سلوى النجار الزارعي
(المغرب)

تعبيرية الكلام وتعبيرية الألوان
(Krista Nassi- ايران)
"الخلق الفني والفضاءات التواصلية" عنوان الملتقى الذي جرى أخيرا في مدينة قابس التونسية بدعوة من "المعهد العالي للفنون والحرف" بالتعاون مع عدد من الجامعات والمؤسسات والجمعيات الثقافية. شارك في الملتقى مدير المعهد العالي للفنون والحرف في قابس محمد محسن الزارعي، مديرة المعهد العالي للفنون الجميلة في نابل حياة التليلي، رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين في تونس سامي بن عامر، الفنان التشكيلي والباحث التونسي محمد يعقوب، الشاعر العراقي والباحث في الفنون الإسلامية شاكر لعيبي، الفنان التشكيلي اللبناني سايد يمين، الباحثة الفرنسية والأستاذة في جامعة باريس الأولى سيلفي بيتمون، الباحث الفرنسي بيار دورويل، والفنان التشكيلي الفرنسي جان رون. ننشر في ما يأتي ورقة الباحثة التونسية سلوى النجار الزارعي حول "تعبيرية الكلام وتعبيرية الألوان".
 قد لا يسعني تحليل كل ما تدين به اللغة في تعبيريتها للفن، وما كان ذلك ليكون غايتي، لأن ما شدني الى هذه المسألة لعله انتباه متكلم كبر فيه حب اللغة وأثمر فانتبه الى وجود علاقة بين ما يقرأ من نصوص خلاقة وانجذاب للفن، الرسم خاصة بصفته عرس الألوان والأشكال والتعابير. فرأيت ان هذا الإنشداد إنما هو تعبير عن تفاعل مع مجموع دلالات او علامات تتيح تواصلنا مع محيطنا الخارجي من بشر وأشياء، وتتيح أيضا تواصلنا مع ذواتنا.

ان العالم المحيط يتكلم لغات متعددة، ومن الحكمة ان يتعلم الانسان معرفتها وفقهها، ومثل هذا الرأي لم يعد جديدا. وفي كل الأحوال فإن فهم الحياة يقتضي معرفة لغتها الغامضة، ويقتضي فهما عميقا يكتسب من طلب الحقيقة.
وفي ضوء البحث عن خصائص اللغات وفاعليتها في تحقيق التواصل، يمكن اعتبار الفن في مختلف شعابه مولدا خاضعا لنظام من اللغة مخصوص، يمد الانسانية بفائدة لا استغناء لها عنه ويتصل بجانب من جوانب المعرفة الانسانية، شديد تعقيده ومستمر غموضه مهما سعينا الى إجلائه.

فالإنسان بخلقه الآثار الفنية، يبث معلومات فنية مخصوصة، ويتقبلها بل ويخزنها، ومن هذا الباب يصح نعت الفن باللغة في وصفه وسيلة تصل باثاً بمتقبل لأن اللغة تضمر معنى التواصل داخل المجموعة البشرية.
لكنه أضحى من غير المقنع اليوم وصف الفن قياسا باللغة الطبيعية بأنه لغة، وإنما أصبحنا نرى ضرورة التوصل الى معرفة تلك اللغة وقواعدها ونظامها. فلقد أدركنا ان كل لغة تستعمل جملة من الأدلة تمثل معجمها الخاص حتى أننا نستعمل حقيقة او مجازاً لفظ "أبجدية" للحديث عن نسق تلك الأدلة. ولكل لغة قواعد مضبوطة لتوليفات تلك الأدلة وهو ما يجعل كل لغة بنية محددة لها هيكل وترتيب مخصوصان.
وقد يكون لرأي اللسانيّين بأن ليست اللغة الطبيعية من بين أكثر الأنظمة فاعلية وتماسكا فحسب لكنها أقوى نسق تواصل في المجموعة البشرية، قد يكون لهذا الرأي ما يبرره، فهي تمارس وبواسطة بنيتها تأثيرا قويا على العامل النفسي للأفراد وعلى جوانب عديدة من الحياة الاجتماعية. ويرون أيضا انها تعد بفعل إحكام بنيتها نموذجا لغيرها من الأنظمة الدلالية، ولكن ذلك لا يعني في الضرورة انها تعيد إنتاج كل جوانب تلك الأنظمة او انها الاثرى، او ان غيرها من الأنظمة يعوزه التماسك.

فهيمنة الكلام على غيره من الأنظمة الدلالية راجع الى كون الانسان كائنا مرجعيا Etre rہfہrentiel يحتاج الى ما يعرف ليدرك ما لا يعرف، فكان وعيه نتيجة ذلك لغويا في الأساس لأن الانسان مهيأ بالفطرة للكلام، وعدّت بقية الأنظمة مبنية على غراره. فكل مظاهر الأنماط المنسبكة في وعي الانسان، والفن من بينها، حدّت بأنها أنظمة نمطية ثانوية. وهكذا، وبموجب تلك العلاقة يمكن وصف الفن بأنه لغة ثانوية، وعدّ الأثر الفني نصا شبيها بالنص اللغوي مع انه لا يقل في قيمته العلامية او الدلالية في شيء عنه. ولكن ما يبدو أننا أهملناه هو ان الانسان مهيأ فطريا أيضا لحذق أنظمة دلالية اخرى غير اللغة، ونختار الرسم نموذجا، إذ ان الكلام ومنذ الأصل يشبه الرسم، ولا غرابة ان الطفل وفي الفترة التي يبدأ فيها تعلم الكلام يميل الى الرسم متى تمكن من إمساك القلم، بل ان الطفل في المجتمعات المتقدمة وفي سني عمره الأولى إن لم يرسم خشي عليه، ثم ان وقع اللون على الطفل في تلك السن ليس اقل من وقع الصوت.
ومن جهة اخرى قد لا نكون في حاجة الى التذكير بأن الجدل الذي قام حول علاقة اللفظ بالمعنى في الكلام، هو عينه تقريبا الجدل الذي قام حول علاقة الشكل باللون (جيلا بالاس) في الرسم.

الخطاب الشعري

يعد الخطاب الشعري Poہtique بنية شديدة التعقيد، فهو اشد تعقيدا من اللغة الطبيعية، ولذلك فالقول بأن المعلومة المضمّنة فيهما واحدة، سيفقد حتما الخطاب الشعري حقه في الوجود. فبنية الخطاب الفني تتيح، وإن كانت محبوكة من مادة لغوية، بثّ جملة من المعلومات لا يتاح بعثها بواسطة بنية ابتدائية او أصلية لغوية محضة، ولذلك فإن أي معلومة لا يمكن ان تبثّ خارج بنيتها المعطاة لها. وهكذا فإن نحن ترجمنا نصا شعريا مثلا الى الخطاب العادي المستعمل نكون قد أفقدناه بنيته، وحرمنا السامع جملة المعلومات التي كانت مضمّنة فيه لأن معانيه ودلالاته ليست مسبقة، وليست مضمنّة في بعض جمل النص، ولكن بنية ذلك النص الفنية كلها كانت لها مهدا، ونسيج جماليته أنتجته علاقات تلك البنية المتواشجة.

ان علاقة النص الفني ببنيته امتن مما قد يبدو مع أي نص عادي، فالفكرة في الفن تعد نموذجا دائما لأنها تعيد تركيب صورها من الحقيقة، ولذلك يصعب إدراكها خارج بنيتها. فليس الفن مثلما يرى مرلو بونتي "حدسا ولا هو محاكاة، وليس أيضا صنعا للأشياء وفق رغبات الفطرة او الذوق السليم. انه تعبير".
ولعله ينبغي تعويض ثنائية الشكل والمضمون بمفهوم الفكرة التي لا تتحقق الا في البنية المناسبة، ولا يمكن ان توجد خارج تلك البنية. وهذا الرأي في الواقع لا يمكن ان ندركه الا إذا قارنّا النص اللغوي بالأثر الفني عموما، فاختيارك بناء النص تلك البنية وتأليفك لغته ذلك التوليف ووفق ذلك الأسلوب هو شبيه للون معين تراه من موقع معين ولا يمكنك ان تصفه الا متصلا بذلك الموقع ووفق تلك الظروف.
 
موقع النص الفني بين بقية الأنظمة الدلالية
ان النص الفني، واعني به النص الشعري او الإنشائي في مفهوم فاليري، يتكلم كلاما مخصوصا يختلف عن اللغة الطبيعية، ولذلك يمكن عده في هذا الفهم نظاما ثانويا، قياسا على اللغة الثانوية. فالقول بأن للأدب لغته التي لا تتطابق مع اللغة الطبيعية تصديق بأن للأدب نظاما خاصا من الأدلة وقواعد خاصة تساعد في بث معلومات خاصة بدورها غير قابلة لأن تبث من غير ذلك  السبيل.

وعلى هذا الأساس نعتقد ان الدليل في النص الإنشائي يختلف عن الدليل في اللغة الطبيعية، ولعله يكون مرتبة وسطى بين ذلك الدليل والدليل في الفن عموما. فالأول ذو طابع خطي، في حين ان الثاني ايقونيّ، والأدلة الايقونية تتألف حسب مبدأ صلة الاستقلال بين العبارة والمحتوى. ان النص الفني ليس خاليا من النسقية، لكنها ليست نسقية خطية وإنما هي نسقية التراتب، تتصل الأدلة فيها اتصال دمية أم الأولاد، فتُضمّن الواحدة منها في الأخرى، وهذا بالضبط ما يشارك فيه دليل النص الشعري دليل النص الفني عموما، لأنك إن فهمت قول الشاعر مثلا: حملت لك من لساني حديقة سقاها/الحجى سقي الرياض السحائب.

