من الرباط : محمد البقالي

المهدي المنجرةأثناء الحوار مع الدكتور المهدي المنجرة عالم المستقبليات المغربي، رن هاتفه النقال، كان المتحدث باحثا من إحدى الدول العربية يشرف المنجرة علي رسالته لنيل الدكتوراه.
الباحث أنهي عمله ويريد من المنجرة أن يحضر مناقشة الرسالة، المنجرة اعتذر بلطف وقال: لا يمكنني أن أزور بلدا عربيا يحكمه حاكم دكتاتوري، ومع إصرار الباحث، كان رد المنجرة: أنت تعرف أن المبادئ هي رأسمالي الوحيد.
قضية المبادئ هذه تلخص مسار المهدي المنجرة، فقد وضع لنفسه قواعد صارمة: لا يزور أي بلد عربي لاستبداد حكامه، والمغرب يعيش فيه لأنه بلده ولا بديل له عنه، لا يدخل الجامعات المغربية بعد أن تحولت عن وظيفتها العلمية الأصيلة كما يقول المنجرة، لا يحضر لقاء يحضره أعضاء من منظمة التحرير الفلسطينية بعد أن تخلوا عن القضية علي حد تعبيره. هذا غيض من فيض.
كتب المهدي المنجرة ترجمت إلي مختلف لغات العالم، ومنها ما صدر باللغة اليابانية فقط، ولا ينتهي سيل الدعوات التي يتلقاها من مختلف العواصم الدولية للمحاضرة.
يعتبر أن الحرب علي العراق هي امتداد للحرب الحضارية التي تشنها و.م.أ ضد العالم الإسلامي، فالحرب الحالية والقادمة هي حرب قيم وثقافة، وهي حرب ضد الإسلام، فالمنجرة قال بصدام الحضارات قبل أن يقول به هنتنغتون بسنتين.. ويؤكد أن هذه الحروب إيذان بانتهاء الهيمنة الأمريكية، ومعها نهاية الأنظمة الديكتاتورية العربية، ويؤشر علي ذلك بأدلة عديدة. أما الانتفاضة الفلسطينية فهي بالنسبة للمنجرة، شرارة لانطلاق انتفاضات أخر ي في العالم العربي والإسلامي، والحجارة التي يوجهها الطفل الفلسطيني إلي اليهود في فلسطين، موجهة أيضا إلي المسؤولين الفلسطينيين والعرب الذين انخرطوا في مسلسلات التسوية والمهادنة..يسميه المنجرة مسلسل الخيانة.

- تحدثتم في حرب الخليج الثانية عن حرب حضارية أولي، هل تعتقدون أن الحرب المقبلة علي العراق هي جزء من هذه الحرب؟

هذه الحرب هي استمرار للحرب الأولي، وهي أول حرب عالمية حقيقية، لأن الحرب العالمية الأولي لم تكن عالمية، وإنما كانت حربا أوروبية أوروبية، ودخلت فيها أمريكا، فبقيت حربا غربية ـ غربية. أما الحرب العالمية الثانية فكانت حربا غربية هي الأخرى بمشاركة اليابان. أما هذه الحرب التي نقف علي أبوابها فهي حرب عالمية حقيقية، لأنها حرب بين حضارتين مختلفتين في الدراسات المستقبلية ـ وهذا اختصاصي ـ لفهم المستقبل يجب أن نرجع للماضي، وقبل 20 سنة، كنت ضيفا علي برنامج ملفات الشاشة في قناة فرنسية وسألوني: ما هو تصوركم لعقد الثمانينيات؟ كان جوابي بسيطا، قلت المشكلة الأساسية هي الخوف، والغرب يخاف من ثلاثة أمور: من الديموغرافيا و من الإسلام ومن اليابان وآسيا بصفة عامة. الخوف من الديموغرافيا تخوف استراتيجي وسياسي، والخوف من الإسلام تخوف حضاري، والخوف من آسيا اقتصادي بالأساس. من ذلك الحين وأنا أتحدث عن دور القيم الثقافية والحضارية، لقد عملت 20 سنة إطارا في منظمة اليونسكو. عرفت خلالها أن أكبر صعوبة تواجه التواصل بين الدول تتمثل في العنصر الحضاري والثقافي، وليس في العنصر السياسي أو الاقتصادي. بكلمات أخري، الاقتصاد والسياسة تابعان للقيم وليس العكس.
وعندما قال بوش قبل الحرب علي العراق سنة 1990، لا يمكن أن نسمح لأي أحد أن يمس بنوعية حياتنا وقيمنا. عندما قال ذلك الكلام كنت متأكدا أنه ستكون حرب. وقلت ذلك أربعة أشهر من وقوعها في راديو RFI. فالأمر يتعلق بصراع ثقافي وحضاري بالأساس. وابن خلدون تحدث عن ذلك قبل قرون، قال: إذا تمكنت من فرض قيمك علي قبيلة أخري، انتهي الأمر. وتاريخ الاستعمار بأكمله كان محاولة لفرض القيم، فالمستعمرون كانوا يتحدثون عن تمدين الدول المستعمرة، وهذا التمدين كانت يعني فرض القيم اليهودية والمسيحية علي هذه الدول، كان ذلك واضحا في ارتباط الجيوش العسكرية بجيوش من المبشرين.

- بعد انتهاء الاستعمار العسكري، تحدثت عن مرحلة ما بعد الاستعمار، وتحدثت أيضا عن صراع بين الحضارات، علي أية معطيات بنيت هذه التحليلات؟

لما انتهي الصراع بين الشيوعية والرأسمالية، استمر الاستعمار في مساره ومخططاته، ولا يمكن أن نفهم الحروب الحضارية دون أن نفهم ما بعد الاستعمار، فالمستعمر خرج من الأقطار والبلدان، وجيوشه عادت إلي قواعدها، لكن قيم هذا الاستعمار بقيت داخل هذه البلدان، وعملاؤه هم من حكموا هذه البلدان، وعلموا أن بقاءهم في الحكم مرتبط بالتحالف مع المستعمر، وهذا ينطبق بالخصوص علي العالمين الإفريقي و العربي وجزء من العالم الإسلامي. فالاستعمار بقي دون أن يكون في حاجة إلي جيوش أو مخابرات أو مثقفين للحفاظ علي وضعه هذا. لأن داخل هذه البلدان توجد جيوش ومخابرات وجيل درس جامعاته يحمي قيمه ويدافع عنها.. وكل من عادي قيم الاستعمار اعتبر عدوا. وبعد خروج الاستعمار العسكري، أصبح الإسلام هو العدو، فشن الغرب حروبا صليبية جديدة منها هذه الحرب التي تشنها أمريكا علي العراق. وللتأكيد علي ذلك يمكن أسوق لك ما يلي، في سنة 1976 أنهي الفاتيكان أول دراسة حول عدد المسلمين في العالم، وكانت الأرقام تقول أن عدد المسلمين، هو 965 مليون، وعدد الكاثوليك حسب نفس الإحصاء 950 مليونا، الإحصاء خلص أن عدد المسلمين صار أكثر من الكاثوليك، وهو ما أثار تخوفا، وانضافت له قضايا أخري، خصوصا مع الثورة الإسلامية في إيران وما حصل من بعد في الجزائر في انتخابات 1991 حيث أن أغلبية الشعب الجزائري اختارت التيار الإسلامي في انتخابات نزيهة هي الأولي من نوعها في الجزائر..كما كان هناك توجه في كافة بلدان العالم الإسلامي نحو الإسلام. وهنا بدأ الحديث عن الخطر الأخضر، وبدأ الغرب يستعمل بالتدريج كلمة إسلامي التي كان استعمالها جزءا من استراتيجية يهودية مسيحية، من أجل التفريق بين المسلم والإسلامي، كي يتمكنوا من القول بعد ذلك: نحن لسنا ضد الإسلام ولكننا ضد الإسلاميين، وهم ليسوا خطرا علينا فقط بل خطر علي المسلمين أيضا. علما أن القرآن الكريم لم يستعمل إلا مصطلحي مسلم ومؤمن، يمكن أن نتحدث عن حضارة إسلامية، عن أدب إسلامي، أما أن نتحدث عن شخص إسلامي فهذا غير ممكن، وتاريخيا استعمل مصطلح إسلامي أول مرة عند الإمام الأشعري للتمييز بين الأدب والشعر في الجاهلية، وما بعد الإسلام حيث صار أدب جديد وشعر جديد... فهو تفريق زمني، ونجد هذا المصطلح Islamiste أيضا في الموسوعات الغربية في القرن 18 للدلالة علي الذين يهتمون بالحضارة الاسلامية أي المستشرقين. ونجدها أيضا في نهاية القرن 18في شمال المغرب حيث استعملت كلمة إسلامي بمعني اليهود الذين جاؤوا من الأندلس واختاروا الإسلام... أما الآن فالغرب أراد أن تكون هذه الكلمة طريقة للتمييز بين المسلمين ليتمكن في مرحلة ثانية من الربط بين الإرهاب والإسلام عن طريق الإسلاميين.. يجب أن نضبط المصطلحات، وأذكر أن فيلسوفا فرنسيا قال: الحروب المقبلة ستكون حروبا لغوية سيميائية. وهذا ما حصل بالفعل، الحضارة الغربية تفرض علينا مصطلحاتها وعباراتها وبالتالي مفاهيمها.. يجب ألا ننسي أن هناك في أمريكا تحالفا بين الكنيسة البروتيستانية واليهود ضد ما يسمي بالإرهاب ولكنها في الحقيقة ضد الإسلام. وبجانب بوش الكثير من أنصار هذه الحملة. في أوربا نري مواقف مماثلة مثل تصريح رئيس الحكومة الإيطالية برلوسكوني، لتكون الخلاصة أن المسلمين أصبحوا متهمين حتى تثبت براءتهم.

- ولكن ألا يتحمل المسلمون والعرب جزءا من مسؤولية هذا الوضع؟

هناك بين الشعوب وحكامهم تزداد يوما بعد يوم. وهؤلاء الحكام حاولوا إيجاد حلفاء من القوي الخارجية الاستعمارية للدفاع عنهم، هناك أيضا مثقفون انتهازيون علي شاكلة هؤلاء الحكام. هؤلاء هم من يتحملون المسؤولية.
قوة الولايات المتحدة والغرب ليست في جيوشها وامتلاكها لأسلحة نووية، قوتهم في ضعفنا. ألا تقوم دول عربية عديدة تقول أنها مسلمة بمساعدة أمريكا بمخابراتها وتقديمها لمختلف التسهيلات فيما سمي بالحرب ضد الإرهاب. هناك فلكور في الأمم المتحدة التي صارت بين يدي البنتاغون مثلها مثل المنظمات الأخرى مثل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي.

- بصفتكم خبيرا في المستقبليات، ماذا تتوقعون بعد الحرب علي العراق؟

صدر لي في آخر السنة الماضية كتاب باليابانية، غير موجود بلغة أخري عنوانه حرب أفغانستان الحرب الحضارية الثانية ونهاية الإمبراطورية التي أشعلت هذه الحرب. هذا موقفي من زمان لما سيحصل للولايات المتحدة الأمريكية. وقد صدر كتاب لتولد إيمانويل وهو باحث في المستقبليات يتنبأ بنهايتها والدول المساندة لها.

- ولكن علي أي معطيات ترتكزون في توقعكم هذا؟

المعطي الأول هو الثقة في النفس، من قبل كان الأمريكيون يتمتعون بثقة بالنفس وهذه الثقة تزلزلت، وللتدليل علي ذلك أورد هذا المثال، والولايات المتحدة الأمريكية أنشأت لجنة خاصة برئاسة مادلين أولبرايت لدراسة صورتها في العالم، مثل هذا الأمر يؤكد علي فقدان الثقة في النفس، ولما تفقد الثقة بالنفس تغيب العقلانية ويحل محلها الخوف، والضربة ضد العراق جزء من هذا الخوف، وإلا كيف نتصور أن دولة متطورة بحجم الولايات المتحدة يؤيد ثلثي شعبها التدخل العسكري ضد دولة انتهت عسكريا مثل العراق. وحتى الاقتصاد الأمريكي ليس بخير قال فكلنتون بنفســــه قال ســــنة 1999 في برنامج تلفزي علي قناة CBS: نحــــن نعرف أنه بعد مدة قصيرة لن نبق أو ل قوة اقتصادية في العالم، ونعرف أن الصين ستــــأتي والهند. هذا اعتراف من لدن الرئيس الأمريكي نفسه، فالاقتصاد الأمريكي يعيش وضعية صعبة، القدرة الاستهلاكية زادت، والبطالة ارتفعت، وفي المقابل تتطور الصين بسرعة كبيرة، فهي تملك قوة بشرية هائلة، مليار وخمسمئة مليون نسمة، وتكنولوجيا جد متطورة، وبحث علمي قوي، في المقابل، توجه وأمريكا 20 بالمئة من بحثها العلمي إلي المجال العسكري.

- ما موقع فلسطين من صراع الحضارات هذا؟

أنا زرت الولايات المتحدة وعمري 11 سنة، كان ذلك سنة 1948، وعشت السنة التي وافقت فيها أمريكا علي إنشاء دولة إسرائيل بأمريكا، كما أن أطروحتي للدكتوراه كانت حول القضية الفلسطينية، بالنسبة لي هذه القضية لا تهم الفلسطينيين وحدهم، إنما هي رمز للعبودية للغرب ورمز للخيانة والتحالف مع العدو. وما دامت فلسطين محتلة لا يمكن لأي عربي ومسلم ولا من سبق أن كان مستعمرا أن يعتبر نفسه حرا.. القضية لها وجه خاص بالفلسطينيين، وهو ما يتعلق بالشهداء والضحايا وخرق القانون والحق، والجرائم التي ترتكب كل يوم في حق ذلك الشعب الأعزل، ووجهها الأخر مرتبط بكل المسلمين والعرب بل وبالإنسانية جمعاء.

- تحدثتم سابقا عن أن هذه الانتفاضة هي إيذان بانطلاق انتفاضات أخري في العالم العربي.
كيف؟

يجب أن نعلم أن مسؤولية العرب والمسلمين تجاه ما يحدث ثابتة، وبالخصوص أعضاء ما سمي بجامعة الدول العربية أو جامعة التشتيت العربية كما أسميها، وهذه الانتفاضة علامة علي انتفاضات أخري قادمة ستهز العالم العربي.. لقد تعلمنا من التاريخ أن الإنسان العربي لا يقبل بالذل، وحكامنا قبلوا بالذل المركب، فقد خضعوا ذلا للغرب، وفرضوا الذل علي شعوبهم، وفي وضع كهذا لا يمكن إلا أن نتوقع انتفاضات أخري.
لكن الشعوب العربية الآن صامتة، الشارع العربي لم يتحرك رغم كل ما ذكرت
في المغرب نقول مثالا دارجا سير عل الواد الساكت، لا تمش عل الواد الهرهوري وهذا المثال يعني يمكن أن تثق بالوادي الذي يحدث ضجيجا لأنه غير عميق، ولكن لا نثق بالوادي الصامت لأنه يدل علي العمق. البراكين لا تأتي إلا فجأة وكذلك الزلازل.

- ولكن أستاذ يمكن على كل حال توقع الزلازل والبراكين.

عندما نتحدث عن الدراسات المستقبلية فإننا نتحدث عن دراسات تروم التوقع للمستقبل، ولا يعني هنا سنة أو سنتين. أنا أتحدث عن انتفاضات قادمة خلال عشرين أو ثلاثين سنة. المهم أن الانتفاضة الفلسطينية هي المحرض لمثل هذه الانتفاضات.

- فلسطين منتفضة، والاحتلال جاثم علي صدرها، والعرب كما ذكرت ما الحل إذن؟

يجب أن نعلم أن فلسطين لا تحارب شارون وجنوده فقط، ولا تحارب 6 ملايين يهودي موجودة علي أرض فلسطين أو حتى 12 مليون يهودي الموجودين في كل أنحاء العالم. فلسطين تحارب الصهيونية العالمية ومعها أمريكا، والصهيونية قد توجد في أي نظام حتى وإن بدا أن لا علاقة له بها.
وأنا أري أنه من بين أعداء الشعب الفلسطيني أناس مسئولون عنه، وآخرون يدعون الدفاع عن قضيته، فليست هناك قضية استغلت سياسيا كما هو الحال بالنسبة لقضية فلسطين، وليست هناك قضيت استغلت لاستجداء المساعدات كما هو الحال بالنسبة لها. منظمة التحرير وجزء من قيادات الشعب الفلسطيني يتحملون مسؤولية كبري. الحكام العرب مسؤولون، استغلوا القضية أبشع استغلال ولم يقدموا من أجلها شيئا. الحل ليس داخل فلسطين وحدها، الحل في تغيير جذري للأخلاق السياسية في العالم العربي، الذي عندما يصبح حرا سينتفض هو الآخر.

- تعتبر الدول العربية غير محررة؟

لا أعتبر أن هناك بلدا عربيا وحدا محررا، الدول العربية ما زالت مستعمرة.

- كنت منذ البداية ضد أوسلوا وما تبعها. بعد 10 سنوات من أوسلو، هل غيرت من موقفك شيئا؟

موقفي من أوسلو واضح: إنها خيانة للقضية، وخيار السلام خيانة للقضية، والعديدون الآن يقولون الحمد لله علي شارون، علي الأقل بين الوجه الحقيقي للصهاينة، وبين الذل والعجز العربي الفاضح.

ولا زلت أذكر أنني كنت عام 1991 في ندوة نظمت بالمغرب، وقام مسؤول من منظمة التحرير الفلسطينية وتكلم عن أطفال الحجارة، أخذت الكلمة وقلت، الحجارة ليست موجهة فقط لإسرائيل بل موجهة أيضا للمسؤولين الفلسطينيين وغيرهم من حكام العرب الذين ارتضوا الذل والهوان.

القدس العربي
لندن -2002/12/20


إقرأ أيضاُ