الأثر الذي يقود إلى أنفاس حياةٍ ما يفتأ يتردّد صدى حضورها في الفضاء مطبوخاً في الشجن. الأثر الذي ينسكب من خطى العابرين، ويمكث من بقايا الأمكنة وقاطنيها؛ ندبةً تنبض كلمّا هبّ عليها هواءُ الحنين.لماذا ـ هذا الأثر ـ يسكن بنية النفي عند عوّاض العصيمي في كتابه "ما من أثر" (طوى للنشر والإعلام ومؤسسة الانتشار العربي ـ 2007). فكأنه الهباء الذي يتبدّد ويمضي إلى مرض الفراغ وصفرة الموت. هل هذا يعني أنّ القيّافَ البدوي لم يجد في رحلته ما يطابقه، وأن الناتجَ عاثتْ به صروفُ الأيام والليالي؛ فمسَّتْه في أكثر من موضع، حتّى باتَ خلطاً مُشوَّهاً؛ تنكره العينُ وتنأى عنه الروح. أفي وسعنا القول إن انقلاباً حاق بالأثر ، وانمحقتْ معه مرجعيّته، وروحه التي يتقوَّم بها. إن أثراً بمثل هذا الوصف يحتاج إلى رحلة مضادّة؛ تبحث وتستقصي؛ تحفر عن " جماجم يتدفق منها الرماد "؛ تتساءَل عن " ماءٍ تتفحّمُ في روحه الصلوات ".هي رحلةٌ في " العتمة " التي ابتلعتْ الأثر وصيّرتْه إلى غياب.
غيابُ الأثر تتقرّاه نصوص الكتاب عبر وسائط مادية ومعنوية وطبيعية، تَرِدُ بمثابة مُعادِلٍ يتحقّق فيه النّسخ والانقلاب والتحوّل المضاد. العَطالة الإنسانية، والانسداد الأخلاقي، والمسافات التي تفصل وينطوي معها حِسّ القرب بحرارته وحميميّته؛ هي مداراتٌ تهيمن على أجواء الكتابة، وتشتغل على إنتاج ما يكافئها من حالاتٍ وإيقاعات، تنفذ إلى الصميم ويرشح عنها؛ من ثقوبها الضَّررُ الذي يستشري والخراب الذي يستفحل بشاهد " الغراب " و" الجسد المنهوب" و" أعطالٍ متكررة " توقِفُ حركةَ الحياة.
في القصة الأولى" تقريباً، متى كان واضحاً.." يعيش السارد رعبَ المرآة وقسوتها في صورة "الصديق" التي يقوم بإنشائها من مادة الطين. وهنا لا يحضر الطين كمصدر للتشكيل، بل كدلالةِ نقصٍ تحيلنا إلى الصديق والسارد؛ الصورة وانعكاسها يتردّيان في حمأة الفساد والتزييف والنهب. المأساة أن هذا القرين يحمل وجهاً فضّاحا، لا يبقِي النقص والانحراف طيَّ الكتمان، يُظْهِرُ الفضيحة عاريةً مكشوفة (قفْ أمامه لترى من أنت). وجهٌ يكشف ولا يستر. الحقيقة لا تظلّ مخبوءة، تطلّ من العينين. مَن يطيق هذه التعرية؟.. هذا الوجه الفاضح المنتِج لأشباهه، له أيضاً قابليّة التوسّع والالتهام، لا يوفِّر أحدا حتى الأصدقاء (كانت أسنانه تقطعني عضوا عضوا وأنا بلا حراك ولا صراخ أنتظر فراغه مني. هكذا رأيتني ذلك المساء البعيد). مجازُ الكابوس المتمدّد في الصديق يحرِّك هاجِسَ السيطرة عليه، بإخراج المكبوت؛ تنفيسِهِ في تشكيل الصورة ثم هدمها. ولن يكون الليل بغير دلالة، حين يجري اختياره وقتاً لإنجاز الصورة. الباطن الذي يضجّ بعتمته يختار ما يوائمه ويعبّر عنه (كنتُ أعيشها في الظلمة. في أشدّ ما تكون العتمة في داخلي، كما في قلب الليل). إن إنشاءُ الصورة وهدمها يأتيان بعد فعلٍ سابق هو الخلاص، على التحقيق، من الصديق، بالقضاء عليه تحت ضربات المطرقة. إيقاف الدائرة كان يريد الاكتمال، والخروج من الصورة المستمرة قيداً يحاصِر؛ فهي في البدء موجودة، وتتظَهّر يوما بعد يوم، ولا تخصّ الصديق وحده، لكنها للذات في الوقت نفسه؛ فضربةُ المطرقة ثلاثيّة تريد تحطيم "الماضي" ونُسَخَه، غير أن الشمس وهي تطالعنا في مفتتح القصة، تعني اللاجدوى وأن الفضيحة ما تزال معلنة تتجوّل في الشارع حيث (الكثير من الأخلاق التي تخلّى عنها أصحابها).
المفتاحُ الذي تمنحنا إياه القصة الأولى يرشدنا إلى قراءة بقية القصص. هناك معادِل يحمل في طواياه حركة السرد وإنتاج المعنى. الظلالُ التي ينكشف ما تحتها، ويتبدّى مؤشِّراً على انحلالٍ ـ بالمعنى الروحي ـ على المستوى الفردي والعام، يطال العلاقةَ والتواصل والاهتمام والانتماء، بما يخلّف مذاقاً يرتعش بالأسى، وبحامض الخذلان ومرارته؛ يطفو على سطحه "الأنا المجتمعي" عائما في العذاب والتمزق. فعلى غرار إنشاء صورة الوجه، نجد ـ مثلاً ـ القلم ومدوّنته الاستقصائية في الكف (صة عدوى).. الساعة الخربة وجائحة صمتٍ تغزو المدينة (قصة أعطال متكررة).. الإصبع المقطوعة والكلمات الناقصة بما يعني الوجود المبتور (قصة كابينة في آخر الليل).. حركة الإبر الخفية الغرائبية وأحوال سكان عمارة ذات العماد (قصة ما من أثر).. الخيوط الواهنة وزر البنطال المقطوع كإشارة إلى تصرّم حبل الرجاء في انتظار محبوبةٍ لا تجيء (قصة المنسي).. هذا الارتباط الدلالي المنفتح الذي نعثر عليه في هذه القصص وغيرها، لا يأتي مباشراً، ولكن على نحوٍ إيمائي إيحائي، يصعِّد من القيمة الفنية ويرسّخ الأبعاد والمقاصد التي يتوجّه إليها هذا الخطاب القصصي، حيث لا يكتفي بالإخبار فقط (وإنما هو فيضٌ من الدلالات تحيا بوفرة القرائن التي تتضمن أبعاداً خفية لا يوحي بها الخطاب المباشر، وإنما يتضمنها المَقُول المتسع، دائما، لكثيرٍ من الاحتمالات ـ عبد القادر فيدوح، شعريّة القص). وربما من أسرار نجاح هذا الصنيع أن المعادِل، بالإضافة إلى تكوينه مساراً إلى جوار الحدث، يتحوّل إلى رمزٍ بلّوري مشعٍّ؛ تتكثّف فيه قوّة العمل الفني ويتعالى منه رهانُه الإبداعي، على النحو البارز الذي تمثّله شجرة الليمون والنمر في قصة (حالات خمس لشجرة ليمون في حقل فارغ)، والغراب والعمود الخشبي في قصة (الغراب).
يشير المؤلف، في ميثاقه التصنيفي للكتاب، إلى أنه " نصوص قصصية ". ولنا أن نلتقط هذه الإشارة كسمةٍ مائزة تتأكّد بالقراءة الفاحصة لمجمل محتويات الكتاب البالغة خمس عشرة قصة، إذْ تتجلّى شعريّة السرد في قسمٍ كبير منه. ولا بدّ من التوضيح أن الشعرية لا تنهض من اللغة وحدها. إنما إلى جانب اللغة، يُنظَر إلى الحالات التي ينبثق عنها السرد وكيفيّة اِنبنائها، فالأسلوب العام الذي يعتمده عوّاض العصيمي قائم على الإيحائية، وانفتاح الجملة على المجاز والاستعارة المرتبطين ببنية العمل ورؤيته، بما يساهم في إثرائه وتوسيع مجال غناه. الجملة الشعرية هنا ليست مسقطة من الخارج. ليست حليةً ولا استعراضا لذخيرة من الصور المحتشدة في الذاكرة فتصبح عبئا وعبثا. في قصة الغراب نقرأ ( كلما رفع رأسه للأعلى (...) تحركتْ على الأشياء ظلالٌ قديمة لأمةٍ من البدو كانت تركض بين فتوق الرمل لاصطياد البرق طازجا ووضعه تحت تصرّف الباب (...) ماتت أجيال، وتركتْ أصلابها لأسنان الحجارة وبقايا عظام الأسلاف الذين كانوا يظهرون في الغفوات بجماجم عارية يتدفق منها الرماد ). هذه الجملة المتوترة الكاشفة تأتي ضمن رؤية القصة، وتعمل على شدّ أوصالها بإحكام؛ قراءة التحوّل الذي أصاب " المكان " فأَخَذَهُ إلى انحدار الخراب. من ضفة الركض والصيد والغنائم؛ الحياة، إلى ضفة الانسلاخ والهمود، والطحن حيث بقايا الكائن؛ الحياة التي فرّت؛ الموت الذي يستوطن. بين الزمن الذهبي؛ زمن الذكرى، وبين زمن الحاضر؛ زمن التذكر، يقع التوتر دافعا اللغة الشعرية إلى أقصاها كما يبيّنه سرد القصة باللغة ذاتها. وعندما تشكِّل الأعمدةُ الخشبية المضروبة بالصواعق صورةَ الباقي من جغرافيا المكان وتاريخه المُبدديْن في تواطؤ ( الباب مع الرياح الغريبة )؛ فإن الغراب يدخل المشهد بطاقة تعبيرية، تتعدّى شاهد الخراب إلى استحالة عودة الزمن الذهبي بذكرى البرق والغنائم. ما لا يُستأنَف ولا سبيل إلى استعادته. وهنا يجري استبطان مرجعيّة شعرية رمزيّة هي قصيدة الغراب لإدغار ألن بو. غرابُ القصيدة يستقر على التمثال النصفي، وغراب القصة يستقرّ على رأس السارد في النهاية؛ مستغرقاً في نعيبٍ تَشِي به المرجعية وتفصح عنه هناك: أبداً.. هيهات.
ذلك التكوين الشعري السردي المتماسك يتردّد بتناغم وانسجام على الشاكلة نفسها في قصة ( حالات خمس لشجرة الليمون في حقل فارغ) لكن مصدر الشعريّة لا يَفِدُ من اللغة، بل من بناء الحالات التي كانت عليها الشجرة، وربطها بإيقاع التحوّل العابر المرصود بعينَي حارس الحقل؛ مرحلة إزهار؛ مرحلة لقاح؛ مرحلة مأوى؛ مرحلة افتراس؛ مرحلة بقايا.. مراحل مصحوبة بعبور كائناتها حيث المرور المتتابع لـ: النحل؛ الفراش؛ الدوري؛ الجوارح؛ الدود. هذه حالة شعريّة وحدها لشجرة الليمون، يمكن أن تكون نصا منفصلاً، غير أن المؤلف يوظّفها فنيّا في رؤية أشمل، حيث يزاوج بينها وبين ابنة صاحب الحقل (...كانت شجرة الليمون في أبهى أطوارها. كانت متفتحة كفتاة جميلة في مُقتبل العمر) فتعيش الشجرة مراحل إزهارها وتقصّفِها بتداخل مع الفتاة التي تتطابق حياتها الوجيزة مع الشجرة، حين تنتهي إلى موتٍ غامض مُلغِز، يشفّ عن أسبابه، بمواراة، حضورُ الأب المتجهم في مرحلة الجوارح/ الافتراس، وذلك النّمر المنسوج ـ في سجّادة بمكتب المحقِّق ـ وتحوّله ناهضاً مفترسا، وكأنما يستكمل المرحلة ذاتها على نحوٍ تتقابل فيه مصائر شجرة الليمون والفتاة وحارس الحقل قبالة النمر والأب والمحقِّق في " حقلٍ فارغ " تُبادُ فيه الحياة، ولا ثمّة فائدة من حلّ اللغز (أي شيءٍ يهم بعد البقايا والأشلاء؟). هكذا تتجلّى شعريّة عوّاض العصيمي في نصوصه القصصية بما ينبئ عن اقتدار الكاتب وعن مدى تمكّنه من صنعته بنائيا وتعبيريا، يؤهّله قيّافاً في أرض الكتابة السعودية.
Safar111@hotmail.com