* قرأت مؤخرا في جرش مـقاطع من قصيدة جديدة بعـنوان ( تعلات) شفت عن مزاج مختلف, وخروج إلى مناطق جديدة بعيداً عن (سيرة بالفحم). ماهي مغامرتك في هذا النص ؟
حتى الآن فان الإسم الذي اقترحته لهذا النص ( تَعلات)... أنا لست متأكدا من ثبات العنوان, هذا يحدث دائما لكن من الضروري الإشارة الى الأشياء وتسميتها حتى يمكن التعامل معها أو وضعها في سياقات, ( تَعلات) هو نص غنائي طويل لم يكتمل بعد. لذلك ليس من السهل تناوله والحديث عنه, في أمسية مهرجان جرش اخترت عددا من المقاطع المتفرقة من النص بغرض القراءة أولاً والدراسة والاستماع إلى آراء وانطباعات الأصدقاء الذين يوفر حضورهم برنامجا مثل برنامج الشعر في جرش, وكان ذلك ضروريا بالنسبة لي وجديدا,
لا أعرف إذا كان النص مختلفا عن المجموعة السابقة ( سيرة بالفحم) والتي سبقتها ( إستدراج الجبل)? ولكني واثق أنها محصلة ذلك, لست مطمئنا بعد وليس لدي مواعيد لإنهاء النص, النص مفتوح ويقبل الإضافة والحذف وهو عرضة لذلك دائما.
* ما زال الحنين يمتزج بقصائدك, ما الذي تفتقده وأنت في الوطن حاليا؟
الحنين ليس حكراً على الجغرافيا وهو موجود في كل ما نفعل, أفكر دائما أن الحنين هو فعل كثيف من الذكريات, ولا أجد أي منفعة من استئصاله, أو تفاديه داخل النص, حنين مشروع مفتوح وذاهب بكل الاتجاهات والأمكنة والأصوات والأشخاص السابقين, وهو يذهب إلى الأمام أيضا, إلى الأشياء التي لم
تحدث بعد, حنين إلى الفكرة وحنين إلى الحلم, باختصار الحنين هو خلية واعية وضرورية في الكتابة.
الآن وبعد عشر سنوات من الإقامة في رام الله يتخذ هذا الحنين مسارات جديدة, لعل من أهمها هو ذلك الخيط الذي يذهب الى المنفى, لنقل إن حنينا إلى المنفى تشكل داخل النص وهو حنين لا يتعارض مع وعي العودة نفسه بمعانيه المجزوءة والناقصة, أنا دائماً أفكر أن عودتي الى رام الله هي عودة ناقصة الى مكان ناقص ولا أحمل السياسة عدم اكتمال الأشياء .
* نستطيع القول هنا أن صورة المنفى مكتملة وصورة العودة الى الوطن غير واضحة المعالم الى الآن, وبالتالي هناك صورتان متوازيتان في النص ؟
- أنا حاولت دائما أن أخرج من تهاد الثنائيات للغة, لم أقسم حياتي بين منفى ووطن, لم أكن بين مكانين, ولم أكن أرغب في ذلك, ولم يكن ذلك مفيدا, رغم أن هذه الصورة الثنائية كانت اقتراحا حاسما للكتابة ولكنه اقتراح آخرين, أنا تصرفت مع منفاي كما ينبغي لشخص يحصل على كل شنئ من منفاه..الذكريات والخبز والسرير, والبهجة والأسى....وغيرها من الأشياء. ولذلك نشأ ربما نوع من الألفة مع هذا المنفى, وأنا اخترت منفاي دائما, وهناك صنفت ذكرياتي, الوطن كان في الجانب الآخر مبنيا على روايات آخرين, نوع من الأمانة التي توضع قرب سريرك, الوطن كان ملك الرواية, وكنت معنيا في سياق وصايا طويلة كثيرة بالحفاظ عليه وهذا ما قمت به بالضبط, الآن أنا أراكم روايتي ولا أجد فرقا حقيقيا أو خطا أو عمرا أستطيع أن أحدد منه أي وطن وأي منفى, لا أرغب في تقسيم حياتي بهذا الشكل المتسلط .