على النحو الذي يُفهم به النص اللغوي العادي فإن ذلك الكلام سيكون هذيانا او على الأقل سيبدو خاليا من المنطق. إذ كيف تحمل الحديقة من اللسان، وكيف يسقي الحجى الرياض؟
وتُطرح هذه المسألة كلما تعلق الأمر بالمجاز او الكناية في اللغة. فالمتقبل في هذه الحالة لا يفهم قصد المتكلم من المعاني الأولى لكلامه وإنما من المعاني الثواني، لان هذا الجنس من الكلام لا تفهم فيه الأغراض "ولا تعرف من الألفاظ ولكن تكون المعاني الحاصلة من مجموع الكلام أدلة على الأغراض والمقاصد (الجرجاني).

ان الكلام يتحول من فعل جاف ميت يستعمل خلاله المتكلم اللغة او يستخدمها استخدام أداة جامدة، الى فعل تحرر وخلق، تحرر الكلمات من غياهب الفكر. يقال دائما ان الخلق عسير عسر المخاض، نعم، لان المخاض يشهدنا روحا تسفر عن روح وما ارهبه من مشهد. ان الكلمات تحفر فينا لتحوك لها مهربا، ويستجيب كل الجسم فعلها في رقصة داخلية تعبر عن فهم مباغت لمادة الفكر ذاتها. انها حالة الاستعداد للتعبير، للعطاء. ان هذا الوضع يبدو مألوفا لدى المغنين، فهم يدركون ان أكثر ما يهم عند الغناء هو الوضع السليم للقدمين على الأرض، وكأنهم يستمدون كل القوة منها. انه صراع مرير خارجي وداخلي مع لغة لا تبدو إطلاقا أداة وإنما هي مادة.

اعبّر باللغة يعني أني أعالج تلك المادة لأجد، تماما كالرسام ينشىء الخطوط ويخلط الأصباغ، فأنا أيضا احفر في الفكر وفي ما أرى، وكل غايتي ان أغوص في اللغة أكثر، ان ابحث في ظلها، وفي حركاتها الخفية وان اخرج كل الألوان، واكشف الحركات. ارغب في رؤية اللغة وكشف كيفية اشتغال الفكر، ولذلك أضاعفها وأكثفها لاتمكن من رؤيتها.
رؤية اللغة ذلك ما ننشده، أن نراها حقيقة في رقصاتها التعبيرية على خشبة مسرح، أن نحقق رؤية الكلام، أن نشبع أنظارنا به وأن نرى التفكير، فالفكر مثلما يقول مرلو بونتي: "يرى ويقرأ في النظرات وليس هو مع ذلك سوى مجموعات ملوّنة".

نريد أن نرى عن كثب كيف تموت الكلمات فينا وكيف يبعثنا الكلام. لم تعد اللغة وفق هذا التصور مجرد رباط يصلك بي ويصلنا بغيرنا ممن يستعملون لغتنا وتظل أنظارنا منشدة الى ذواتنا فننسى اللغة. إنّ اللغة تضحي أمامنا كأنها على مسرح يلزمنا نشاهدها فننجذب إليها انجذابا.

ليست اللغة سوى جوهر نيّر، إنها نور ينعكس في أعيننا ويغمر أعماقنا فيغرقنا وينجلي كلاما، ذلك ما قد يكون القديس اغوسطينوس عناه عندما قال: "الكلام يسمع لكن الفكر يرى". نحن نرى الفكر لأن كلامنا في واقع الأمر ألوان نشاهدها بعين بصيرتنا وتتجلى في مخيلاتنا صورا واضحة، ولا تكون الصور إلا قرينة الألوان، وهو ما أكده أفلاطون من "أن الصورة ومن بين كل الأشياء الموجودة، هي  الوحيدة التي ترافق اللون دائما" (أفلاطون). فالألوان  تتكلم، وتصرخ، وتقول، الألوان تغني وتبعث في نفوسنا الطمأنينة.

ورغم ذلك فنحن كثيرا ما نفصل الكلام عن اللون لكنهما في الحقيقة متكاملان، فما اللون؟ هو إحساس ينتاب العين من ذبذبة ضوئية، إنه "تقاطر متناسب للصور في العين" (أفلاطون). ولذلك كثيرا ما يلازم الصورة، ولعلّ أشهر من عبّر عن ذلك التلازم أرتور رامبو في قصيدته الشهيرة Voyelles:
A noir, E blanc, I rouge, O bleu, U vert.. هو إحساس قويّ بعلاقة اللون بالكلمة أو الحرف، وكلّ يعبّر عن الألوان بطريقته وبلغته.

يبحث المتكلم في الكلام عن حال نشأته، وحال عدم استقراره وحركته. الراقص يعبّر بجسده، بالتواءاته، بتصاعد أعضائه وتنازلها، كذا الفكر في حركته ينفي ويثبت،  فالكلام يلفظنا يقصينا ويستدعينا في آن واحد، وفي أعماقنا توجد علاقة غامضة بين فكرنا وكلامنا من جهة والألوان من جهة ثانية، لأنّ المشاهد في الفكر لا تُتصوّر بالأبيض والأسود وإنما نراها بالألوان. إن اللون يخلق في أفكاري ما يخلقه على لوحة الرسّام.

ملحق النهار
الأحد 9 شياط 2003