يقول الشاعر الفلسطيني غسان زقطان انه لا يستطيع ان يتخيل نفسه متفرغاً تماماً لكتابة الشعر، لأنه عندما جرب ذلك وجد تناقضاً عميقاً بين الاسترخاء المبالغ به، وبين ما يرغب بكتابته.
ويرى زقطان في عودته الى فلسطين انها "عودة الى أملاك وأحلام العائلة" مثلما هي عودة نحو الذاكرة، لافتاً الى ان عودة جزء من المثقفين الفلسطينيين الى رام الله تأتي في سياق لا يشبه "حلم العودة" والى مكان لا يشبه "حلم الوطن" تماماً ويوضح "لم أكن في رام الله لأعود لها .. ومفردة العودة ليست مناسبة تماماً".
والشاعر غسان زقطان يشغل موقع مدير عام الآداب والنشر والترجمة في وزارة الثقافة الفلسطينية، فضلاً عن إشرافه على القسم الثقافي في جريدة "الأيام الفلسطينية" الأمر الذي خلق تشابكاً في حوارنا معه بين العام والخاص.
ويرى زقطان في الحوار الذي أجرته "الرأي" معه مؤخراً ان على المعرفة ان تذهب الى الفلسطيني في مكانه، لأنه لا يستطيع المجيء إليها، بسبب ظروف الاحتلال الإسرائيلي، موضحاً ان وزارة الثقافة الفلسطينية قامت في هذا السياق بإنشاء (70) مكتبة في المدارس الفلسطينية، و 60 مكتبة للأطفال.
وكشف زقطان عن تنفيذ برامج ثقافية بالتعاون مع "اليونسكو" بهدف مقاومة الاحتلال، عبر إصدار سلسلة كتب شهرية وتوزيعها مجاناً مع الصحف الفلسطينية لتأسيس مكتبة مجانية مختارة للبيت الفلسطيني، فضلاً عن العمل على انطولوجيا لشعراء فلسطين في الشتات، مشيراً الى انجاز جزء منها في "التشيلي" حيث هناك ثمانية شعراء، فضلاً عن إصدار انطولوجيا لشعراء فلسطينيين يكتبون بالانجليزية.
وزقطان الذي لا يفتأ يردد "حملت منفاي معي" يؤكد ان منطقة "الكرامة" تظل بالنسبة اليه "أكثر من مكان طفولة .. ما تزال تشبه حتى الآن كوكباً مجاوراً استطاع ان يجمع تناقضات لم يتمكن من الحصول عليها فيما بعد".
* توليت إدارة مديرية الآداب والنشر والترجمة في وزارة الثقافة الفلسطينية منذ شهور .. ما مبررات قبولك بهذا الموقع؟
؟ أولا .. لا تستطيع ان تكون جزءاً من المشهد الثقافي في فلسطين من موقع الحياد، هناك مهمات على الأرض تفرضها المواطنة، والثقافة.
من هذا المنطلق، أجد ان أي موقع سواء أكان رسمياً أم في سياق مؤسسات المجتمع المدني يمكن ان يكون فاعلاً ومؤثراً وضرورياً أيضا، ففي الصراع مع الاحتلال أجد ان الثقافي هو الجوهر الصلب للمواجهة، فالمواجهة رغم كل المظاهر ورغبات المصالحة تأخذ شكلاً تناقضياً وتمثل الثقافة ببعدها التاريخي والإنساني الصدارة، او النواة.
لست مضطراً لمثل هذه المقدمة لتبرير موقع وظيفي ولكنه جزء من وصف ما يحدث في بلادنا، ووزارة الثقافة الفلسطينية موقع أساسي في هذه المواجهة.
لدينا شبكة من الأفكار والمشاريع تندرج في ما أسميناه "الخطة الوطنية" ونعمل على تنفيذها وترجمتها على الأرض، جزء أساسي من قوة الاحتلال تتوجه نحو تحطيم وعزل الفلسطينيين، المكان والناس، عن محيطهم العربي والإنساني، وهي سياسة عدوانية وفاشية تتمتع أيضا بالدأب وطول النفس، لهذا ربما وجدنا في وزارة الثقافة إننا بحاجة الى مستوى من المواجهة يختلف تماماً عن المتداول والمتبع في المؤسسات الثقافية العربية على سبيل المثال، لمواجهة مثل هذه السياسة أنت بحاجة الى قوة المبادرة والفكرة النابعة من الحقائق على الأرض.
* ولكن لا بد من التوجه الى الهيئات الدولية للمساهمة في توزيع المعرفة وإظهار الجهد الثقافي في ظل عزل رام الله عن المناطق الفلسطينية الأخرى؟
؟ معظم المشاريع في وزرة الثقافة الفلسطينية تقوم على هذه الفلسفة، والمنطلقة بمجملها من فكرة ان دورنا لا ينبغي ان ينحسر في عملية الإنتاج الثقافي بقدر ما هو منشغل ومعني بخلق المناخات والبيئة الثقافية الإنتاجية ودعم وإسناد مبادرات المجتمع المدني ومؤسساته، من خلال شبكة قوية وواسعة من العلاقات والاتفاقيات مع المحيط العربي والعالمي وتحديداً "الاتحاد الأوروبي" خلال برامج تبادلية تضمن لنا توزيع الجهد الثقافي ونقله من المركز الذي هو "رام الله" نحو الأطراف، والمناطق التي عزلها الاحتلال.
توفير المعرفة
* كيف ترى الى التعاون مع "الاتحاد الأوروبي" من قبل وزارة الثقافة الفلسطينية؟
؟ نحن نتحدث عن جانب جزئي من نشاط كبير يساهم في العديد من المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني، ويتجاوز في تغطيته الجانب الثقافي نحو جوانب حياتية متعددة (الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي .. الخ)، الأمر ليس بحثاً عن التضامن فقط، وهو ضروري دون شك، ولكنه يعتمد على توفير المعرفة، والتماس مع الحقائق الموجودة على الأرض، وهو ما يفتقر له، على ما أظن، الإعلام الأوروبي.
كتاب الشهر
* هنالك سياسة إسرائيلية لمنع الكتاب العربي من دخول فلسطين، ماذا فعلتم إزاء هذه المشكلة التي تسهم في تغييب المعرفة من جهة وفي تشديد الحصار الثقافي على الفلسطينيين من جهة اخرى؟
؟ منذ مطلع العام 2004 باشرنا في محاولة لمواجهة السياسة الاحتلالية القائمة على أساس منع إدخال الكتاب الى فلسطين، وهي سياسة قائمة منذ عقود، لكنها تعززت وذهبت الى أقصى درجاتها في السنوات الثلاث الأخيرة، وكان هذا جزءاً من خطة طوارئ وضعتها وزارة الثقافة الفلسطينية، بسبب خلو المكتبات من أي إصدارات عربية او عالمية جديدة.
من جهة اخرى، وفي حالة توفر إنتاج طباعي سيواجه هذا الإنتاج بالحصار الداخلي وعدم القدرة على الوصول على المدن والقرى التي عزلها الاحتلال، وقد اظهر مشروع "كتاب الشهر" وهو مشروع تكفلت الوزارة بانجازه ويتلخص في إصدار كتاب شهري يتم اختياره من قبل لجنة متخصصة، ويطبع بآلاف النسخ، ويوزع مجاناً مع الصحافة اليومية، بحيث يصل الى أوسع الشرائح، والكتب المختارة تشمل اختيارات لكتّاب فلسطينيين من الداخل والشتات، وأيضا لكتّاب عرب إضافة الى الترجمات بحيث تشكل هذه القائمة مكتبة مجانية مختارة للبيت الفلسطيني.
وقد صدر حتى الآن من هذه السلسلة ستة إعداد واستطعنا عبر دراسة المردود الثقافي والمعرفي ان نلمس الأثر الايجابي والواضح فعلاً في الحياة الثقافية الفلسطينية، خاصة وان المشروع يتجاوز فكرة الطباعة نحو تنظيم ندوات وقراءات وحوارات تتناول الإصدار في مختلف المدن تقوم بها شبكة المراكز الثقافية والجامعات والمعاهد.
