هزال المرحلة ينعكس علي شعراء المرحلة.. ولكنّ هناك باستمرار شعراء كباراً
ليس من شأن الإعلام العربي اليوم أن يحتضن شاعراً أو مبدعاً حقيقياً
الأمة العربية لن تموت.. وهي اليوم في حالة انهيار، ولكن علينا ألا نيأس
المؤسف أنك لا تجد اليوم أسماء كبيرة كأم كلثوم وعبدالوهاب والسنباطي.. بل تعثر علي نكرات!
ثمة غابة صوتية عربية تطن وتدوي وتصيح وتصرخ وتغني، ولكنّ هناك أيضاً ثرثرة وهستيريا وسقوطاً وهذياناً
إذا كانت الأمة العربية في حالة انهيار.. فليس كل الشعر العربي اليوم بنفس الحالة
بقلم / جهاد فاضل :
يقلق حاضر الشعر العربي الكثيرين، ففي نظر هؤلاء، فقد الشعر العربي ألقه الذي كان له، سواء في الماضي البعيد او في الماضي القريب، فهذا الشعر الذي كان ديوان العرب، والمظهر الاساسي لعبقريتهم، والبلبل المغرد في افراحهم واتراحهم وكل مناسباتهم، ونجوي قلوبهم ووجدانهم القومي، لم يعد في حاضره يشبه امسه البعيد والقريب، فما الذي دهي الشعر ولماذا غادر الشعراء الكبار؟ ولماذا يختلف احفاد المتنبي والمعري وشوقي كل هذا الاختلاف عن جدودهم، وعلي الخصوص في متانة القصيدة وجودتها واكتمالها وعظمتها؟ هناك الكثير من الشعراء، ولكن محصول شعرهم - بلغة المتنبي - ليس من النوع الذي يذكر بالعالي، والرفيع من الشعر، لا في تراثنا ولا في تراث الامم الاخري.
الكثيرون يقلقون لحاضر الشعر العربي، وعلي الاخص رواد ما يسمي بحركة الشعر الحديث، او الشعر الجديد، بلغة الدكتور محمد النويهي، ومن هؤلاء الذين ما زالوا احياء يرزقون، الشاعر محمد الفيتوري السوداني والليبي والافريقي، ولكن العربي الذي يأسي لحاضر العرب السياسي والشعري علي السواء، انما المتفائل، رغم اسوداد الافق، بغد مشرق للعرب ولشعرهم، فكيف ينظر الفيتوري الي المشهد الشعري العربي الراهن؟ يري الفيتوري شعراء كثيرين، ولكن محصولهم الشعري، في نظره، قليل. غابة ملتفة من الشعراء، لكن اغصانها الباسقة نادرة، ولكن هذا ليس بالامر الذي ينبغي ان يثير الذعر، ما الذي بقي من شعراء الجاهلية ومن شعراء صدر الاسلام وبني امية وبني العباس؟ قلة قليلة من الشعراء في نظره، لكن هل يخشي الفيتوري تقدم الرواية وتراجع الشعر؟ وهل يعتبر هو اصلا ان الرواية تتقدم وان الشعر يتراجع؟ وينتهي الحوار مع الفيتوري بسؤال عن الموت: كيف ينظر الي الموت؟ هل الموت موضوع شعري اولا؟ كيف تعامل معه في شعره؟
وبداية كان هذا السؤال:
كيف ينظر الفيتوري، احد رواد حركة الشعر العربي الحديث، الي حاضر هذا الشعر الحديث؟ هل هو متفائل ام هو غير ذلك؟ هل انتهي الشعر العربي في نظره؟
وأجاب الفيتوري بما يلي:
اما ان الشعر العربي قد انتهي، فهذا كلام - كما يقول المعري - له خبيء معناه ليست لنا عقول، الشعر لن ينتهي، لا الشاعر العربي ولا الشعر العالمي، بالعكس، اذا كان عندنا امة في حالة خمول وحالة احباط وحالة انهيار وتراكم ازمات، فان انعكاس هذه الازمات، وانعكاس سقوط هذه الازمة، في سنوات الاضمحلال التي نعيشها، قد انعكست علي روح الانسان، ثائر او كاتب او اديب او شاعر او فنان، فهذا الانعكاس هو انعكاس الامة علي الانسان في لحظة من لحظات هبوط معنوياتها، وهبوط قيمتها الاجتماعية وحضورها في التاريخ. لكن هذا لا يعني ذبول الحركة الشعرية في الكون العربي، بالعكس.
- اولا ليس بالامكان او بالضرورة ان يكون في كل مرحلة من الشعر العربي شعراء كبار، في الجاهلية كان هناك شعراء معددون علقت قصائدهم علي استار الكعبة، بينما كان هناك شعراء آخرون لكن كانت هناك قلة متميزة من الشعراء علقت اعمالهم، وكتبت بالذهب، علي استار الكعبة، كان هناك شعراء آخرون معاصرون لهم، ولكنهم لم يكونوا يمثلون هذه الامة في مرحلة من مراحل ازدهارها.
واستمرت حركة المجتمع العربي من الامويين الي العباسيين الي العصور المتتالية وسجلت مراحل اخري في الشعر في تاريخنا العربي الاسلامي، استمرت الموجات متتالية يأتي شعراء ويذهبون ودائما يبقي هناك شاعر او اكثر، ربما خمسة، عشرة، عشرون.. كانت هناك علامات في التاريخ ولكن كان هناك باستمرار قلة من الشعراء الكبار.
انا اتصور ان الشعراء اليوم كثر وموجودون في كل مكان هناك شعراء نبطيون وشعراء فصحي وشعراء شعبيون، وشعراء البيت الواحد، شعراء التفعيلة، وشعراء المنثورة.
انت تشعر انها غابة تطن، او تدوي، او تغني، او تصيح او تصفر او تصرخ.. نحن الان في غابة صوتية.
لا استطيع ان اقول اننا في حالة استقرار روحي وعاطفي واجتماعي نحن امة مهزومة تهذي، تثرثر، تصرخ، لا تعرف ماذا تفعل، هي امة مصدومة بما حدث حولها من نكبات، وهزائم من سقوط امام العدوان الاسرائيلي والاحتلال الاوروبي.
حالة هذيان، حالة سقوط، هستيريا.. هذا الذي يحدث في المنطقة العربية في الشعر العربي، يفسره اجمل تفسير في نظري ما يحدث علي مستوي الاغنية، من هم مغنو هذا العصر وفنانوه الذين يمكن ان نشير اليهم كما نشير الي سيد درويش ومحمد عبد الوهاب وام كلثوم وعاصي الرحباني وفيلمون وهبي والسنباطي؟ انت لا تجد الان اسماء، تجد اسماء نكرات، سواء في مستوي التمثيل او في مستوي الاداء الصوتي او في مستوي التعبير الانساني.
وفي الشعر تجد الشيء نفسه، فقدت الاشياء جواهرها.
ولا نجد سوي اناس هم هياكل هياكل عظمية لبشر كان من المفروض ان يكونوا مكتسين باللحم والدم والعطاء الانساني.
اقول ان هزال المرحلة ينعكس علي شعراء المرحلة لكن يوجد باستمرار شعراء، قد تتمثل المرحلة بشاعر واحد قالوا يوما: احمد شوقي امير الشعراء التف الاخرون حوله. كان هناك الاخطل الصغير وعديد من الشعراء الاخرين، لكن المرحلة تمثلت بشاعر واحد، لكن الآن عشرة او عشرون، الحاشية، او البطانة كانت موجودة ايضا.
في هذا العصر الذي نحن نعيش فيه الان، صحيح اختلطت الاصوات واختلطت المنابر، واختلطت الوجوه، والاشكال، ولم يبق الا هذا الضجيج الذي تسمعه انت واسمعه انا من حولنا سواء في مجال القصيدة او في مجال الاغنية او في مجال المسرح حتي، او في مجال الحياة الانسانية الاجتماعية.
أنا اتصور ان هذا كله هو نتيجة السقوط، نتيجة الانهيار امة فقدت توازنها، فقدت قيمها، فقدت قواها، فقدت رؤياها، فقدت مستقبلها، الهزائم انحفرت في روحها، في روحنا نحن كشعراء بالتالي.
الان اذا قلت ان الشعر في العالم العربي هو نتيجة هذا السقوط، الاضمحلال القومي الموجود لا تخطئ. طبعا ثمة شعراء حقيقيون وكبار لن احدد اسماء معينة، يوجد شاعر، اثنان، ثلاثة، اربعة، هم شهود هذه المرحلة ومعالمها، وقد لا تكون اصواتهم واصلة الي الاخرين لان الضجيج الاعلامي، الترويج، الزيف، والكذب هو الرائج الان بل هو المطلوب ترويجه الان، الان القنوات الفضائية الاقمار الصناعية، كل الثروات مع الاسف الشديد، تتدفق من اجل صناعة اعلام جديد.
هذا الاعلام الجديد ليس من شأنه ان يحتضن شاعرا حقيقيا، مبدعا حقيقيا، او فنانا حقيقيا، او مفكرا حقيقيا، ابدا هو يريد ان يوظف هذه الامة بامكاناتها الضئيلة الموجودة لخدمة حالة السقوط الراهنة.
هذا في امتنا العربية. لكن اخرج الي العالم الخارجي، تجد ان الشعر رائج في كل مكان. هو رائج حيث تزدهر الامة، حيث تزدهر التصورات الفنية للامة وتزدهر النماذج التي تعبر عن حيويتها ونموها وازدهارها.
هل تعتقد، ونحن نتحدث عن ازدهار الامة، ان الامر قد انتهي ام انه لم ينته بعد؟ هل مات الامل والحلم حول مستقبل الامة ام انه لايزال حيا ينبض؟
قد لا تنتهي هذه الغمة وهذه الازمة خلال سنوات قليلة. لكن لا بد ان تنتهي. نحن امة ذات تاريخ وحضارة وقيم وقد اهدت للعالم افضل ما عنده من ديانات وقيم وفضائل وحضارة. نحن امة لن تنتهي، لن تنقرض، لن تموت، لن تضمحل، الي الابد، لكنها الآن في حالة انهيار.
نحن شبيهون ربما بمراحل مثل مراحل الانحطاط المملوكي، او العصور الوسطي. ولو ان العصور الوسطي نبع من داخلها رجال اقاموا الحضارة الراهنة التي كانت معنا في بداية هذا القرن.
لذلك انا لست متشائما الي حد العمي، الي حد الانغلاق، الي حد اليأس. اقول فقط اننا نمر بمرحلة صعبة جدا، الخمول والمعاناة والامية والفقر والاضطهاد كلها راسخة في كل مكان، سواء في المشرق او في المغرب.
نحن في حالة هزيمة امام كل القوي. لكن هذا لا يعني ان علينا ان نيأس، ان الغد بلا شك افضل من اليوم، هذا الغد قد لا تراه عين الآن، لكنه آت حتما ونحن نراه اليوم بأرواحنا، وانا اراه بالفعل، وقد يكون اقرب مما نتصور.
ثمة زائر غريب لا بد ان يفاجئ كلا منا يوما، اسمه الموت. كيف تنظر اليه؟ كيف تعاملت معه في شعرك؟
- انا اذكر انني عندما كنت صغيرا في طفولتي عرفت لاول مرة ان هناك شيئا اسمه الموت وذلك عندما ماتت جدتي. ربما كان عمري حينذاك عشر سنوات، لكنني فجأة وجدت ان اهلي، امي وابي واختي، والجيران كلهم يحاولون ان يعزلوني في مكان بعيد، من دون ان يقولوا لي ماذا حدث. وجدت الدنيا التي كانت مضيئة، قد اظلمت فجأة، والحركة التي كانت ضاجة سكنت فجأة، والناس الذين كانوا مبتهجين، اكتست وجوههم بنوع من الكآبة والكمد.
لم يقل لي أحد ان ثمة شخصا مات، لكني عرفت ان شيئا ما حدث، شيئا غير عادي، مثل بركان او زلزال وقع في البيت الذي كنت اعيش فيه.
من تلك الفترة - أؤكد لك - انني حتي هذه اللحظة لا استطيع ان اقول لك ما الموت علي رغم مرور عشرات السنين وعلي رغم انتقال عشرات ومئات من اصدقائي واخواني واهلي الي الدار الاخرة، كما يقولون، ورغم انني كتبت عشرات القصائد ايضا في كثيرين ممن انتقلوا الي رحمة الله ولا استطيع أن اقول لك ما الموت بالضبط. هل هو حالة غياب، هل هو حالة انطفاء، هل هو حالة ذبول، هل هو حالة تفتت، تفتت الاشياء، تفتت البيت؟ لا اعرف. هو شيء ما. أخافه دون ان اعرفه، وأقف منه مبهورا من دون ان أواجهه.
من القصائد التي كتبتها، اذكر الان هذه القصيدة، هي من اوائل قصائدي، عن شاعر مصري من اهم شعراء مصر اسمه صالح الشرنوبي:
نم عميقا فالموت حلم طويل
همجي الرؤي كحلم الحياة
والألي انكروك يوما سيأتونك
يوما في خشعة والتفات
وسيحكي التاريخ للغد، للأجيال، تلك المجهولة الصفحات
قصة الشاعر العظيم، العظيم الحلم واليقظة، العظيم الصفات
إلي آخر القصيدة..
وفي آخر قصائدي التي كتبتها، وفيها ذكر الموت، كتبتها عن احمد شوقي في ذكراه، اقول ضاربا المثل علي ان رؤياي في الموت لم تختلف :( ... )
يبقي لنا خالدا في شعرك الذهب
المنقوش في شرفات الشمس والنغم
يبقي لنا نهرك الفضي منسكبا
حيث الرعاة الرماديون والعدم
يبقي لنا صوتك العالي وقد هرعت
إليك تستبق القامات والقمم
تبقي لنا تلكم الأبيات سابحة
بين المجرات لا موت ولا هرم
تبقي لنا مصر في عينيك لؤلؤة
مكنونة حارساها النيل والهرم
يبقي لنا منك ما لا تستطيع يد
ترقي إليه، وما لا يستطيع فم
إذن الموت هو مجرد انتقال من مكان إلي مكان، في تقديري..
أنا لا اتكلم من منطلق ديني. اتكلم من منطلق رؤيوي، الآن، ام كلثوم يقال انها ماتت، ماتت جسدا، لكن هل هي ماتت؟ الانبياء، الرسل الذين دائما نتذكرهم في صلواتنا وحركتنا، هل هم اموات؟ انا لا اتكلم من منطلق ديني، هم غائبون عنا الآن فقط. مثلما اكون انا في القاهرة، وتكون انت في بيروت، ولأكون انا في ليبيا او في السودان، وانت في لبنان ونتذكر بعضنا بعضاً، نحن لا نري اجساد بعضنا ولكن اتذكر هذا الاخ وذاك الصديق، مثلما نتذكر الآن عنترة بن شداد.
اذن الموت هو عملية غامضة جدا. صحيح ان الجسد يتفتت، يذوب، لكن يبقي الإنسان. لكن الإنسان يبقي بقدر معطياته، بقدر عظمته، بقدر حضوره المبدع، لكن الناس يموتون، لا شك في ذلك، مثلما تموت الفراشات. وكأني انا اريد ان اقول ان الموت موتان: موت عادي للبشر العاديين وموت غير عادي، وهو ليس موتا، انه مجرد حالة انتقال، وكأني اقتبس من فكرة التناسخ. ولا استطيع التدقيق، ولكني اقول انه ليس ثمة موت محدد بالنسبة إلي الانسانية المتميزة. هناك موت محدد بالنسبة إلي الناس العاديين.
هناك المعري الشاعر العربي العظيم الذي كأنه رثي الانسانية كلها عندما قال: خفف الوطأ ما اظن اديم الارض الا من هذه الاجساد .
انا معه، هو يتكلم عن الاجساد، لم يقل: من هذه الارواح .. خفف الوطأ، ما اظن اديم الارض الا من هذه الأجساد.. كم دفين علي بقايا دفين، من طويل الازمان والآباد.
هو لم يقل ان الروح ماتت، قال ان الارض من هذه الاجساد، ونحن نقول معه ان الارض من هذه الاجساد.
من الناحية الدينية الامر يختلف: هناك موت، وهناك حشر وهناك قيامة وهناك حساب وعقاب.
الراية – 9- 8 -2008