* هل اتخذت رحلتك بين المنافي خطى الرحالة اللا عائد في النص......والفقد الدائم لكل الذكريات التي مضت ؟
- هذه ليست ذكريات منفاي تماما, منفاي كان يحمل دائما ملامح وطني, لعله الحظ أو لعله تسامح الأمكنة معي, الكرامة شرقي الأردن كانت دائما الحقل الحميم لهذه الذكريات وعمان فيما بعد كانت المحطة الأساسية في مشروعي الشخصي والكتابي,عندما يتمدد المنفى كما حدث معي باتجاه بيروت ثم باقي العالم حتى تونس, كان ينشأ دائما ما يشبه الحنين للمنفى الأول, نحن نتحدث عن منفى متعدد المستويات, وبدون شك سيكون هناك ذلك الاختلاف الضروري بين منفى الطفولة ومنفى الشباب, المنفى موضوع واسع جدا ومتعدد يشبه تعددية الآخر في حياتنا, في هذا السياق يمكن أن ننظر الى الماضي بصفته منفى, والى الواقع والراهن في قناع الوطن, الأساس أن ننجو في علاقتنا مع هذا التجول من ثنائية الطيب والشرير والجميل والقبيح, بالنسبة لي أيضا أود أن أتحدث عن فكرة الطريق بين المنفى والوطن منطقة ثالثة, أساسية في المشهد, أنا مكثت طويلا في الطريق حيث يتجاذبك هناك أكثر من حنين, حنين الى المستقبل وحنين الى الماضي .
* هل ترى الشاعر الفلسطيني قد استفاد من موروثه الشعبي دون أن تتسطح صورة هذا الموروث بفعل ضغوطات الاحتلال وقساوة الحياة ؟
- بداية فالموروث الشعبي موضوع واسع ولا تقسيمات واضحة له. ليس ثمة موروث شعبي فلسطيني تماما, ولا يجوز في نظري تقسيم ما هو ثقافي في إطار الاقتراح السياسي, هناك الموروث الشعبي العربي وفي الداخل خصوصيات إقليمية في الشام ومصر والمغرب والجزيرة العربية, إذا تحدثنا عن فلسطين فنحن نتحدث عن موروث عربي متعدد الطبقات مبني على الميثولوجيا السورية ( سورية بمعناها الكبير), بكل ما تحمله هذه البنية من تقاطعات وتداخلات مع الجغرافيا المحيطة في المتوسط أو العراق .
لا أحاول أن أنفي الموروث الشعبي الفلسطيني, لكن أرغب في إحالته الى حقله الرئيسي, وكإجابة على تساؤلك لا أظن أن هناك تعاملا عميقا قد جرى أو توظيفا بنيويا قد تم في المشهد الشعري الفلسطيني مع هذا الموروث, وأكاد أقول العربي, قد أستثني بعض الأسماء ولكن أستطيع القول بثقة أن محمود درويش أحد هذه الأسماء التي استطاعت أن تتعامل مع تقنيات المكان الثقافية بموروثاته وإدخالها الى نسيج عمله, مما منح نصوصه تحديدا في السنوات العشر الأخيرة تلك القوة المعرفية التي يفتقر لها غالبا النص الشعري العربي, ويمكن أن نأخذ جداريته نموذجا .
* حضورك في الأماسي الشعرية في أوربا ومترجمات للغات أوربية عديدة, ماذا عنى لك تقديمك لمتلق أوربي وماذا عنى لهم اختلافك الثقافي وخصوصيتك الفلسطينية ؟
- لا شك أن العلاقة مع المتلقي لا يمكن تفاديها, الجدل يدور حول صيغ العلاقة, كنت أحد (المحظوظين) وحصلت على ترجمات بلغات متعددة لبعض ما كتب, لا أظن أنني ألبي في كتابتي رغبات المتلقي سواء أكان عربيا أم أوروبيا, ولا أستطيع القول أن هذا لا يعنيني تماما, لكنه لا يشكل هاجسا لدي, أحاول دائما أن أنقي كتابتي من ظلال السياسي ليس بمعنى نفيه أو إقصائه عن النص بقدر جره وتوظيفه جماليا, في أوربا يرغبون في أن نؤكد لهم صورتنا لديهم, تلك الصورة التي بناها وأسسها المستشرقون في القرنين الماضيين, والتي مهدت أيضا وأسست لفكرة الاستعمار, أظن أن جزءا من مهمة المشروع الثقافي العربي الآن في زمن يشبه زمننا هو زحزحة هذه الصورة وتعديلها, ونفي المتخيل منها وتأكيد الصورة الحقيقية وهي على أية حال صورة مختلفة تماما, أظن أن حضور المثقف والمبدع العربي بلغات أخرى ضروري, لتطوير الحوار وتصويب اتجاهاته مع الغرب, السياسي فشل فشلا ذريعا كما نرى وكما نعرف في خلق أو في إقناع الغرب بصورتنا الحقيقية عبر سلسلة من الإخفاقات والحماقات التي أكدت التشوه في مخيلة الثقافة الغربية, أوروبا الآن خائفة ومستهدفة تماما كما نحن, وثمة ثقافة عشوائية مؤسسة على القوة والعنف وإقصاء الآخر تتقدم نحوها من وراء الأطلسي وهي ( أي أوروبا) جاهزة الآن للإصغاء إلينا أكثر من أي وقت مضى .
*؟ جرى إنتاج أحد نصوصك( ليل الجنود) في فيلم أخرجه محمد سوالمة, كيف تنظر للتجربة
- أنا أميل أحيانا الى الأعمال المرئية, لدي ضعف هنا, عملت مع أكثر من مخرج وأنجزت نصوصا لأفلام وثائقية, لعل أهمها فيلم وثائقي حمل عنوان ( البحر الضيق), وكان معني بمعالجة أحوال الصيادين في غزة, الفيلم الوثائقي بالنسبة لي هو الغوص في بحث متكامل في قضية محددة وهو مصدر مهم للمعرفة, ولكن المعروف هنا يأخذ أكثر من بعد, البعد الميداني والقائم على التجوال والسؤال وجمع المعلومة الجديدة والحوار وطرح الأسئلة والجانب الثاني هو السياق الإبداعي أو السياق الجمالي الذي تطرح فيه هذا البحث الجاف, ثمة تحد ومتعة .
ليل الجنود هو أحد الأعمال التي اقترحت نفسها مباشرة بعد الاجتياح الطويل لمدن الضفة الغربية وتحديدا رام الله التي أعيش فيها, ومحمد السوالمة مخرج ذكي التقط المشهد عبر تفصيل صغير ينطلق من شابة فلسطينية فقدت حياتها اليومية أو نظام هذه الحياة, وبدأت تتعرف على مدينة مختلفة تماما, الأساس هنا هو الجانب الإنساني, والذي من خلاله يعرض المخرج مشهد الموت العنيف الذي يتعرض له الناس وتفاصيل وعادات الحياة اليومية عندهم .
ليست ثمة مزاعم كبيرة بالفيلم أو خطاب عالي النبرة أو اقتراحات تاريخية, فقط رغبة في إعادة ترميم اليوم عبر ترميم الشارع والمدينة والحياة.
* الشاعر يهرب ضجرا الى الرواية..أصدرت روايتين ( وصف الماضي ) و(سماء خفيفة) منقطعا عن الشعر عدة سنوات, الى أي حد كان السرد اقترابا أو ابتعادا عن الشعرية ؟
أنا لدي هاجس كتابة الرواية, وأظن أنه موجود عند معظم الشعراء, أبرر كتاباتي لنصوص سردية إذا كان الأمر بحاجة الى تبرير بأنني كشاعر أتعامل مع اللغة كمادة خام, أمتلك حق تشكيلها والانتقال بها من حقل الى حقل وهذا ما فعلته بالضبط وهو في سياق آخر تدريب قاس سيكون بدون شك ضروريا لكتابة الشعر .
* هروبك المستمر من المجلات التي ترأست تحريرها (بيادر) و (مشارف) و(الشعراء), لماذا ؟
أنا بناء ولكن لا أطيل الإقامة في المنازل التي أبنيها, ولا أغادر قبل أن أنهي عملي, ولا أظن أن علينا أن نطيل الإقامة أكثر مما ينبغي تماما كما نطالب بذلك السياسيين والزعماء.
جريدة العرب اليوم 5 /9/2004
أقرأ أيضاً: