اعتداد المرء بلغته دلالة قوة وثقة في الذات وفي اللغة التي تعبر عن الفكر المحمول بين جنباتها، ولجوؤه إلى لغة أخرى غير لغته بعيداً عن أغراض التعلم والتواصل الإنساني له دلالات أخرى، تستدعي التوقف أمامها ومحاولة استبطان الأسباب الكامنة خلف هذا اللجوء اللغوي الذي ينطوي على لجوء فكري وثقافي، يقوم الكاتب خلاله بالتعبير عن فكره بلغة لم يُصَغ أساساً بها، ما يثير في النفس شكوكاً حول إمكانية تمثيلها له بدقة تتفوق، أو على الأقل توازي، تلك التي ستقدمها اللغةُ الأم.
يتولّد هذا الكلام في النفس عند تصفح المواقع الإلكترونية والإبحار فيها؛ ففي عصر الإنترنت، ومع انتشار المواقع الإلكترونية التي تقدم مختلف العلوم والفنون والآداب والمعلومات والخدمات، يمكن القول: إن مؤشر التواصل الإنساني ارتفع، ورغبة المستخدمين المختلفين الذين يتعاملون مع الشبكة من مختلف بقاع العالم وجهاته في التواصل ازدادت، وقد وجدوا في شبكة الإنترنت وسيلةً مناسبة جدا لتحقيق هذه الرغبة، وهي في الوقت ذاته وسيلة سهلة، ومتوافرة، وغير مكلفة بالنسبة للكثيرين.
وقد ولّدت هذه الوسيلة أسئلة كثيرة وتركتها تجول في نفوس روّادها المختلفين والمتفاوتين في كل شيء، وعلى مختلف الأصعدة، حتى أصبحت قضايا الشبكة وعلاقة الإنسان (الافتراضي) بها من أهم القضايا التي تشغل مساحات واسعة في منابرنا الإعلامية - المقروءة، والمسموعة، والمرئية. ولعل سؤال الهوية، المرتبط أبداً بسؤال اللغة والكيان الثقافي والفكري، يعدّ من أهم الأسئلة التي تطرحها علاقة الإنسان “الواحد والمتعدد” بالشبكة، في ضوء ارتفاع مؤشر التواصل الإنساني بين الثقافات المختلفة، على مستوى الأفراد والمجتمعات والجماعات والحكومات.
أعود مرة أخرى إلى ميزة التواصل الإنساني، ولقاء الثقافات الذي تتيحه شبكة الإنترنت على نحو لم يكن متاحاً بالسرعة والكفاءة والسهولة ذاتها التي تتوافر الآن لمعظم مستخدمي الشبكة بلا استثناء، وأتساءل: هل يمكن أن تكون هذه الميزة سبباً في عزوف البعض عن لغتهم ولجوئهم إلى غيرها بحجة التواصل الإنساني؟ وهل يمكن أن تُفهَم هذه الميزة على أنها محرّض للتخلي عن اللغة الأم واستبدال لغة أخرى بها؟ وهل يتخلى الناطقون بلغات أخرى عن لغتهم، فيتواصلون بها، ويكتبون ويقرأون، وأيضاً يصممون مواقعهم الإلكترونية التي تعكس فكرهم وثقافتهم وتراثهم وحاضرهم ومستقبلهم بها؟
إن أساس التواصل الإنساني هو أن يتمكن الإنسان من لغته، وأن يعرف مواطن جمالها، وعناصر الجذب فيها، وأن يسعى جادّا للتعريف بها، وبكل ما يمكنها أن تحمله إلى الآخر، ثم التعرف إلى الآخر، وتعلّم لغته، والاطّلاع على ما لديه، ليكون عنصر أخذ وعطاء في الوقت ذاته، وبهذا يتم التعامل مع خاصية التواصل الإنساني المتاحة بيسر عبر شبكة الإنترنت بوصفها ميزة وليست عيباً أو سبباً للتخلي عن اللغة الأم، يجعل من الإنسان مستهلكاً فقط لما ينتجه الآخرون من دون أن يصدِّر لهم في المقابل ما أُنتج ويُنتَج بلغته.
ويمكن لأي شخص الدخول على المواقع الأجنبية المختلفة، باللغات المختلفة، وأن يطلع على صفحاتها الرئيسية (Homepages ) ليعرف مباشرة أن جلّ إن لم يكن كل هذه المواقع تعتمد في صفحاتها الرئيسية بالتحديد على اللغة الأم للبلد الذي ينتمي إليه أصحاب الموقع، ومن الممكن أن يجد في أحد أركان الصفحة الرئيسية خيارات تشمل لغات أخرى، لكن المهم أن يكون الأساس باللغة الأساس، أي أن تكون الصفحة الرئيسية باللغة الأم التي يتكلم بها أصحاب الموقع.
أما عربياً، فما يؤسف له أننا نجد كثيراً من المواقع، العربية في نسبها، أجنبيةً في لغتها؛ فأصحاب المواقع عرب، ويكتبون عن قضايا تمس العرب، أو يقدمون فنوناً وآداباً لمبدعين عرب، أو يعرّفون بجهة أو مؤسسة، رسمية أو شبه رسمية، عربية وتنتمي إلى بلد عربي، ومع هذا فإن الصفحات الأولى لها بغير العربية، ويمكنني أن أستحضر في ذهني الآن عدداً من المواقع العربية التي تضع صفحتها الرئيسية باللغة الإنجليزية، وتوفر خياراً بخط صغير في إحدى زوايا الصفحة الأولى للراغبين بالتصفح باللغة العربية، وكأن الموقع مصمم أساساً لغير العرب.
ومع أن هذه المواقع موجودة ومتاحة للجميع على الشبكة إلا أنني سأتجنب ذكرها لمنع أي تفسير مغرض يذهب بالكلام في غير اتجاهه، ويبعده عن هدفه الذي يسعى إليه، وهو تنبيه أصحاب هذه المواقع إلى أن هذا الأمر غير مقبول من جهة، ومن جهة أخرى بيان جمالية اللغة العربية، وإمكانية استثمار هذه الجمالية في جذب المستخدمين والزوار من العرب ومن غير العرب من الناطقين بالعربية، والراغبين في تعلمها.
إن الاعتداد باللغة يعني الاعتداد بالنفس والثقة فيها، ولجوء المرء إلى غير لغته دلالة ضعف في الشخصية وعدم ثقة في الذات، وانبهار بالآخر بكل تفاصيله. ومع أننا نحن العرب نعرف أن لدينا الكثير من عوامل النقص التي تظهر بتفوق الآخر علينا، وتبعيتنا له في كل شيء، إلا أن لدينا الكثير أيضاً مما يمكن أن نقدمه للآخر بقليل من الثقة في الذات، وبتخفيف حالة انبهارنا به التي تجعلنا دائماً مشدودين له، وبمزيد من الاهتمام بأصحاب الكفاءات والطاقات والقدرات الإبداعية في المجالات المختلفة.
إن الأصل هو أن يقدم كل موقع مادته بلغته، وجميل أن يوفر الموقع خدمة تصفحه بلغة أو لغات أخرى، ولكن أن يقدم موقعٌ ما مادته بغير لغته، وأن يوفر لغته كخدمة ثانوية أو إضافية، فهذا ما لا يقبله عقل ولا منطق.
ومن الملاحَظ أن كثيراً من هذه المواقع تعتني عناية شديدة بصفحاتها الرئيسية وغير الرئيسية المرقومة باللغة الإنجليزية، ولكنها تهمل الصفحات العربية المقابلة لها إهمالا واضحاً، سواء على مستوى الشكل والتصميم أو على مستوى المضمون والمواضيع، أو على مستوى الجمالية اللغوية وسلامة اللغة، فالاهتمام واضح جدا باللغة الإنجليزية في حين يتبدى الإهمال من كل ركن من أركان الصفحات العربية.
sunono@yahoo.com
الخليج
2006-06-19