بيروت ـ القدس العربي ـ من ناظم السيد: من المؤكد أنَّ الإنترنت سيترك آثاره علي اللغات في العالم كما تركت المطبعة أثرها في تعميم القراءة وتحولاتها من أمر منوط بالأرستقراطية إلي فعل متاح أمام جميع الطبقات. لكن التسليم بتعميم القراءة بسبب مطبعة غوتنبرغ يعني التسليم بتحولات الكتابة أيضاً. موليير علي سبيل المثال الذي جعل أبطال مسرحياته من الطبقة البرجوازية بعدما كان المسرح في أوروبا مسألة تعني النبلاء فقط. تسليم آخر سوف يترك آثاره الكثيرة ليس في اللغة والقراءة والكتابة فحسب، وإنما في المعرفة ككل: الثورة الصناعية.
ثلاثة روائيين عالميين استخدموا الآلة الكاتبة أثناء التأليف علي حدِّ علمي: ارنست همنغواي، جورج أورويل، بول أوستر. الأول امتاز بجمله القصيرة والبعيدة عن التنميق. هل للآلة الكاتبة علاقة بطول الجمل وقصرها؟ أغلب الظن نعم. ربما كانت هذه الآلة تساهم في تقطيع الجمل من غير إغفال الثقافة الأمريكية التي خرج منها الروائي الشهير. هذا أيضاً ما يفعله الإنترنت. إنه يقيم علاقة جديدة بين اللغة وشكلها، بين اللغة وقواعدها النحوية، بين اللغة وتركيباتها الداخلية، بين اللغة ووظيفتها. في هذا المقال الذي لا يطمح إلي أن يكون دراسة انطباعاتٌ عن اللغة والإنترنت.
ثمة زمن جديد للغة يمكن تسميته بزمن الإنترنت اللغوي علي سبيل الاقتراح. ينشأ هذا الزمن في غياب حواس عدة تساهم عادة في صوغ أي لغة كالصوت علي سبيل المثال. إن غياب السمع في لغة الإنترنت يدفع باللغة إلي تشكيلات بصرية وسمعية مكثفة. هنا سأعطي أمثلة عن هذه التكثيفات التي تتشكل في الغياب شبه الكلي للسمع والحضور شبه الطاغي للنظر، مع ربط هذه التشكلات بالزمن من جهة وببنية اللغة ونحوها ووظيفتها من جهة أخري. لنأخذ هذه الكلمات الإنكليزية الكاملة مع طريقة كتابتها الرائجة في غرف المحادثة علي الإنترنتThanks تصبحTKS ، Cause تصبحcoz ، Before تصبحb4 ، See you تصبحc.u ، To تصبح 2، At تصبح @ وغيرها من الكلمات العديدة. في البداية نحن أمام تشكلات بصرية جديدة للكلمات إلي كونها صياغات إملائية مختلفة تتداخل فيها الأحرف الأبجدية مع الأرقام والإشارات، أي نحن أمام مزيج جديد من اللغتين الأبجدية والهيروغليفية. هذه التشكلات يفترضها عالم الإنترنت الذي يغيّب السمع، أي الصوت، ويستبدله باستبداد بصري للكلمات. ببساطة، إن من يحادث شخصاً آخر في الإنترنت فإنما يحادثه عبر لغة مكتوبة لا شفهية. لهذا تأخذ الكلمات أبعاداً بصرية. لكنَّ غياب الأذن هنا يتم تعويضه بالإملاء الجديد، أي بكتابة الكلمات صوتياً. إننا نكتب كما نسمع وليس كما تمليه علينا شروط الإملاء وقواعد النحو. بمعني آخر، نحن نوكل مهمة اللسان والأذن لليدين (علي لوحة المفاتيح) والعين. لكنَّ الشكل البصري للغة لا يقتصر علي اللعب بالأحرف. إنه يتعداه إلي أشكال أخري كتلك الوجوه الصفراء الكرتونية التي يتم إرفاقها ببعض الجمل، وهي شائعة في لغة الإنترنت (وجوه ضاحكة أو عابسة أو محبة أو غامزة أو ساخرة...). هذه الوجوه باتت أشبه بعبارات كاملة مختصرة إلي شكل متعارف عليه. مثلاً، الوجه الضاحك يعني أنا سعيد، والوجه المبتسم يعني أنا راضٍ، والوجه العابس يعني أنا غاضب إلي آخر معاني هذه الوجوه التي لا يمكن ترجمتها حرفياً مثلما لا يمكن الركون إلي القاموس في ترجمة معاني الكلمات بشكل واحد ومطلق وحرفي. هذه الوجوه تماماً ككلمات القاموس التي ما إن تخرج منه حتي تقوم برحلة يتقلب فيها المعني ويتعدد ويأخذ مجازات واستعارات وتوريات وانحرافات عدة في هذه الرحلة التاريخية والاجتماعية، أي ان للكلمات مسارين: مساراً تاريخياً ومساراً زمنياً. المسار الأول ماضوي والمسار الأخير راهن. ويمكن إضافة المسار الشخصي الخاص لاستخدام الكلمات. هذه الوجوه- إذاً- لها معانٍ مشتركة. إنها ليست اختزالاً للكلمات فحسب بل هي جمل كاملة ربما تغدو مع الوقت طريقة من طرق التعبير في الكتابة. باجتهاد آخر، حلّت هذه الوجوه/ الإشارات محل الدال والمدلول الذي تعب عليه سوسير طوال عمره. بإشارة واحدة نجمع الدال والمدلول من دون تصريح ولا تشريح ولا إخفاء ولا حذف ولا إبدال ولا إعلال.
ثمة سبب (أسباب بالأحري) لهذه التشكلات الإملائية والنحوية. إن من يستخدم الإنترنت للمحادثة يكون مرهوناً دائماً بالزمن. بطريقة أخري، فإن إبدال الشفاهة بالكتابة يعني إبطاءً في تبادل العبارات. الكلام الشفهي المباشر من اللسان إلي الأذن أسرع عادة من الكلام المكتوب من اليد إلي العين. ولأن اللغة ماكرة تحتال علي الزمن. إنها تختصره. كيف؟ تختصره حين تعمد إلي اختزال أحرفها. أي حين تعدّل في بنيتها الداخلية. هذا الاختزال في الأحرف والزمن هو في الحقيقة عملية متداخلة (نحوية وتعبيرية وتاريخية وفيزيولوجية...) يلعب فيها الدماغ دوراً فاعلاً إذا استشهدنا بكتاب في نشأة اللغة لمايكل كورباليس الذي يحاول إثبات نظرية نشوء اللغة من الإشارات لا من الصوت. لكنَّ لاختزال الكلمات والتعابير وجهة أخري يفرد لها فلوريان كولماس مساحة واسعة من كتابه المشوّق اللغة والاقتصاد . هذه الوجهة يسمّيها المؤلف اقتصاد اللغة . فاللغة تميل إلي الاختزال بسبب توفير جهد عصبي وبسبب توفير جهد تعبيري أيضاً واقتصادي في المحصّلة. إن الزمن المحدود والمشدود والضيّق أمام المتحادثين في غرف المحادثة علي الإنترنت يدفعهم إلي ارتكاب تشوّهات إملائية ونحوية تختصر في الزمن لكنها تؤدي المعني. هذه التشوّهات لا يقوم بها فرد بمفرده. إنها حصيلة الجماعة. اقتراحات الفرد في اللغة مهما علا شأنها تظل هامشية ومجتزأة وغير ذات قيمة. إن الخطأ إحساس الجماعة باللغة أو تتكفله عادة الجماعة في إحالة علي كتاب عنف اللغة لجان جاك لوسركل، أو بتعبير أنغلز: اللغة تتكلمني بدل العبارة التقليدية الواهمة: أنا أتكلم اللغة.
ويمكن إضافة مسألة أخري إلي مسألة التلاعب الإملائي والنحوي، وهي غياب الضمائر أو الأفعال المساعدة أشباه الجمل. ثمة تفكيك للمقولة القديمة: الجملة المفيدة التي كانت تعني الجملة التامة الصحيحة من حيث التركيب النحوي. ما هو مهم اليوم هو الإفهام بعيداً عن صحة البناء. هكذا تغدو لغة الإنترنت تحت وطأة زمن المحادثة خاضعة لاختزالات في عدد أحرف الكلمات، أي في بنية الكلمات، مثلما هي خاضعة لاختزالات في التعبير. وعليه، يحتل التعبير مكانة أعلي من الإملاء والنحو. إن الوظيفة الأساسية للغة هي التواصل. أما لغة الأدب فهي استخدامات مترفة وقصوي يتم من خلالها اختبار الكلمات وتحميلها طاقة إضافية تبدو نافلة علي الأصل: إيصال المعني بأقل كلفة.
لم أكن راغباً في هذا المقال في التطرق إلي اللغة العربية في الإنترنت. لكن من باب تلافي هذا النقص، لا بدَّ من الإشارة إلي دعوات الشاعر اللبناني سعيد عقل إلي هجر اللغة العربية إلي لغة فينيقية تُكتب بالحرف اللاتيني. بالطبع تراجع عقل عن دعوته طالما أنه ظلَّ يكتب الحرف العربي إلي يومنا هذا، هو المعروف بسعة اطلاعه في اللغة العربية وخبرته فيها شعراً ونثراً. لكن ما لم يخطر في بال عقل أن يجيء زمن يحقق فيه الإنترنت ما عجز عنه آخر الشعراء الكلاسيكيين الكبار (وهذا وصف غير دقيق لتجديدات عقل في الشعر العربي سواء بتراكيبه الشعرية أم باستلهامه الرمزية). لقد باتت اللغة العربية تُكتب بحرف لاتيني علي نطاق واسع لدي مستخدمي الإنترنت ورسائل الـS.M.S (تمَّ تلافي الاختلافات الصوتية لبعض الأحرف مثل أ التي تصبح 2، ع التي تصبح 3 وح التي تصبح 7). وربما كان الأمر ضرباً لقدسية القرآن بضرب قدسية اللغة العربية. لكن هذا شأنا آخر مثلما تخصيص الكلام علي اللغة العربية والحرف اللاتيني شأن آخر أيضاً.
من زاوية نظر أخري، يبدو إيلاء التعبير أو إيصال المعني في لغة الإنترنت نتيجة لطبيعة مستخدمي غرف المحادثة ومستوياتهم العلمية. إن ظهور لوحة المفاتيح (في الكمبيوتر) إلي هذا العالم جعلت البشر جميعاً كتّاباً. لقد مضي الزمن الذي لا تكون فيه الكلمات مطبوعة إلا لأهل الاختصاص، أي للكتّاب ومن شابههم. كل من يملك كمبيوتر اليوم يستطيع أن يهب كلماته صفة الكتابة، وإن بالمعني الخارجي أو التقني للوصف. ولأن هؤلاء المستخدمين غير معنيين بمصير اللغة ولا بتصديق علمائها ونحاتها علي صحتها، فإنهم يكتفون من الكلمات بالمعني ومن التركيب بالفهم ومن العبارات بالرضا. وهؤلاء، بتقليص الكلمات إلي كلمات أصغر (من حيث عدد الأحرف) وبتخريب التركيب عبر التخلص من زوائده وذيوله (الحشو) وبتحويل الإشارات الأبجدية إلي إشارات هيروأبجدية (مصطلح آخر في سبيل الاقتراح، يمزج كما سبق بين الهيروغليفية والأبجدية)، هؤلاء إنما يعيدون اللغة إلي طفولتها. إنهم يردّون اللغة إلي ما قبل التقعيد (من قواعد) من جهة وإلي لغة الأطفال من جهة أخري. باختصار، ربما كان الخطأ اللغوي حدساً بالمستقبل، إذ انَّ صحيح اللغة اليوم هو نفسه غلط الماضي.
القدس العربي- 06/04/2007
إقرأ أيضاً:-