يُعتبر إيف تانغي (1900 – 1955) اليوم من أبرز الفنانين المؤسسين السورياليين على رغم أنه أقل شهرة من سلفادور دالي وماكس إرنست. تؤكد مركزيته في هذا التيار عناية منظّر السوريالية الأول الشاعر أندريه بروتون، فهو قدم معرضه الأول عام 1927 في باريس تحت عنوان: «مشاهد من الشك»، ثم كرس له عام 1946 «مونوغرافية» حول سيرته الفنية، لم يخصص بها أحداً آخر في هذه الحركة. وجمعتهما صداقة نصف قرن. يظل تانغي المحتجب نسبياً بين رواد هذه الحركة، ليس فقط بسبب صعوبة أعماله، وما تحتويه من إحساس حاد بالغربة والاغتراب، بل قد يكون السبب أنه عصامي لم يتعلّم في أي معهد فني، لذا تبدو صياغاته غير خالية أحياناً من السذاجة التقنيّة، كذلك فقد توفي باكراً عن عمر الخامسة والخمسين بنزيف دماغي مفاجئ، أما السبب المخفي خلف احتجابه فهو أن تأثيره أصبح عميقاً بعد هجرته إلى الولايات المتحدة، ثم اكتسابه الجنسية الأميركية عام 1948. إذاً كان بعيداً من أضواء باريس، خصوصاً أنه أحرق كامل لوحاته عام 1930، لأنها لم تكن استقرت على أسلوبه الذي عرف به في ما بعد.
يقع خلف وهنه الثقافي شدة تأثره المباشر بالعقيدة السوريالية كما يفسرها أندريه بروتون، وذلك بتطبيق آلية التداعي البسيكولوجي المستعار من فرويد في تواتر الصور.
يقول بروتون إن تانغي اكتشف كوكباً جديداً للمشاهد الميتافيزيقية، تسكنه جمادات حلمية. وتانغي مع أنه ولد في باريس فهو من عائلة ساحلية من البروتان، تفتّح خياله على جنوحات أزرق الأوقيانوس من خلال زياراته لأقربائه، وترسخت هذه الذائقة المائية الرطبة والبخارية إثر تطوعه كبحار يمخر عباب المحيطات متعرفاً على سواحل أميركا اللاتينية وأفريقيا، جماداته التي تسكن الأرضية البحرية والآفاق الكونية متأثرة بالطواطم القطبية وبسواحل أريزونا والمكسيك.
ومهما يكن من أمر، فقد تأثر منذ بدايته بميتافيزقية الإيطالي شيريكو، ونقل تأثيره إلى «ماتا» في الولايات المتحدة، أما جيرانه هناك فكانوا: أرشيل غوركي وأندريه ماسون، ولا يخفى ما يجمع الثلاثة من حساسية في الأشكال العضوية الحلمية. وكان في باريس صديقاً مقرباً إلى كل من الشاعر جاك بريفير والفنان مارسيل دوشامب.
تفرق عوالم تانغي وفق وصف بروتون في «مشاهد شعرية مصائبية»، تُعلن نهاية الكوكب الأرضي وغروبه الأزلي، تسكن لوحاته بالتالي توجّسات لا تخلو من التشاؤم، هو ما أبعد المقتنين عن شراء لوحاته، حتى كاد يهجر المهنة بعد سنوات قاحطة من الفقر اضطرته للهجرة إلى الولايات المتحدة بتشجيع من ابن هنري ماتيس، الذي عرضه في صالته النيويوركية الخاصة.
يؤكد المعرض الفرنسي ما يستحق تانغي من عناية وتأمل، من خلال جمع 53 لوحة نادرة إضافة إلى 34 لوحة غواش، و38 رسماً. يستمر المعرض في متحف البوزار (كيمبر) حتى نهاية أيلول (سبتمبر) 2007. وسينتقل بعدها إلى برشلونة (متحف كاتالونيا) مستمراً حتى العام المقبل.
يعانق المعرض وثائق نادرة حول شخصية الرسام المثيرة، مع أنه كان يوصف بالخجول، ولعل أبرزها تحولات هذيانية على وجهه بسلوك إيمائي غرائبي يعكس الذوق السينمائي الصامت في وقته. لا شك في أن ممتلكات تانغي الإبداعية لا تماثل أي سوريالي آخر. ومعرض اليوم فرصة لإعادة تأمله، وتأمل تأثيراته في الفن الأميركي.
الحياة (آفاق)
21/08/07
إقرأ أيضاً: