فاطمة البريكي
(الإمارات)

لا يزال للكتاب الورقي بريقه الخاص عربيا، ولا يزال محتفظا بقيمته المعنوية مهما بدا لنا الأمر ظاهريا مختلفا، وفي معارض الكتاب الدولية التي تُقام في شرق الوطن العربي وغربه دوريا على امتداد العام، وتحظى في كل مرة بإقبال جماهيري يزداد سنة بعد أخرى، خير دليل على ذلك.

ومع هذا يمكننا أن نلحظ من دون صعوبة تذكر أن الكتب الورقي يعيش عربيا منذ سنوات حالة نعي، الجميع ينعاه، ويبكيه ويبكي مؤلفيه وكتابه، وكثير من الناس يستغربون إصدار المزيد من الكتب في زمن لم تعد للكتاب فيه قيمة، ومن أراد أي معلومة يمكنه أن يجدها بسهولة في مصادر مختلفة من دون البحث عن كتاب بعينه، أو الاضطرار إلى قراءته صفحة صفحة للحصول عليها، مثل شبكة الإنترنت التي تقدم كل شيء بسرعة وسهولة وشبه مجانية.
وقد يكون هذا الرأي صحيحا إلى حد ما، فشبكة الإنترنت تبدو أشبه بالموسوعة الضخمة، التي يستطيع كل شخص مهما كانت طبيعة تخصصه أن يجد فيها غالبا ما يبحث عنه بالمزايا المذكورة سلفا، وهي السرعة والسهولة والمجانية. ولكننا ننسى أن شبكة الإنترنت لا تزال مصدرا غير موثوق تماما للمعلومات، وأن الموثوق منها يعتمد اعتمادا كليا على المصادر الورقية، ومنها الكتب، بالإضافة إلى الدوريات والدواوين والموسوعات والرسائل الجامعية وغيرها، ولولا اعتماد شبكة الإنترنت الموسوعية على المصادر الورقية تحديدا بجميع أنواعها لما استطاعت أن تقدم ما تقدمه مضيفة إليها المزايا الخاصة بالمرحلة الإلكترونية، وإذا اكتفت بالمصادر الإلكترونية الصرفة والمصادر السمعية والبصرية فلن تستطيع أن تحظى بصفة الموسوعية التي تتمتع بها اليوم. كما يجب الأخذ في الحسبان أن تغذية هذه الموسوعة العالمية تتم من خلال الاستمرار في إصدار المزيد من الكتب الورقية التي ستظل مصدرا رئيسيا تعتمد عليه أفضل المواقع الإلكترونية، وأكثرها التزاما وثقة.
وبغض النظر عن اعتماد الإلكتروني على الورقي، واتكاء الشبكة العنكبوتية على المصادر الورقية في جانب كبير جدا من مادتها المقدمة إلكترونيا وهذا يمثل سببا كافيا للتوقف عن نعي الكتاب فإننا يمكن أن نلتفت إلى جانب آخر لا أعتقد أننا قد توقفنا عنده سابقا، قبل أن نستمر في نعي الكتاب، وهو الإصرار الجميل من الكتاب على البقاء على الرغم من قوة منافسيه وتجدد حُللهم، ورغبته في إبقاء نفسه رمزا للثقافة والفكر والأدب على الرغم من أنه يُنعى منذ سنوات، ويُرثى، ولا يزال هذا حاله حتى اليوم في ضوء المغريات الكثيرة الجديرة في ظروف طبيعية جدا بإلغاء “الكتاب” دالاّ ومدلولا من الوجود، وإحلال الكثير من البدائل الأخرى الكثيرة والمتكاثرة مكانه، إلا أن هذا لم يحدث ولا يبدو أنه سيحدث.
لا يزال للكتاب مكانه المحفوظ، ومن أجل هذا الكتاب يسافر الناس شرقا وغربا، ليحصلوا على نسخة من كتاب ما، أو ليطلبوا من مؤلفه أن يطرز لهم توقيعه على إحدى صفحاته، أو ليسمعوا ما سيقوله مؤلف ما عن كتابه في محاضرة سيلقيها خصيصا بمناسبة صدور الكتاب وإثارته لعدد من الإشكاليات التي فتحت أبواب النقاش على أوسع مدى.
أذكر أنني كنت أقف خلال معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الماضية في أحد الأجنحة الخاصة بدار نشر عربية نشطة جدا، ولكتبها مستوى متميز وخاص، وفي ذلك الوقت وصل أحد الأشخاص يسأل عن كتاب كان قد حجزه سابقا، لكنه تفاجأ بأن الكتاب قد بيع لشخص آخر، فثار وطلب تفسيرا للتصرف بالكتاب الذي حجزه من قبل وكان كتابا حديث الصدور والنسخ المتوافرة منه في المعرض قليلة فقال له المسؤول في دار النشر إن الشخص الذي اشترى الكتاب قد جاء من إحدى الدول المجاورة، وتكبد مشقة السفر فقط من أجل هذا الكتاب، فأشفق عليه صاحب دار النشر، وباع الكتاب له على نية أن يرسل نسخة منه إلى هذا الشخص الماثل أمامه، وطيب خاطره، ووضح له أنه فعل ذلك بدوافع إنسانية بحتة، لأنه لم يتخيل خيبة الأمل التي سيعود بها ذلك الشخص إن لم يجد الكتاب وعاد إلى وطنه صفر الوطاب.
إن هذا الموقف خير دليل على المكانة التي لا يزال الكتاب يتمتع بها، في زمن الفضائيات، والإنترنت، والمصادر السمعية والبصرية، وفي زمن نلاحظ جميعا أن مساحة اللهو فيه تتسع على حساب مساحة الجد، ومع ذلك لا يزال للكتاب جمهوره الحريص عليه.
والكتاب لا ينفصل عن مؤلفه، فما الكتاب على الجملة إلا نتاج فكر شخص واحد، حرص على تقديمه للناس، ليمنحهم فرصة مشاركته آراءه وأفكاره، وهو ما يفتح أبوابا لمواضيع أخرى تتولد من رحم الموضوع الرئيسي للكتاب. واشتهار أحد المؤلفين يعني بشكل أو بآخر نجاح الكتاب، سواء كثر عدد المؤيدين لوجهة نظر الكاتب أو قل، لأن الكتاب قُرِئ، وهذا هو هدف أي كاتب يصدر كتابا. فإذا قُرِئ الكتاب كان هذا دليلا على حضوره وأهميته في نفوسنا.
أذكر أنني شعرت بشيء من الدهشة، في إحدى المحاضرات العامة التي شهدتها قبل أسابيع، لوجود حضور من إمارات مختلفة في الدولة، بل ومن خارج الدولة أيضا، وقد ذكروا للمحاضر أثناء التعليق والمداخلات أنهم أتوا خصيصا من خارج الإمارات لحضور محاضرته وأهدوه وعثاء سفرهم، وهذا مخالف للعادة، ولما هو معروف دائما عن إعراض الجمهور عن حضور المحاضرات الجادة، وفي هذه المخالفة دليل على نجاح الكاتب الذي ألقى محاضرته حول مشروع ثقافي فكري طرحه منذ سنوات في أحد مؤلفاته، وأثار الكثير من الأسئلة الإشكالية، واختلفت الآراء حوله على امتداد العالم العربي. وسر نجاح الكاتب يكمن في أنه قدم كتابا ناجحا ومقروءا، بل ومحافظا على حيويته وقابليته للنقاش واختلاف الآراء وتعددها على الرغم من مرور عدة سنوات على إصداره في طبعته الأولى.
إن الكثير من القضايا التي تُثار بين يوم وآخر إنما مصدرها الكتاب الذي سيظل تحت كافة الظروف سيد المصادر المعرفية، ومشعل شرارات النقاش ووجهات النظر المتبادلة التي تساعد على معرفة الموضوع الواحد من زوايا مختلفة، بمعرفة الآراء المختلفة حول الموضوع الواحد، وأسبابها، ونتائجها، ولولا الكتب لما عرف بعضنا بعضا، ولما ظلت عروق الحياة تنبض في مجتمعاتنا.

نحن والكتاب
لا يفرض الكتاب نفسه علينا رغما عنا، ولا يعيش فينا وبين ظهرانينا ونحن لا نريده، ولا يُقْبِل علينا ونحن نعرض عنه، بل العكس تماما هو الذي يحدث إن كان يجب على العلاقة بين الكتاب والجمهور أن تتم من اتجاه واحد فقط؛ فنحن نُقبل على الكتاب، ونلح عليه: كتابة وقراءة، ونبحث عنه ونسأل من يعرف أقصر الطرق المؤدية إلى أحد الكتب التي أصبحت في عداد الكتب النادرة، بسبب عدم إعادة طباعتها مثلا، ونحن الذين نقضي الليالي الطوال ساهرين بسبب الكتاب، إما تأليفا، أو قراءة، أو كتابة على الكتابة. ويبدو الكتاب في أحيان كثيرة متمنعا، وفي أحيان كثيرة أيضا متجاوبا ومتفاعلا.

sunono@yahoo.com

الخليج
5-12-2006