حاوره: مصطفى السالكي
(المغرب)

المهدي المنجرةللدكتور المهدي المنجرة أكثر من صرخة في وجه الهيمنة، تنطق بها دراساته ومقالاته ومحاضراته ومؤلفاته، ولعل أهمها كتابه "الحرب الحضارية الأولى".

الجنوب حاضر في انشغالاته وله مواقف جريئة من بعض قضايا الساعة التي تهم الشأن المغربي، والدولي، فهو ينظر إليها بعين الناقد وعالم المستقبليات الذي يحرص على ان لا تطأ قدماه خطا أحمر فاصلا بين عالم الفكر والمعرفة وعالم السياسة. وهنا مقتطفات من حوار اجري معه مؤخرا:

* لنبدأ بنبذة موجزة عن طفولة الدكتور المهدي المنجرة ومحيطه الأسري.

ـ أطلقت صرخة الحياة الأولى في منزل متواضع بني في أواخر العشرينات بحي (المرصاد) في الرباط، هو اليوم مقر لحزب و طني كبير. كان والدي يتحدث سبع لغات. سافر كثيرا وأقام في انجلترا وألمانيا والسنغال. مارس التجارة والعمل العقاري وعاشر العلماء. زرع فينا منذ نعومة أظافرنا حب العلم والمعرفة.

فتحت عيني على الآنسة (ردي) المربية الفرنسية وعلى معلم فرنسي كان يستقدمه والدي في العطل المدرسية، ليكمل ويوازن ما يلقنه لنا الأساتذة المغاربة من معرفة باللغة العربية والدين الإسلامي.

* يعرفك أبناء الجيل الحالي من خلال اقتحامك، كأول تلميذ مغربي، للمجال الدراسي الأمريكي وعلى أرض العم سام. كيف تسنى لك ذلك؟

ـ كان ذلك سنة 1948 تاريخ شهد أحداثا هامة جدا. كما انه تاريخ واكب انطلاق البث التلفزي في الولايات المتحدة. التحقت بمؤسسة ثانوية تجريبية هي مؤسسة (باتني) تعتمد الاكتفاء الذاتي. إذ تتم الدراسة فيها صباحا والعمل في الحقل بعد الزوال. استمر تكويني بهذه المؤسسة الى حدود سنة 1950 بعد (بانتي) التحقت بجامعة (كورنيل) حيث تابعت دراسة التخصص في البيولوجيا والكيمياء. وفي السنة الثانية زاوجت بين البيولوجيا والكيمياء من جهة، والعلوم الاجتماعية والسياسية من جهة أخرى، وكان لي اهتمام بدروس الأدب الأمريكي والفرنسي في القرن التاسع عشر وارتباط بالجماليات والفنون.

* تحدثتم عن أهمية الأحداث التي شهدتها سنة 1948، فماذا عن الغليان التحرري في المغرب وانتم تتابعون الدراسة بعيدا عنه؟

ـ كنت هناك في صلب العمل الوطني ليس فقط من أجل القضية المغربية وحدها، بل أيضا من أجل قضايا المغرب المغربي والعالم. كان بيتنا الواقع على بعد 100 كلم من نيويورك موئلا لممثلي الدول لدى هيئة الأمم المتحدة، وستعرف بداية الخمسينات عملا وطنيا متميزا وربطي لعلاقات ستظل بصماتها محفورة في ذاكرتي لأنها ساهمت في تكويني وفي ارتباط بالعمل الوطني. فقد كان لي شرف الالتقاء بعلال الفاسي والمكي الناصري وبلحسن الوزاني واحمد بنسودة وعبد الرحمان بنعبد العالي وعبد الرحمان انكاي والمهدي بنونة والصحفي كيششيان الذي كان يدافع عن القضية الوطنية، والحاج احمد بلافريج.
اذكر مجهوداتنا واشتغالنا المتواصل بمكتب نيويورك بعد نفي محمد الخامس في 20 غشت 1953 من أجل إعداد ملف حول القضية الوطنية لجدول أعمال مجلس الأمن. واذكر كيف تطوعت لأبحث عن محل للكراء يصلح مكتبا لإخواننا التونسيين الذين كلفوا باهي الادغم بذلك، وكيف استقبلت الحبيب بورقيبة في مطار نيويورك ونعته لي بكوني أول سفير لتونس ـ كانت لي علاقات مع الأخوة الجزائريين ومنهم محمد اليزيد، عبد القادر الشندرلي والحسين أيت احمد..
إنني اذكر هذه الأسماء لأنها أثرت على مساري وأنا بعد ابن العشرين وراكمت من خلال احتكاكي بها تجاربي السابقة التي اكتسبتها من شخصيات متميزة وأنا في سن المراهقة من أمثال القاضي الزموري، عبد الرحمان اليوسفي، الفقيه بلعربي العلوي، المهدي الصقلي، الحاج محمد بنجلون.

