغادرهم كهلٌ، لا يحمل شيئاً، وحيدٌ كالحرية، لا يعرف كيف يكمل الرحلة، ولا متى سيصل.
ذات مرة، استيقظت، فوجدتني هنا، بين تسعة وتسعين باباً مفتوحاً، وباب واحد مغلق فتحته فوجدتني هناك. في الحياة. الكتابة حياة. القصيدة حياة.

([) محمد أبوزيد: مواليد عام 1980- يعمل صحفيا – صدر له " قوم جلوس حولهم ماء"، " ثقب في الهواء بطول قامتي"، "مديح الغابة"، " مدهامتان".

***

الشعر.. رفقة قديمة

عبد الرحيم يوسف

عبد الرحيم يوسف  بدأت الكتابة بالعامية متأثرا بأشعار وأغاني عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب قبل أن أسقط عام 1994 في أسر الظل المديد للشاعر الكبير فؤاد حداد. وكان للقائي بالشاعر الصديق محمد خير في عام 1995 أثر كبير في تنبيهي لضرورة البحث عن صوتي الخاص، في 1999 بدأت الحضور في الوسط الأدبي والثقافي بالإسكندرية عبر ورشة الشعر بأتيلييه الإسكندرية والتي كان للقاءاتها ومناقشاتها أثر كبير في دفعي لمحاولة تطوير كتابتي، حتى بدأت في 2001 كتابة قصيدة النثر العامية وتوقفت تماما عن كتابة الفصحى، وعبر هذه السنوات الطويلة كتبت ثمانية دواوين أصدرت أربعة منها بعيدا عن دور النشر الحكومية ـ حتى الآن ـ ونشرت كتابين مترجمين بالإضافة إلى عدد من القصائد والترجمات في بعض الدوريات المصرية. كانت سعادتي بالغة حين ضمني ملف أعدته جريدة أخبار الأدب عام 2009 بعنوان (أصوات التمرد) وحين شاركت بشهادة في ملف أعدته مجلة الشعر المصرية عن مشهد الشعر العامي في مصر عام 2012. ليس هذا بالكثير، لكنه مرضٍ تماما لي. أفتقد حاليا رفقة الشعر الذي أصبحت زياراته عزيزة ومتباعدة، لكني مدين له بلحظات التميز أمام الذات والآخرين، وكونه دافعا كبيرا لفهم اللغة وتذوقها والتعبير بها عن أشواق الروح وأفراحها .. وخيباتها بالطبع!

([) عبد الرحيم يوسف: شاعر ومترجم. مواليد الإسكندرية 1975ـ صدر له: "قصايد ماتت بالسكته القلبيه". "م المرحله الزرقا".

***

الهرب من هوس التصنيف

ملكة بدر

ملكة بدر  كان من الواضح أن الشعر بالنسبة لي خيار أخير، ولم أكن أتصور حتى أن أكتبه يومًا، أو أن أعتبر ما أكتبه شعرًا، ومن ثم يعتبره الناس كذلك. بمرور الوقت، ومع دراستي للشعر الأميركي والأدب الإنكليزي الحديث في القرن العشرين، تغيرت كتاباتي، ونظرتي للأنواع الأدبية عمومًا.
عرفت محمود درويش، صلاح عبد الصبور ونازك الملائكة وفؤاد حداد وغيرهم، فعدت لأحب الشعر العربي سواء كان موزونًا ومقفى أم لا، سواء كان بالفصحى أو العامية، ثم تطور الأمر لأهيم حبًا بكتابات سيلفيا بلاث، وتشارلز بوكوفسكي وت. س. إليوت وغيرهم. بدأت يدي تجري على أرفف الدواوين في المكتبات، بعد أن كانت لا تقرب سوى الرواية أو كتب علم النفس والتاريخ. وبعد أن وجدت يدي تكتب أشياء لا أستطيع أن أسميها قصة، ولا خاطرة، وتلقيها على الورق في شكل هندسي معين من تلقاء نفسها، ثم تجرأت فأعطيت أستاذتي في الكلية آنذاك، شيرين أبو النجا، مجموعة من تلك "الأشياء" التي أكتبها، وردّها الذي حمل إليّ لأول مرة كلمة "الشعر" وحمل إليّ لأول مرة أيضا تشجيعًا كبيرًا على ما أكتبه، أدركت، حينها فقط، أنني ربما أكون قد كتبت شعرًا بالفعل.
أقول إنني لم أختر الشعر، ولا أظن أنه كان ليختارني، سوى أن طريق المصادفة قد ألقى بنا معًا على رصيف واحد. أفكر في أنني لو لم أكن محظوظة بما يكفي لاكتشاف ديوان "بالأمس فقدت زرًا" لتامر فتحي، ربما لم أكن لأعرف ما الذي أفعله بالكتابة أصلا بعد أن اخترت ذلك الطريق. لا أقول إنني كنت سأفهم ما هو الشعر إن لم أكن قد وقعت ـ مصادفة أيضاً - على ديوان "هدايا الوحدة" لمحمد خير، ودواوين إيمان مرسال وعماد أبو صالح وإبراهيم داوود، الذي لولاه لما كان ديواني الوحيد قد خرج إلى النور، برغم أنه لم يكن يعرفني أو رآني عندما قرأه لأول مرة بإيعاز من الشاعر والصديق إبراهيم السيد.
وبرغم صدور الديوان الأول بتأخير عامين، في يناير/ كانون الثاني، 2012، إلا أنني ما زلت أتحفظ كثيرًا على لقب "شاعرة"، وأحيانًا ما أصر على أنني فقط أكتب "ما يتصور الناس أنه شعرٌ"، ربما للهرب من هوس التصنيف، أو الهرب من مسؤولية إنتاج ديوان جديد، انتهيت منه بالفعل ولكنني لا أرى الظروف مناسبة لنشره الآن.
كنت أتمنى أن أقول إن للثورة المصرية، 25 يناير/ كانون الثاني 2011، تأثيرًا بالغًا على ما أكتبه، كما كان لها من الأثر على شخصيتي وأفكاري، لكن ما حدث، هو أنني انخرطت كثيراً في المشهد السياسي، كأي مواطن مصري منذ تلك الفترة، وفي المقابل ابتعدت شيئًا فشيئًا عن "الزخم الثوري" في الكتابة، واتسعت فقاعتي الشخصية لتحتوي الكلمات أكثر، لذا لم أنتج مثلا سوى قصيدة واحدة تُحسب نوعًا ما على الثورة، وازدانت بقية الصفحات بتفاصيلي ورؤيتي القاصرة للغاية لما أمرّ به أثناء الثورة.

