المتأمل قصائد عماد أبو صالح للوهلة الأولى سوف يصطدم باجتراحه لغةً فصيحة شديدة البساطة حتى لتكاد، أحيانا، أن تتماس مع الدارجة المصرية، لكنها دومًا لغةٌ سليمة تحترم قواعد النحو والصرف وإن بدت غير آبهة بها. تلك اللغة النافذة غير المقعرة تزيل حجاب التلقي الأول لدى القارئ فينفذ مباشرة إلى "الجوهر النشط" للشعر، بتعبير فاليري، من دون أن يضطر إلى عبور جسور مرهقة فوق جداول اللغة الكلاسيكية. هذا النمط من اللغة يذكرّك بكتابات إبراهيم أصلان وعناية جابر اللذين حين تقرأهما لا تشعر إلا بروح النص تتسلل إليك فورا، وكأنها غير محمولة على وسيط يبطئ أو يعوّق من تدفقها. أنْ تعبّر عن رؤى مكثفة وحالات شعورية حادة عبر لغةٍ رهيفة هادئة لا صخب فيها ولا تقّعر من الصعوبة بمكان. لأننا اعتدنا أن نرى المضمون الكبير يحمله وسيط بحجمه، أي لغة مترفعة عالية، أو كأن نقول إن المضمون يفرز الشكل المناسب له. وهذه المقولة على صحتها غالبا، إلا أن فيها نظر لو تأملنا تعريفاتنا حول مفهوم اللغة وما إذا كانت ثمة لغة رفيعة وأخرى غير رفيعة !! لا يشعر بصعوبة تلك الكتابة إلا من اضطلع بفعل القلم وعكف طويلا على تطوير تجربته ومحاولة غزو أراض جديدة عبر مشواره الكتابيّ.
أفلتَ أبو صالح كذلك من شَرَك السردية المجانية التي أسرت شعراءَ كثيرين من جيله حتى لا تكاد تسمي نصوصهم شعرًا إذ هي للقصة القصيرة أقرب (مع احترامنا لإدوار الخراط والكتابة عبر النوعية). ذلك السرد الذي يكون فيه التسلسلُ الزمنيّ والحدثيّ والمنطقيّ والتعليليّ منتظمًا ومتناميًا بغير كسر أو حتى لَعِب. غير إن سرد أبي صالح، باستثناء ديوان " قبور واسعة"، غالبًا ما يرسم مشهدًا شعريًّا لا يكون هو الهدف في ذاته، رغم كون الشعر الجميل ينتهي بهدفه عند الصورة الجميلة إذا نجح الشاعر في رسمها، لكن المشهد عنده يكون في كثير من الأحيان منطلَقا لخلق حال تأملٍ ولحظة صمت من القارئ كي يستخلص جوهر الشعر ومفارقة الوجود- ينجح أبو صالح في ذلك كثيرا حتى وإن خانه الشعر في بعض الأحيان ورسم له صورة مسطّحة أحادية العمق - يقول:
تغمض البنتُ عينيها في الشرفة/ و تمدُّ ذراعيها/ الولدُ يشبُّ على قدميه/ و يمد ذراعيه/ في الشرفة المقابلة/ تتبقى مسافة/ تقطّع خيوطها الوهمية/ العصافيرُ العابرة.
ليس بوسعك كقارئ أن تقف عند لحظة الاستمتاع بهذه الصورة وتكتفي بذلك، لكنها ستدفعك أن تجول في الوجود لتبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة مازالت تحوّم، أو حتى أن تطرح مزيدًا من الأسئلة ، وبظني تلك هي وظيفة الشعر الأولى. ويقول:
يظل واقفًا يحدق فيها و هي جالسة على مقعد الباصِ/ تنزل في محطتها و يظل واقفًا/ يتعجب للرجل الذي يصعد/ و يجلس فوق ركبتيها.
لن نتوقف هنا عند المشهد السينمائيّ المرسوم شعرًا، لكن عند عينيْ العاشق الذي انفصل عن الوعي وجمّد ناظريه على المحبوبة حتى ليظلّ يراها بعدما غادرت.
من ملامح شعر أبي صالح كذلك قلب الهرم عن طريق تحقير القيمة العليا أو تقديس المدنس أو حتى الكذب. غير إنه لا يعتمد الشعارَ القارَّ في الشعر القديم: " أجمل الشعر أكذبه"، الذي أظنه كان يعني حينذاك المجازات المهوّمة غير الملموسة أو تكريس الخيال الشعري الذي يبتعد عن الأرض ويجمح نحو الغيب واللامعقول، لكن الكذب هنا يمجِّد القيمة بهجوها أو يقدح في المبدأ الرفيع من أجل تكريسه وسحب القارئ إلى منطقة الإيمان به. فنراه قد يرمي الأبوين بالقذارة والدنس فيفهم القارئ المدرَّب أنه في حال تمجيد لهما وهكذا. وعلّنا نذكر رامبو حين فعل شيئًا كهذا غير مرة. لذا فأنا أعتبر عماد أبو صالح شاعر "أمٍّ" بامتياز إذ استطاع القبض على لحظات أمومة ليست بالضرورة هي اللحظات الأجمل أو المكرسة في موضوعة الأم، لكنها تلك اللحظات التي تمر دون أن ننتبه إليها، لحظات انهزامها وقمعها وقسوتها الحانية وحنوّها القاسي وموتها حيّةً وعَيشها الميّت :" أهش الفراشات الملتصقةَ بجسدك/ كي لا تطيري/ و أبقى وحدي." وذلك أمر يحتاج، برأيي، إلى دراسة مستقلة من قِبل النقاد.
