عدنان حسين أحمد
سعدي يوسف في هولندا قرأ شعراً وحاور الحضور وتحدث لـ( الزمان): أسير مع الجميع وخطوتي وحدي - عدنان حسين أحمد
أقام المنتدى الديمقراطي العراقي أمسية شعرية للشاعر سعدي يوسف في مدينة لاهاي الهولندية. وقد ساهم في تقديمه الكاتب كامل شياع بكلمات مقتضبة لكنها دالة ومركّزة ذهبت في مسارها إلي الصميم حيث قال: (بيننا اليوم قامة شعرية شامخة في سماء الشعر العراقي والعربي. شاعر وُصف في وقت مبكر بأنه الشاعر الذي رأي، وما انفكت رؤيته تتواصل وتتسع، وما انفك شعره يزجنا في الحياة، نحن قراؤه ومريدوه، مبشراً ومحذراً ومستنيراً. منذ أكثر من نصف قرن سكن أبو حيدر مملكة الشعر وسكنته. وصار عنده الشعر مداراً للحرية والالتزام ومضماراً للسير مع الجميع بإيقاع الذات. الذات المتمردة والمنتمية معاً). كان سعدي يوسف يردّد دائماً: (أسير مع الجميع وخطوتي وحدي) تري هل حقّق سعدي يوسف هذا التفرّد علي صعيد الشعر فقط، أم أن حضوره قد امتدّ ليشمل القصة والرواية والسيرة الذاتية والترجمة؟ وللإجابة علي هذا السؤال الذي ينهض في أذهان الكثير من القرّاء لابد من مقاربة نقدية لإبداعاته النثرية والمترجمة التي أنجزها علي هامش تجربته الشعرية التي حفرت لنفسها موقعاً متميزاً في المشهد الشعري العراقي خاصة والعربي عامة.
تتنازع أغلب المبدعين في العالم أكثر من موهبة، ويهيمن عليهم أكثر من اهتمام. وربما لا يرضي البعض منهم أن يكون مبدعاً في جنس أدبي واحد كالشعر أو القصة أو الرواية أو الترجمة أو الموسيقي أو الفن التشكيلي أو النقد الأدبي وما إلي ذلك. لذلك يسعى هذا المبدع أو ذاك لأن يوزّع اهتمامه الإبداعي علي أكثر من جنس أدبي في آنٍ واحد بحجة أن الفكرة التي لا تستوعبها القصيدة ممكن أن تحتويها القصة القصيرة أو الرواية، من دون الأخذ بعين الاعتبار أن هذا التشتت سيؤدي لا محالة إلي إضعاف المحور الأساسي الذي يشتغل عليه الشاعر، ويعوّل عليه في تجربته الإبداعية، أو في الأقل يقتطع من المساحة الزمنية التي ينبغي أن تكون مكرّسة للهاجس الإبداعي الأول. ففي القصة القصيرة صدرت لسعدي يوسف (عين السكلوب) و( النافذة) ولكنهما مرتا مرور الكرام علي الذاكرة النقدية العراقية، وربما مرتا مروراً خاطفاً علي ذاكرة القرّاء أيضاً، وقد استعنت بأكثر من صديق لكي أقطع الشك باليقين من أن هاتين المجموعتين هما لسعدي يوسف، وليس لغيره. وفي الرواية صدرت لسعدي يوسف (مثلث الدائرة) التي استمتعت بقراءتها كنص سيروي أكثر من كونها رواية تخضع لشروط البنية الروائية. وقد استعنت بالرؤية النقدية لصديقي الناقد ياسين النصير الذي أعرب عن إعجابه بالفصل الرابع الذي كرّسه لـ (عدن) غير أن الفصول السابقة واللاحقة لم تُثر حاسته النقدية علي ما يبدو، بل أن الرواية نفسها لم تثر شهية النقاد لكي يسلطوا عليها ما تستحقه من ضوء وعناية واهتمام، لذلك مرّت علي شريط الذاكرة الجمعية العراقية والعربية من دون ضجيج. في حقل الترجمة لابد من الإقرار بأن ترجمته لمجموعة (أوراق العشب) للشاعر والت وايتمان قد ذاع صداها بين قرّاء الشعر تحديداً، وقد ذهب البعض إلي أن ترجمته لهذه المجموعة كانت متوفرة علي شروط الأمانة والنجاح والشعرية، في حين ذهب البعض الآخر عكس هذا المذهب وصرحوا بعدم كفاءة سعدي يوسف مترجماً، بينما اتفق العدد الأكبر من المثقفين علي ترجمته الأمينة والدقيقة لعمل هنري ميلر (رامبو والقتلة) و(متشرداً في باريس ولندن) لجورج أورويل. لا أريد في هذا الصدد أن أقيّم سعدي يوسف مترجماً. فهو ليس مترجماً متخصصاً، ولم يدرس اللغة الإنكليزية دراسة أكاديمية، ولا أدري لماذا يخوض غمار تجربة غير مأمونة العواقب. فالذائقة الفردية