([) ملكة بدر- ولدت عام 1987 – درست الأدب الإنجليزي - صدر لها ديوان" دون خسائر فادحة"

***

نافذتي إلى الحياة

حنان شافعي

حنان شافعي   كتبت وأكتب الشعر دون خطة وعندما أخطط لقصيدة أفشل لأنها تملي عليّ دائما دروس التمرد وتأبى أن تخضع لحالة الاحترافية رغم ادعائهم أن قصائدي ناضجة وتنم عن قراءة خبيثة للتفاصيل. لا أعرف إن كنت أقرأ التفاصيل لأني أحس بترددات الحروف أم لأني أكبر من التفاصيل ويسهل عليّ فك الرموز. كل ما أعرفه أني أكتب لأعرّي أسئلتي المحرمة وأكشفها ونفسي إلى العالم، لربما يخجل ويتراجع عن وقاحته باتجاهي واتجاه الآخرين الذين يوجعهم العبث.
من هنا أجد سؤال التابوهات فكرة جديرة بضحكة رقيعة لأن ما يملأ يومياتنا من عبث وخراب وغربة ومادية يفوق كل منطق للتابو، وكل ما يمكن أن يوسوس به شيطان لناسك محروم.
لأني ابنة الأطراف التي يضربها روماتيزم المركزية، ربما تأخرت في اكتشاف علاقتي بالشعر قبل الانضمام إلى نادي الأدب النشط في المدينة، عاصمة القرية، رغم بساطته وضعف إمكاناته بسبب ما يصل إليه من فتات رعاة الثقافة في العاصمة (هيئة قصور الثقافة ووزارة الثقافة). كنت أقرأ عليهم قصائدي ونناقش سوياً ما كتبت. أتذكر اندهاشي حينما قالوا عن قصيدتي: "هذه قصيدة نثر" ولم أكن قد سمعت هذا المصطلح من قبل وإلى الآن لم أحاول التعرف عليه بمنظور نقدي، فهو يعني لي الحرية التلقائية في المعنى والمبنى ولا يلزمني من الشعر أكثر من ذلك.

([) حنان الشافعى: شاعرة ومترجمة من مواليد 1984. صدر ديوانها الأول عام 2009 تحت عنوان "على طريقة بروتس".

***

ليه العامية المصرية؟؟

رامي يحيى

رامي يحيى  لأنهم كلمتين شايلين تراث إنساني لا يستهان به، محتاج فرق تبحث وتأرخ، إحنا كمصريين ومن أيام الفراعنة وإحنا عندنا لغتين، لغة للدولة وللدين.. ولغة للناس.
طول عُمرنا على رأي الأبنودي "إحنا شعبين.. شعبين.. شعبين"، الله يرحم أيام الشعر الجميل ما كان الصوت ساعة ما بيحبوا الدنيا سكوت، فوجود لغة مصرية بيستخدمها الشعب وبتعبر عنه أمر مفروغ منه، اللغة دي هي الانتصار الواضح اللي يتحسب للشعب على كهنة المعبد وفرعون والطايفة اللي بتتعامل معاهم، بعد ما وصلنا النهارده أن حتى الطايفة دي بقت بتتكلم اللغة المصرية، اللغة اللي أختارها الناس مش الدولة أو المعبد.
اللغة دي أتعمل بيها شغل أدبي كتير ومتنوع بشكل فوق الوصف، وأنا مهووس بفكرة أني أشارك فـ الجنب ده من مكسب الناس، أصل اللغة ليها ذاكرة.. وأنا أحب جدًا أن اللغة دي تفتكرني بالخير.

([) رامي يحيى: شاعر محكية مصري- صدر له "كلام كريم"، "الغريب"، "صعلوك".

***

تجربة عادية جداً

أحمد ندا

  أحمد ندا نمت لدي رغبة في أن أكون "شاعر المدرسة" أسوة بشاعر القبيلة، ثم ارتفع سقف طموحي إلى أن كنتُ أوقع قصائدي وقتها بـ"شاعر العربية الأول".
هل هي نكتة زمنية أن تغيرت علاقتي بالشعر كتغير مفهومه وأدواته نفسها على مدار تاريخه؟ لعلها كذلك وأنا أسير مع القصيدة العمودية بطموح كلاسيكي "سأكون أفضل من أحمد شوقي"، هو كتب يعارض البصيري في بردته "ريم على القاع بين البان والعلم" فكتبت "من قلب مكة برق لاح في الظلم".. لعبت كثيراً مع الأوزان، دندنتها في طريق الذهاب والعودة من البيت للمدرسة: مستفعلن فاعلن "ياخوف قلبي من هواه" "فعولن فعولن فعولن فعولن" "لئن كنت حقاً غريباً وحيداً". إلى أن جاء يوم الزلزلة الكبير في المرحلة الإعدادية "المتوسطة" يوم أن تعرفت على الإنترنت وانقلب عالمي أو تاه في العالم الافتراضي بزخمه الغريب على مفاهيمي ومعارفي، ظهرت أمام عيني أسماء كنزار قباني ومحمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان، المنتديات تنشر "قصائد" بشكل لا أعرفه، لا يوجد شطران، القافية أحياناً موجودة وأحياناً لا، العروض موجود بطريقة لم أقدر على استساغتها، لكن الكلام جميل، خاصة ذلك الشاعر الغريب المسمى صلاح عبد الصبور "حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم" ياإلهي! ما هذا الرجل؟ كيف يقول هذا الكلام الجميل؟ لكنه ليس شعراً أيضاً، الشعر موزون مقفى بشطرين!
..ثم وقع عليّ "محمد عفيفي مطر" كالصاعقة، تمكن من قلبي كالمصيبة، في ذلك الوقت في المرحلة الثانوية كنت أرى أن الشعر أرقى من أن يفهمه أي كلب، فتنتني لغته المعجمية التي تناسب نشأتي التراثية، صرت أكتب مثله، أتحرى العالم الغامض المغلق والكلمات المهجورة، وإذا قرأ لي أحد الأصدقاء ولم يفهم فهي لحظة انتصاري "المشكلة فيك مش في النص".. هكذا ربيت شعريتي في الظلام بهواء عطن.
الجامعة، مرحلة العودة إلى مصر، تركت الكثير ورائي: الدين، الأهل، الشعر العمودي. وأخدت معي التفعيلة على مضض. وتغير طموحي من شاعر العربية الأول إلى أهم شاعر في العالم، الذي سيحصل على نوبل في ثلاثينيته، لأكون أصغر من يحصل عليها. لم أكن أعرف بعد أن هناك مصيبة كبيرة اسمها قصيدة النثر.. أفزعني عماد أبو صالح بلغته المتقشفة وصوره البديعة، أفزعتني إيمان مرسال ووقعت في غرامها، علقت صورتها في غرفتي، تحولت إلى فتاة أحلامي، لكنني تمسكت بالتفعيلة، وكانت قناعتي أنهم يكتبون من دون وزن لأنهم لا يقدرون على التعبير به، أنا أفضل منهم "هكذا صورت لنفسي". لكنني في مرحلة الانقلاب الوجودي وأسئلتي عن ذاتي والعالم، تعبت من الصنعة، وجدت نفسي أكتب قصيدة النثر من دون أن أقصد، وتغير طموحي ثانية من أفضل شاعر في العالم إلى مجرد شاعر، أريد أن أصير شاعراً، شاعراً فقط لا غير.
تجربة كهذه التي حكيتها تصلح للتندر، للصحف الخفيفة، لأحكيها على المقهى مع الأصدقاء المهتمين بالأدب، لأنها ستصيب غيرهم بالملل، أنا اليوم في انتظار ديواني "لهواة الصيد" لعله يكون أقل فجاجة في التعبير عني.

([) أحمد ندا – شاعر مصري ولد عام 1986 – درس الطب - وصدر له ديوان "بعدَ ذهابهم بقليل"

السفير : 14-11-2014