"لم أكن/ ، أبدا،/ ولدا سيئا./ لم افقأ عيني كلب صغير/ و لم أسرق قلم ابن جارتنا/(الأسود ذو السلسلة الصفراء)/ و لم أقطف وردتهم/.../ هل ركبت مرة، ظهر جدتي في أيامها الأخيرة؟
في المقطع السابق نلمح بعضًا من الكذب الجميل حين نقف خلف ستار الكاهن لا لنعترف بخطايانا لكن لنتبرأ منها على نحوٍ مكشوف لا يخلو من براءة حتى لنجبر الآخر أن يتعاطف مع الخطاءين. هنا اللعب في المنطقة الواقعة بين الوعي(الكاذب)، واللاوعي/ (الصادق) والذي يمثل هنا الضمير أو الأنا الأعلى. وعلنا نلاحظ الدوال السيموطيقية التي تميز صوت اللاوعي بين الأقواس في القصيدة. ونجد التطهّر الأرسطيّ حين يقول:
أريد أن أمزق ستارة الجيران/ أن أضرب بطون النسوة الحوامل بقبضتي/.../ أن أكسِّر مصابيح أعمدة الإنارة/ أن أرش المازوت على رجل معه امرأته /و طفله القذر ممسك بيديهما/.../ أريد أن أفرغ إطارات السيارات/ ... / أو/، على الأقل،/ أسير بشارعين/ في نفس اللحظة.
اختار لنفسه في نهاية القصيدة أبشع ألوان القصاص لأن سيره في شارعين في نفس اللحظة يعني، فضلا عن الصورة الشعرية العبثية، أنه سوف يتمزق نصفيا على نهج العقاب الصيني الشهير تاريخيا. إذ هو لا يمارس ساديته على الآخر وحسب لكن على ذاته كذلك ليتحول ماسوشيًا بعدما نظر في مرآة "ميدوزا" وهاله كمُّ قبحه. ويدفعنا هذا إلى الكلام عن الشاعر الجديد الذي هبط من فوق الأوليمب وتخلّى عن دور النبي لينخرط في اشتجار الحياة ككائن تعس خطّاء لا يهرب من آثامه ولا يترفع عنها سوى أنه يمتلك ذاتًا أكثر شفافية تجعله يقوم دومًا بعمليات القصاص الذاتي والتعميد الروحي ولو بماء الشعر.
في ذلك اللون من الشعر نلمح ضعف الإنسان أمام حُلمه البعيد الذي لا يأتي أبدًا وفي ذات الوقت لا يبرح الرأس. نراه يتقمص شخصية الثعلب في "كليلة ودمنة " حين أخفق في الوصول إلى ثمرات العنب أعلى الشجرة فأقنع نفسه أن العنب مرُّ المذاق كما في القصيدة التالية:
أنظر للبنت الجميلة و أقول:/ من يأمن الزيت عند الطهو/ ليد الولد التي تعصر يد البنت و أقول:/ سيفترقان من أجل حجرة الصالون/ للشبابيك المغلقة وأقول:/ يتشاجر الأزواج بالداخل/ و العربات التي تنثر الطين على ملابسي/ ستصطدم حتمًا./ آهاهاها / أنا الذي لست أملأ أنبوبة البوتاجاز/ و ليس عليَّ أن أحمي زوجة/.../ و لست مضطرًا أن أضاجعها ليلة الخميس/ أو أهديها زجاجة كولونيا/.../ أنا الذي ليس لي طفل/ يبلل مكان فمي على الوسادة/ و يرضع ثديي زوجتي/ و يحول قصائدي إلى مراكب.
بوسعنا أن نلمح هنا قول الشيء عن طريق معكوسه أو نقيضه. وتلك إحدى سمات الشعر الجديد الذي هجر المباشرة وارتياد الشئون من مراكزها أو أبوابها الرئيسة، فالشاعر الجديد يلج سؤال الحياة من مناطقه الخبيئة المسكوت عنها وعبر طرائق الإنسان العادي الذي يكذب ويرتكب الخطايا ويعتمر الأقنعة حينا، وفي حين آخر يكون أكثر صفاءً من طفل.
يعمد أبو صالح أحيانًا إلى نحت عنوان قصيدته كجزء متمم للنص، وعلى القارئ أن يختار له موضعًا مناسبًا حسب رؤيته الخاصة، ففي قصيدة بعنوان :" تعلق الملاعق بثوبها.. لحسن الحظ " يقول: "تقع على السلم/ تنفرط حبّات الخوخ من ثوبها/ و تحدث ضجة توقظ النائمين./ الآن تدرك الخادمة القروية/ لماذا أهدتها صاحبة المنزل/ حذاء بكعب عالٍ."