وكان الكتاب الاول لهذا المشروع هو "لا تعتذر عما فعلت" للشاعر محمود درويش وهو الكتاب الذي منعته سلطات لاحتلال من الدخول الى فلسطين وقد منحنا الشاعر درويش "وكذلك دار النشر" الحق بإعادة طباعته واستطعنا ان نقدمه للقارئ الفلسطيني بنسخة شعبية مجانية.
هذا المشروع يشكل نموذجا لطريقة العمل التي تحاول وزارة الثقافة ان تتجاوز فيها سياسة العزل الثقافي الاحتلالية جزء من شبكة مشاريع يجري تنفيذها وتذهب في الاتجاه نفسه.
* هنالك سياسة واضحة تتبعها إسرائيل تعمل على هدم البنى التحتية العلمية والثقافية الفلسطينية كيف تواجهون هذه السياسة؟
؟ الحقيقة ان هناك عملية هدم متواصلة ولكن هناك أيضا عملية بناء متواصلة في الجهة المقابلة، على سبيل المثال تم افتتاح قصر الثقافة في تموز الماضي في رام الله، وهو انجاز ثقافي يمتلك تقنيات متطورة جدا، ويستوعب فعاليات متنوعة من المسرح والسينما الى قاعات عرض تشكيلية.
هناك أيضا مسرح العقبة الذي يقدم يوميا "مسرح / سينما" وفق برنامج منتظم وجاد، إضافة الى العديد من المؤسسات الثقافية التي تشكل شبكة للمراكز الثقافية متفاوتة النشاطات.
على مرأى من الدبابات
* ولكن ماذا عن المكتبات في المدن والقرى المعزولة ومدى توفرها؟
؟ لعلنا نجحنا أيضا في تأسيس أكثر من 70 مكتبة في المدارس في الأطراف، فضلا عن أكثر من 60 مكتبة أطفال، بحيث يبدو الأمر بالنسبة لنا أنه إذا منع الاحتلال من ذهاب الناس الى المعرفة، فعلى المعرفة ان تذهب إليهم.
في الصيف الماضي شهدت رام الله اول مهرجان عالمي للسينما على مرأى من دبابات الاحتلال، كما شهدت شوارعها مسيرات وكرنفالات مهرجان مسرح الطفل ومهرجان "صورة الفلسطيني في السينما الإسرائيلية" وملتقى المبدعين الشباب ومخيمات الصيف، ونعمل الآن على تنظيم مهرجان الكتاب الدولي مع منظمة اليونسكو والذي نأمل ان ينعقد قريبا كجزء من معركتنا ضد سياسة منع الكتاب: بحيث تتولى اليونسكو، توفير إدخال الكتب والناشرين والفعاليات الموازية التي نقوم نحن بدورنا باقتراحها وتنظيمها وإدارتها.
* كيف ترى الى المشاركة العربية في معرض فرانكفورت للكتاب، وفي الوقت نفسه ماذا عن المشاركة الفلسطينية؟
؟ هناك التباسات كبيرة ظهرت في تنظيم المشاركة العربية في فرانكفورت ومعظمها مرده الى الاقتراحات المقدمة من إدارة الجامعة العربية التي تولت تنظيم المشاركة.
ثمة ثغرات في الاختيارات وفي توزيع هذه الاختيارات يمكن ان نلمسها من خلال عدم الرضي الواضح والانتقادات التي وجهت للبرنامج.
والمؤسسة التي أهملها المعرض فرصة بالغة الأهمية وأظهرت أننا لم نعمل على الاستفادة القصوى منها.
فلسطينيا البرنامج الذي اقترحته الجامعة العربية كان يتضمن اختيارات محدودة جدا حاولنا ان نعيد النظر فيها بحيث أننا قدمنا اقتراحا مختلفا تماما شمل أسماء المشاركين ومحاور النقاش والفعاليات وقد نجحنا جزئيا في زحزحة اقتراح الجامعة العربية وأظهر ان التعديل الذي أجريناه على البرنامج المقترح الخاص بنا ساهم في تطوير المشاركة الفلسطينية، رغم انه لا يلبي طموحاتنا، وقد اصطدمنا بالجانب المالي وبالكوتا، وبعقلية الموظف التي حكمت عملية الاختيار والمشاركة.
* لنعد الى الشاعر زقطان وقد أخذنا عملك الرسمي من المشاعر فيك .. لماذا وصمت كتابك الأخير بـ "سيرة بالفحم" وهو ذهاب كامل نحو الأمكنة الأولى .. وأمكنة الترحال .. وكأن الشعر "منفاك"؟
؟ أظن ان "سيرة بالفحم" مكملة لما سبقها او هي نوع من الذهاب الى أقصى التجربة هي مكملة لـ "استدراج الجبل" و "بطولة الأشياء" وهي تلبي رغبتي وهاجسي في السرد.
بالمقابل هي ليست سيرة شخصية بقدر ما هي سيرة أمكنة، إذا أردت يمكن القول انها نوع من الوفاء لأمكنة متعددة أخذت مني أو أخذت منها، الأمكنة التي كنت فيها ما تزال معي، وأظن انها ما تزال تحتفظ بي أيضا، هذا منفاي، وهو منفى متسامح، وحميم أيضا ولا تخلو علاقتي به من حنين لا يمكن تفاديه.
ملامح الطريق ..
* يلاحظ المتابع لتجربة الشاعر غسان زقطان انه متيم بـ "المكان" المكان الاول .. أماكن الترحال .. أماكن الطفولة .. والأماكن المنشودة في الوطن .. فماذا عن فلسطين المكان لديك؟
؟ أنا أميل الى الحديث عن مكان ثالث، منحه المنفى او ما اصطلح على تسميته بالمنفى، صفات أخرى، صفات يتضمنها لأنه يتمتع بها.
في منفاي ملامح وطني وفي وطني ملامح الطريق، أظن أنني نجوت بطريقة ما لنقل أنها ضربة حظ من تسكين فلسطين داخل إطار، ومواصلة وصفها وإضافة ما يفتقده المنفى الى صورتها، بحيث أنني لم أحول المكان الفلسطيني في مخيلتي وفي كتابتي الى "ارض ميعاد"، او الى "الإسكندرية" التي نفقدها، كانت دائما مكانا يسكنه الأعداء قابلة للتبدل والتغيير والعودة أيضا لهذا لم تفجعني فكرة العودة الناقصة ولا المكان الناقص الذي واجهني عندما رجعت.
لعل ما كان مؤثرا هو رغبتي في اكتماله وهي رغبة مشروعة ولكنها لم تكن سياجا لا يمكن القفز عنه.
هذا يتضمن وجود الآخر المحتل في المكان عبر جماعته وبالمعرفة الناقصة عنه، هذا التماس المباشر مع الآخر بتنويعاته من المستوطن الى اليساري المتحمس كان جديدا ويمتلك طاقة معرفية ضرورية بالنسبة لي.
نحن في النص نأخذ المكان ونعزله عن ساكنه "المحتل" في حالة فلسطين، بحيث يبدو المكان خاليا ومحاصرا ومجردا من طاقته وفعاليته ومضطهدا أيضا وعندما ننتقل الى تناول الاحتلال نأخذه بإطاره المجرد الجمعي والشعبي أيضا، وننفي علاقته بالمكان، وتأثيره فيه فيما نسميه "القداسة" نضع حدودا بين المكان والمحتل، الصدمة كانت في مواجهة الاحتلال وتسربه داخل المكان الفلسطيني كموضوع واحد، هو في تصوري نواة الصراع.
نحمل منفانا .. وذاكرتنا
* هل ما يزال الشاعر فيك يحمل منفاه معه .. كما حمل وطنه معه؟
؟ أظن ذلك .. أظن أننا جميعا نحمل منفانا حينما نذهب، ومثلما حاولنا في منفانا ان نستعير ملامح الوطن لنضيفها الى المنفى نحمل منفانا وذاكرتنا لنضيفهما الى الوطن، أنت لا تستطيع ان تتجرد من ذاكرتك او ان تنفيها، تلك حياتك، ومقتنياتك والممتلكات الوحيدة التي تتمتع بحق التصرف بها، وحتى عندما نستخدم مفردة "العودة" لا تبدو هذه المفردة مناسبة تماما، أنا لم أكن في رام الله لأعود إليها، أنا أعود الى أملاك وأحلام العائلة الأب والجد والأم، الذاكرة التي احملها عن هذا المكان هي ذاكرة مركبة قادمة منهم، لم أتصرف بها وبدت مثل أمانة غير قابلة للتصرف، ولكنني أملك الحق الكامل في تشكيل ذكريات جديدة طالما أنني أرى ان المبدع هو صانع ذكريات بالأساس.