* هل (البذلة العسكرية الأمريكية) وحدها كان الدافع وراء إنهاء إقامتكم في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد ان أرادت تجنيدكم؟

ـ كانت بالفعل عاملا رئيسيا. فارتداء البذلة كيفما كانت فيه مساس بجزء من حريتي. وعليه، سافرت الى لندن من أجل التحضير لأطروحة الدكتوراه حول موضوع (الجامعة العربية).
وقد حصلت سنة 1955 على منحة مكنتني من السفر الى الشرق الذي التقيت فيه، طيلة ثلاثة اشهر بمفكرين ومسئولين عن الجامعة العربية وإعلاميين وطلبة مغاربة من بينهم الأستاذ عبد الكريم غلاب، عبد القادر الصحراوي، كما التقيت بالزعيم عبد الكريم الخطابي وأخيه محمد الخطابي.
ومن رواد الحركة القومية كان لي شرف لقاء المفكر ساطع الحصري. وزرت العراق وسوريا ولبنان والأردن و القدس التي لن أزورها إلا إذا أصبحت عربية، وتعرفت خلال هذه المحطات على ميشيل عفلق وقسطنطين زريق ومغاربة منهم محمد لحلو ومحمد رشد ومحمد التلاوي، لأعود الى لندن. وفي سنة 1956 طلب مني الحاج احمد بلافريج الالتحاق بالمغرب للعمل بوزارة الخارجية، لكنني طلبت مهلة لإنهاء أطروحتي. ثم توصلت بعدها برسالة من مولاي احمد العراقي للالتحاق بالتكوين في المنظمة الأممية. وقد سافرت بالفعل الى الولايات المتحدة الأمريكية وحصلت على شهادة أول خريجي المنظمة الأممية، قبل ان اشتغل كأول أستاذ مغربي بكلية الحقوق.
وقد جدد الحاج احمد بلافريج طلب التحاقي بوزارة الخارجية لكنني رفضت وفضلت الرسالة العلمية والتعليمية.

* خلال مساركم التعليمي والعلمي والنضالي، أعلنتم دائما رفض ارتداء البذلة لأنها تقيد تفكيركم. هل للسبب ذاته رفضتم (البذلة السياسية)؟

ـ إنني اهتم بالسياسة كعلم، وكأداة لتحليل المجتمع. واهتم بالسياسة في تحاليلي وفي دراساتي المستقبلية.
انه لمن الصعب ان تتناول السياسة من هذه الزوايا، وفي الوقت ذاته ان تمارسها بطريقة تطبيقية.
فالتموقع داخل ميدان المعرفة والبحث العلمي والتطلع الى مسار القضايا المطروحة وتحليلها وتبادل الآراء وتعليم الأجيال الصاعدة وتبليغ الرسالة العلمية، يجعل اهتمام المرء منصبا على عناصر تؤثث لفضاء معين يستوجب الدراسة العلمية والتحليل.
ان ولوج ميدان السياسة وامتهانها كحرفة (تختزن الطموح في ثناياها) يساهم في بروز عناصر إضافية، تجعل التحليل العلمي المترفع صعب المنال. وسأعطي مثالا بسيطا على ذلك، المنهمك في المقارعة الذهنية لمنافسه في لعبة (الضاما) أو الشطرنج لا يمتلك نفس رؤية من يتابع اللعبة من خارج إطار المنافسة. وإذا ما بحثنا في دفاتر التاريخ، فإننا نجد استثناء لهذه القاعدة. بمعنى آخر، لم تكن هناك شخصية استطاعت العمل في ميدان العلم والمعرفة وفي الميدان السياسي بكل ما يتطلبه المجالان من إخلاص ودقة.
قال فرانسوا مورياك سنة 1941:

اL'entrée dans la politique a toujours signifié le renoncement aux lettres, et les ministres cultivés qui, entre deux portefeuilles, ont prétendu y revenir, n'ont donné que des livres contaminés par le verbiage et les mensonges de la politique... La sincérité envers soi-même, ce qu'il y a de plus contraire à la politique, voila aujourd'hui notre pierre de touche pour reconnaître un écrivain.
بـ (1941)

* لكن، لكم سابقة في مجال المزج بين المسؤوليتين: السلطة والمعرفة.

