حاوره : عباس بيضون

في الثماني عشر ساعة التي قضيناها معلقين في الجو في الطريق إلى كولومبيا فاجأني سعدي )عشت كثيرا، عشت اكثر مما ينبغي(. لم يكن حزينا وهو يقول ذلك ويعقب (ولكن ماذا نفعل، هناك كثير من الكتب وكثير من الاسطوانات ونحن لا نستطيع أن نقرأ كل شيء أو نسمع كل شيء). كان ثمة وقت طويل مضى على آخر لقاء لي بسعدي. علمت من الصحف بأنه ذهب إلى الفيليبين ليعود بجثمان وحيده. جعلني كلامه أحسب بأنه نادم على الحياة وانه لا يزال سادراً في حداده، يصعب في الواقع أن نضع سعدي في لحظة أو هنيهة واحدة، انه طائر. أو أن له حركة طائر وخفة طائر فثمة شيء هوائي في طبع الرجل وسلوكه. ولنقل شيء مديني، من معاشرة المدن والموانئ والحانات كلها كما سمّى أحد دواوينه. لنتحدث عن ذاكرة كوسموبوليتية، عن حدس مديني للأرصفة والحانات والتسكع وربما التصعلك مادته. اهتدى سعدي بسرعة إلى أول بار والى أول حانوت والى أول كنيسة، كان يقرأ المدينة بحسه وبقدميه أسرع منا جميعا، واهتدى بطبيعة الحال إلى المشروب المحلي، ويمكن القول أن من شأنه هذا تبقى فيه بذرة من السعادة، من تآلف الحياة والأشياء. والحق أن رفقة سعدي خلال عشرة أيام جعلتني أقلع عن صورة الحداد التي توهمتها في البداية، كان الرجل طلقا وحرا وخفيفا وعالميا ومتسكعا وصاحب كأس. هذه صفات لا يلعب فيها العمر على ما يبدو.

ربما لا نبالغ إذا وصفنا سعدي بالطائر بل أن له جسديا وجه طائر ونقلة طائر، وربما كان له من الطائر سهو وغياب ومفاجأة ومبادرة، فأنت تجده كل لحظة على غصن لكنك مع ذلك تشعر أن شيئا فيه عصيا على الإمساك، كتلك النبرة الغائبة في صوته و التي تجعله أحيانا غير مسموع.

كنت طموحا دائما إلى حديث مع سعدي، فأنا من الذين يعتبرونه أحد المعلمين الأهم في شعرنا، لكن سعدي ليس ممن يسهل إمساكهم في لحظة ولا في مكان، ولا في ظرف، فاتني دائما هذا الحديث وحين سنح كان علي أن أتعجّله، ثم اتركه شبه مقطوع، فالشاعر الذي تفرغ لي قرابة ساعتين دخل في عجيج حياته وبات صعبا إعادته إلى لحظة ماضية، لقد طار من هذا الموقف إلى غيره من تلك الساعة إلى سواها وهيهات أن يرجع إلى غصن فارقه. لكن عشرة سعدي هي دائما عشرة شاعر، شعره وحياته يُصنعان بالحبر نفسه تقريبا، وليس سهلا أن نعثر على القصيدة ولا على الشاعر.

  • بخلاف ما كنت أظن، وجدتك تتكلم براحة عن لندن، وحياتك فيها في الفترة الأخيرة، وكأنها تراها أكثر فترة في منفاك اطمئنانا؟
    صحيح، وربما اكثر فترة في حياتي كلها اطمئنانا. الاطمئنان أولا من على جسدي باعتبار أن الجسد معرض للفناء بسرعة أو بعنف هناك. ثانيا الاطمئنان على ما يخص العيش، بمعنى الإقامة المشروعة في مكان ما، لأني كلما كنت أطيل الإقامة في بلد عربي أفقد حقوقي. فالحقوق تتناقص على طول الإقامة في البلاد العربية، لا تكتسب شيئا وتكون ما لديك اكثر عرضة لمهبّ الريح. تفقد حقوقك كاملة بالتدريج. وهذا حدث لي في كل مكان عربي أقمت فيه. فجأة تجد نفسك أمام الجدار، فإما أن تخضع لهذا الجدار و أما أن تقفز عنه. أما في ما يتعلق بالإقامة في إنكلترا، فأنا داخل في هذه المنظومة الثقافة وأتعامل معها منذ فترة مبكرة جدا من حياتي ولم أنقطع. اللغة الإنكليزية والأدب الإنكليزي مكوّن طبيعي وأساسي في ثقافتي، إلى جانب اللغة العربية. كثير من الشوارع التي أمر بها يذكرني بروايات وقصائد، وكتابا وشعراء. أشعر بألفة عجيبة مع الأمكنة هنا. ثم أن هناك أمرا مهما جدا، فأنا لأول مرة في حياتي أستطيع أن أفكر بحرية، بمعنى أن دورة التفكير لا تُعرقَل، فتظل طبيعية هادئة واعتيادية. ربما في التفكير المنطقي هذا الشيء أساسي ومن منطق الأشياء، ولكن في العملية الإبداعية تكون القضية اخطر بكثير، لان العملية الإبداعية في الأساس تقوم على وهْم إعادة تشكيل الكون، وعلى وهم الخلق، وفي هذه النقطة أحس بالحرية المطلقة، أو على الأقل بوهم امتلاك الحرية المطلقة. هذا الشيء ظل صعبا ومعقدا وفادح التضحية. فمن اجل أن أعبّر في النص الشعري عن اشكالات معينة في واقعي، كان عليّ أن أترك وطني وأهلي وامرأتي وان أدخل السجن وأتعرض للتعذيب... كل هذا يخلق رغبة بسيطة في حرية التعبير. الآن، فعلا، أجد نفسي مطلق الحرية. هذا بالإضافة إلى أمور أخرى مهمة، فأنا اليوم لست بحاجة إلى عمل، ولست بحاجة إلى الكتابة بأجر في أي مكان، كما لست بحاجة إلى أن يكون لي مركز في أي حركة سياسية معينة في سبيل العائد المادي. كل هذه الأمور تحررت منها بالكامل. ومن هنا أنا أحتفي بمُقامي هنا.
  • هل تحتفي بالتخلص من أي إلزام سياسي وثقافي واجتماعي عربي... إلزام ولا أقول التزام؟
  • هذا أكيد. يكفي أني خدمت في الأرض العربية خمسا وستين سنة، لي لذلك حق التقاعد في أي مكان، فأنا الآن أتقاعد من خدمة هذه الأرض وأشتغل لنفسي، للنص.
    خارج الخارطة.
  • هذه الإقامة اللندنية، ماذا تفعل فيها على صعيد التفكير بالشعر وكتابة الشعر...
  • في كتابة النص الشعري أحاول أن لا أنظر في الخارطة الشعرية العربية. فاهتمامي ينحصر بعدد محدود جدا من الأصدقاء. إما باقي الخارطة الشعرية العربية فلم أعد أهتم لها كالسابق. هذا يجعلني مستقلا عن رد الفعل إزاء ما أحاوله في الكتابة، بمعنى أني بعيد عن السجالات ليست في ما يتعلق بالقصيدة بل أيضا بمجمل الوضع الثقافي العربي. بصراحة تعبت من المتابعة ويئست منها أيضا، فعدت إلى المحاولة الإلية والبسيطة، هكذا.
    ما الذي يشغلك الآن في عملك الشعري؟
  • ما يشغلني الآن في عملي الشعري هو الجهد الأول، أي كيف أحاول القيام بما أراه معادلا فنيا للحياة، أو للعقدة، هذا شيء أساسي وهمّ حقيقي. الوسائل والعناصر والأدوات ليست مشكلة ولا تثير إشكالا أمامي.
    الآن بدأت التفكير والتخطيط في مشروع، يبدو بسيطا جدا، أحاول أن أكتب معادلا معاصرا، ذاتيا إلى حد ما، للأوديسة. حاليا أنا في مرحلة قراءة، قرأت الأوديسة مرتين بترجمتين، قرأتها باللغة الإنكليزية، ومع الترجمتين كان هناك كتاب مساعد، شروح تاريخية ولغوية الخ... ولأن الأوديسة كانت تالية للإلياذة لذلك يتعين عليّ أن أقرأ الإلياذة أيضا، ثم عليّ أن أبدأ بقراءة روايات وكتب في التاريخ والجغرافيا، القريبة من هذا الجو.
    الإشكال بسيط، لأن الأوديسة هي حوالي خمس وقفات أساسية، بالإمكان تحويلها إلى عصر، إلى ذات أيضا ووضع نص ليس عمديا إلى هذا الحد، لكني تعلمت، مع الكتابة وتعقيدها، ومع التخطيط لمشروع، تعلمت أن أي نص طويل المدى (إذن يكون طويل الأمد) ينبغي أن يعتمد على عمود فقري أولي وأساسي واضح. وهذا هو عمل الشاعر الذي اعتمدته.
  • هل هو كتاب وصية كما يُقال؟
  • لا أختلف معك في هذه المسألة، لأنه بعد حوالي شهر أو شهر ونصف مثلا سيصدر المجلد الرابع من أعمالي الشعرية، عند صدور هذا المجلد أكون قد كتبت حوالي ألفي صفحة من الشعر، غير المهمّش والمهمل... كتبت ألفي صفحة من المتن. وأعتقد أن هذا يكفيني كثيرا وأكثر من اللازم.

خططت لأن يكون العمل الجديد في عشرة كتب، الكتاب منها في خمسين صفحة، فيكون كامل المشروع الجديد 500 صفحة. وقد وضعت خطة دقيقة جدا للعمل.

  • هل سيكون شعرا خالصا؟
  • نعم، سيكون نصا شعريا.
  • أنت تكتب أول مرة عملا بهذا الطول، رغم غزارة شعرك لم تكتب قصيدة تغطي كتابا كاملا ومع ال2000 صفحة التي كتبتها، أنت تفكر بكتابة ضخمة، كتابة عمل كبير. هذا يبدو على نحو ما انعطافا؟
  • صحيح. ومن الأسباب التي أدت إلى هذه الانعطافة، طبيعة إقامتي الجديدة التي لا تتحمل هزات مفاجئة، ولا انقطاعات غير محتملة، عندي فرصة نادرة في حياتي لأن أكون في حال من الاطمئنان والاستمرارية والتلاقي الثقافي الخ... لذلك من الممكن أن أقوم بهذا العمل.
  • ليس الانعطاف فقط على مستوى الطول والحجم، بل على مستوى النظر إلى الشعر وعلى مستوى الشكل الشعري وتناولك للعالم... على المستوى الثقافي...
  • الأمر فيه تداخل، فالسيرة الذاتية ستدخل على نحو واضح لكن النص في تخطيطه سوف يكتسب موضوعية ما.
  • نوع من )فاوستك( الشخصي أو أوذيستك الشخصية؟
  • ربما تكون الأوذيسة الشخصية لي، فاوست بعيد عني إلى حد ما.
  • أسألك إلى أي حد في هذا العمل الجديد وهذا هو المهم في سؤالي ومن خلال هذه الإقامة، تجدد نظرتك للشعر؟ هل عندك مشروع ما، فأنت من الشعراء القليلين الذين امتلكوا مشروعا من النص الأول تقريبا، قصائد مرئية، وهناك شعر عليه بصمتك، كما هناك مشروعك الشعري، النظرة، التناول الحساسية وهذه هي ذاتها مع التطور. هل اكتمل هذا المشروع فصرت في صدد مشروع آخر؟
  • أنا أستفيد من مُضيّي في المشروع ذاته، لكن بطريقة اكثر تركيبية.
  • اقتربت من الغناء الشعبي، ولكن هذه المحاولة لم تصبح أساسية في شعرك، بل
    بقيت منحىً من مناحٍ...
  • هي بالضبط هكذا، لا أستطيع أن أمضي بها، كثير من المقترحات لا أستطيع أن أمضي بها لأني لا أريد أن أكون أسيرا لها.
    عودا إلى كلامك السابق عن انصرافك عن المشهد الشعري العربي، هل في ذلك نوع من الموقف النقدي مما يحدث في الكتابة الشعرية العربية. هل تبلورت عندك، بعد كل هذه التجربة والمعرفة بالتجارب العربية المعاصرة، فكرة عن لا جدوى الانشغال بالتجارب الشعرية العربية؟