* "استدراج الجبل" حملت هذا البعد للعائد الى ارض الوطن ولكن بحنين الفلسطيني الذي لم ير المكان ولم يعرفه الا من خلال حكايات الأهل وذاكرتهم؟
؟ لا يمكن الفصل الآن على أعتاب الخمسين وعزل وتصنيف الذكريات كل هذا يتحول الى خبرة وتجربة ومحصلة ثقافية ولا ينبغي تفكيكها ولا أظن أننا نستطيع ان نفعل ذلك أصلا.
الحنين هو حقل الذكريات الكثيف، هذا ليس حيلة بلاغية وفي هذا الحقل الشائك والملتبس لا يمكن تفكيك الأمكنة والروايات والصور المنقولة والرغبات، هكذا أتعامل مع ذكرياتي. أنا اذهب إليها زائرا ولا أقيم، وأعود منها بحمولة "ما" ثمة هناك أشياء دائماً لم تنتبه لها في المرة الأولى.
تصالحت مع حياتي
* هل أنت راض عن نفسك وعن تجربتك سواء في الاغتراب او العودة؟
؟ لا صراع بين غربتي واغترابي، أنا تصالحت مع حياتي - إذا صح التعبير - لدي جانب من القروية أجده ضروريا لمواجهة المسيرة اقتنعت بالطريق وبدأت أكثر أهمية من البيت، الطريق بمعناها المعرفي والمتحرك بعيدا عن سكونية المنزل والعادات والجار الوحيد.
المنفى والخبرة
* ما اثر عودة عدد من المثقفين والمبدعين من الشتات الى الوطن على المشهد الثقافي الفلسطيني؟
؟ بدون شك ان هناك أكثر من تجربة في المشروع الثقافي الفلسطيني تجارب تأسست على تعود الأمكنة وتنوعها، ثمة خصوصية لكل موقع ولكل جغرافيا سياسية وجد الفلسطينيون أنفسهم في سياقها.
عندما تتحدث عن مناطق ثقافية فهذا لا يشمل الانتماء الوطني او الفعالية الوطنية بقدر ما يتضمن الخبرة الثقافية التي اختزنها المبدع او التي توفرت له سواء في موقعه تحت الاحتلال، او في منفاه او منطقة هجرته، ولا ينبغي ان تقودنا القداسة الوطنية والبلاغات المتداولة الى إجبار مشروعنا الثقافي على ان يكون مستنسخاً وقابلا ومقتصرا على إعادة إنتاج نفسه وفتح تجربته منح المنفى للفلسطينيين خبرة واسعة مبنية على الاحتلال والتماس والتداخل والشراكة أيضا مع المشروع الثقافي العربي ودفعتهم مركزية القضية الفلسطينية عربيا الى الصدارة أحيانا، والى ان يكونوا الوسيلة أحيانا اخرى، ولكن الحضور الفلسطيني كإبداع في المشهد الثقافي العربي كان مؤثرا وواضحاً..
بهذه الحمولة عاد المثقفون الفلسطينيون الى الجزء المتاح من بلادهم، وفي سياق لا يشبه حلم العودة، والى مكان لا يشبه حلم الوطن تماماً.. ولكن تجربتهم بقيت متنوعة وقاسية وذات تأثير يمكن ان تلمسه في الحراك الثقافي والجدل الدائر في فلسطين الآن.
التجربة في الداخل كانت مختلفة ولسنا في معرض تحديد مستويات، وتصنيف الجودة بقدر ما نتحدث عن تنوع الخبرة وتعدديتها.
سأضيف الى ذلك وباختصار - ربما - التجربة الاستثنائية لفلسطينيي 1948 الذين يواجهون برنامجاً مختلفا مصدره العدو نفسه، وابعد من ذلك هناك ساحات لم نتمكن من معرفتها بعد، هناك حركات ثقافية فلسطينية، او بمساهمة فلسطينية في المهجر وبلغات غير عربية "الانجليزية والاسبانية تحديدا" وعلى سبيل المثال تعمل الآن على انطولوجيا لشعراء فلسطين في التشيلي، بدأنا الآن بثمانية شعراء كان لهم تأثير ليس في المشهد الثقافي في التشيلي وهم جميعا يكتبون بالاسبانية ومساهماتهم بدأت منذ مطالع القرن الماضي، وهي مساهمة معترف بها من قبل الحركة الثقافية في البلاد التي هاجروا إليها، منها اندرولا سبيلا، محفوظ حصص، وغيرهما.
