(في الذكرى الثامنة والستين لميلاده)

الكرملمع صدور العدد 90 يكون قوس الكرمل، كما جاء في الافتتاحية، قد اكتمل، وتكون إحدى أبرز الدوريات الأدبية في العالم العربي قد وصلت إلى نهاية الشوط، بعد ستة أشهر على رحيل مؤسسها، ورئيس تحريرها، الشاعر محمود درويش.

ظهر العدد الأوّل من المجلة في شتاء العام 1981 في بيروت، واستمرت في الصدور حتى العدد الأخير، بالرغم من فترة انقطاع أولى أعقبت الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، حيث صدرت من العاصمة القبرصية نيقوسيا، وفترة انقطاع ثانية في أوائل التسعينيات، صدرت بعدها من رام الله، في الضفة الغربية، في العام 1996.

وقد تعاقب على تحرير الكرمل، إلى جانب الشاعر محمود درويش، كل من الياس خوري، وسليم بركات، وزكريا محمد، وحسن خضر، الذي تولى تحرير العدد الأخير. وكانت منذ ظهورها مرآة للثقافة العربية، وجسرا للتواصل مع الثقافة العالمية من خلال ترجمات ومتابعة لأبرز الأصوات الأدبية والفكرية في العالم.

جاء العدد الأخير كتحية إلى محمود درويش في الذكرى الثامنة والستين لميلاده، على أمل أن يتحوّل يوم الثالث عشر من آذار من كل عام إلى مناسبة سنوية لإحياء ذكرى الشاعر، والاحتفاء بميراثه. وفي هذا السياق صدرت الكرمل في رام الله وعمّان وتم توقيت صدورها مع ظهور الديوان الأخير لمحمود درويش بعنوان "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" عن دار رياض الرّيس للنشر في بيروت.

ضم العدد 90 قصيدة لمحمود درويش، لم تُنشر من قبل، بعنوان "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"، إلى جانب مقالة لالياس خوري سرد فيها كيفية العثور على القصائد الأخيرة لمحمود درويش، بعد رحيله، والضوابط التي حكمت تحقيق القصائد، وعنونتها، وترتيبها ضمن الديوان الجديد الصادر عن دار الرّيس.
كما ضم ثلاث دراسات لكل من صبحي حديدي وفيصل درّاج وكاظم جهاد، تناولت جوانب مختلفة في عالمه الشعري، ومقالات لستيفن هيث، وانجيليكا نويفيرت، وأمجد ناصر، وقاسم حداد، إلى جانب شهادات لأكرم هنية، وليانة بدر، ومحمود شقير، وحسن خضر، علاوة على مساهمات شعرية لشيركو بيكه س بعنوان "مات قمر وندبته أشعار الدنيا" وسعدي يوسف بعنوان "اختلاجات في حضرة محمود درويش".

ومما جاء في افتتاحية العدد الأخير: " الكرمل ابنة محمود درويش، وقد اكتسبت الكثير من ملامحه، فهي رفيعة ومترفعة، بقدر ما ينبغي للثقافة الحقيقية أن تكون، لكنها ولدت في "الميدان"، في بيروت أوائل الثمانينيات، التي كانت رغم جراح الحرب الأهلية، وما زالت، عاصمة من عواصم التنوير والحرية في العالم العربي.

ولدت الكرمل في بيروت، وعينها على فلسطين، وبما أن فلسطين محمود درويش، ليست جغرافيا وحسب، بل اسم من أسماء الحرية، ومجاز جديد في القرن العشرين، لنشيد هوميري خالد وقديم، أصبحت فلسطين أكبر، فاتسعت مساحتها الفكرية والإبداعية لتصبح بحجم العالم العربي، وانفتحت على عالم أوسع وأرحب، اسمه الإنسان أينما كان، بصرف النظر عن اللون، والعرق، واللغة".

كما ضم العدد 90 افتتاحية العدد الأوّل في شتاء 1981، التي كتبها محمود درويش بعنوان "نلم فتات الضوء"، وهي تبدو راهنة في الوقت الحاضر، وأشد صلة بالواقع مما كان عليه الحال زمن نشرها للمرة الأولى قبل ثمانية وعشرين عاما، وقد جاء فيها:

"في هذا الانفجار المفتوح على الاحتمالات، الانفجار الذي يهز المجتمعات العربية يرتفع السؤال عن ثقافة الأزمة. الأزمة أيضاً، تصوغ ثقافتها. وثقافة الأزمة هي محصلة تاريخية لمعاناة مرحلة كاملة، مرحلة تختلط فيها الحروب بالحروب الأهلية، والحداثة بالاغتراب والأصالة بالسلفية. ويتم الانفصال فيها بين المسيطر والمسيطر عليه.

ولأنها كذلك، فهي مرحلة تختلط فيها النهايات بالبدايات. في ثقافة الأزمة، خيارات ورؤى متشابكة بعضها يعلن الهرب من مواجهة الحاضر عبر اللجوء إلى صياغات الماضي، يعلن اللاعقلانية ويرتهن للغيب، يغرقنا في جنون طوائف الملوك وحروب ملوك الطوائف ويدور في الفراغ.

وفيها، نعلن أن الأشياء يجب أن تمضي إلى نهاياتها وأن على المنهار أن ينهار، وأن الاندفاع إلى إعلان موت الثقافة المسيطرة والعاجزة عن الاحتفاظ بسيطرتها هو الطريق الوحيد لتحديد الأزمة والقدرة على القول أنها ليست أزمتنا، وهي المحاولة الخلاقة للإمساك بطرف الأفق.

خيارنا الوحيد هو الانتماء إلى الإبداع في الثورة والثورة في الإبداع.

هو أن نحاول لملمة فتات الضوء المختلط بالوحل داخل مرآة تكون إطارا للحرية وأفقا لا تحده المسبقات الجاهزة.

الانتماء إلى الإبداع والثورة هو المغامرة، لأنه انتماء إلى غد يتأسس، وفي المغامرة تكتشف أن أرض خياراتنا لا تكون إلا أرض حرية.

والثقافة الجديدة هي إعادة اكتشاف الواقع العربي وكشفه والإسهام في تغييره. اكتشاف الواقع لا يعني أن نعكسه، فالمرآة التي نختار نطمح أن لا تكون آلة انعكاس محايدة بل أرضاً لحوار الاحتمالات الجديدة، وعلى هذه الأرض يكون المثقف المبدع كاتباً منشئاً، كاتباً يحطم صورة النص المستعاد داخل هرم القمع، حيث تعاد صياغة اللغة المسيطرة أو لغة المسيطرين على اللحظة العابرة في لهجة الاجترار. بل يكون مساهمتها في إنشاء الجديد. والجديد هو الأصوات التي تتعدد وتتجاوز في حوار ديمقراطي حر.

والثقافة هي صراع وأرض صراع.
إنها صراع، لأنها تكتب لغة الصراعات والتناقضات، ولأنها لا تستطيع أن تكتب نفسها إلا داخل الصراعات والتناقضات اليومية.

وهي أرض صراع، لأنها لا تستطيع إلا أن تنحاز إلى نفسها وإلى الذين يشكلون مصدرها، وبهم يتشكل مستقبلها. وهي لذلك نص مفتوح. جاهز لم يجهز بعد. بداية تبدأ دائماً. ولذلك أيضاً فهي أرض لصراعها مع نفسها.

والثقافة هي حرية وفعل حرية. لا تنمو إلا في الحرية ولا تتأكد إلا حين تقاتل من أجل الحرية. والفعل كان البداية، وهو البداية التي نصنعها دائماً أو نسقط ونموت. وفعل الحرية يعني إعلان القطيعة النهائية مع تلك العلاقة الملتبسة بين ثقافة السلطة وسلطة الثقافة. كأن المعارضة لا تنهض إلا على أرض السلطة، ولا تخاطب إلا الرقيب الذي يجلس في مواجهتها أو في داخلها!

والقطيعة هي اختيار أرض جديدة. إعلان الانفصال النهائي والرفض المطلق لهذا الالتباس المريب، والانتماء إلى الفعل. صياغة معادل متشابك مع آلام وأحلام الذين تصنع لغتهم لغة الجديد الذي يولد. وتساهم من خلالها في إبداع رؤية مفتوحة لا يحدها الخوف ولا يؤطرها الوهم هنا تدخل الكتابة مغامرتها مع نفسها. تسقط كل الأوهام التي علقت بها، وتبدأ مغامرتها مع أرضها الخاصة التي تؤسسها مع بناء ثقافة المعارضة الجذرية.

