"بالطبع كانت الهتافات ضد الانجليز.. ولكن دوّى فجأةً في هذا المكان الملتهب شعارٌ آخر هو "يسقط حكم الباشاوات"، دوّى في صفوف الناس، ودوى في وجداني ومنذ تلك اللحظة وجدت نفسي كتفًا بكتف مع الثورة بمعناها الحقيقيّ"، هكذا قال ألفريد فرج في سيرته الذاتية وهو ما يشير بقوة إلى قناعاته السياسية التي سوف تنعكس بقوة على كتاباته المسرحية مضمونيًّا وأسلوبيًّا وسوف يتجلى إيمانه بأن المسرح لابد أن يكون تعبيرًا، مباشرًا أو غير مباشر، عن الاحتياج الاجتماعي للمواطنين عن طريق الجدل الأيديولوجي للأفكار من أجل طرح ومعالجة مشكلات الوطن السياسية والاجتماعية. ويعد ألفريد فرج أحد أهم كتاب المسرح العربي المعاصر الذين امتازت رؤاهم بالطرح الجاد لقضايا العدل والحرية والهوية الوطنية والتضامن الاجتماعي وكذلك الانشغال بالبحث عن الحقيقة والدعوة لخلق إرادة فاعلة لدى الفرد لكي يكون قادراً على التغيير والتجديد. والمسرح بوجه عام كان دومًا أحد أكثر الفنون التزامًا ومساندةً للشعوب ضد الحاكم الفاسد عبر كل العصور وخلال كل الحضارات. ولنا في المسرح العربي شواهد كثيرة تكرس دوره المهم في التعبير عن هموم الإنسان والوطن. ففي سوريا قاوم مسرح أبو خليل القباني الاحتلال التركي وفي مصر قامت شخوص رمزية من التراث الفطري مثل "خيال الظل" و"الأراجوز" بمناهضة حكم المماليك وكشف فساده مما شجع الشعب على فعل المقاومة والثورة. وهذا يدفعنا إلى الكلام عن التراث الشعبي وطرائق توظيفه إبداعيًا في شتى الفنون. ويعدُّ ألفريد فرج أحد أبرع من توسلوا التراث الشعبي القديم لصالح الفن والسياسة والاجتماع. وتوظيف التراث الشعبي فنيًّا، سيما في مجال المسرح، يأتي على مناحٍ أسلوبية ثلاثة. فقد يكون توظيفًا مسموعاً أو مرئياً، عن طريق استخدام عنصر الفلكلور ومفرداته كخلفية سمعية أو بصرية للعمل، وهذان الأسلوبان ينتميان إلى عالم التقنيات الإخراجية والحِرفية المسرحية، وأما الأسلوب الثالث فهو توظيف الفلكلور مضمونيًّا بنيوياً نصياً، وهذا ينتمي بقوة إلى عالم التأليف والكتابة ويعدُّ فرج أحد الرواد العرب في هذا التوجّه الفني. وفي سؤال له عن ريادته تيمة استلهام التراث الشعبي من أجل طرح قضايا معاصره مثلما في "حلاق بغداد" و"الزير سالم" وغيرهما أجاب بأنه أراد أن يكون صوتُه هو صوتَ الشعب فكان توجهه إلي التراث لكي يضمن مخزونًا مشتركا جمعيًّا ومادةً تخاطب الذاكرة الجماعية عبر مختلف الأجيال. ولأن شاغله الأساسي كان تكريس مفهوم "العدل" قلم يكن غريبًا ألا يحفل مسرحه كثيرًا بالطبقة العليا كما فعل شوقي مثلا، بل كان بطله الرئيس هو طبقات الكادحين الفقيرة المهمّشة مثل الحلاق في "حلاق بغداد" والحطّاب في "رسائل قاضي أشبيلية" والملاح في "السندباد". ويعد ألفريد فرج، إلى جانب سعد الله ونوس، أحد أبرز من أبدعوا في التوظيف البنيويّ النصيّ، إذ نجح في كتابة نصوص مسرحية تجمع بين قابلية العرض الحيّ على خشبة المسرح من جهة، وأدبية النص في ذاته من جهة أخرى بحيث يستطيع أن يقف النصُّ مستقلا بذاته بمعزل عن خشبة المسرح بوصفه عملاً أدبياً يُقرأ، بحقه الخاص، شأن سائر الأعمال الأدبية السردية. عرف ألفريد فرج كيف يستفيد من الخامات والمناهل السردية في التراث العربي القديم مثل الألف ليلة والسيرة الهلالية، ومن الجماليات التقنية الفنية في الملاحم والتراجيديات الإغريقية القديمة لصالح الفن، دون الوقوع في شرك النقل المجاني، إذ كان يصارع الأسطورة أو الحكايا القديمة المنقولة شفاهيًّا أو كتابيًّا ثم يعيد ترتيب أوراقها ويحقنها بماء المعاصرة وإشكاليات الواقع الراهن فينتج فنًّا أصيلا هو ابن شرعيّ للجديد وغير منبّت الجذور عن القديم. وهو ما نجده بجلاء في مسرحيات مثل "حلاق بغداد" 1963 و "علي جناح التبريزي وتابعه قفة" 1969 و"الزير سالم" 1967حيث استلهم ووظّف شخوصًا من "ألف ليلة وليلة" و"السيرة الهلالية" بعدما أعاد صياغتها إنسانيًّا وفنيًّا ومضمونيًّا وتكثيفها فلسفيًّا كي يستنطقها بقضايانا المعاصرة. فنجد مثلا الحلاق الذي اشتُهر تاريخيًّا بالثرثرة والفضول والخواء وقد تحوّل إلى رجل جاد منشغلٍ بهموم وطنه ومواطنيه. هذا عدا رائعته "سليمان الحلبي" 1965التي كانت بمثابة صيحة غضب ضد المحتّل وتناوُل فلسفسي مباشر لفكرة الحرية والعدل والاستقلال، وأما مسرحية "النار والزيتون" 1970 فقد سجلت محنة الشعب الفلسطيني والغبن الذي وقع عليه منذ وعد بلفور وحتى اليوم ما يؤكد أن همه كان قوميًّا وليس فقط وطنيًّا. لقد كانت ثورة يوليو/تموز عام 1952، التي حاولت أن تعيد ترتيب أوراق الواقع المصري سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، مناخًا خصبًا لبزوغ مسرح ناهض متنوع في الشكل والتوجه والهدف، فانقسم الإنتاج المسرحي المصري المواكب هذه اللحظة إلى أنماط ثلاثة: أولها قدم مسرحية اجتماعية انتقادية وبرز فيها رموز مثل نعمان عاشور، سعد الدين وهبة، لطفي الخولي وألفريد فرج، وثانيها قدم المسرحية التراثية التي تفيد من المأثورات الشعبية وبرز فيها ألفريد فرج، نجيب سرور، شوقي عبد الحكيم، محمود دياب. وثالثها قدم مسرحياتٍ سياسيةَ التوجّه إما معاصرة أو تاريخية ولمع فيها أعلام مثل عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وألفريد فرج. ونلمس بوضوح أن ألفريد فرج هو القاسم المشترك في التوجهات المسرحية الثلاثة ربما بسبب ترعرع وعيه في مرحلة مفصلية من تاريخ المجتمع المصري وبسبب طبيعة دراسته التي مكنته من الإطلاع على الأدب الإنجليزي والتراجيديات العالمية شعرًا ومسرحًا فوجد في ألف ليلة وليلة والملاحم والسِّيَر نبعًا خصبًا لم ينفد بعد ويمكن العبُّ منه وتوظيفه لصالح طرح مشاكل لحظته الراهنة آنئذ. لذلك لا يجوز تأمل مسرح ألفريد فرج بمعزل عن حركة الإصلاح السياسي والاجتماعي في مصر بدءا بثورة يوليو/تموز وما أحدثته من متغيرات على الصعيدين المصري والعربيّ على السواء.
ولد الفريد في فترة مثقلة بالاضطرابات السياسية والاجتماعية والتباين السافر بين طبقات المجتمع بين بدايات وجود المستعمر الانكليزي الذي انفرد بالتحكم في مقدرات الشعب، وبين القصر الملكي الذي دان بولائه الكامل للمحتَّل. سوى أن تلك الفترة ذاتها أفرزت، بالتبعية، جيلا نظّم حركات تحرّر ومظاهراتِ تضامنٍ مع القضايا القومية والشعوب العربية المحتلّة لحظتئذ وتبنى شعارات تنادي باجتياز الفجوة بيننا وبين الدول المتقدمة ومحاولة اللحاق بالعصر الخ. ولعل من أكثر المواقف التي شكّلت مكوّن ألفريد فرج السياسي الرافض هو مشاهدته وقائع طرد الانجليز من مصر وهو ما انعكس على مشروعه الفني بقوة.
ولد فرج في محافظة الشرقية عام 1929. حصل على ليسانس الآداب في كلية الآداب جامعة الإسكندرية عام 1949. وكان عشقه المبكر للمسرح منذ الصغر سببًا في أن ينضم إلى فريق التمثيل بالمدرسة، وإلى جوار المسرح كان يمارس الشعر والرسم. بعد تخرجه في الجامعة عمل صحفيًّا وناقدًا أدبيًّا بمجلة روز اليوسف ومجلة التحرير وجريدة الجمهورية، ثم عمل مستشاراً لهيئة المسرح والموسيقى والفنون الشعبية في جمهورية مصر العربية، إلى أن تفرغ للمسرح أعوامًا ثلاثة هي 1964-65-66 فكانت من أخصب سنوات عمره المسرحي فأثرى المسرح بالعديد من الأعمال التي أثّرت على الحركة المسرحية في مصر. ومن أعماله إلى جوار ما سبق ذكره "سقوط فرعون 1957"، "عسكر وحراميه"، "جواز على ورقة طلاق"، ودراسة فنية مطوّلة بعنوان "دليل المتفرج الذكي إلى المسرح"1969. نال، مثل معظم مثقفي مصر الشرفاء، شرف الاعتقال غير مرة في سجون الاستئناف والقلعة والواحات جراء موقفه الملتزم ومسرحه الرصين. وأما عن الجوائز المادية فقد حصد العديد منها مثل جائزة الدولة التشجيعية في مصر عام 1965، وجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وجائزة "القدس"، من اتحاد الكتّاب والأدباء العرب وتسلّمها في دمشق عام 2001، التي أعلن اعتزازه بها وقال في حوار أجرته معه جريدة "الوطن" عقب فوزه إن جهات دولية عديدة رشحته للفوز بنوبل إلا أنه تمنى لو أتى ترشيحه لها من قِبَل وطنه مصر. مات ألفريد فرج بعيدًا عن الوطن قبل أيام في مستشفى سانت تيريز بلندن عن عمر يناهز 74 عامًا متأثرًا بالسرطان.