كما ان لدينا مشروعا آخر مع الشاعرة الفلسطينية الأميركية ناتالي حنظل لانجاز انطولوجيا فلسطينية لشعراء يكتبون بالانجليزية وقد أنجزت الاختيارات التي شملت حوالي 15 شاعرا وشاعرة يتمتعون بحضور في الحياة الثقافية في الولايات المتحدة.
هذه الأمثلة تؤكد ان فكرة التنوع ستمنح المشهد الثقافي الفلسطيني تعددية في التجربة وقدرة على التواصل والجدل مع مناطق التجربة ومع المحيط العربي والإنساني ويمكن ان تشكل خصوصية استثنائية بهذا المشهد إذا تم التعامل معها من هذه الزاوية، وفي سياق فتح آفاق الحوار.
* لم تدرس جيدا من قبل النقاد كشاعر.. ما ملابسات ذلك؟
؟ أظن ان الشعر بشكل عام لم يحصل على حقه في النقد لأسباب متعددة، منها ضعف حركة النقد عربيا، وتخلفها كحركة عن الاقتراحات الشعرية المتداولة عربياً.
بالنسبة لي هناك سوء حظ واكب إصداري لمجموعاتي الشعرية لا تتحمله المراكز المتقدمة، ولا أتحمله أنا أيضا، منها ان الكتاب الثاني "أسباب قديمة" وهو كتاب أحببته، احترق في المطبعة لأنه صدر عشية الاجتياح الإسرائيلي لبيروت.
الكتاب الذي تلاه صدر في سياق مصادرة كتب عديدة وكان الهدف إغلاق دار النشر التي أصدرته، وربما بطولة الأشياء نال بعض الاستحسان واهتم به عدد من النقاد الا ان إغلاق دور النشر أيضا منع إعادة طباعته ووصوله وهذا ما حدث مع معظم كتبي باستثناء كتبي الثلاثة الأخيرة التي ظهرت عن المؤسسة العربية للدراسات للنشر.
* تحمل قصائدك نفسا روائياً ان جاز التعبير، فهل ستذهب يوماً نحو كتابة الرواية كما سبق وان فعلت؟
؟ لدي هاجس الدولية وأظن انه موجود لدى معظم الشعراء بدرجات والذهاب الى حقول اخرى من الكتابة لا يضعف بل يكرس ويعمق العلاقة مع اللغة، وإنها المادة الخام المتوفرة لصناعة الكتابة، حتى داخل الشعر أميل الى السرد تحديداً في السنوات الأخيرة، نجح النثر مساحة واسعة وغنية وخاصة، ويمكن ان تتحول الى مناطق طاقة داخل القصيدة وتوسع من حقل الدلالات وتمنح الشعر فرصة للنفس، لم أفكر عندما كتبت رواية "وصف الماضي" او "سماء حقيقية" بذلك ولكنني واثق ان تلك التجربة ساهمت في تعزيز علاقتي بالشعر.
* وماذا عن كتابة السيرة الذاتية لغسان زقطان والطرق التي سار عليها - بمعنى الدروب الحقيقية؟
- لدي هذا الهاجس دائما ولدي بدايات ومطالع ناقضة لأعمال نثرية في الفترة الأخيرة تجاوزت فترة المطالع باتجاه انجاز فصول من كتاب حول "الطرق" ونشرت جزءاً منها في "فضائيات عربية" كتاب بسيط يتحدث عن طرق حقيقية بخيبتها وتجاربها ورفقتها وهي طرق قد لا تبدو مهمة على الإطلاق للآخرين لكنها ترسخت في الذاكرة لأسباب تتعلق بها وفي بعضها لم يعد موجوداً.
عائلة مترامية الطرق والممرات والدروب يتعدد فيها طريق من البيت، في مخيم الكرامة الى المدرسة الابتدائية هناك الى جانب رحلة قطار منتصف الليل بين موسكو وسان بطرسبيرغ، الى طرق جبلية شرقي بير زيت وغيرها الكثير. هذا هو هاجسي الجديد وأظن أنني قادر على انجازه.
"الكرامة" المكان الساحر
* يظل للمكان الاول مكانة خاصة لدى الشاعر .. ماذا عن موطن طفولتك الأولى "الكرامة"؟
؟ الكرامة بالنسبة لي أكثر من مكان طفولة فهي ما تزال حتى الآن تشبه كوكباً مجاوراً استطاع ان يجمع وان يقتني تناقضات لم أتمكن من الحصول عليها فيما بعد، الملح الموجود في الأرض والماء الى جانب الزراعة، تجاور الناس، وتناقض لهجاتهم بين مدنيين وريفيين وبدو، النهر والسيل والطوفان، السلط، في الأعلى واربد في السهل، قوة الناس في مواجهة العقارب والأفاعي والملاريا لجهة تكوين حياة وسط كل هذا.
العائلة عندما كانت مكتملة بدون غيابات او افتقاد مكتبة والدي ومجموعة كتبه التي كانت زادي حينها، وما تزال لا ادري ما الذي جمع كل هذه الأشياء في ذلك المكان، ولكنه كان مكاناً ساحراً في ذلك لوقت.
* تظل الطفولة حاضرة في ذاكرة الشاعر .. ماذا تحمل منها؟
؟ قد أفاجئك إذا قلت ان الحضور الأساسي لتلك الطفولة .. هو غياب والدي وحضور مكتبته، طفولتي واضحة بالنسبة لي لم أكن الابن البكر، ولم أكن البنت ولا الابن الأصغر، لعل هذه المنطقة الوســـــطى إذا صح التعبير، منحتني شيئاً من الحرية.
لعلني كنت الأكثر غياباً عن العائلة أيضا مبكراً عندما ذهبت الى معهد داخلي وبعد ذلك غادرت الى بيروت، فبقيت علاقتي بالأسرة / العائلة علاقة مبنية على التذكير والمسنين.
* وماذا عن أجواء غسان زقطان في الكتابة، حتى تكتب أين وهل من طقوس خاصة لديك؟ وكيف تختار عناوينك؟
؟ أنا اكتب غالباً، في الليل، تحديداً بعد منتصف الليل لا ادري من أين وكيف حصلت على هذه العادة، ولكنني تواءمت معها لا استطيع الكتابة، الا إذا كنت وحيداً تماماً، ليس لدي طقوس معينة اخرى في الكتابة أفضل ورقاً ابيض وطاولة كتابة .. ولكنني أقرر الكتابة مرات عديدة واترك ملاحظات وإشارات خاصة بي على هوامش الورق، لدي دفتر صغير لكل قصيدة، اكتب أيضا عندما أسافر في المطارات إذا سمح الوقت.
الصحافة تمنحني آفاقا جديدة
* ويظل السؤال كيف توفق ين عملك الرسمي، والإبداعي، والصحفي كونك مسؤول القسم الثقافي في جريدة "الأيام" الفلسطينية وهل يؤثر عملك على إبداعك بشكل سلبي أم يغنيه؟
؟ هذه معضلة لم أتمكن من حلها، فالأمر يتجاوز المهنية في العمل الصحفي، فانا أحب فعلاً عملي بحرية الاختيار، ووضع السياسة للقسم الذي اشرف عليه، ولذلك لا أجد تناقضاً أساسيا بين ان اشرف على القسم الثقافي في "الأيام". وبين مشروعي الشخصي للكتابة، سأتفق معك ان الانشغالات المهنية تترك أثرها على العمل الإبداعي، ولكن كون تخصصي المهني على تماس مع مشروعي، يجعل الأمر أكثر سهولة، أنا لا استطيع ان أتخيل نفسي متفرغاً لكتابة الشعر، حاولت ذلك أكثر من مرة وحصلت على هذه الرفاهية، ولكنني كنت أجد تناقضاً أكثر عمقاً بين الاسترخاء المبالغ به، وبين ما ارغب في كتابته.
جريدة الرأي
3 - 12 - 2004