له كشاعر مبدع لا تسعفه من السقوط في فخاخ ربما يكون تفاديها أفضل بكثير من التورط فيها. فاللغة تنطوي علي أسرار كثيرة وشائكة تحتاج إلي من يتفرغ إليها، ويمتلك ناصيتها، ليطوعها مثلما يشاء. ومع ذلك فقد ترجم سعدي يوسف أكثر من عشر روايات، كما ترجم العديد من الدواوين الشعرية والكتب التي أثارت اهتمامه شخصياً، والتي نتمنى أن تكون في متناول القراء والمتخصصين لكي يقولوا رأيهم فيها. فسعدي يوسف يهمنا كرمز شعري وثقافي، وينبغي انتشاله من دائرة الإعجاب الملفق والزائف، وإنقاذه من انشوطة الاخوانيات القاتلة التي ربما تدفعه دفعاً لأن يكون شاعراً وقاصاً وروائياً ومترجماً وسياسياً في آنٍ معاً، مع أنه غادر السياسة منذ زمن طويل. ألا يكفي أن يكون سعدي يوسف شاعراً حداثياً متفرداً، مولعاً بالتجريب تارة، والمغامرة تارة أخري؟ ما حاجته لأن يحرث في أرض بور، أو يزرع في أرض سبخة؟ ألا يكفيه أن يعتمر تاج الشعر، ويتسيّد مملكة الشعراء التي ملأت قلوب الملوك والرؤساء قيحاً وقهرا؟ ألا يكفي أن يكون بطلاً في الشعر كما يذهب الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي.
يؤكد د. علي جعفر العلاق في مقالة كتبها بعنوان (المشهد الشعري العراقي: القصيدة الحديثة بعد جيل الرواد) بأن (محمود البريكان وسعدي يوسف أهم شاعرين عراقيين من خارج جيل الرواد استطاعا أن يندفعا بالقصيدة الحديثة خطوات مهمة) وهو بالتأكيد يقصد الخطوات التجريبية التي تقدم بها علي غيره من مجايليه المعلقين بين جيلي الخمسينيات والستينيات. فلقد أفاد سعدي يوسف من السرد القصصي، ومن الموسيقي، والكولاج، واللهجة المحكية وسواها من المعطيات التي لم يجرؤ أحد علي الاقتراب منها سوي فاضل العزاوي لاحقاً، والذي يعده علي جعفر العلاق الأكثر إثارة للجدل من بين أقرانه الستينيين. وإذا كانت خصوصية البريكان هو تعلقه بالقلق الوجودي، ومساءلة الحياة واستغوارها فإن (سعدي يوسف استطاع هو الآخر أن يشق له درباً شعرياً لا يبتعد في الظاهر كثيراً عن طريقة البريكان، مع أنهما يختلفان في الأفق أو في الغاية التي يسعى كل منهما لتحقيقها). وأكثر من ذلك فقد (أخذ سعدي يوسف ــ رغم موهبته المثيرة للانتباه في وقت مبكر ــ يحاذي قصيدة الرواد، ويستخدم بلاغتها الخاصة. وكان تأثير السياب والبياتي واضحاً علي مجموعاته الأولي). إن أبرز ما يميّز لغة سعدي يوسف عن شعراء الموجة الستينية، أو جيل ما بعد الريادة هي أنها لغة غنائية بسيطة مقرونة بعمق شديد. لغة موحية، ومركزّة تستمد قوتها ودلالتها من قساوة الواقع، ولا تجنح صوب الإشراقات العاطفية أو الرومانسية. ويمكن ملاحظة ذلك بيسر في مجموعاته الأولي (القرصان، 51 قصيدة، أغنيات ليست للآخرين). ثم بدأت قصيدة سعدي تتخلص لاحقاً من حسها الغنائي، لتنغمس كثيراً في مساءلة الذات، وتقصي المشاعر الإنسانية العميقة، وملاحقة الإنسان في ذري عزلته، وفض فلسفة السرية معتكزاً علي تقنيات السرد تارة، ومعطيات الحوار الدرامي المكثف تارة أخري، ومعولاً علي عين الكاميرا السينمائية حيناً، وعلي ذروة التجريد الموسيقي حيناً آخر، كما في دواوينه اللاحقة (الأخضر بن يوسف ومشاغله، الأخضر بن يوسف يكتب قصيدته الأخيرة، الليالي كلها، قصائد باريس.. شجر إيثاكا، جنة المنسيات، لوردة الثلج للقيروانية.. الخ). بينما يعتقد الناقد ياسين النصير الذي يُعد من أكثر المتابعين لتجربة سعدي يوسف الشعرية، فكلاهما متحدّر من مدينة البصرة، وقد عملا معاً في جريدة (طريق الشعب)، ناهيك عن لقاءاتهما المستمرة في السبعينيات قبل أن يحزم سعدي حقائبه ويغادر العراق مضطراً تحت وطأة ظرف سياسي عصيب وهو انهيار ما يسمي بـ(الجبهة الوطنية) آنذاك.
النصير يؤكد بأن سعدي يوسف متابع للثقافة العراقية بشكل جيد، ويعرف أبعادها، ومصادرها، والآفاق الواسعة التي تتطلع إليها. لذلك فالنصير يشدد علي أن سعدي يوسف قد أفاد كثيراً ليس من الرواد ومجايليه فحسب، وإنما أفاد حتى من الجيلين الستيني والسبعيني اللاحقين لجيله الذي يتأرجح بين جيلي الخمسينيات والستينيات. فعلي سبيل المثال أفاد من تجربة (الكولاج) التي سبقه إليها القاص المبدع جمعة اللامي، وأفاد من القصيدة المدوّرة التي تألق بها الشاعر حسب الشيخ جعفر. ولكن تنبغي الإشارة هنا إلي أن سعدي يوسف قد (دوّر البحر الطويل) الذي لم يجرؤ أقرانه علي تدويره حقاً. ناهيك عن النزاعات التي وقعت بينه وبين الشاعر يوسف الصائغ بصدد قصيدة (اليومي والمألوف) وترسيخها كأسلوب فني يستمد قوته من الأحداث اليومية العابرة التي يمكن لها أن تصبح موضوعاً ذا شأن أدبي وفني لا يقل أهمية عن الموضوعات الوجودية الكبيرة.
يذهب د. العلاق (بأن جيل الستينيات لم يكونوا مدفوعين بهاجس عروضي أو هموم شكلية عابرة، بل كانوا يجسدون رؤية جديدة للشعر والحياة) وكان يري في فاضل العزاوي شاعراً مجرباً لا نظير له ضمن جيل الستينيات تحديداً، وهو لا ينكر المنحي التجريبي لشعراء من طراز سركون بولص، صادق الصائغ، جليل حيدر، جان دمو، صلاح فائق، مؤيد الراوي وعبد الرحمن مجيد الربيعي. وعلي الرغم من الكتابات النقدية الكثيرة، والأضواء الباذخة التي سُلطت علي جيل الستينيات، وأكثرها كان محكوماً بعوامل أيديولوجية أضرت كثيراً، وما تزال تمعن في ضررها، بنزاهة النقد العراقي، ومصداقيته الفنية، وربما حرفته عن سكة المحايدة، إلا أن هناك تجارب شعرية كثيرة لم تأخذ حقها من النقد والدراسة والتحليل أسوة بما حصل عليه سعدي يوسف، مظفر النواب، بلند الحيدري وآخرون من اليسار العراقي أو من المحسوبين عليه من جهة. وما حصل عليه شعراء السلطة أو من ذوي الحس القومي أمثال شفيق الكمالي، علي الحلي، شاذل طاقة، عبد الرزاق عبد الواحد، حميد سعيد، ياسين طه حافظ، سامي مهدي، آمال الزهاوي، محمد جميل شلش، نعمان ماهر الكنعاني، راضي مهدي السعيد وأسماء أخري كثيرة لا يمكن الإشارة إليها في هذه المقدمة المقتضبة. في حين ظلت أسماء شعرية بارزة بعيداً عن الأضواء والدراسات النقدية الجادة أمثال لميعة عباس عمارة، محمود البريكان، شريف الربيعي، صلاح نيازي، نبيل ياسين، عمران القيسي، مؤيد الراوي وآخرين علي الرغم من أن أغلبهم كان ينتمي إلي التيارين السابقين ومع ذلك فقد أقصتهما عجلة النقد اليسارية أو اليمنية. لا شك أن مجموعات سعدي يوسف الأخيرة قد حققت حضوراً مهماً في المشهد العراقي (قصائد ساذجة، إيروتيكا، يوميات أسير القلعة) وأنها ما زالت تجتذب الأضواء، غير أن اللافت للنظر في تجربته، وبالذات القصائد التي نشرها مؤخراً في (القدس العربي) تحديداً كانت تنطوي علي كثير من المجازفة لإيغالها غير المبرر في النثرية. فالنص لا تكاد تستشف منه شيئاً، ولا تهزك في القصيدة صورة شعرية أو بيت محدد يستقر في الذاكرة. وكنا نخشى أن تكون بئره الإبداعية قد نضبت. وهذه الخشية كان يشاركني فيها شعراء شباب لهم حضورهم الشعري الواضح أمثال كريم ناصر، علي البزاز، ناصر مؤنس، ولكنه أعاد الثقة إلينا حينما قرأ عدداً من قصائده التي سماها (القلاع) وهي قلعة الحصن قرب حمص، وقلعة العقبة في الأردن، ثم قلعة محمد مهدي الجواهري، والقلعة الرابعة التي لم تنشر بعد وهي قلعة تنهار اسمها العراق. لقد خطف سعدي يوسف إعجاب الحاضرين سواء في مضامين القصائد الأربع الطوال التي قرأها، أو في طريقة إلقائه الجميلة والمغايرة خلافاً لما كان يعرف عنه بأنه (لا يحسن قراءة الشعر). ثم دار حوار مفتوح بين الشاعر سعدي يوسف والحضور، وقد كانت ردود الشاعر مقتضبة جداً، وربما تفضي إلي القول بأنه لا يتوفر علي نفس تنظيري طويل. وفيما يلي نص الحوار:
ياسين النصيّر: هل بإمكان الشعر العراقي أن ينهض بالقضية السياسية التي نمرّ فيها اليوم. وهل هناك مديً في القصيدة الحديثة يستوعب ما يجري في العراق؟ هل تستطيع القصيدة الحديثة المبنية علي إشكاليات بعضها ذاتي، وبعضها الآخر موضوعي أن تنهض بقضية سياسية واجتماعية كبيرة كالعراق؟ وهل تخلي الشعر العراقي عن دوره الحقيقي يوم كان نبضاً للشارع، وراية للمتظاهرين، وهتافاً علي أكتاف الجماهير؟ هل تستطيع القصيدة الحديثة وأنت أبوها أن تنهض بمشكلات المجتمع العراقي السياسية الآن؟
ــ يضع هذا السؤال الإصبع علي موضع الجرح. أنا أعتقد أن الاندفاعة في القصيدة العراقية هي التي أدت إلي تغيير مجري الشعر العربي بعامة. هذه الاندفاعة ولدتْ وتطورت مع المطامح الكبيرة نحو عالم أفضل، وإزاء ما يهدّد هذه المطامح من مخاطر. نحن لا نستطيع أن نهمل ما نهض به بدر والبياتي ونازك من حرص علي الرسالة الشعرية التي تعتنق كل ما يوجع مجتمعنا وشعبنا. لكن في فترات التدهور والانحسار التي حدثت لاحقاً، وكوّنت انقطاعاً حقيقياً بدأ الشعر خصوصاً، والفن عموماً يبتعد عن العلاقة، ليس مع النص فقط، وإنما مع الواقع. إن الحاجة ضرورية مرة أخري إلي تأكيد علاقة الشعر بما يجري لكن ضمن شروط أصعب بكثير من شروط الموجة الأولي، أقصد بداية الشعر الحر. الآن نحن نطلب من أنفسنا أو نضع أنفسنا إزاء مهمات أكثر تعقيداً مما سبق. إن كتابة نص حقيقي، أو قصيدة معنية بالشأن العام تتطلب عدم التخلي إطلاقاً عن أدق جماليات النص الشعري، أو أدق جماليات الفن ومقتضياته. أنت متابع جيد للشعر العربي. لقد حدثت قطيعة، ليس في القصيدة العراقية فحسب، وإنما في القصيدة العربية. حدث انقطاع بين النص والناس. وهذا الخلل هو جزء من تدهور أمة، وتدهور ثقافتها. من السهل عليّ جداً أن أكتب قصيدة معنية فقط بهاجس الجمع، وهذا الهاجس هو أيسر ما أكتبه، لكن سؤال العناية بالموسيقي، والعنصر الصوتي، وبالحروف اللينة، وتزاوج الحروف الصائتة وغير الصائتة وغيرها من هذه الحرفيات الدقيقة تبقي أمراً مهماً. أنا أهتم بهذه القيم والعناصر، مثلما أهتم في الوقت ذاته بأن ما أفعله ذو علاقة وثيقة بالشأن العام وبالهاجس الجمعي. وهذا ما يحتاجه قارئ القصيدة. وإلا ماذا أفعل أنا بالقصيدة. صحيح أنني أكتب أبياتاً لنفسي وأستمتع بها وأرتاح، لكن القصيدة لن تكتمل بهذه الصورة.
عدنان حسين: كلنا يعرف أن العرب هم ظاهرة صوتية، وهم يميلون إلي السمع أكثر من ميلهم إلي البصر. ماذا تقول بشأن القصيدة البصرية الآن؟ الثقافة في كل أنحاء العالم تتجه نحو الجانب البصري، بينما لا نزال نحن متشبثين بالجانب السمعي. أين الجانب البصري في قصيدة الشاعر سعدي يوسف؟
ــ أولاً لسنا وحدنا أمة صوتية. الأوروبيون يسمعون موسيقي أكثر منا. إن شأننا هو شأن أي أمة تهتم بالصوت هناك أمم أخري تهتم بالموسيقي أكثر منا، ولها درس في الموسيقي وعلم الأصوات. أما بشأن القصيدة البصرية فقد بدأت مع الطباعة أو ما يسمي بـ (Typographic poem) في القرن التاسع عشر. أما أن نسمع نحن الآن بالقصيدة البصرية فهذه مسألة أخري، ربما لأننا تصلنا الأشياء متأخرة دائماً. القصيدة البصرية تتخذ دائماً جانبين. الجانب الأول هو جانب طباعي في تشكيل النص، أو في توزيع الكلمات علي هيئة وردة كما في قصيدة شهيرة لبازوليني. وهناك مئات القصائد البصرية في الشعر العالمي. أما الجانب الآخر فتعتمد علي حاسة معينة كأن تركز علي حاسة الأذن في نص معين، أو تركز علي حاسة العين في نص آخر. ففي الوقت الذي تنتج فيه نصاً بصرياً معتمداً علي حاسة البصر سوف يكون الهدف الأساسي منه هو استخدام حاسة البصر عن طريق اللغة طبعاً، لأن اللغة هي أداة النص الشعري. فالناحيتان موجودتان التيبوغرافية والبصرية.
نبيل العيبي: إن ما يحصل من تطورات في العلم هو شيء خارج العقل والمنطق. هل للشاعر نافذة يمكن له من خلالها أن يفضح السلوك الغربي أو الأمريكي تحديداً؟
ــ الشاعر هو كأي مواطن يريد أن يدفع عن نفسه أو يؤكد ذاته، لكن المهمات التي يتحملها الشاعر مختلفة في الوسيلة وطريقة التعبير وأسلوب الإيصال عما يتحمله السياسي أو رئيس تحرير صحيفة سياسية. لقد كتبت قصيدة شهيرة اسمها (أمريكا.. أمريكا). هذه القصيدة تُرجمت ثلاث مرات في الولايات المتحدة الأمريكية، ونُشرت في العديد من الدوريات. ومرة زرت معسكراً طلابياً في إحدى الجامعات، والتقيت بطلبة أمريكيين، واكتشفت أن هذه القصيدة كانت متداولة بينهم وقال لي أحدهم إنهم قبل عام قاموا بمظاهرة، وغنوا هذه القصيدة علي آلة الجيتار. وعندما كنت في كولومبيا قبل سنة وجدت أن هذه القصيدة قد ترجمت إلي الأسبانية، وقدمتها فرقة من فرق الشباب في مهرجان شعري عالمي كبير. في الشعر كلمات ربما تصل إلي شريحة واسعة من الناس. في الشعر ثمة كلمات وموسيقي وطرق تعبير وصور ومفارقات وغيرها من خصوصيات الفن الشعري. أنت لا تستطع أن تقدّم نفسك كسياسي محترف، ولكنك تستطيع أن تقدم نفسك باعتبارك شاعراً محترفاً.
جاسم المطير: هل نستطيع أن نتحدث عن إمكانية تحويل القصيدة إلي مسرحية. فأنا حسبما أتذكر في يوم ما من أيام الستينيات صرحت أنت بهذا الشيء، وحاولت أن تحول الشعر إلي مسرحية. أما زالت لديك هذه النية قائمة؟ ففي الربع الأخير من القرن الماضي تحولت الكثير من القصائد إلي أغنيات وصلت إلي ملايين الآذان. وهناك تجربتان مهمتان، واحدة في مجال الأغنية العاطفية، وهي تجربة ماجدة الرومي التي وسعت من انتشار قصائد نزار قباني، والثانية سياسية وهي تجربة مارسيل خليفة. هل يمكن أن نوسع من مدي هاتين التجربتين؟
ــ الشعر كان لصيقاً بالمسرح منذ ولادته، والمسرح الإغريقي هو مسرح شعري. أنا حاولت أن أحول بعض القصائد إلي نصوص مسرحية، لكنني لم أستمر بهذه المحاولة، وربما أعود لمحاولتي تلك. لا أدري. أما ارتباط الشعر بالأغنية فهو أيضاً منذ الولادة. ففي المسرح الإغريقي كانت هناك الجوقة التي تنشد كشاهد علي الأحداث. وهذه الشهادة تقدم عن طريق الغناء. إذاً هناك ترابط عميق ووثيق بين الشعر والمسرح والأغنية. القصائد الأربع التي قرأتها اليوم في هذه الأمسية تحاول أن تقيم علاقة بينها وبين الأغنية، لذلك تستدعي تكويناً موسيقياً وتلحينياً مختلفاً عما ألفناه من تقديم ماجدة الرومي لقصائد نزار قباني. الأغنية التي تعتمد علي نصوص أكثر تعقيداً تستدعي تكويناً مختلفاً من الموسيقي والتلحين والبوليفونية. هناك إمكانية لتحويل بعض القصائد إلي أغنيات، لكنها تستدعي شروطاً معقدة. غير أن هذه الشروط لا تتوفر لدينا نحن العراقيين، ومازلنا بعيدين قليلاً عن هذا الموضوع.
علي إبراهيم: سمعت في مقابلة تلفزيونية أن سعدي يوسف مولع بقراءة الرواية. هل هناك مشروع روائي لسعدي يوسف يجعل منه روائياً يقف بموازاة سعدي يوسف شاعراً؟
ــ هذا مستحيل في التمام والكمال لكني أسلي نفسي وأديم علاقتي بالرواية عن طريق ترجمة الرواية. أنا قارئ نهم للرواية ومترجم غزير لها. لقد ترجمت حتى الآن أكثر من عشر روايات وبأحجام كبيرة من 500 إلي 600 صفحة. أنا حقاً أحب الرواية، وأستفيد منها كفن. أستفيد من قيمة الإخراج للواقع. وأستفيد استفادة كاملة من بناء الرواية وتخطيطها الذي سينفع لاحقاً في تخطيط القصيدة. إن قصيدة طويلة لا تستطيع أن تكتبها مستغرقاً، لأنه سوف تضيع منك التفاصيل، وسوف تأخذك اللغة، كما تأخذك مسائل معينة إلي هذه الجهة أو تلك، وقد تشعر بالبعثرة. يجب أن تضع تخطيطاً أولياً للنص الطويل. في الرواية هناك نظرية تسمي بأسلوب المراوحة ما بين عين الكاميرا وبين الأحداث المقصودة. هذا الأسلوب يمكن الاستفادة منه في كتابة النص الشعري، لقد أصبحت الفنون متقاربة من بعضها البعض.
إحدى الحاضرات: كيف نستطيع أن نضيّق الهوة بين الجيل الجديد والجيل السابق، فثمة مشاكل عميقة وجوهرية لدي الجيل الجديد المنطوي علي نفسه، والذي لا يستطيع أن يوصل أفكاره إلي الجيل السابق. كيف نردم هذه الهوّة من وجهة نظرك؟
ــ في المجتمعات البشرية الأكثر تسامحاً ودأباً علي إدامة القيم الثقافية والجمالية لا توجد مثل هذه الهوة. في هذه البلدان يقيمون مشاغل شعرية ( Poems workshops ) تقرّب بين الأجيال والتي تجعل من الجيل الجديد يتبّع الجيل السابق، كما يتسع الجيل السابق لمعاينة تجربة الجيل الجديد. هكذا تكون العلاقة. يوجد الآن شعراء كبار يذهبون إلي مدرسة ثانوية، ويقيمون مشغلاً شعرياً للطلبة لمدة شهر علي سبيل المثال. من هنا تبدأ الهوة تضيق عندما تنظر إلي الفن كممارسة وثيقة ومتطورة، وبين الممارسة الأولي للفن كمحاولة. وسوف يتعرف الفتية والفتيان علي أوليات وطرق ووسائل الكتابة. هذا التقليد، مع الأسف، ليس موجوداً عندنا. في السابق كنا نتعلم من بعضنا. أنا مثلاً تعلمت علي يد بدر، وأفتخر بهذا الشيء. كنت أقرأ قصائده، وأحياناً اسأله هذا السؤال أو ذاك. في مجتمعنا كان التعلم يتوفر علي نوع من الاستقرار والديمومة. وكانت الأجيال تأخذ من بعضها البعض. أما في الشتات، ومع شرذمة المجتمع، وتمزق قواه الحية، وتفكك علاقاته الوثيقة بين أبنائه لم يعد التعلم والأخذ من الأجيال ممكناً. لكن أنا أعتقد أننا في مهاجرنا نستطيع أن نقوم بعمل من هذا النوع. إذ توجد الكثير من النوادي والبيوت والمنتديات العراقية وفي كل مكان وبإمكاننا أن نقيم مشاغل متعددة في الرسم والموسيقي والشعر وبقية الفنون، ونستطيع أن نساعد أنفسنا في التغلب علي هذه الإشكالات.
سلمان شمسة: في عام 1983 سالت دماء علي ذري جبال حاج عمران، واختلطت الدماء العربية بالدماء الكردية دفاعاً عن هذا الجبل. ووقتها هزّتك هذه الدماء فكتبت قصيدة (إعلام سياحي إلي حاج عمران). وحينذاك، والشهود كثيرون في هذه القاعة، وصلت قصيدتك إلي جبال كردستان وتناقلها الأنصار، وأصبحت مكوّناً لزوادتهم التي يحملونها علي ظهورهم مثلما كانت زاداً لنا في المنافي، وكنت أتمني لو أسمع مقطعاً صغيراً منها. كان من يمتلك المجلد الأول من أعمالك كمن يمتلك كنزاً، هل لنا أن نأمل بصدور أعمالك الشعرية الكاملة كي يكتمل الكنز؟
ــ قصيدة (إعلام سياحي لحاج عمران) كتبتها في مكان عجيب بعيد كل البعد عن حاج عمران. لقد كتبتها عندما كنت في أديس أبابا في أثيوبيا في ذلك الوقت. هذه القصيدة كتبتها في خمسة أيام. وأنا، كالعادة، لا أعمل زمناً طويلاً علي نص من هذا النوع. إذ يستغرقني العمل فيه مدة يومين أو ثلاثة أيام. لقد أخبرني كثير من رفاقي الذين كانوا أنصاراً، أو من كانوا علي صلة بالأنصار بما تفضلت به أنت الآن. أنا عندي ثلاثة مجلدات، وبعد شهر سوف يصدر المجلد الرابع. وعندها سيكون عندي أكثر من ألفي صفحة من الشعر غير المهمّش.
صلاح حسن: في نصوصك الأخيرة هناك تجربة إيقاعية جديدة، وحس ملحمي، مع أن اليومي يدخل في نسيج النصوص الأخيرة. هل هناك توجّه أو رؤية جديدة لدي سعدي يوسف في كتابة نص آخر يعتمد علي النثر أحياناً وعلي المزاوجة بين النثر والإيقاع، خصوصاً أن النصوص الأخيرة حفلت باستخدامها للأصوات والحروف. هناك أيضاً الشكل يختلف لأن القصيدة كانت تأخذ شكل الأبيات، بينما هنا تأخذ شكل السطر. هناك اختلاف في قصيدة سعدي يوسف الأخيرة. هل يمكن إضاءة هذا الجانب من قصيدة سعدي يوسف؟
ــ أنت باعتبارك شاعراً محترفاً سيكون معك الكلام أدق لأننا أصحاب (كار) واحد. يوجد مبدأ أحاول إتباعه هو جزء من براغماتية عندي في تجنب الملل والرتابة سيكولوجياً وبنية في النص ومشاركة للقارئ أو للمستمع في إكمال النص نفسه. وأحاول في الوقت ذاته أن أطبّق بشكل صعب في كثير من الأحيان مبادئ في الفن أراها مع الزمن ضرورية ولازمة. فعلي سبيل المثال نحن نتحدث دائماً عن الموسيقي الداخلية. لكن هذه الموسيقي كيف تكون؟ وكيف يتم الوصول إليها؟ الموسيقي الداخلية ليست مسألة هيّنة، إذ ينبغي أن تكون هناك دراسة صوتية حتى للحروف، أو للعلاقة بين الحروف، والعلاقة بين الحركات والسكنات. أنت تستخدم في نص واحد مبدأ الكتلة، ومن ثم تستخدم مباشرة مبدأ اللازمة، ووراءه مباشرة تستخدم العنصر البصري، ثم تجعل قصيدتك تطوّر الكتلة، ولنفترض أن لونها رمادي، أنت تمضي بها لكي يكون لونها أكثر رمادية، ثم تمضي بها لكي تكون بيضاء بشكل ما في الوقت نفسه. في ما بعد أنت تأخذ اللازمة، وتطور اللازمة مع التطور اللوني للكتلة. ثم بعد ذلك تأخذ النص البصري وتمضي به مع التطور. أنت هنا مثل من يركب ثلاثة جياد وعليه أن يستمر في هذا العمل. ستجد صعوبة لكنك فيما بعد ستصل إلي نص متحرك ذي قيمة صوتية وبصرية كما أفعل أنا الآن. وفي الوقت نفسه تكون أنت قد قدمت للقارئ أو المستمع رؤية متحركة، غير جامدة، ولا تبعث علي الملل.
أحد الحاضرين: هل أن هذا البناء الذي تعتمد عليه هو أقرب إلي السينما أو الرواية أو الموسيقي؟
ــ أنا أستفيد من كل الفنون. أستفيد من التقطيع والسينما والرواية. أستفيد من بنية القصة القصيرة في التكثيف، ومن البناء الموسيقي خاصة من الموسيقي غير الغنائية. كما أستفيد من طبيعة التدرج والمفاجأة والانتقال، وحتى من القيمة الصوتية هنا وهناك. أستفيد من حروف اللين والرنين. كما أكن للفن التشكيلي احتراماً كبيراً وأستفيد منه كثيراً.
أمين : ماذا عن قصيدة النثر في مشروع سعدي يوسف؟ وما هي المعلومات المتوفرة لديك عن محمود البريكان؟
كم ديوان منشور لديه؟ وكيف تنظر لمشهد الشعر العراقي الراهن ومجازر جنين وغيرها من المدن الفلسطينية المحاصرة؟
ــ أنا أقدّس حرية التنوع واختيار الأشكال في الفن وفي نفس الشاعر. وقصيدة النثر أضعها في مكانها من الأشكال الشعرية، وأكتبها، لكن بطريقة خاصة، مثلاً في مجموعة (يوميات الجنوب، يوميات الجنون) قصائد نثر، لكنها مكتوبة بطريقتي الخاصة. أنا أضع أناملي علي الشعر غير الموزون الذي أكتبه. وحتى النصوص التي قرأتها الآن فيها مراوحة بين النص الموزون وغير الموزون. أنا أستفيد من مختلف الأشكال. وأحفظ قولة أثيرة لناظم حكمت يقول فيها: (أنا في الشعر مُستعمِر). أنا آخذ من كل الأشكال من هنا وهناك، وأستغلها وأستفيد منها. وهكذا علي مبدأ الرجل أنا في الشعر مستعمر. استعمل كل شيء وأستغل كل شيء. أما بصدد محمود البريكان فهو صديق لي. ومؤخراً أشرت في كلمة قصيرة عنه بعد رحيله ذكرت فيها أنني عندما اعتزمت أن أترك بلدي في أواخر السبعينيات لم أخبر حتى زوجتي لاعتزامي هذا، ولكن ذهبت إلي البصرة، وزرت محمود البريكان في بيته الذي قُتل فيه. وقلتُ له: يا محمود أنا مغادر. كان الوحيد الذي يعرف بأمر مغادرتي هو محمود البريكان. ليس لمحمود ديوان باستثناء المختارات التي انتقاها عبد الرحمن طهمازي. أما عن الوضع في جنين وغيرها من المدن الفلسطينية المحاصرة فقد قاتلنا مع الفلسطينيين في حي السلّم في بيروت. إن ضميرنا يمتحن الآن أيضاً، ولكن الاستجابة الفنية تأتي متأخرة، ومع ذلك قد تستطيع مواكبة القضية أكثر من بيان سريع في وكالة أنباء.
جريدة الزمان - 07/05/2002