وجلي ما في القصيدة السابقة من أيديولوجيات ومعالجة للقضايا الكبرى دون مباشرة في القول. أليس يتماس ذلك المقطع الصغير مع قضايا الطبقية والقمع النسوي والعدالة الاجتماعية ومشاكل الوعي من دون تصريح بأي مصطلح؟ وماذا لو اعتبرنا "صاحبة المنزل" رمزا للسلطة، و"الخادمة" رمزا للشعوب، و"الكعب العالي" رمزا للقفز فوق الطبقات أو محاولات الثورة؟ ألا يرد هذا المقطع بامتياز على زعم النقاد أن القصيدة الجديدة تخلّت عن الهموم الكبرى وغرقت في العابر واليومي؟ ألا يذكرنا ذلك بـ "رينيه" حين كتب تحت لوحة الغليون " هذا ليس غليونًا"، في دعوة منه للنظر إلى عمق الفن واستكناه حقائق مغايرة لما يمكن أن يبدو من مجرد النظرة السطحية؟ نلمح كذلك شيئا من الملامح الجديدة في الشعر كتنحية الكلام عن البطل وتسليط الضوء على المهمشين في الحياة، وإن كان السياب قد فعل ذلك في قصيدتيْ "المومس العمياء" و "حفّار القبور". ويقول عماد أبو صالح: "تصنع غرفة/ من الكرتونات/ و تجلس مبتسمة/ هي إن بكت/ ستبتل الحوائط/ و تنام/، ثانية،/ في العراء." و يقول عن القروية البائسة:
"لم يكنّ ينخلن/ كنَّ يرقصن على إيقاع المناخل/ ثم يخرجن من حجرات المعيشة/ ملائكة بيضاء بغبار الدقيق/ إلى أن يلطمهن الأزواج فجأة/ فيعُدن مرة ثانية/ أشباحًا/ في ملابس سوداء."
أو نقبض على لحظة من أجمل لحظات الإنسان حين ننكسر قبال صديق منهزم فنود لو نخلع له أرواحنا، يقول في نص يجمع بين المرح وانفطار الروح في جدلية إنسانية بديعة:
".../ سأقول لك انظر إلى السماء/ و أدس جنيهين في جيبك/ سألقي قلمي خلسة أمامك/ سأرسل لك رسائل غراميةً باسم فتاة/ سأسمي ابن أختي باسمك/ سأخطئ، مثلك، في كلمة "مسئولين"/ سأكره عمتك نجوى، و أحب اللون الأصفر،/ و أنام ساعتين في الظهرية./ من فضلك أنا لا أقدر أن أكره الفاصوليا/ سأشتري بنطلونًا على مقاسك/ و أعمِلُ أنه واسع عليّ/ سأوصي مخبرا/، أعرفه،/ ليؤدب لك امرأتك./ .......الفاصوليا رديئة.
يسجل عماد أبو صالح (الإنسان) في اللحظات التي عادةً يهرب الآخرون من تذكرها. اللعب على الخط الفاصل بين الوعي واللاوعي يكشف لحظات القبض على النفس متلبسةً بارتكاب الإثم ولو عن طريق تمني نزول الكوارث بآخرين نظن أننا نكرههم. لحظة تمني موت زوج الحبيبة ليحل مكانه، أو أمنية فقأ عيون المارة أو بقر بطون النساء مجانا وبلا سبب سوى إشباع نزعة الشر الكامنة. يرصد الشاعر لحظات النزوع الشيطانية داخلنا حتى إذا وضعناها تحت المجهر بدت سوءاتها وفي هذا فائدتان: أولا لا نقسو كثيرا على ملامح الضعف الطبيعية فينا إذ لا موجب لجلد الذات دوما لو آمنا كم أن الإنسان خطّاءٌ وهشٌّ، والثاني أن وضع تلك النزعات أمامنا فوق الطاولة لتشريحها وتحليل مكامن إشعاعها يساعد على التعامل معها وكبحها. الواعظ يرسم طريق النور للمرء ليدفعه نحو الفضيلة، والشاعر قد يفعل الشيء ذاته عن طريق كشف مكامن الشر والضعف الإنسانيّ فينفر منها دون مباشرة أو تبشير أو تنذير. وربما هذا ما دفعه أن يعلن في ديوانه الأخير " مهندس العالم " إن الكتابة هي شيء سخيف سخيف ..."، لكنه السخف الذي يحمل القيمة والخواء الذي يحفل بالزخم والشر الذي يسحب الإنسان من عنقه نحو الفضيلة.
عماد أبو صالح، شاعر من مصر له الإصدارات الآتية:
أمور منتهية أصلاً 1995- كلب ينبح ليقتل الوقت، يولية 1996 - عجوز تؤلمه الضحكات 1997- أنا خائف 1998 - قبور واسعة، صيف 1999 - مهندس العالم، ربيع 2002
القصائد من ديوانيْ " أمور منتهية أصلا" و " كلب ينبح ليقتل الوقت" - طباعة خاصة
أقرأ أيضاً: