من خلال أربع مجموعات شعرية بالعربية، ومجموعة واحدة بالفرنسية منشورة بين الأعوام 1979و 1987 شكّلت الشاعرة عائشة أرناؤوط ملامح عالمها الشعري المتميز. فهي شاعرة حداثوية لا تحفل بالأنماط الشعرية القديمة، بل أنها لم تكترث حتى بالأشكال الشعرية السائدة التي تُنشر في الصحف والمجلات الأدبية المتخصصة. فبعض النقاد ذهبوا إلى القول بأن عائشة أرناؤوط انتقلت بالقصيدة العربية إلى مرحلة ما بعد الحداثة.
إن لغة إرناؤوط هي لغة مُرْبِكة ومقلقة حقاً، وهذا متأتٍ حسب ظني من أنها تتعامل مع المفردة الشعرية بحرية تامة، وثمة جرأة واضحة مع ثيمة النص الذي تكتبه. فقصائدها تقتحم المتلقي بعفويتها وبساطتها المقرونة بعمق شديد. للشاعرة سبع دواوين مخطوطة ترقد بسلام على أرفف مكتبتها نتمنى على إرناؤوط من الأعماق أن تبذل شيئاً من الجهد لإطلاق سراح هذه الدواوين المعتقلة دون ذنب يذكر، كما نتمنى عليها أن تدفع للنشر روايتها البكر حال الانتهاء من وضع اللمسات الأخيرة عليها كي نكّحل أعيننا بما تدبجه أنامل هذه الكائنة المرهفة التي تأبى أن تغادر مضارب طفولتها الجميلة.
مشاعر ضبابية
* لنعد إلى المراحل الأولى التي تفتقت فيها موهبتك الشعرية. كيف استقبلت هزة الشعر الأولى، وهل ساهم أناس آخرون في رعاية هذه الموهبة وإطلاق عنانها لتأخذ محلها في خريطة الشعر العربي؟
- كان للجو العائلي الذي عشته تأثير كبير على توجهي إلى الكتابة، ولأمي دور كبير في هذا المجال، فعلى الرغم من أنها إنسانة بسيطة على المستوى الثقافي، إلا أنها كانت على المستوى الحسي المرتبط بالوجود في كل مظاهره على درجة كبيرة من التقدم، فقد عاشت حياتها بكاملها شغوفة بالمعرفة تحت أي شكل كانت، مأخوذة بسحر اللغة. كانت مثلاً تشعر بالإهانة( إنسانياً ) عندما تجد في الطريق ورقة مكتوبة مرمية على الأرض، كانت تنحني وتلتقطها ثم تحرقها في المنزل، ولم يكن الموضوع بالنسبة لها مرتبطاً باللغة العربية باعتبارها لغة القرآن، فقد كانت الأوراق أحياناً بلغة أخرى، وعندما سألتها مرة، وكنت صغيرة، أذكر أنها قالت لي أن اللغة ما هي إلا المحرك الأساسي لتطور الإنسان الفكري والحضاري، لذلك علينا تكريم أي لغة كانت. من هنا وربما بشكل لا واعٍ بالنسبة لي في البداية، كان موضوع الكتابة لدي تتمازج فيه مشاعر ضبابية متجذرة، وحس هائل لا ملموس بارتباط صيرورتي كانسان وكوجود باللغة. كان دور أخي عبد كبيراً في تفتحي الثقافي الفكري، وعن طريقه استطعت أن أحبو في هذا المجال، لم يكن أخاً فقط وإنما كان صديقاً حميماً. عندما غرقتُ في حمى النشر وتحت هيمنة ما يمكن أن تسميه (بالرغبة في الشهرة) صارت كتابتي مفتعلة، وقد أدركت في وقت مبكر هذه القضية التي أرقتني، وبفضل أمي زال هذا الالتباس واستطعت أن أعود إلى ذاتي الحقيقية في هذا المجال بعدما أحرقت ما كتبت وكنت في الخامسة عشرة من عمري تقريباً. بعدها بقيت فترة لا أكتب لأنني أدركت فيها حسياً مسؤوليتي الذاتية في عملية الكتابة، مسؤولية جوانية حميمية تربطني بما أكتب نُشر أم لا. ثم بدأت وكانت المجموعة الأولى التي لم تنشر باسم ( القّراص البّري )، تلتها مباشرة عام 1965 مجموعة ( المهماز ) ثم ( فراشة على الكتف ) عام 1966، وكل هذه المجموعات لم تنشر، وربما كان زهدي في النشر نتيجة لتلك التجربة القديمة.
* هل غابت عنك تماماً مؤثرات الشعراء الآخرين؟ ألم تتلمسي تلك الأصوات البعيدة التي تشبثتِ بها قبل ثلاثين عاماً أو يزيد؟
- لم تغب تلك الأصوات البعيدة، فما أزال أذكر من قراءاتي الأولى مجلة شعر التي كان لها دور كبير في تفتحي وبعض الأعمال المترجمة. كنت أقرأ لنزار قباني وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأنسي الحاج وأدونيس، وهؤلاء لم يغيبوا عني حتى هذه اللحظة.
تمّوج الماء
* هل تفكرين في الشكل وأنت تكتبين النص الشعري، وهل في نيتك الكتابة بشكل آخر في السنوات القادمة؟
-عندما أبدأ في كتابة النص الشعري لا أفكر كثيراً في قضية الشكل، لأنني أحب أن أتحرر من كل شيء أثناء الكتابة، وأحب أن يكون التعبير لدي حراً من كل التصنيفات الذهنية التي يمكن أن تعيق صيرورة القصيدة التي تشبه تمّوج الماء. أنا لست ضد الأشكال الشعرية، فكل إنسان له طريقته الخاصة في التعبير عن ذاته. أما بالنسبة للشكل فلا أعرف إذا ما كنت سأغّير هذا الشكل أم لا؟ أعتقد أن الزمن هو الذي سيحدد ذلك.
الوصول إلى الأفق
* يعّول الكثير من الشعراء على اللغة الشعرية المرهفة، ولغتك ، كما لاحظت تتحرك في منطقة غامضة، ولكنها بالنتيجة منطقة مدهشة وجميلة، والذي يقرأ نص عائشة أرناؤوط يكتشف أنها تكتب بلغة مغايرة. كيف توّصلت إلى هذه اللغة؟
- الكلمات كائنات حية تتنفس وتعيش، ولهذا أترك لها الفضاء مفتوحاً. كتبت ذات مرة: تضع الكلمة بجانب أخرى / تزّوجها. . تتبناها. . تغّير معناها/ تدركها. . تهملها. . تعجنها/ تعريها. . تمجدها. . تستعبدها/ هل فكرت مرة واحدة أن تسمح لها بالاعتراض؟ وقبلها كنت قد كتبت ( للنزول من المفردات إلى الدلالات/ الكلمة تختار الصيرورة ) من مجموعة ( من الرماد إلى الرماد ). لا أكتب مباشرة عن أي شيء، أنا بحاجة إلى تمثل ( المعاش ) المشاهد والأحداث والأفكار والتجارب تخترقني، تتفاعل فيما بينها وتتلاحم مع مكوناتي الداخلية لتخرج محملة بشكل سري بكل ما كان فيّ خلال تلك الفترة، أنها كما قلت ذات مرة ( إعادة صياغة المحتمل ). سابقاً ومنذ وقت طويل كانت قصائدي طويلة، ربما كنت بحاجة للثرثرة، ثم بدأتْ شيئاً فشيئاً تتقلص على مهل حتى وصلت أحياناً إلى عدة كلمات فقط. لدي حلم واحد، هو أن أصل إلى قصيدة تشبه الصمت، ودون استخدام أي تقنية صنعية. يبقى ذلك حلماً أتقدم نحوه كمن يتقدم إلى الوصول إلى الأفق.في مقطع من قصيدة كتبتها لأمي بالفرنسية أقول بما معناه ( هكذا أدرك حدس حركتك/ الباحثة عن لغة/ في صمت الكلمات )، وأنهي قصيدة أخرى بما معناه (بحث دائم عن جنين اللغة/ لملء هذا الدوار/ في النفوذية الكاملة للصمت(.
* تنتقلين في القصيدة الواحدة من الحالة الشعرية إلى الحالة الذهنية، أو لنقل تمزجين بين المخيلة والمنطق. كيف يحدث هذا التساوق بين الذهول الشعري والصحو المنطقي أثناء كتابة النص الشعري؟
ربما كان هناك مزيج من المخيلة والحالة الشعرية، إلا أن هذا يتم عندي بشكل غير واعٍ أثناء الكتابة، وكأن الكلمات تنتقل وتختار بعضها البعض دون إرادتي.
برزخ التأمل
* كيف تداهمك لحظات الكتابة: هل تذهبين إلى القصيدة، أم أنها تأتي إليك؟
عندما أشاهد منظراً جميلاً، أو أقرأ كتاباً جيداً، أو أسقط في برزخ التأمل، أو أتماهى في سماع الموسيقى تتحفز روحي للكتابة. أنا لا أفضل أن أتناول الأشياء بشكل مباشر، بل أحب أن تتخللني الأشياء وتهيمن على حواسي كلها، وهناك تبدأ بالانصهار مع بعضها البعض، وبعد لحظات معينة أسقط في الذهول،وأتحرك من مكان إلى آخر كالضائعة في البيت، ولا أعرف ماذا أفعل كمن فقد الاتجاهات كلها، عند ذلك أعرف بأن الكتابة قد حضرت وعليّ استقبالها. أجلس إلى طاولتي، ولا أعرف ماذا سأكتب. أتناول قلمي الحبر، أشم رائحته، وأنظر إلى الصفحة البيضاء، ولا أعرف متى أبدأ بالكتابة، ربما بعد دقيقة، أو خمس دقائق، أو نصف ساعة، ثم أبدأ بالكتابة بشكل آلي تقريباً. أنا لا أكتب القصيدة على شاشة الكومبيوتر لأنني أحس أن الكلمات هي امتداد لوجودي وجسدي وأصابعي، وكأن الأشياء تنتقل من داخلي إلى الذراع والأصابع فالورق. وعندما أنتهي من كتابة النص أكتشف ما كنت محّملة به، وأشعر بمتعة خارقة. وفي كل مرة أكتب فيها أشعر بأني قد تقدمت خطوة نحو ذاتي. ثم أقوم بما يشبه عملية التّمثل اليخضوري للأشجار التي تحول الماء والأملاح والضوء إلى مادة غذائية تديم حياتها.
الولادة الصافية
* إلى أي حد يصل بك القلق أثناء مرحلة الإرهاصات التي تسبق كتابة القصيدة ؟ وهل تشعرين بنوع من التوازن الروحي بعد الانتهاء من كتابة النص الشعري ؟
كان القلق مرتبطاً بشكل عضوي بهاجس الكتابة لدي. أذكر أنني كتبت عام 1966-1967 مجموعة ( هذيانات شخصية جداً )، التي أحبها تحت سطوة قلق في الوجود وصل إلى حدودٍ تلامس الجنون تحت وطأة غربة داخلية تفترسني، كأن مروري بذلك ضرورياً لأنه دفعني إلى إيجاد مرتكزات أساسية استطاعت أن تسندني فيما بعد. مررت بعدة حالات شعرية(لا أحب كلمة مراحل) إلا أنه لم يكن لدي منعطفات مفاجئة وحاسمة في كتابتي. لم تكن هناك قطيعة جذرية بين ما كتبته سابقاً وما أكتبه الآن. خذ مثلاً ما كتبته عام 1966: (قال لي حلم قديم: خذي عظامك واذهبي/ ولادة ثانية تنتظرك/لم آخذ عظامي. . لم آخذ شيئاً/ تركت جلدي/ تركت العطر والخلايا ونكهة الهيولا/ أريد ولادة بلا جسد/ أريد ولادة جوهر). وفي مجموعة (من الرماد إلى الرماد) عام 1992 تجد: (منهوبة الروح والأفكار والخلايا/ أستأصل أخاديد البصمة/ أتاجر بموتي المقطّر/ وأشعل النار في الأدمة/ كي أولد من نقيضي ).قضية الولادة الصافية، الحرة، المختارة تؤرقني دائماً على ما يبدو، وهواجسي الأخرى متجانسة في البعد المحرك لكتابتي. مجموعة (الحريق) كتبتها عامي 1976-1977 ، ونُشرت عام 1981 كانت تحمل بعنف موقفي من الحرب اللبنانية، ورؤيتي للأحداث ضمن موشور الهم الجمعي، وكذلك مجموعة (الفراشة تكتشف النار) التي كتبتها ما بين عامي 1979-1982، في بداية مرحلة استقراري في باريس. إلا أنني شيئاً فشيئاً، ومع تقدم الزمن، بدأت بالعودة إلى الهاجس الضبابي الذي يسكنني ويخبرني أن الوقت قد حان لمحاولة تلمس انتمائي وعلاقة مساري كوجود في حركة الكون. أتساءل أحياناً: أين أنا من وضع العالم الحالي، من الحروب والمجاعات ومظاهر الاستعباد الحديث والمبرمج ؟ لقد وصل العالم إلى الحدود القصوى من الاستفزاز واللامعقولية، بشكل يدفعني إلى الخجل من انتمائي إليه، وأدرك ما وصلنا إليه نحن كأفراد من عجز شبه مطلق.
بوح مشترك
* لديك قدرة تنظيرية في الفن التشكيلي، كما لديك حس فني تسّرب إلى العديد من قصائدك في ديوان (من الرماد إلى الرماد)، هل لزوجك الفنان صخر فرزات دور في تجسيد هذا الحس التشكيلي وتعميقه في تجربتك الشعرية؟
إن صخر فرزات هو ليس زوجاً فحسب، بل هو صديق ورفيق. منذ صغري كان أخي عبد القادر يرافقني إلى المعارض التشكيلية، وكان لديه مكتبة فنية هامة، وكنت أتصفح كتبه التي كانت أغلبها أجنبية. وكنت أذهب إلى مرسمه كثيراً، وألتقي بأصدقائه من الأدباء والفنانين حيث تدور بيننا نقاشات كثيرة. وعندما تعرفت على صخر فرزات تعمق لدي هذا الموضوع لأن صخر كان فناناً تشكيلياً استطاع أن يعزز هذا الهاجس في داخلي، فأصبح بيننا نوعاً من البوح المشترك الذي أدى إلى صقل هذه المعرفة التشكيلية، وأنا مدينة له بهذا الفضل.
نجوم القلب
* ستخدمين الكثير من المفردات العلمية في نصوصك الشعرية، ولكنها تندغم ضمن السياقات العامة للنص الذي تكتبينه. هل لك أن تتحدثي لنا عن هذه المغامرة الأسلوبية؟ وهل تعتقدين أنها مأمونة العواقب؟
كنت، وما أزال، أستخدم في كتاباتي مفردات علمية بحتة، وربما كان ذلك نتيجة اهتمامي وشغفي بالعلوم، سواء بالرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء أو الجيولوجيا. شخصياً لا أرى أي حرج أو غرابة في استخدامها. أعتقد أن الشعر أو الكتابة ليس وطناً محصوراً بعدد من المواطنين/ الكلمات/ الكتابة فضاء مفتوح مؤهل لاحتواء اللغة بكاملها في أي إطار كان، لا حاجة للكلمات لجواز سفر. المسألة تبقى إمكانية تنفسها في هذا المناخ وتمفصلها كعضو فعال في مجتمعها. من الرياضيات مثلاً تجد: (أريد أن أجعل أحلامي تندس ككسور عشرية بين نجوم القلب ) أتلاحظ أن الرياضيات لدي مرتبطة بالقلب، ربما لأنني ولوعة بها. من الفيزياء لديك المقطع الذي قرأته في الندوة الشعرية عن المرآة المحدبة والمقعرة والمستوية والبعد الذي تحمله هذه المفاهيم في إدراك صورتنا! ثم (تبلورت كوشيعة تخترقها الأفكار والرغبات). من البيولوجيا والجيولوجيا لديك: (نرصد أبجديات الخلايا في مستحاثات الضوء/ نعبر الجسد ونلتقي عند رماد الكون). بالمناسبة لدي المفردات الاقتصادية أيضاً: متناسية تصدير ذاتي للأشياء/ أو استيراد ما يشع حقاً في الانعكاس السحري للحقائق/ على صفحة الماء الهالك) نعم، يا عزيزي، لا أجد أي حرج، لأنني لا أبحث عن الكلمات، وإنما هي التي تأتي لتتموضع في المكان الذي تختاره، فأنا شخصياً لست عنصرية!إلا أنني ومنذ فترة غير بعيدة ونتيجة إطلاعي على العلوم الفيزيائية الحديثة، وعلى الأخص الفيزياء الكوانتية، تجاوزت ربما مرحلة استخدام المفردات العلمية ضمن مدلولها الذاتي، صرت أكثر ميلاً إلى دمج المعرفة العلمية بالحالة الروحية، مثلاً مسألة الفراغ أو الخلاء في الفيزياء لا يوجد هناك فراغ مطلق(الفراغ المطلق تجريدي فكري)، وإنما هناك فراغ تتفاعل فيه قوى الطاقة. لقد تناولت سابقاً مفهوم الفراغ في كتابتي، وكان ذلك قبل تأكد نظرية الفراغ العلمية التي هي حديثة جداً. في عام 1983 كتبت: (لا شيء هنالك/ الفراغ المليء باحتمالات الكون/ يمر من موشور جسدي)كما لدي قصائد أخرى في هذا المجال. عند ابن عربي أيضاً لا وجود لعدم مطلق (وأقابل هذه العبارة ب (لاوجود لفراغ مطلق فيزيائياً) تناول ابن عربي المفهوم الذي سماه ب (العدم الإمكاني) أو (العدم في القِدم). العدم الإمكاني عند ابن عربي هو العدم المليء باحتمالات الكون، هو عدم الأعيان الثابتة، الممكنات في حال عدمها مهيأة لقبول الوجود، وهي معدومة بمعنى أنه مسلوب عنها الوجود الخارجي في زمان ومكان. ألا يوجد تناظر بينه وبين الفراغ الكوانتي المحشو بحقول الطاقة لجسيمات في حالة برزخية، أي أنها توجد وتنعدم في نفس اللحظة! أليس هذا مدهشاً أن نرى هذا التوافق بين الفكر الروحي والفكر العلمي؟ أطرح أسئلة دائمة على نفسي فيما يخص مفاهيم أخرى كثيرة كسرعة الضوء وإمكانية الظل في تجاوز سرعة الضوء مثلاً، لكنني لا أريد أن أسهب في هذه الموضوعات كثيراً وإلا تحّول حديثنا إلى حديث علمي!
* عندما تكتبين بالفرنسية هل تكتبين بروحية أخرى غير روحية الشاعرة العربية؟ وهل لك أن تتحدثي لنا عن ديوانك الأول ( مشروع قصيدة ) الذي ظهر منذ زمن مبكر؟ كيف أتقنت الفرنسية في هذه الفترة القياسية؟
الكتابة بالفرنسية لم تكن جدية تماماً بالنسبة لي، إلا أنني دُعيت مرة لإلقاء الشعر في باريس ضمن سهرة أقامتها مجلة كلارا في بدء الحرب ضد العراق، وكنت آنذاك قد باشرت العمل في قصيدة باللغة الفرنسية، ووجدت من المناسب إتمامها لإلقائها، إذ من العبث أن ألقي قصيدة باللغة العربية على جمهور فرنسي، كانت القصيدة بعنوان(صمتاً. . فنحن نُقتل) وهي قصيدة طويلة وعنيفة وحارة حملت الصرخة التي كانت تخنقني. بعدها تناوبت في الكتابة باللغتين دون أن أشعر بأي انفصام، وقصائدي بالفرنسية تحمل المناخ نفسه، لأنني أحمل الهواجس والتساؤلات نفسها بأي لغة كانت، ولم أهتم بظرف تحليل كتابتي باللغتين، أترك القصيدة تختار لغتها، إلا أنني عندما بدأت بروايتي الثانية بعنوان (الأفق العمودي) التي لم أنته من كتابتها بعد، كتبتها باللغة العربية متناولة بعض الأحداث التي مرت عليّ عندما كنت في سوريا، وبمجرد انتقالي في الرواية إلى الأحداث والتجارب التي مررت بها في فرنسا حتى وجدت نفسي أكتب بالفرنسية وبشكل لا إرادي، أدركت آنذاك أن اللغة مرتبطة عضوياً (بالمعاش). لم أنته من (الأفق العمودي) وسأباشر بإتمامها عند الانتهاء من روايتي الأولى التي لا اسم لها حتى الآن.
سبر الذات
* بعد هذه التجربة الشعرية الطويلة، لماذا انحرفت صوب الرواية؟
هل أن عالم الشعر لم يستوعب همومك الداخلية، أم أن الرواية عالم أوسع وأرحب وأشمل للتعبير؟
في الحقيقة أن الشعر يحمل التجربة، إلا أنه لا يحتمل التفصيل، فهو حالة تكثيفية شبه مجردة لها. لست روائية أصلاً، ولن يكون بإمكاني ادعاء ذلك، لأنني لا أعرف إن كانت روايتي تحمل مقومات الرواية المتعارف عليها. ليست لدي خبرة في الموضوع. المهم أنني انتهيت من الكتابة الأولى لها، والتي كانت محمومة إلى درجة كبيرة. أعتقد أن كتابتي لها متأتية من حاجتي إلى التطهر من آلام عريقة حملتها، من لحظات أفراح زائلة، حاجتي أيضاً إلى إعادة الاعتبار إلى من أهملتهم حياتياً، وما أدركت إهمالي لهم إلا بعد أن فقدتهم. أنها شبه سيرة ذاتية فيها الكثير من التحوير. وكانت كتابتي لها ضرورية لإعادة سبر ذاتي
الحوار المتمدن
2004 / 9 / 8