والثقافة هي تجربة تجريب دائم. إنها ثقافة تجريبية – طليعية، أو لا تكون. ففي زمن هذا الانهيار الجارف، لا يكون الفعل إلا بحثا، ولا يكون الإبداع إلا تجريباً وتجربة. والتجريب لا يتأسس في فراغ، إنه يتأسس في التجربة الملموسة نفسها وكجزء منها. فحين تتدحرج المرحلة، لا يستطيع أي فعل أن يتكون إلا بالعلاقة مع التجربة الملموسة، ولا تستطيع أية نظرية أن تتأسس إلا كتلخيص للتجربة التاريخية.

فالإبداع الحقيقي هو الذي يبدأ من هذا الآن، ويرسم من الحاضر بكل تناقضاته أفق المستقبل، ويؤسس لنضج ثقافي آن لنا أن نصل إليه، وآن لنا أن نسعى إلى إعلانه، باعتبار أنه هو هذا الضوء في فتات وحل زمننا الذي نعيش.
والثقافة هي رؤية نقدية، هي نقد جذري وبأدوات جذرية صنعتها تجربتنا التاريخية وتجارب الشعوب الأخرى، نقد للثقافة المسيطرة ولنقدها المسيطر. نقد لحياتنا ولتعبيراتها المتعددة. نقد السلطة.

والنقد يبحث عن الإنسان الذي يصنع تاريخه حين يستطيع أن ينقد هذا التاريخ والنقد بحث عن أنفسنا وكتاباتنا وآفاق المحتمل الذي نسعى إلى بلوغه.

والنقد لا يكون إلا داخل الرؤيا، داخل أن يكون الكاتب رائياً فيرى، وشاهداً فيشهد. والرائي – الشاهد لا يعبر عن الذي يراه، بل يكونه، لا يعكس المرحلة، بل يساهم في تغييرها وصياغة مستقبلها، لا يكون محايداً، لأن المحايد هو الوجه الآخر البارد لسلطة القمع.

مجلة جديدة، نعم.
جديدة لأنها لا تنطلق من الفراغ، بل من تراكم التجارب الإبداعية العربية.
جديدة، نعم.

لأنها تسعى إلى الجديد، وجديدها ليس جديدها، بل هو جديد الثقافة العربية، جديد هذا الصوت الذي لم يختنق، وهذا الوعي القادر على أن يلملم شتاته وينهض، ويؤسس لإطار صغير، قد يكون حاجة، وقد يكون إعلاناً عن الحاجة إلى الصراخ المدوي.

لذلك، يكون جديدها، هو قدرتها، على أن تكون أرضاً للحوار والتعدد. أرضاً للثقافة وعلاقة كتابة الثورة بثورة الكتابة التي تبدأ من جديد.
وهذا الصوت ليس جبلاً.

الكرمل جبل يقع في فلسطين. وهذه "الكرمل" ليست إلا اسماً والاسم لا يدل على الشيء إذا لم يكن فعلاً باتجاهه.
والاسم لا يدل إلا على رغبتنا في أن نساهم في تأسيس فلسطين الرؤيا، هذه الرؤيا المدهشة التي تتشكل من مزيج الدم والتوقعات والخيبة، من هذا الأمل الفذ الذي يولد من جديد.

مجلة جديدة، نعم.
رسالة جديدة، نعم ولا.

هذا الانهيار الشامل ليس انهيارنا، ليس انهيار الإبداع والأمل، ولا هو انهيار فلسطين الصراع والمعنى والمستقبل.

الانهيارات علنية، والبديل يتشكل من الأزمة والمجهول الذي يكور قبضاته ويتقدم لافتتاح مرحلته وامتلاكها حول اسم فلسطين التي تتفجر إشارات وكلمة سر لم تعد سرية …
هذا الصوت ليس جبلاً،

ولكن يطمح إلى أن ينحت طريقاً في حجر الطريق إلى الجبل".