درجات الهبوط

  • أنا لا أقصد عدم المتابعة للمشهد الشعر العربي وحده و إنما أيضا للمشهد الثقافي بمجمله. الوقت الذي نحن فيه الآن هو وقت انهيار، لا يزال يأخذ مداه، لأن هناك درجات في الانهيار وفي الهبوط لم نبلغها بعد. في هذه المرحلة من حياتي، أنا لست مستعدا لأن ألاحق وأتابع درجات الهبوط، لا اكثر. لم يعد لدي من العمر ما يكفي لمتابعة درجات الهبوط. أنا الآن أحاول أن أرمّم نفسي، وان أستعد لمنجزات جديدة.
  • لو توسّعنا قليلا في الكلام عن حال الشعر العربي اليوم، هل ترى أن هذا الشعر مسدود الآفاق تقريبا. نتكلم في الإجمال، هل ترى أن هذا الشعر وصل إلى مرحلة من الاستنقاع وتكرير نفسه ومن الدوران حول ما سُمّي بحركة الحداثة، التي هي بحد ذاتها حملت من الأول كمية كبيرة من المشاكل وتحولت إلى سجن؟
  • تحديث الشعر العربي عملية مستمرة، لكن المشكلة انه لم يعد هناك اختراقات هائلة كالاختراقات التي حدثت منذ نصف قرن، هذا الشيء لم يتكرر مرة أخرى، بالرغم من إتاحة وسائل جديدة وإضافة حريات إلى النص، ليست هناك حتى الآن اختراقات كبرى.
  • هل تذهب إلى ما يتواتر عن فقدان الشعراء الجدد حساسيتهم اللغوية بل حتى معرفتهم للغة؟ أنا أهتم بمسألة التكوين، تكوين الفرد الذي يؤهله لممارسة عمل إبداعي. هذه هي المسألة الأساسية، وهنا تحديدا تدخل اللغة، والثقافة في الجماليات، وتدخل الفلسفة والموقف النقدي من المجتمع والسياسة هذه كلها تدخل في عملية التكوين. أعتقد انه لا يمكن أن تقوم الرجعية بعمل طليعي أبدا. إذا كانت اقترنت الحداثة بالرجعية فستغدو قناعا طليعيا لكنها تبقى رجعية. وقد تكون مسألة اللغة في هذا الإطار، كيف أبقى بعد ذلك معنيا ومهتما بمراقبة مشهد، هو راديكاليا مرفوض عندي. لست ملزما بمعاينة هذا الوضع.
  • هل ترى إذن أن الثقافة العربية فقدت القدرة على المعارضة بهذا المعنى؟
  • تحدثت أنت في المشهد العام، أنت في واجهة الشعر العام وتعرف كل شيء، تبلغ نسبة الرجعيين اكثر من تسعين بالمئة، ولنقم بعمل إحصائيات. ماذا نفعل عند ذلك بأمتنا وبأنفسنا، وما موقفنا من حكامنا وسلطاتنا، من الرقابة وسلطات الضباط...
  • بعد انتقالك إلى لندن، كنت لا تزال مشغولا ببعض المشاريع العربية، ومشاريع تجمّعات ومجلات، أي كنت مهجوسا بالفعل في الثقافة العربية وبعمل ثقافي جماعي، هل أقامتك في لندن جرّت عليك اقتناعك بلا جدوى العمل والمتابعة؟
  • أنا أعرض اقتراحا، ولكني لست ملزما بالمضي فيه، فأنا لست قائدا سياسيا بالمطلق ولا معنيا بأن أكون على هذا الطريق، أقدم مقترحا أراه نظيفا أو جديرا بأن يهتم به الناس لكن يبدو أن قدرتنا الذاتية على العمل الجمعي صارت محدودة وهينة.
  • هل يعود هذا إلى أن ثقافتنا حاليا فاقدة مخزونها وأساساتها والتراكم الذي ينبغي أن يكون سابقا عليها.. هل ترى أن هناك خفة في الثقافة، وارتجالا وسرعة...
  • ليست المسألة مسألة الثقافة فقط، فالثقافة كلمة كبيرة لكن فلنقل الأساس التعليمي. فبعد عشرات السنين من الاستقلال تظل نسبة الأمية في مصر مثلا 50 بالمئة، هذه أشياء خطيرة جدا. إذاً نظل مع سؤال الدولة الوطنية، ما هي الدولة الوطنية؟ بعد خمسين أو سبعين سنة من الاستقلال ولا أتحدث فقط عن مصر لا تزال نسبة الأمية 50 بالمئة والحدود مفتوحة للآخر، الاقتصاد منهار. وهذه هي الواجبات الأولى لأي دولة وطنية، أن تطور ثقافتها وان تحمي حدودها وان تطور الاقتصاد الوطني. هناك شيء أخطر من القضية الثقافية أو من إشكالات الحركة الشعرية أو غيرها، فأساسات الحلم بتطوير هذه الأمة وإدخالها في التقدم، غير قائمة. وأنا أرجح وأرى أنه لم تقم دولة وطنية في منطقتنا.
  • بالمعنى الحضاري؟
  • حضاريا وسياسيا. فالدولة الوطنية هي منجز حضاري كبير، لأنها نتيجة حلم حضاري، يؤكد حلما أبعد بإنهاض هذا الشعب وتعليمه وتطوير اقتصاده وحماية حدوده.

    فقري النبيل

  • مع فشل المشروع القومي، هل ترى أنه كان هناك أيضا فشل للمشروع النظير له، مشروع الحداثة والثقافة، ألا ترى أنه بدا أيضا وكأنه ضئيل وصغير ومدّع؟
  • لا أستطيع أن أفصل حركة التحديث الأولى التي طرأت في الشعر العربي، عن صبوة التحرر والنهوض الشعبي بعد الحرب العالمية الثانية. فهذه موجة أمل عظيم وبناء حلم بشيء من الديموقراطية، أن تصوّت الشعوب في يوم من الأيام وتتحرر من الجيوش الأجنبية... وليس ذلك في الشعر فقط بل أيضا في الرواية والأغنية... من هنا أرى تساوقا بين النهوض الوطني والنهوض الفني. لا أتحدث هنا عما هو خارق وما هو نادر أو عن شهاب مارق في السماء، و إنما أتحدث عن مجمل الحركة الثقافية التي تظهر ثمارها واختراقاتها طبيعية، لأنها مؤسسة على كينونة حقيقية حيوية.
  • لم نتحدث ولا مرة بالتفصيل عن حياتك الأولى، مرحلة العراق الأولى، أنت من البصرة، هل نتحدث عن تكوينك الأول، في الأسرة التي نشأت فيها، التكوين الثقافي الأول، القراءات الأولى، العلاقة الأولى بالشعر والكتابة.
  • أنا أساسا من أبو الخصيب جنوب البصرة ومن أسرة مالكة بساتين نخل متوسطة، ومع مرور الوقت أخذت الأسرة تفتقر، ففتحت عيني على فقر حقيقي ظهر في طبيعة ملابسي ودراستي والأشياء التي أفعلها. عشت فقرا حقيقيا ونبيلا، درست المرحلة الابتدائية في أبو الخصيب وتابعت في ثانوية البصرة، لأنه لم تكن في أبو الخصيب ثانوية. والمسافة طويلة بين قريتي والبصرة إذ تبلغ اكثر من ثلاثين كيلومترا.
  • تحدثت عن الفقر في هذا العمر، ما الذي يحدد مستوى هذا الفقر مستوى الطعام، شراء الكتب.. الخ؟
  • شراء الكتب مسألة مستحيلة، فقد كنت أنسخ الكتب على ورق الأكياس وأخيطها بالخيط.
  • هل تتذكر كتابا معينا نسخته بهذه الطريقة؟
  • كتاب (دي موسيه) وكذلك قصائد بدر شاكر السيّاب مثلا: حسناء القصر وحسناء الكوخ. كانت فترة جميلة جدا.
  • هل كان لأهلك علاقة بالثقافة، هل كان والدك متعلما؟
  • والدي توفي وأنا في الثالثة. لا أتذكّر وجهه إلا في الحلم أحيانا. ظلت أمي معنا وتوفيت عام 1986.
  • عاشت معك في العراق؟
  • لا، كانت تزورني أحيانا، عندما أكون هاربا إلى بلد ما، كما كانت تزورني حين كنت في السجن.
  • هل كانت أمك شخصا مميزا؟
  • كانت تتميز بحنان واضح وحب.
  • هل لك أخوة وأخوات؟
  • كان عندي أخ كبير توفي قبل بضع سنوات. والآن لي أختان إحداهما أكبر مني والثانية أصغر. والأخيرة لم أرها منذ حوالي 22 سنة إلا مؤخرا في عمّان.
  • كنت شيوعيا في سن الرابعة عشرة، ما الذي قادك إلى الشيوعية، الجو العام، الجو المدرسي الطلابي، الحساسية المبكرة.. الخ؟

البدايات

  • حساسية مبكرة. ثم إن بيتنا كان بشكل ما في الحركة الشيوعية. أخي الأكبر كان في الحركة النقابية وثوريا، وكنا في كثير من الأحيان نستقبل مناضلين في بيتنا ليلة أو ليلتين ثم يغادرون البيت فجرا.
  • هل دخل أخوك الأكبر السجن؟
  • لا. لم يدخل السجن، لكنه تعرض لمضايقات في العمل وغير ذلك.
  • هذا كان جو البلد؟
  • الكثيرون، وخاصة عندما يتحدثون عن بدر شاكر السياب يقابلون بين الريف والمدينة ويفترضون أن بدرا خرج من بيئة مغلقة واصطدم بالمدينة. الواقع أن بدر نشأ وترعرع في بيئة اكثر تقدما من المدينة غير المعروفة، لأنها بيئة اكثر تركيزا في وعيها السياسي وحركة الاجتهاد الديني فيها. فجيكور كما أبو الخصيب كانت بلدا عريقا فنحن نعرف أن جمال الدين الأفغاني مر بها، وكان فيها حركة اجتهاد ديني وفيها من يسمون الطبيعيين أهل الطبيعة وهم حركة إلحادية لا تؤمن بالله بل بالطبيعة، وحتى مطبعة الحبر كانت هناك كما أن شعارات التظاهرات كانت تهيأ فيها وتنقل إلى البصرة لترفع وتتداول. بدر لم يكن متفاجئا بالمدينة لأنه نشأ في وعي متقدم عن المدينة غير المقروءة، وصل إلى المدينة مجهّزا بوعي فكري.
  • بداية علاقتك بالحركة الشعرية أو بالشعر، ما كان أول ما قرأت من الشعر؟
  • أول ما بهرني في ذلك الوقت، هو بدايات شعر بدر شاكر السياب، المبكرة جدا، سواء العمودي منها أو ما تلاه مباشرة (حسناء القصر وحسناء الكوخ) ومرثية الحسين.
  • هل لقرب المكان علاقة بهذا الاهتمام بالسياب والاقتراب منه؟
  • نحن قريبان ليس فقط لكوننا من أبي الخصيب و إنما نحن من قريتين متصلتين، وبيننا أيضا صلة نسب.
  • إذاً كان هناك سبب شخصي لهذا التقارب؟
  • فجأة تجد شخصا من قريتك يتزعم تظاهرة يوم فلسطين مثلا، أو ينشر نصا في صحيفة في بغداد. هذه المسألة مهمة جدا.
  • كم هو الفارق في السن بينك وبين بدر؟
  • هو من مواليد 1926 وأنا 1934.
  • نعود إلى أول قراءاتك...
  • قرأت بدر أولا، ثم المعلقات لأني أردت أن أتعلم العروض، ثم المتنبي. والعجيب أن أحد أقاربي هو إمام مسجد اسمه (الحاج عمر) ولكنه مع ذلك كان علمانيا. المنطقة كلها وجدت فيها روح علمانية عجيبة، كما كانت فيها تكية نقشبندية أيضا، كنا نحن الشباب والفتيان نذهب إلى التكية لنقرأ كتبا شيوعية. فأولاد الشيخ كلهم شيوعيون، قسم منهم دخل السجن وقسم نقلوا من المنطقة.
  • ماذا تذكر من كتاباتك الأولى؟
  • التجارب الأولى بدأت عمليا مع (إحدى وخمسون قصيدة) محاولات مبكرة جدا. في أحد الأيام وفي بواكير حياتي الشعرية (دخت)، فقد رحت أنظر إلى تاريخ الشعر العربي كأني أنظر إلى قاع بئر ليس له قاع. وأنا مقبل على ذلك وأمام هذا الهول ماذا أفعل بهذه الصنعة التي اخترتها: لست مسلحا بشيء، وهذا القرار العميق الذي هو الشعر العربي لا أدري ماذا أصنع به. كنت قرأت قليلا من آداب أجنبية كالقصة القصيرة وبعض الأشتات من الشعر الأوروبي. الوضع الثقافي في العراق آنذاك كان متقدما جدا وكذلك بحيث انك لو سمعت بكتاب صدر مثلا في إنكلترا يكفي أن تذهب إلى مكتبة لتطلب هذا الكتاب، فيصلك بعد أسبوعين. أذكر من ذلك مثلا كتاب (صديقتي الشجرة) الذي أوصيت عليه من فرنسا وجاءتني نسخة منه.
  • أريد أن أسألك كيف تعلمت اللغة الإنكليزية؟
  • تعلمت الإنكليزية على ذاتي، فأنا خريج لغة عربية. لم أدرس الإنكليزية دراسة أكاديمية أو منهجية، ومع أن الإنكليزية تدرس في المدارس والجامعات العراقية إلا أن هذه الدراسة تبقى قاصرة ولا يعتمد عليها في التكوين الثقافي.
  • متى انتبهت إلى ضرورة تعلم الإنكليزية ومتى بدأت بتعلمها؟
  • في أواخر الخمسينيات.
    ما كان الدافع وراء تعلمك الإنكليزية، هل هو سبب اجتماعي أم ثقافي، في بلد لا يغلب على منفعته الاهتمام بلغة أخرى؟
  • وجدت البصرة مجموعة من المثقفين لا بأس بها وأنا من بينهم. كنا نراجع بعضنا في ما نقرأ. كنا مهتمين فعلا بتوسيع إطارنا الثقافي. ومن ضمن هذا الاهتمام قراءة روايات باللغة الإنكليزية. أتذكر مثلا سلسلة (بنغوين) الشهيرة. تابعنا وتكفل أحدنا بقراءة ما صدر منها. كان علي مثلا أن اقرأ كل مؤلفات شتاينبك. من لا يقرأ لا يمكنه أن يحضر الحديث. ومن أجل أن أشارك في الحديث يعني علي أن اقرأ هذه الكتب. أحضرت قائمة مؤلفات شتاينبك ورحت أقرأها كلها بالتدريج. ثم أشطبها مؤلفا مؤلفا إلى أن قرأت شتاينبك وكل همنغواي. تلك المرحلة أفرزت جوا نوعيا.
  • هل من أسماء معروفة من هذا الجو الذي كان في البصرة؟
    محمود بريكان مثلا.

أنا والسياب

  • سأسألك عن السياب نفسه، وعن علاقتك به، هذه العلاقة بين قريبين من جهة وشاعرين من جهة أخرى، وبعمرين مختلفين. ماذا يعني لك السيّاب؟
    هو بالنسبة إلي معلم حتى الآن، بشكل مباشر وغير مباشر.. وفي غير المباشر أكثر، في فترة الستينيات كنت اتصلت ببدر مباشرة قرأت له مرتين قصائد لم تنشر. كنت أستمتع كثيرا واستفيد من ملاحظاته حول النص. أسأله أحيانا عن دقائق في حرفة الكتابة في إحدى قصائده، فيجيب بوضوح. كان شخصا مرتجفا أي منفعلا باستمرار.
  • هل كان عصبيا جدا؟
    ليست العصبية بمعنى العدوانية بالمشاكسة، واستفزاز الآخر، لا بل تشعر بأن لديه حدة داخلية عجيبة. الارتجاف الذي أقصده لديه كان من هذه الناحية.
  • هل كانت له شخصية زعيم تيار أو حركة..
  • أبدا، مع أنه كان فعلا كذلك. في تلك الآونة كان واحدا من مجموعة أسماء جيدة في العراق.
  • قرأت رده العنيف على نازك الملائكة، ليس حول موضوع الريادة التاريخية للقصيدة الحديثة و إنما حول شعرها بالذات. لم يتردد في القول عن شعرها بأنه غير حديث. هكذا بدا في مقالاته غير الشخص الخجول المنزوي. الذي كنا نتخيله.
  • ليس خجولا من هذه الناحية، سجالاته على كل حال قليلة وليست متواترة.
  • هل كان الاعتراف به من الشعراء الشباب في تلك الفترة أقل؟
    كان بدر معدودا مع نازك وعبد الوهاب البياتي وبلندر الحيدري، كلهم أسماء مؤثرة. ولم تطرح مسألة الزعامة الشعرية ذلك الحين. كان السياب من بين الشعراء الجديد هو الذي يملك إذا جاز التعبير قصيدة بمعنى من المعاني. الأسماء الأخرى لم تمتلك قصيدة ولا تأثيرا ولا لغة ولا عالما.

الطريق الخاص

  • متى صدرت (قصائد مرئية)؟
  • في الستينيات، عام 1964.
  • كيف توصلت إلى هذا الطريق الشخصي، الذي هو في رأيي مشروع شعري مختلف مواز لذلك التيار الذي مثله السياب، مشروع يمنح الشعر وظيفة مختلفة، ونظرة مختلفة.
  • الشعر العربي لا يتحدث عن الإنسان، الفرد العادي مطلقا، لا في الشعر الكلاسيكي ولا في القصيدة الحديثة التي جاءت مع بدر ونازك، هذا الفرد مُبعد لذا قررت أن أتعامل بتشدد في مسألة الضمائر، قلت يجب أن اكتب بضمير المتكلم حتى لا يكون هناك طقس جمعي، حتى لا يُلغى الفرد، نوع من ضمانات لغوية في هذا المسعى.
    بقدراتي المحدودة، قد أستطيع أن أصف هذا الفرد الشاكي وشبه الساكن، صرت أحركه بالتدريج. هذه المسألة فلسفية وهي في عمق جماليات الفن وقوى الشعر. وما دمت أتناول إنسانا فردا عاديا، إذن فليكن تعاملي مع اللغة متناسبا، وعندما أحرك هذا الفرد فعليّ أن أحركه في محيطه، وهذا يستدعي أن تكون علاقتي مع الطبيعة ومع الأشخاص ومع الميراث الشعبي، علاقة جيدة.

هكذا بدأت في سلوك طريقي الخاص.

  • ما الذي مهّد لهذه النظرة، هل أثرت عليك الأيديولوجيا الماركسية وهل هناك قراءات أخرى حرّضتك على هذا الطريق طبعا قراءات شعرية، عربية وغير عربية؟
  • ماركسيتنا لم تكن على هذا النحو، كانت تدعو بالعكس الشاعر إلى الكتابة في العام حين تصف الشعر بأنه ذاتي وتشتمه. هكذا كان تأويل الماركسية لدينا. التركيز على الفرد عندي لم يصدر عن الماركسية بل تعلق باختيار فني، أن أبدأ بالفرد وبضمير المتكلم.
  • ألم تساعدك في ذلك قراءات أجنبية مثلا؟
  • بالتأكيد. بالتأكيد. ساعدني لوركا بشكل أساسي، كما ساعدتني القصة الأميركية أيضا.
  • هل من قراءات أخرى.
  • لا أعرف كيف انتقيت قراءاتي في تلك الفترة. لكنها مع ذلك كانت مختارة ومنتخبة، لا أدري كيف. إنما انتخبت من هنا وهناك ونقل إليّ ذلك رؤية أخرى نفذت إلى كتابتي، أهم النصوص التي استفدت منها في اختيار كتابتي، رسالة من ناقد أميركي إلى كاتب قصة قصيرة شاب، يقدم له نصائح جميلة في كتابة القصة القصيرة، ومن جملة هذه النصائح كيف تبدأ بالتعامل مع من حولك وما حولك، وكيف تخرج من وقت الاستقبال إلى الشارع، كيف تقطع ممر المشاة، مجموعة تدريبات هائلة للخروج من غرفة الاستقبال إلى أن تفتح باب البيت ثم تخرج إلى الرصيف، فاذا عبرت ممر المشاة استطعت أن تكتب قصتك القصيرة الأولى. هذه النصائح فيها دلالات جمالية وأخلاقية، التعويد على الملاحظة الدقيقة وعلى دراسة التفصيل، التعويد على التحريك الجوهري.. من هنا باتت مسألة الصدق عندي ملازمة للكتابة فأنا لا أستطيع أن أكتب نصاً أن لم يكن ناتجا فعلا عن تلمّس عن أمانة أولى للحواس. لا أستطيع بالمطلق أن أفعل سوى ذلك.

عاطفة لا عاطفية

  • في كتاباتك الأولى يبدو أن هناك قطعا مع الرومنطيقية ومع الوجدانية المفرطة وقطعا مع الدراماتيكية المفرطة. مع أن الشعر الحديث كان أما سيولة رومنطيقية وجدانية وإما ادعاءات داخلية إذا أردت مفرطة..
  • أحفظ من تلك الفترة المبكرة جدا عبارة باللغة الإنكليزية معبّرة جدا، عاطفة لا عاطفية. استوعبت هذه العبارة تماما. ولهذا سعيت إلى أن أكبح ذلك الفيض من المشاعر. هذه الأوليات التي ارتكزت عليها كانت واضحة جدا لي، وربما هي ما جعلني أمضي شوطا أبعد في مسيرتي، لأنها مبادئ صارمة في الفن، كما أن فيها أخلاقا عالية أيضا.
    لو نتحدث قليلا عنك اليوم؟
  • باختصار، أنا شيوعي خارج الحزب، أعمل للحزب ومعه.
  • خارج وداخل؟
  • أنا كنت مبتهجا لكوني في الحركة الشيوعية، وحتى الآن أشعر بابتهاج لأني لم أنفصل عنها.
    هناك صعوبات جعلتك خارج الحزب.
  • نعم، لكنها صعوبات قد تكون ناتجة عن تكويني، فأنا لست شجاعا بما يكفي لأن أتحمّل كثيرا، ولست على قدر عال من الانضباط لكي أتحمّل البقاء في خلية فترة طويلة وأكتب تقارير وآتي بأنصار وأجمع تبرعات الخ... مع أني في فترة معينة وزعت جريدة سرية ومنشورات في معسكر للجيش.
  • دخلت السجن، هل استفدت من هذه التجربة؟
  • نعم دخلت السجن في فترة البعثتين وعبد الكريم قاسم. تجربة السجن مهمة جدا في حياتي باعتبار أنها جعلتني دائما أصبر وأن أكتفي بالقليل وأن أحترم الآخر. أفادتني التجربة كثيرا في الواقع.

عن جريدة (السفير)
2001/09/14