- تقلدت مناصب مهمة في سن صغيرة ففي السادسة والعشرين من عمري كنت على رأس هرم الإذاعة المغربية أدير شؤونها وقضاياها.
مكنني ذلك من الاتصال بشخصيات مهمة تتربع على مقاعد القرار.
في سن صغيرة أيضا، ولجت اليونسكو من بابها الواسع فكنت أصغر شخصية- ولازلت لحد الآن- تتقلد منصب نائب الكاتب العام في المنظمة الأممية.
أدركت سريعا أجواء الخلط بين المعرفة والسياسة والسلطة، هنالك شخصيات كان تقديري لها كبيرا جدا، لما تميزت به من دماثة الأخلاق والمكانة العلمية، وحسن المعاملة الإنسانية، لكن ما ان استهوتهم اللعبة السياسية وتسلموا مقاليد السلطة، حتى انقلب سلوكهم رأسا على عقب. عاينت هذا الانقلاب والتغيير في اليونسكو.

* هذا ما يبرر رفض العرض الذي قدمه وزير الخارجية الجزائري.

- نعم في اجتماع الجزائر لدول عدم الانحياز سنة 1973، طلب مني وزير الخارجية الجزائري، الطالب الإبراهيمي، ان أقدم ترشيحي لمنصب مدير عام اليونسكو أجبته برفض العرض، وعللت هذا الرفض بما عاينته من تغيير في سلوكيات أشخاص كانت لهم طموحات للارتقاء إلى مستوى معين من خلال اشتغالهم بالسياسة.
* تنزعجون من كلمة "سياسة". ما هو تعريفكم الشخصي لها؟

- السياسة هي خطة للوصول إلى أغراض معينة، فإن كان محترفها مناضلا داخل حزب معين، يكون هدفه بلوغ مراكز القيادة أو استعمال الهيئة التي ينتمي إليها للوصول إلى منصب معين، أما طموح الحزب برمته فهو الارتقاء إلى مستوى الحكم وتدبير الشأن العام.

* قد لا تكون للبعض نفس النظرة، بمعنى ان الوصول إلى الأهداف التي تحدثتم عنها ليس هدفا في حد ذاته.

- البعض، وبنية حسنة لهم مثل هذا التفكير، فيقيمون الفرق بين الوسيلة والبقاء، معتبرين أنهم الأولى بتقلد مقاليد الحكم من أجل التغيير، إيمانا منهم بقدرتهم على ذلك، لكن الأمور تتغير بمجرد بلوغ الحد الفاصل بين الحاكم والمحكوم. ولذلك سببان اثنان :
الأول نفساني ويتعلق بغريزة "حب البقاء" فكل من بلغ منصبا معينا يصرف جزءا من الطاقة على "البقاء". وهذا ما يسمى في علم الفيزياء "Entropie". لنتخيل أن شخصا ما يملك سيارة قديمة" البقاء" هنا هو ذلك الجهد الذي يصرف على السيارة بكمية تضاعف مصاريف تحرك هذه السيارة. أو لنعطي مثالا آخر عن هذه الظاهرة بسلوكيات الحيوان الذي حين يحتل مكانا ما داخل الغابة، يصرف كل جهوده من أجل منع الآخر من احتلاله.
الثاني يرتبط بالتغيير الذي يطال سلوك المرتقي إلى منصب المسؤولية، فهو يتغير من حيث يدري أو لا يدري.
إن داخل أنفسنا نوعا من المنظومة، ثم منظومات صغيرة، ومفهوم المنظومة هو ناتج التفاعل بين جميع الأعضاء، ولا يمكن لأي منظومة صغيرة أن تؤثر على الباقي وحدها.
وحتى نكون أقرب الى التحليل التطبيقي يمكن القول أن الإنسان حين يطأ عتبة المسؤولية، تتراءى له أشياء يعتقد أن هناك إجماعا حولها، وعدم الاتفاق أو معارضة الصورة المرسومة في مخيلته تصنف المعارضين في خانة ما يشبه الأعداء.

* هذا التحليل ربما كان الدافع وراء رفض المنصب السامي الذي عرض عليك في بداية الثمانينات.

- نعم، في سنة 1981، اقترح علي "ماكنامارا" منصب مدير للبنك العالمي، رفضت ذلك لأسباب أخلاقية صرفة، وقلت له ما معناه أنني إذا تحملت هذه المسؤولية، فلست أنا من سيغير التدبير إلى ما هو أحسن، سأنصهر فيكم بعد مدة قصيرة لأصبح مثلكم، وفي أقصى الحالات سأقدم استقالتي.

* من خلال طريقة تفكيركم، نرى الدعوة ماثلة لعدم تحمل أي كان للمسؤولية؟

- المسؤولية أنواع، وأراها شخصيا، فيما يخصني، متمثلة في العلم والتبليغ. وهي لعمري أكبر وأشرف.

* دعونا دكتور من الحديث عن الرسالة العلمية، ولنر مدى قابليتكم للاحتراف السياسي.

- (مقاطعا).. إنني أتركه جانبا، لقد سبق للحسن الثاني رحمه الله ان طلب مني تحمل مسؤولية وزارات وسفارات، وكان ذلك في علم وزراء لازالوا على قيد الحياة، لم يوجه لي، رحمه الله، الحديث مباشرة، ولم يقم بتعييني بدون إذن مني، كانت كل المحاولات تتم بطريقة غير مباشرة.
في سنة 1981، اتصل بي أحد مساعديه، تغمده الله برحمته، وكنت خارج الوطن، قال لي : "جلالة الملك يقول لك أنه يريد أن يراك غدا أو بعد غد في مراكش، وألح علي أن أقول لك ان الأمر لا يتعلق بوزارة أو سفارة، لا تخش شيئا".
لقد تفهم الملك أن السلطة والحكم يظلان بالنسبة لي شيئا ثانويا.
أقول هذا، وأؤكد أن طموحي لم ولن يكون سياسيا، طموحي لا يتجاوز عمودين متوازيان لا نهاية لهما، يتوسطهما البحث العلمي والتأثير على التحليل والتفكير، وإقامة علاقات مع طلبة وباحثين داخل المغرب وخارجه، وتوسيع شبكة المعرفة، لا أريد مناصب ولا "فخفخة" ولا ماديات. راحتي في العلم ولن أبيعها بالملايير.
* هذا لا يمنعكم على الأقل من تتبع مجريات الحياة السياسية في البلاد، وقد سبق أن قمتم بمبادرات تجعلنا نعتبر السياسة على الأقل، سابقة في حياتكم.

على هذه المقاعد التي تؤثت فضاء حوارنا هذا جاءني ممثلون عن أربعة أحزاب، منهم سي علي يعته رحمه الله، طلبوا مني المبادرة لتأسيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، لبيت الدعوة وقدمت مساهمتي ومجهوداتي. وبعد إتمام المهمة، فضلت الابتعاد، وقد سبق لي ممارسة أنشطة في حقل المجتمع المدني انطلاقا من الاهتمام بجمعية الدراسات المستقبلية في المغرب… أعيد وأؤكد أنني لا أتهرب بذلك من المسؤولية، وأن نظرتي لا تنطبق على كل رجالات السياسة.
كل ما في الأمر هو أن الإنسان يصعب عليه في بعض البيئات أن يبقى على وضوء.

* إذن كيف تقيم مدى طهارة الأوضاع السياسية القائمة؟ أو بتعبير صريح ما مدى تحمل المسئولين في الحكومة الحالية "لواجب الوضوء"؟

- إنها خيبة متوقعة على المستوى المنهجي والخلقي والاجتماعي والعلمي…

* أنتم تجزمون بخيبة تخلفها الحكومة الانتقالية .

- لم اعتبرها قط "انتقالية"، ولم يطرأ أي تغيير، الاختلاف الوحيد عن السابق هو في مضمون العبارة التي أصبحت تعني "عدم التغيير".
صحيح أن التدهور لم يتنام بنفس النسبة التي كان عليها منذ 20 سنة، ولكنه لازال قائما بسبب وجود إرث الماضي الذي كان من الضروري التعامل معه بطريقة ينتفي فيها ما يحيلنا على استمرار استقرار الأوضاع السابقة.

سبق لي أن كتبت مقالات بخصوص هذا الوضع في إطار دراسات مستقبلية، وأكدت على وجود ثلاث مشاهد تقتضي أخذها في الاعتبار.

  1. مشهد الاستقرار والبقاء واعتبرت أن الاستقرار يعني، بجيولوجيا، الموت.
  2. سيناريو الإصلاح في حدود زمنية لا يجب تجاوزها 3- التغيير الجذري، الذي من الضروري اللجوء إليه في حال تأخر الإصلاح، والتغيير هنا يعني القيام بمبادرات قوية في زمن قياسي، هذا المشهد الأخير هو ما يحتاجه المغرب وبلدان العالم الثالث، لكن له شروط ويفرض تقديم مبادرات قوية وشجاعة وخلاقة من طرف الأشخاص الذين بلغوا منصب المسؤولية من أجل إشراك ديمقراطي للمجتمع برمته في التنمية.

* حتى لو أدى الأمر إلى فقدان المنصب والمبادرة كما هو الشأن بالنسبة للخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية.

- لم أساهم في هذه الخطة، ولي اعتراض على العبارة نفسها، ذلك أنه إذا كان من الضروري القيام بالإدماج، فعلينا أن ندمج الرجل في المرأة، لأن هاته الأخيرة ليست شيئا ثانويا، هي أصل الحياة وأساس البقاء، بالتالي فأنا أرفض كإنسان، أن أتحدث عن إدماج المرأة. وأصر على الحديث عن ضرورة ابتكار مشاريع أقوى، تستند إلى رؤية مستقبلية قبل فوات الأوان، وتعاظم المشاكل.

* تحليلكم يعطي الانطباع أن المغرب على أبواب مراحل صعبة.

- لقد ولج بالفعل هذه الأبواب الصعبة، وسيؤدي ثمنا اجتماعيا تزداد فداحته كلما تأخر في تحقيق التغيير الحقيقي استنادا إلى رؤية مستقبلية عمادها إرادة المجتمع.
فليست الرؤية التي نقصدها هنا نتاج خيال شاعر أو روائي، أو حلم اخترق منام شخص أعاد وصفه في صباح اليوم الموالي.
الرؤية التي أقصد تشترط وجود مواطنين واعين بمجريات الأحداث، ووجود ديمقراطية حقيقية، لا ديمقراطية الكلام والمظاهر. الرؤية يجب أن تكون نتيجة وخلاصة لتبادل آراء المواطنين والمسؤولين على حد سواء، لا أن تقتصر على قمة الهرم. فلا يمكن لأي شخص كيفما كان أن يطرح حلولا لكل المشاكل، آخر الانبياء هو محمد صلى الله عليه وسلم. وبالتالي تبقي الديمقراطية المنار الوحيد الماثل أمام أعيننا وعلينا التقدم بإصرار نحوه.

* تنشغلون بالمبادرة الديمقراطية وتنسون أنكم أقصيتم نفسكم بنفسكم، منذ 41 سنة، من "لجينة الدستور…"

- في سنة 1960، مباشرة بعد تقديم استقالتي من الإذاعة المغربية، عين المغفور له محمد الخامس لجينة صغيرة لتحرير الدستور، رفضت الانضمام إلى هذه اللجينة لأنني لم أقبل أن يتم تحرير الدستور من طرف خبراء محليين وخارجيين.
الدستور مصدر السلطة، لكن السيادة للشعب، وعلى الشعب أن يعين من يراهم أصلح وأنفع للقيام بهذا الواجب.
الدستور لا ينزل من الأجواء كما تنزل المفرقعات حاليا على الشعب الأفغاني، واليوم وليد الأمس، نحتاج لديمقراطية داخل كل الهيئات والأجهزة.

* تقصدون غيابها من داخل الأحزاب نفسها .

- إلى حدود اليوم، لم يسبق لي أن تدخلت في أشياء مثل هذه. لكن، ما يمكنني القول، هو أن الأحزاب أصبحت أقل إقطاعية مما كانت عليه من قبل، رغم استمرار دور بعض الأوساط، في بعض الأحزاب، التي تقيم جسرا ما بين العالم السياسي والداخلية والمخزن.
على العموم، هناك بوادر ومحاولات ونتائج توصلت إليها شخصيات محدودة تقول بضرورة تغيير الأمور على أساس أن للتزوير حدود ولتدخل المخزن حدود أيضا.

* هل سنلمس هذا التغيير على مستوى الانتخابات القادمة؟

- الانتخابات لا تهمني، ولم أساهم فيها منذ أن اتخذت موقفي من الدستور، ولحد اليوم، لا أملك بطاقة للانتخاب، وطيلة حياتي لم أصوت لأسباب خاصة بي.

* إنه تطرف مبدئي إذن!

- بل هو موقفي. قد أكون على خطأ، لكنه تفسير للأشياء من منظور أخلاقي، والأخلاقيات يمكن تستمد من الحضارة الإسلامية التي تعتمد التحليل البسيط (العين والمقاصد) ولا تقبل التطرف ولا استغلال الدين لتحقيق المكاسب السياسية.

* لكم إذن مواقف من الأحزاب المستغلة للإسلام، والتي تركب على خطاب إسلامي وسجال مستورد.

- ليست في الإسلام شرق ولا غرب.. الإسلام دين موجه للشمال والجنوب والشرق والغرب، وقد شهد حركة تحررية مهمة في أواخر القرن 19 بقيادة جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وكان من روادها، عندنا في المغرب، كل من بن باديس وعلال الفاسي والفقيه بلعربي العلوي والشيخ شعيب الدكالي..
استغل الاستعمار الإسلام لمحاربة هذه الحركة السلفية التصحيحية وتقسيم جسد المجتمع إلى طوائف، لننظر إلى عريضة الاستقلال. إنها وثيقة مسلمة، ولا أقول إسلامية، ولننظر إلى مجتمعنا المغربي، انه مجتمع مسلم لا يحتاج إلى وصاية من أحد.
ويأتي الاستقلال لتعود الحياة إلى هذه التيارات التي يحتاج إليها الحكم. ليس في المغرب وحده، بل في العديد من الدول.
وعلى أية حال موقفي من هذه التيارات بسيط جدا، أنا مسلم. والله وحده هو المطلع على ما تقدمه يداي من خير وشر.
وهو وحده الذي يملك صلاحية محاسبتي، وليس لأحد وصاية علي إلا في حالة مساسي بحقوق الغير. وأرفض الحسابات الرخيصة.

* تقصدون الحسابات السياسية للأحزاب الإسلامية .

- إنني أرفض الخلط بين الإسلامي والمسلم، مرجعنا جميعا هو القرآن ثم الأحاديث النبوية والسيرة النبوية. بحثت في هذين المرجعين فلم أجد كلمة واحدة بمعنى "إسلامي" مطبقة على شخص معين. إن التحليل يعود بنا مرة أخرى إلى ألاعيب المستعمر، وإلى مرامي خلق مجموعات لا تمت للمعايير الإسلامية الحقيقية بصلة. العنصر السياسي حاضر إذن من أجل استغلال الإسلام لأغراض لا علاقة لها بالإيمان والحقيقة، وتطبيق كلمة إسلامي على مجموعة أشخاص في إطار هيئة معينة بدعة أرفضها لأنها تنفي عن باقي المغاربة صفة المسلم.
خلال أبحاثي حول مصدر كلمة "إسلامي، وجدت أن إماما في القرن الرابع عشر استعملها للدلالة على الأدباء الذين ابتعدوا عن الأسلوب الذي كان سائدا في العهد الجاهلي، فسماهم "إسلاميون" في فترة زمنية محدودة.
وفي مغرب القرن التاسع عشر "أطلقت الكلمة على اليهودي القادم من أسبانيا والمعتنق للدين الإسلامي، حتى يتم التمييز بينه وبين المسلم ابن البلد.
أما في الموسوعة البريطانية، فالكلمة تعني الاختصاصين الذين يعملون على دراسة الإسلام والمجتمع الإسلامي. كما يمكن للكلمة أن تطلق على أعمال معينة كأن نقول مثلا "هندسة إسلامية" أو "شعر إسلامي" أو "معمار إسلامي". إلصاق الكلمة إذن بأشخاص أو هيئات يعتبر بدعة، ونحن مجتمع مسلم، حاجتنا ماسة للتربية والتعليم وإلى مبادرات للاهتمام بهويتنا الثقافية، لا إلى البدع.

* مثل مبادرة أحداث المعهد الملكي للثقافة الامازيغية؟

- دعوت منذ 25 سنة إلى الاهتمام باللغة الامازيغية. وقد سبق لجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله ان دعا في خطاب إلى البرلمان إلى إنشاء كرسي لهذا الغرض، والواقع أن المواطن الغيور على بلده لا يمكنه إلا مساندة هذه المبادرة وتأييدها دون ديماغوجية لأن تعدد الثقافات أمر إيجابي وفيه نفع كثير للمغرب من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى صحرائه.

* على ذكر الصحراء، كيف تنظرون إلى مستقبل النزاع المفتعل؟

- لقد أصبح النزاع أركيولوجيا، وموقفي هيكلي لا سياسي. اعتبر المسألة مسألة بقاء، فالأمر لا يتعلق بحركة وطنية ولا بشرذمة البوليساريو بقدر ما يرتبط بخطورة عدم ضمان البقاء، فلا مستقبل لأية مجموعة لا تضم على الأقل 300 أو 400 مليون نسمة، ولا أجد أي معنى لإنشاء دويلة صغيرة في وقت نحتاج فيه إلى استغلال القضية لخلق بلاد واحدة كبيرة تضم المغرب والجزائر وموريطانيا وتونس وليبيا، ولم لا، السينغال. إن تشتتنا يعني اعتمادنا الدائم على السوق الأوروبية وعلى علاقات الصداقة. ان ما جرى في الصحراء كان دائما يهم طموحات أشخاص فيما تم ضرب مصير الشعوب عرض الحائط.

* ما يجري في الصحراء المغربية، نجد صورا تقريبية له في مواطن أخرى وفي بؤر توتر عبر أرجاء المعمور خصصتم لها إصداركم الجديد، وعنونتموه ب "الحرب الحضارية الأولى". ماذا تعنون بهذه الحرب من زاوية التحليل المستقبلي؟

- الكتاب مساهمة لتسليط الأضواء على ما جرى ويجري داخل منطقة الخليج والعالم العربي والإسلامي والعالم الثالث. يتميز هذا الكتاب بتنوع الزوايا عن هذه الحرب في أبعادها الأربعة : العسكرية والحضارية والسياسية الاقتصادية والاستراتيجية، غير أن الرابط الذي يجمع كل هذه الزوايا هو الرغبة الملحة في استشراف المستقبل استشرافا علميا يستند إلى أدق مناهج وآليات البحث المستقبلي،و هو ما يبرر الربط الذي نجده في هذا الكتاب بين حرب الخليج وبين مستقبل العالم الثالث الذي تمثل هذه الحرب في تاريخه تحديا هيمنيا جديدا.
يتكون هذا المؤلف من أربعة فصول كبرى ومتتابعة: الفصل الأول الذي ينطلق من 2 غشت1990 إلى حدود 17يناير 1991 تاريخ اندلاع العدوان على العراق، وهي مرحلة "عهد ما بعد الاستعمار" وتتضمن مقالات وحوارات تحلل أبعاد الأزمة وآثارها وأسبابها، وتتنبأ بحتمية التطور إلى مستوى النزاع المسلح.
الفصل الثاني ويؤرخ لمرحلة ما بعد 17 يناير، إثر اندلاع العدوان ضد العراق، كانطلاق لأول حرب عالمية أولى حقيقية، وكبداية لأول صراع حضاري واضح بين الشمال والجنوب، يحلل هذا الفصل تطورات الحرب وما انكشف خلالها من ازدواجية لدى الغرب" المصنع / المتوحش تنم عن عطش استبدادي وهيمني…
أما الفصل الثالث فهو عبارة عن مجموعة من الدراسات كتبت خلال فترات متباينة ما بين 1957 و 1991، تكشف بوعي مستقبلي حجم الأخطار المسلطة على دول الجنوب، لتركيز مظاهر التخلف فيه، وكذلك عن مستقبل هذا الجنوب والذي يظهر تحققه خلاله هذه الحرب بالنسبة لجزء كبير من التوقعات التي طرحتها منذ بداية الثمانينات.
ويخصص الفصل الرابع للملحقات.
على العموم، يبقى كتاب" الحرب الحضارية الأولى" مرجعا لفهم الأبعاد العميقة لهذه الحرب ومرجعا نظريا وتطبيقيا في نفس الآن للدراسات المستقبلية. (عن بيان اليوم).

المصدر مجل (إبداع)-
http://www.alarweqa.net/eb/stories.php