ضياء العزاويلم يصرف الفنان التشكيلي والنحات العراقي ضياء العزاوي جل وقته في رسم اللوحات فقط، ونحت الأعمال الحجرية والخشبية، كما يفعل معظم التشكيليين العرب، وإنما اختار مهمة أكثر صعوبة: أن يتولى نفض الغبار عن المخطوطات والكتب العربية النادرة، وأن يكون مفسراً تشكيلياً للنص الأدبي القديم والحديث. فوضع رسوم دواوين وروايات ومؤلفات أهم المبدعين العرب المعاصرين، راسماً للكلمات وناحتاً لها، وجاعلاً منها ذاكرة مبصرة.

أما العمل الأهم والأبرز للعزاوي - والذي اختار المضي فيه في السنوات الأخيرة - فهو التجديد الفني لأهم كتب التراث العربي والإسلامي، ضمن مشروع فني ثقافي بدأه مع كتاب ' مقامات الحريري'، وهو واحدٌ من أشهر كتب التراث العربي في مجال القصص الشعرية والنثرية المزدانة بالرسوم المساعدة في توضيح المضمون والمكملة له، ولا توجد من هذا الكتاب النادر سوى ثماني مخطوطات، أشهرها تلك التي أنجزها أبرز مصوري العرب في القرن الميلادي الثالث عشر يحيى بن محمود بن سعيد الواسطي.

ولعل ما يميز الجهد الذي قام به العزاوي هو أنه وللمرة الأولى يصدر من هذه المخطوطة 2000 نسخة متماثلة تماماً ومرقمة ومطبوعة بطريقة فاخرة وأنيقة، كما أنها منجزة بأربع لغات هي العربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية. وسينجز العزاوي قريباً الإصدار الثاني ضمن هذا المشروع وهو كتاب 'الترياق' لابن رشد، وسيتبعه كتاب 'كليلة ودمنة' لابن المقفع، وربما أيضاً كتاب 'ألف ليلة وليلة'. ويعكس هذا الاهتمام رغبة العزاوي بتضميد نكبة المخطوطات العراقية والعربية التي تعرضت لمحاولات النهب والحرق والضياع منذ تدمير المغول لبغداد عام 1258م وحتى اليوم.

مقامات الحريري

بين كنوز المجموعة الفنية من المخطوطات العربية في المكتبة الوطنية بباريس توجد النسخة الوحيدة من كتاب ' مقامات الحريري' التي رسمها وزيّنها الواسطي في بغداد عام 1237م، وهي تتفوق على غيرها من المخطوطات الأخرى بسبب جودة وتنوّع رسومها التوضيحية والمعاني غير المعتادة لكلماتها والتراكيب النحوية المحكمة التي تستخدم لاستعراض الغنى المذهل والمعقد للغة العربية.

ألّف كتاب المقامات أبو محمد القاسم بن علي الحريري (1054- 1122م)، وهو يحتوي على 50 قصة قصيرة تُروى شعراً ونثراً وكل واحدة منها مزينة برسمين مستلهمين من وحي القصة بغرض توضيحها. وقد قام عدة فنانين برسم وتزيين صفحات الكتاب، لكن إنجازاتهم لم ترقَ لمستوى ما قام به الواسطي، الذي أنجز نسخة واحدة فقط وصلت في النهاية إلى باريس، ولم يفكر أحد من الفنانين المعاصرين بإعادة نشرها وتجديدها من الناحية الفنية؛ لما يتطلبه ذلك من وقت وجهد وصبر ومال. ويرى أوليغ غرابار، المؤرخ وعالم الآثار المتخصص في الفن الإسلامي والعمارة، أن كتاب ' مقامات الحريري' يمثل ' إجلالاً للقيم الباقية للجنس البشري ولسلطة وفتنة الفن'، مضيفاً أن الرسوم التي تزيّنه تصوّر المجتمع الإسلامي في النصف الأول من القرن الميلادي الثالث عشر، بشكل فكاهي وخيالي في آن واحد، مع الجمع بين الذوق الشخصي المرئي والبراعة التقنية الظاهرة في كل صفحة من هذا العمل المدهش.

قرّر العزاوي، الغيور على بلده المحتل وتراثه المنهوب، أن يأخذ زمام المبادرة، وحيداً، ليعيد إبراز الجهد الذي قام به الواسطي قبل حوالي 770 عاماً، حيث قام بتجديد النسخة التي أنجزها الواسطي من 'مقامات الحريري'. لكن هذا العمل لم يكن سهلاً أبداً، فقد تطلب الأمر اتصالات مكثفة مع إدارة المكتبة الوطنية بباريس للسماح له برؤية وتفحص المخطوطة عن قرب، هذا عدا عن أن بعض النصوص كانت مشوهة، وبعض الصفحات تآذت وبهتت الرسوم التوضيحية التي تتضمنها أو حتى رممت بشكل سيىء جداً وغير حِرفي. أما من الناحية الفنية، فالرسوم التي وضعها الواسطي لا يوجد بينها أي ترابط منطقي وتختلف كثيراً فيما بينها، إذ أن شخصيات بعض القصص بسيطة وسهلة الرسم، ولكن بعضها الآخر معقد للغاية، ما صعّب مهمّة هذا الفنان المتيّم بتراث تجاهله الكثيرون واعتقدوا أن العصر لم يعد مناسباً له، لكنهم تناسوا أن 'من لا ماضي له.. لا مستقبل له'، وأن الإبداع والفن الأصيل يبقيان موضة صالحة لكل العصور، فما بالكم بتراث نخبوي يبحث عنه المقتدرون والأثرياء ومحبو العلم والمعرفة وينفقون مبالغ كبيرة مقابل الاحتفاظ ببعض مفرداته؟

اهتم ضياء العزاوي بما تجاهله الفنانون المعاصرون، الذين يصرفون كل وقتهم في رسم الحروف الفلكلورية السهلة واللوحات الفنية السريعة، فيما قضى وحده عدة سنوات في إنجاز هذا الكتاب الجميل، معتمداً في ذلك على حماسه القوي للتراث العربي، وذوقه الفني الرفيع، ومهارته في تحسين وتجميل عمل صعب يعتمد توزيع الألوان في رسومه على المقام الموسيقي، وتعتمد نصوصه على الزخرفة اللفظية والمحسنات البديعية وتطنب في الترصّد الاجتماعي الساخر والنقدي لوقائع الحياة اليومية.
وقد صدرت طبعة كتاب ' مقامات الحريري' للواسطي والتي أنجزها العزاوي عن دار النشر الفرنسية 'توش آرت' في 2000 نسخة مرقمة، يبلغ ثمن الواحدة منها 2500 يورو، وتقع في 334 صفحة، مجلّدة باستخدام الجلد والحرير، وتتضمن نصاً تاريخياً وتحليلياً للمؤرخ أوليغ غرابار.

مسيرة ضياء العزاوي

ولد العزاوي عام 1939م في بغداد، ودرس الفنون والآثار فيها، ونشأ على حب التراث والفن الذي كان يراه أمامه متمثلاً في الحضارة الموغلة في القدم لأرض الرافدين وآثارها التي لم ينجح الغزاة الذين تعاقبوا على مدينة السلام في طمس معالمها.

تميّزت أعماله في عقد الستينيات من القرن الميلادي الماضي بالتمحور حول رسوم ومفردات المواضيع الشعبية وحياة الريف والصحراء والوحدات الزخرفية الإسلامية إضافة لاستلهام تعدد أشكال الحرف العربي بممارسة أساسها التجريد، كما اتجه إلى الألوان الزيتية وخاصة في فترة السبعينيات، حيث بدأ اهتمامه بالفراغ في لوحته ليؤكد على الكتلة ويحقق التوازن التشكيلي. أصبحت أعماله في تلك الفترة مهمومة بعمق، الأمر الذي يدل على حيويته وانتباهه للأفكار والتقنيات الأوروبية ثم إلى الأساليب المدروسة في الخارج. في الثمانينيات أخذت تظهر الأشكال والعناصر الهندسية في لوحاته، فجاء المثلث كعنصر زخرفي مبتهج أو إشارة سهم ولكن دون أن يكون خياره المفضل كما هو الحال مع المربع وحضوره كمبدأ أيقوني يقوم بأداء بضع وظائف تشكيلية، فهو الرابط للعناصر التي يرغب الفنان في توجيه وتركيز بصر المشاهد إليها. رسم العزاوي في هذه الفترة واحدة من أشهر لوحاته ' صبرا وشاتيلا' التي جاءت تعبيراً عفوياً عن الألم الذي أصابه جراء هذه المجزرة، وظل يأمل أن يتمكن من إهداء هذا العمل إلى متحف فلسطين يوماً ما.

من المهام التي اختارها العزاوي - المولع بالشعر العربي - أن يكون مفسراً تشكيلياً للنص الأدبي من دون أن يتخلى للحظة عن لغته التشكيلية وخياراته الفنية ومن دون أن يكون مجرد رسام أشكال توضيحية، حيث أنجز العديد من الدواوين والكتب لكبار الشعراء والروائيين العرب بأسلوب فني رفيع ومهارة قل نظيرها.

يعيش العزاوي منذ عدة عقود في منفاه الاختياري في لندن، ويعرض معظم أعماله في 'غاليري كلود' بباريس، وهو متفرع حالياً لإعادة تجديد أهم الكتب التراثية العربية ورسم صفحاتها بثوب فني جميل وراق.

القدس العربي
4 ديسمبر 2009


إقرأ أيضاً:-