ناظم السيد
(لبنان)

ناظم السيدأحسب أن الكتابة أيام كانت حفراً بالإزميل وسواه من الأدوات الحادة، كانت حكراً على قلة من الناس. كانت مهنة تقارب السحر لا يقربها ولا يجيدها إلا نخبة موهوبون. هذه الكتابة نفسها قيّد لها أن تفلت من بين أيدي السحرة الأوائل إلى عدد أكبر نسبياً مع اختراعين أساسيين في ذلك الزمن: الريشة وورق البردى. لكنَّ الكتابة، وهي كناية عن المعرفة، لم يُقدّر لها أن تؤمّم إلا مع اختراع الألماني غوتنبرع لآلة سوف تساهم في إيصال الكلمة المكتوبة بسرعة أكبر وأيسر: المطبعة. منذ ذلك الوقت، كفت الكتابة عن أن تكون ملكاً لطبقة معينة دون أخرى. لقد باتت اختصاص كثيرين. باتت مشاعاً أو على طريق المشاعية القادمة.

الآن ثورة أخرى أخرجت الكتابة من طبقة الاختصاصيين. إنها ثورة التكنولوجيا. اختراع الكمبيوتر، متبوعاً بالأنترنت، جعل الكتابة في متناول الجميع. وعليه، غدت الكلمة المطبوعة أقلَّ وقاراً ودهشة وحقيقة. في السابق كانت الكلمة المطبوعة آسرة بندرتها واقتصارها على أهل الخبرة والدربة والاختصاص. الآن أصبح في مقدرة أي شخص أن يطبع كلمات ويرسلها إلى النشر بطرق مختلفة. مواقع الأنترنت، ولا سيما المدونات، ساهمت بشكل فاعل في تعميم الكلمة المطبوعة التي هي شكل الكتابة وليس مضمونها. الكلمة المطبوعة الآن شكل وهيكل وخارج. وليس في وسع أحد أن يوقف خروج هذا الشكل من يد أصحابه إلى أيدي العامة. يمكن لأي كائن بشري الآن أن يرسل كلماته إلى الضوء. أحسب أن العشّاق ما عادوا يكتبون رسائلهم بخط اليد، بل عبر الكمبيوتر أو التلفون، قبل أن يرسلوها بهذه الوسائل التقنية المتطورة. لقد انتقلت الكتابة من زمن الحبر الاحتكاري إلى زمن التكنولوجيا الأثيري.

تحوّل الكتابة إلى غير أهلها عبر وسائط ميسّرة، أفسح في المجال لخفة بالغة. لا ندم ولا حسرة ولا موقف في ذلك. مجرّد وصف لخفة انتقلت بدورها إلى الكتاب نفسه. كثيرون اليوم يطبعون الكتب بلا رأفة وبلا وجل. كتب هي مجرّد كلمات مطبوعة كما كلمات الرسائل البريدية الإلكترونية ورسائل الهواتف المحمولة.
لا ندم ولا حسرة ولا موقف. خفة فقط. وليس لنا إلا أن نتعامل مع هذه الخفة كما نتعاطى مع صناديق الاقتراع في بلاد يبدو بؤس شعبها أسوأ من بؤس سياسيّيها. لقد أفرزت ديمقراطية التكنولوجيا مجرّد كتابة مطبوعة كما أفرز التقدّم الصناعي تلوثاً بيئياً. لن تتوقف الصناعة تماماً مثلما لن تتوقف التكنولوجيا. أليست التلفزيونات بدورها منابر شعبوية يغدو فيها المشاهد فقيهاً سياسياً؟ القصة نفسها. قصة الإفرازات التي ينبغي لنا أن نصبر عليها للعبور من مرحلة إلى أخرى.

لا ندم ولا حسرة ولا موقف. ودليلي إلى ذلك رجلي اليمنى التي أضعها الآن على رجلي اليسرى، جالساً في مقهى بيروتي، ناظراً ببساطة إلى متجر لبيع دمى الأطفال، يُدعى: Wild Willy.

القدس العربي
06/10/2008