أجرى الحوار : خالد النجار
كأن محمد الفيتوري يدشن نهاية ما. أو كأني ـ رغم اشراقية صوره ـ اقرأ قصيدته حدادا. يصمت. ولكنه عندما يتكلم لا يسمّي الاشياء وإنما يغنّيها، يسترجعها من خلال أدواته الصوفية. الحسّ الكوني حاضر في كل لحظة ليلفّ التاريخي، ليحتضنه... والحداد يغمرك لأنه يغنّي من خلال تقليد كتابي يمضي الى الذبول، والتلاشي. فقصيدة الغناء تعيش نهاياتها السعيدة على يديه ... وكأنه كما يقول في إحدى قصائده: "يخبّئ سلة الياسمين في أرخبيل الغصون..."... والفيتوري متفرّد الى حد الوحشية. ذاك التفرّد الذي يخيفه ويخيف الآخرين. انه جدول في أرض اخرى، وداخل فصل لايسمى...
*كيف تذهب الى القصيدة؟
ـ محمد الفيتوري : في الحق لااذهب إلى القصيدة ولا تجيء إليّ. فجأة تتلبّسني تمسّني، تشتعل فيّ. وحينئذ يأخذني الاضطراب. اسقط في التناقض. تلك هي الحالة الاولى حيث اكون قد امسكت بشيء ما من افكاري، من الفكرة الاساسية التي تسيطر عليّ حينذاك. أنا لا استطيع ان اكتب وأنا منفصل عن فكرة ما. قبل ان اغنّي اكون قد وضعت يدي على الوتر النفسي الذي سوف اعزف عليه قصيدتي. وتر ليس نفسيا فقط هو أنا، والآخرون من حولي، انه تجربتي داخلا وخارجا. نواة في باطن الأرض، تتفتق شيئا فشيئا ثم تطلّ على هذا العالم. كيف اكتبها؟ ربما لن يصدّق الكثيرون حين أزعم الآن أني كلّما بدأت في كتابة احدى قصائدي يغمرني الاحساس بخوف الشاعر المبتدىء، رجفة اللقاء الأول لمراهق يعانق حبيبته للمرّة الأولى. ربما لن يصدّق أحد أنّني مازلت أعيد كتابة قصيدتي أكثر من عشر مرّات. إن الكلمة عندي تعني القصيدة، ولذلك أحاول دائما البحث عنها خلال معاناتي.
* وكيف تتجلى لديك الكلمة؟
محمد الفيتوري: الكلمة ليست القاموس. الكلمة طين الأرض وعشب الحقل ودم الانسان وفرح الطفولة، يدوّي الآن في سمعي صوت شاعر فرنسي قديم قرأت له صغيرا هو "بوالو" قال : "أيها الشعراء راجعوا أعمالكم في ضوء الصنعة، أحذفوا وأضيفوا غير ذلك بغير ذلك. لن يوضع كل شيء الا في مكانه". كان ذلك منذ اكثر من عشرين عاما، وكنت ما أزال أقرزم كلماتي الاولى. الى أيّ مدى انحفرت تلك الكلمات في ذاتي الصغيرة؟ لقد علمتني ان اكون متواضعا، ابدا، حين أكون في حضرة القصيدة.
* عندك كما عند الكثيرين من الشعراء فترات صمت .. طبعا ليس هو الصمت "الرمبوي" اي الابدي، إنما هي فجوات في حياتك الشعرية ماذا تقول عن هذا الصمت؟
ـ محمد الفيتوري : سأعترف : إن صمتي هو اشارة الى افلاسي خلال مرحلة ما من حياتي. انه اتكاءة العاجز عن البوح، انه أنا مسلوب ومنتزع من العالم. انني مجرّد من الشعور، من الاحساس الوظيفي في مملكة الشعر. لست أميرا، ولست ملكا ولست خادما ولست أحد عبيد تلك المملكة الغامضة السحرية. سأكون اكثر واقعية وسأحاول ان أفلسف الاشياء. انني أصمت كلما أحسست بالفراغ، بالموت، بالانطفاء. ويحدث ذلك، حين أجدني منفصلا عن جذوري التاريخية. حين تنبتّ أو تضعف تلك الشرايين الموصولة بيني وبين العالم، بعض الأحيان أفتقد الحب، فقط، لكي يشعلني من جديد، لكي أتلمّس في ضوئه طريقي، في ذلك الدهليز المظلم الذي تسمّونه الحياة.
* عندما أقرأ: أحس أن هناك رجوعا مستمرا الى اشياء العالم الصوفي القديمة. حتى الثورة عندك مسنودة برؤية صوفية. ماذا يعني عالم الاسرار بالنسبة لك؟
ـ محمد الفيتوري : إنك ترفع الغطاء عن عيني لأرى أشياء لم أكن قد رأيتها خلال كل تجربتي الشعريّة. فأنا أكتب تحت وطأة عاملين: هناك العامل الوراثي، وأعني به تلك الرؤى القديمة المفعمة بالشجن، والانجذاب نحو شيء عينيّ ما، حيث كانت تدوّي في وجدان ذلك الطفل الصغير ابن ذلك الشيخ الصوفي دقات دفوفه العنيفة، وايقاعات مدائحه النبويّة، ووهج أجوائه الصوفيّة المخيفة. دفوف وبيارق خضراء، وأوان من النحاس وابخرة تتصاعد من نيران مجامرها. كنت أجلس مبهورا، أعني أتلصص الى حضرته الاسبوعية (في الاسكندرية) وكنت أتطلّع اليه وسط حلقة من مريديه وآخذي العهد عليه. بينما تنتصب قامة ذلك الشيخ الطويل كمشعل من الضوء، والحس، والطيوب. واختفي بمجرّد أن تتجه عيناه نحوي. لقد كان يكره لي أن اصبح صوفيا يوما ما. كان يريدني ان اكون عالما يحمل شهادة الازهر الشريف غير انه كان كثيرا ما يغمسني في واقعه اذ يطلب اليّ ان أنقل قصائده في كراريس ناسخا إياها بخط جميل.. عشرات المدائح والقصائد النبويّة نسختها حسب مشيئتي. أتراني منذ تلك الأيام أصبحت جزءا من هذا العالم الصوفي!؟ تراني من أجل ذلك بدأت منذ ان أحسست بشيء من استقلاليتي في بحث عن الاعلام البارزين في هذا الحقل الصوفي الكبير.
* كيف تحدد تراثك الشعري الخاص؟
ـ محمد الفيتوري : تراثي تراث هذه الأرض. انهم جميعا يعششون في خلاياي. ثمّة وجوه عديدة مختلطة تلوح في خيالي.. أبو زيد البسطامي، الحلاج، معروف الكرخي، السهروردي، ابن الفارض. انهم متصوّفة إلاّ انهم شعراء.. انهم هم، اولئك الذين اعنيهم كلما انحنيت على شعري : طرفة بن العبد، السليك بن السّلكة، الشريف الرضي، المتنبّي. ربما أردت أن أقول من خلال كلّ هذا، انه اذا كان ثمة في شعري أثر صوفي فالحق انه ليس أثرا طارئا، ليس شيئا مقتحما على حياتي. أنا مجرّد مغنّ تنتمي اوتاره الى تلك الأجيال، الى ذلك الرهط الرائع من المغنّين.
* سنغور، إيمي سيزير وغيرهما من شعراء " الزنجيّة " ما الذي يجمعك بهم وما الذي يفرّقك عنهم؟
ـ محمد الفيتوري : لنبدأ بالفارق : أنّني عربي انتمي الى هذه الارض وتاريخها، الى الارض العربيّة. بينما هم ينتمون الى ارض أخرى، والى دماء غير دمائي، ايضا انا أستند الى تراث من الفكر والفلسفة الانسانية النابعة من قلب الأمّة العربيّة. بينما هم ينتمون الى مناخات ثقافية غربيّة. ثم لاننسى الفارق اللغوي فأنا أكتب بلغتي بينما هم يكتبون بلغة فرضها عليهم المستعمر.هل اذكرك الآن بشعرائنا وادبائنا الجزائريين الذين يكتبون بغير لغتهم. نحن نقدر المضامين الانسانية التقدمية التي تحتويها اعمالهم وأحاسيسهم ككتّاب تجري في عروقهم الدماء العربية. غير أننا لانستطيع ان نصنّفهم في مكتبتنا العربية، فالأدب مادته اللغة. ولعل الجزائريين ليسوا وحدهم وانما معهم كتاب من المارتينيك والسنغال وبقيّة المستعمرات الفرنسية والانكليزية القديمة. إنهم بعض رموز الخراب الثقافي الذي ألحقه الاستعمار بوطننا العربي. إنني أثق تماما بانهم ليسوا سعداء بهذا الاغتراب. وللأمانة يجب ان نستثني بعض أدبائنا التقدميين الذين اضطروا للكتابة بلغة المستعمر وفي مقدمتهم الشاعر والمناضل البارز عبد اللطيف اللعبي، وكاتب ياسين، ومالك حدّاد الذي عبّر عن نقمته حين وصف اللغة الفرنسية بأنها سجنه التاريخي.
* هناك اليوم كتابات ضد الشعر، بدأت تظهر من أول القرن وتفاقمت اليوم... في آخر الأمر لماذا الشعر؟
ـ محمد الفيتوري : ان لم يكن الشعر لدق معول في نعش المرحلة المأساوية الراهنة، فيجب ان يكون لدق ناقوس الرعب للايقاظ لتحريك اولئك النوّم. لا قيمة لشعر في نظري دون ان يستهدف احدى هاتين الرسالتين. ان كلمة شعر تنبع من الذات لكنّها تلتحم بالمجتمع متجهة نحو تغييره. في ضوء ذلك يمكننا تفسير تلك النزعات النرجسيّة والمواقف الخيانية التي تتسم بها اشعار عدد من الشعراء المعاصرين.
* بعد جيل الرواد الذي اكتملت تجربته وتحوّل الى نوع من الكلاسيكية الجديدة، كيف تجد التجارب الشعرية العربية اليوم؟
ـ محمد الفيتوري : إنك تعني باكتمال جيل الرواد فناء ذلك الجيل وهو يواجه اليوم مصيره الحتمي. لم يبق منهم الا ما يتردد بين الحين والحين من صرخات النزع الأخير. لكن لنكن منصفين. ان نهاية الشاعر ليست مرتبطة حتما بنهاية العمر، او الايغال فيه، انما هي مرتبطة بنهاية عطائه، وتلاشي تجربته، وهنا اصفهم معك بانهم انتهوا. وحتى الكتابات التي مازال بعضهم يركض وراءها لا تعني شيئا، لا تعني انهم احياء. اما عن الشعر العربي الجديد فأنا لا أرى في أغلبه الا انعكاسا للاضطرابات العربيّة. انهم مرايا صادقة لهذا الواقع بكل شقوقه، ونتوءاته، وتمزّق انسانه. غير ان رسالة الشعر أرقى من ذلك بكثير. ومن ثمّة فأنّني اميل الى إدانة ما يكتب، انهم في رأيي يضيفون مزيدا من الرماد فوق تراكم التخلف العربي. ان الشعر ليس مهارات لفظيّة وتجارب شكليّة . ولن يكون أبدا كذلك. ودليلي لامستقبلية هذا الشعر. فكم يشبه هذا الشعر من حيث شكلانيته الشعر المملوكي، حيث لم تتجاوز القصيدة كونها لعبة هندسية، واشكالا فنّية جامدة، تستمد قاموسها من الترجمات العربية للشعر الغربي.
* ماذا تفعل الآن؟
ـ محمد الفيتوري: أغرق وقتي في القراءة وأحاول أن أتأمل الواقع من جديد. لقد أحسست بضرورة ان اصمت تجديدا لطاقتي الشعريّة .
إقرأ أيضاً: