عندما تواعدتُ مع الشاعرة جمانة حداد على لقاء للنشر أردته على سجيته، عفوياً إستكشافياً لكتابها الجديد الذي لم يكن صدر بعد، وبالتالي لم تكن لدي فكرة كاملة عنه. الإنطباع الأولي: يا لغرابته عنوانا لأنطولوجيا! "150 شاعراً انتحروا في القرن العشرين". لاحقاً قبل اللقاء الذي امتد في أكثر من جلسة، أرسلت إلي الكتاب أوراقاً من المطبعة في مرحلة التنقيح والتصحيح، كتاب ضخم في 656 صفحة من الحجم الكبير. الإنطباع التالي: من أين جاءت هذه المرأة النحيلة الناعمة بكل هذه القوة، والجلد، والمثابرة لتجمع عناصره المكتوبة في جهات الأرض بألسن برج بابل وتنقلها إلى العربية كلمة وراء كلمة، وداعاً وراء وداع ؟ ستقول لي "إنه الشغف لا أعمل شيئاً دونه . شغوفة بما أفعل هذه طبيعتي". لا يلغي تعليلها في المتابع القارىء المنصت المتأمل في جناها، فكرة أن هذه الشاعرة متعددة وافرة، بمعنى أبعد من قول قديم "كل لسان بإنسان"، هي الذاهبة في كتابها إلى لغات شعرائها، العائدة بهم إلى العرب بعدما نبشتهم حفراً بأظافرها في تعبير تحبه "لأنه يشبهني" .
شغوفة وقوية. شاعرة الأعماق ومترجمة الشعراء الشابة لا تخاف، تجاوزت شعور الخوف العادي من زمن وهي تنقب في دواخلها وفي قبور 150 شاعراً وشاعرة من ثمانية وأربعين بلداً أحبتهم بل عشقتهم، وها هي تعرفنا إليهم روّاد الصدق هؤلاء الذين أكملوا إلى الآخر، عبروا الحافة إلى ما بعد الصدق، محولين قصائدهم في ختام حيواتهم الإرادي كلمات أخيرة في وجه العالم.
شاعرة أعماق، وأكرر أن الأكثر إدهاشاً في عالمها السحري قدرتها على البحث الجدي و"الكدح": بجهد جسدي ونفسي وذهني وروحي هائل مدى أربع سنين جمعت واطلعت على سبعين مرجعاً من كتب وأنطولوجيات بلغات متعددة ذكرتها في الكتاب. معلومة واحدة بسيطة بعض الأحيان كانت تستلزم منها أسابيع طويلة من البحث، وترجمت قصائد شعرائها مباشرة عن لغاتها الأصلية المكتوبة بها، الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والإسبانية بينما استعانت بمراجع ثنائية اللغة للألمانية والبرتغالية كسند ثانوي، وقصائد شاعر أرمني عن الإنكليزية لأنه كتب بها رغم معرفتها بها. والأنطولوجيا بسبع لغات، وقبالة كل قصيدة بلغتها الأصيلة قرينتها العربية المترجمة. ولكل شاعر في الكتاب نبذة شعرية عن حياته، وصورة، ومع الكتاب أسطوانة مدمجة بصوتها تقرأ قصائد بالعربية لشعرائها وخلفية للقصائد نفسها باللغات المكتوبة بها. تأسر بالكلمات والصوت.
أكثر من شاعرة جمانة حداد.
... لماذا ارتكبتِ هذا الكتاب الصادم، ألتلقي الناس في الدوار؟ شخصياً كدت أن أشهق "يا إلهي" وأنا أقرأ قصيدة لامرأة تموت خوفاً بعينين مفتوحتين (أميليا روسيللي) وأخرى (مارينا تسفيتاييفا) تناشد العالم "يجب أن تحبوني لأني سوف أموت"، وغيرهما وغيرهما. فكرت أن كل العالم يكذب عدا هؤلاء القائلين كلماتهم الأخيرة. فما الذي جذبك إليهم؟
أكثر من سبب. الأول شعري، أوردته في المقدمة. منذ نحو أربع سنوات بدأتُ أنشر سلسلة ترجمات شعرية لملحق جريدة "النهار" الثقافي. قصائد لشعراء اخترتهم لأني أحبهم، وأنا لا أترجم شعراً إلا لمن أحبهم أصلا. هؤلاء لم أكن أعرف عنهم إلا أعمالهم الشعرية، ولا شيء تقريباً عن ظروف حياة بعضهم. واكتشفت بل فوجئت كثيراً عندما دخلت حيواتهم، لأكتب نبذة عن كل منهم تقديماً لقصائده، أن عددا كبيراً من الشعراء الذين أحبهم منتحرون. من هذه النقطة انطلقت الفكرة. وبدأت بمجموعة ضئيلة أحبها كثيراً: تشيزاري بافيزي، ألفونسينا ستورني، فلاديمير ماياكوفسكي، جان جوزف رابياريفولو، ماريا تسفيتاييفا... بعد ذلك، كل باب كنت أفتحه راح يفتح على عشرة أبواب أخرى، فأكتشف وراءه سلسلة أسماء يستحق أصحابها شعرياً إلقاء الضوء عليهم. أصلا لطالما هجست بموضوع الشعراء المنتحرين، وأول مقال كتبته عن الموضوع نشر في "الملحق" عام 1999، وعنوانه "جينة الشعر القاتلة".
السبب الثاني، هل أسميه عاطفياً أو إنسانياً؟ أتأثر جداً بالإنتحار. إنه فعل حرية ولا أزال إلى الآن لا أعرف تحديده: بعضهم يقول إنه فعل شجاعة وبعضهم فعل جبن. لا أعرف ولا أريد أن أعرف. أنا أعتبر أنه في مكان آخر، في مكان ثالث لا هنا ولا هناك.
ثم، يهمني الموضوع شخصياً لسببين: الأول أن جدتي لأمي انتحرت، وقد أهديتها الكتاب، وعنى لي انتحارها كثيراً. كان عمري خمس سنوات يومذاك وتأثرت جداً. من ذلك الوقت لم أتوقف عن التفكير في ما فعلت وأسبابه. وكما تعرف، عندما ينتحر فرد من العائلة يصبح الكلام على الموضوع نوعاً من التابو. بقيت أستفسر وأسأل عنه وألقى تهرباً من الأجوبة. حتى أمي كانت تجد طريقة لتتهرب من أسئلتي عن والدتها.
السبب الشخصي الثاني هو جميع هؤلاء الجميلات والجميلين الذين نحبهم وانتحروا: مارلين مونرو، سعاد حسني، داليدا... ذكرتهم في الكتاب. وإذا أردنا العودة إلى البدايات: يهوذا الإسخريوطي. يعني لي كثيراً هذا الرجل، مذ كنت صغيرة، تلميذة في المدرسة، رغم أن المعلمات كن يحرضن ضده. مشهده عندما انتحر أراه رائعاً. هل أراه مظلوماً؟ لا، بل رائع وجميل جداً. لو كان يحق لي في أن أغير التاريخ، بمعجزة ما، لما كنت أغيّر في قدر يهوذا. أدعه يخون المسيح وينتحر من جديد.
هذه هي أسباب الكتاب عموماً. تشبه "بازل" اجتمعت عناصره كلها في لحظة زمنية محددة. وطبعاً، يبقى الموضوع غير المرتبط بالإنتحار، وهو أني معنية جداً بالترجمة الشعرية، وهي موضوع دراستي الأكاديمية.
أتساءل عن نظرتك إليهم: هل فيها الشفقة...؟
لا أبداً. بالعكس. أنا معجبة بهم وأحبهم، أو بالأحرى أعشقهم. كلمة الشفقة لا تنطبق أبداً على شعوري تجاههم. مأخوذة أنا ومفتونة بهم. وبالنسبة إلي هم لم يضعوا حداً لحيواتهم، بل انتقلوا من مكان إلى مكان، بكل بساطة. هذه إشكالية في ذاتها: بدل أن ينتظروا أن يُفتح لهم الباب، قرروا أن يفتحوه بأنفسهم. هذا الفرق الوحيد بيننا وبينهم. نحن جالسون ننتظر أن يقال لنا "تفضلوا"، أما هم فلا يريدون أن ينتظروا.
بمعنى ما، أخذوا دور الله؟
ربما هم يتحدونه ولم يأخذوا دوره. يقولون له: نحن أيضاً نريد أن نقرر. أنت قررت عنا أن نخلق، ونحن نريد أن نقرر عن أنفسنا الرحيل. وأكرر: الرحيل من هنا إلى مكان آخر.
لكن أي أحد آخر كان رآهم مرضى نفسيين، تجتاحهم غريزة التدمير الذاتي القابعة في كل إنسان بحسب فرويد.
على فكرة، فرويد انتحر. ليس قليلاً أنه هو أيضاً اختار بنفسه أن يرحل، إنما هو فعل ذلك لأنه كان مريضاً.
ماذا عن ردود الفعل الأولية، الإستباقية على عملك، كيف قابل الناس عموماً معالجتك هذا الموضوع النافر؟ لاحظت ثلاثة أنواع من ردود الفعل. الناس من حولي، معظمهم شعراء، يفهمون المقصود فوراً، ويحتفون بفكرة الكتاب. آخرون يعتبرون الشعراء المنتحرين مجرد مرضى نفسيين كما قلت، ويزدرون الموضوع. أما النوع الثالث فهم الذين يروّعونني، أي اولئك الذين يعتبرون المنتحرين "خطأة" من منطلق ديني. طريقتهم هذه في مقاربة الأمر تحزنني، ولا جلد لي حتى على المناقشة مع أصحابها، لأنها ستكون ضرباً للرأس بالجدار. لا يمكن الوصول معهم إلى مكان مشترك، لأنهم يعيشون على كوكب آخر ولا علاقة لهم بالموضوع. هكذا يجيء بعضهم ويطرح عليّ السؤال المذهل: "لماذا تحققين أنطولوجياً عن هؤلاء؟ إنهم خطأة ومصيرهم جهنم".
عندما يقتل الإيمان خيالك تصبح الحالة مأسوية. يجب أن يكون دور الإيمان فتح المدى لخيالك أكثر فأكثر، حتى لو غصباً عنه.
المسألة أن ليس كل الناس يستطيعون النفاذ إلى أبعد من الفعل في ذاته، فيروحون يتلهون بروايات عن أسبابه: هذا تركته صديقته أو تلك تركها صديقها، فانتحرا... يسطحون الموضوع ويسخفونه، مع أن معظم الشعراء المنتحرين أقدموا على خيارهم لأسباب وجودية، أسباب تتعلق بمبدأ "نكون أو لا نكون".
ألبر كامو يعتبر ( في "المتمرد") أن الإنتحار هو الموضوع الفلسفي الوحيد. أفهم طبعاً ذهابه هذا إلى المطلق.
هنا مسألة نظرة العامة إلى الشعراء: أن يكون المرء شاعراً يعني أن ثمة مشكلة نفسية، بقدر أو بآخر، على ما يعتقد البعض.
أرفض هذه المعادلة. رأيي أن الموضوع أعمق. كل الناس يعانون مشاكل، ولا استثناء. الفارق هو أن الإنسان العادي يمكن ألا ينتبه، ألا يمتلك القدرة الكافية ليدخل ذاته وينبش فيها ويخرج منها هذه المشاكل. أو إنه يمتلك القدرة لإخراج هذه المشاكل من ذاته، لكنه يفتقد القدرة على كتابتها، على التعبير عنها باللغة.
إذا لم يكتب المرء معاناته، هل يعني ذلك أنه لم يواجهها؟
إذا لم يكتبها، قد لا يكون شاعراً، لكنه بالتأكيد إنسان عميق ويواجه معاناته على طريقته. هناك كثر حولنا عميقون وليسوا شعراء: إنهم "شعراء الحياة". كلنا مأزومون في النهاية، لكن هناك من لا يتنبهون إلى أزماتهم، ربما لحسن حظهم، وربما يخسرون جراء هذا "الحظ" أشياء، صحيح أنها مؤلمة لكنها جميلة. ما أريد توضيحه هو أن الشاعر ليس من يعاني أزمة، بل هو الإنسان الذي يفتش في ذاته ويحفر وينقب ويولّد من أزمته أو مشكلته النفسية، أو حتى من لذائذه، قصائد.
وأيضاً في موضوع الإنتحار. هناك "المنتحرون الأحياء"، الذين تحدثت عنهم في مقدمتي. هناك منتحرون يبقون على قيد الحياة، وهذا هو الفرق الوحيد بين من خطا هذه الخطوة ومن لم يخطها. وربما من خطاها بقي حياً (في ذاكرة الناس) أما هم فلا.
أكيد تلقيتِ تحذيرات: "إياكِ الإنتحار...".
(تضحك) سمعت كثيراً هذا الكلام، بعضهم يقوله عن قلق صادق وأفهمه. في الواقع أنا أبيقورية جدا،ً ومن مذهب التمتع بالحياة. طبعاً في دواخلي مناطق مدلهمة، ولكن هذه ليست طبيعتي الطاغية. وكنت أدرك مسبقاً أن كثراً سيربطون بين كتابي وهذه الفكرة، ولكن لا. لن أذهب إلى ذاك المكان.
هل توافقين أن الأزمات الخارجية، هموم الحياة التي تلهي، لا تتمكن من الشعراء المنتحرين، وإلا لكانت صرفتهم عن الداخل؟
الأوضاع السياسية الإقتصادية، مشاغل الوظيفة، تدبير أمور الحياة، والمال... لا أعتقد أنها تلهي من يحمل المكونات الكافية ليرى إلى أزمته الداخلية، بل هي تلهي من ليس مؤهلاً في الأساس للنظر إلى جوانيته. من ينظر إلى الخارج أكيد يلهيه الخارج ويعتبره هو مصدر أزمته الحقيقية.
ثمة تعبير أحبه لأنه يشبهني:"النبش بالأظافر". أتألم فيما أحفر في الداخل، ولكن أكتشف أموراً مهمة جداً تعطي حياتي معنى أعمق. وفي النهاية لا تستطيع أن تقارن، فالآخرون المختلفون عنك لهم حيواتهم وكل شخص يعيش الحياة بحسب مكوناته النفسية والروحية. لا تستطيع القول إنهم خاسرون أو رابحون. هم هكذا، كما هم. ولا أقولها بتعالٍ إنما بالقدرة على تمييز الإختلاف فحسب. لا أقارن بين الأفضل والأسوأ، ولا أحد يحق له أن يقارن.
ألا يقطع المنتحر الطريق على الصدفة، ولو صبر لكانت ربما تحققت له معجزة الحب المنقذة؟
ربما الحب ليس معجزة بالنسبة إليه. ليس الحب لكل الناس أقصى معنى للحياة. ربما الحب ليس كفيلاً إنقاذ المقبل على إنهاء حياته لأن طبيعته لا يخلصها الحب. هناك فراغ في داخل كل إنسان لكنه يختلف بين فرد وآخر، تعبئته بالتالي تختلف.
العائشون بلا حب، الذين سميتهم "المنتحرين على قيد الحياة" تكون تنقصهم خطوة لينتقلوا إلى الفعل؟
بعضهم نعم. وفي المقابل هناك المنتحرون الإستعراضيون، الذين ينتحرون للفت الأنظار: "أنظروا إلي، أنا انتحرت". هذه أقصى درجات الإستعراضية والإستعراء. هناك شعراء كرسهم الإنتحار شعراء في بلدانهم ولما كانوا استحقوا هذا التكريس لو بقوا أحياء وماتوا ميتة طبيعية. ربما هي طريقتهم للإنتقام من الحياة ومن عدم نجاحهم وبروزهم. يحبون أنفسهم إلى هذه الدرجة، الى درجة أن يظهروا في "غيابهم". هذا تطرف ولكنه موجود، فليس كل المنتحرين أقدموا على خطوتهم لأسباب رومنسية أو وجودية.
أفكر في سيلفيا بلاث التي حضّرت طعاماً لأولادها ودخلت المطبخ وأغلقت بابه جيداً ثم انتحرت بالغاز... من يحب أحداً جداً ألا يعطيه حبه سبباً للحياة؟
زوجها تيد هيوز عذبها كثيراً. وأعطيك مثلاً آخر أفظع. الشاعرة الهندية ريتيكا فازيراني قتلت طفلها قبلها، كان عمره أقل من سنة ونصف السنة. شيء راعب حقاً. ولا علاقة له بالتقاليد الهندية. قرأت إنها ربما خافت أن تتركه في العالم وحده. الحب يمكن أن يؤدي أيضاً إلى ذاك المكان. أروي ذلك لأقول إن لحظة الإنتحار تكون غالباً لحظة تطرف قصوى وهلوسة. كل الموازين تكون مخلخلة ولا شيء في مكانه. في كتابي ميزت بين شعراء إنتحروا، بقرار إتخذوه في اللحظة نفسها، أي أن انتحارهم تلقائي، من النوع الذي"يقع" فيه المرء كفخّ، وبين شعراء مذهلين خططوا للأمر و"أخذوا وقتهم" كاتبين رسائل وداع ومحضّرين الطقوس والعناصر اللازمة. الأخيرون أفظع. تصوّر أن أحدهم قرر قبل أعوام مديدة إنه يريد إنهاء حياته في الخمسين، وآخر في الثلاثين، وهكذا كان. هذا رغم أن مزاج الإنسان يتغير مليون مرة في اليوم الواحد. ومع ذلك لم يعدلوا عن قرارهم. ومعظمهم كانت لهم محاولات سابقة. أجروا تمارين. المحاولات في هذه الأحوال تكون جرس إنذار: إنتبهوا إلي. وأحياناً تكون حقيقية وأصيلة.
يحتاج الإنسان إلى جذور، إلى إرتباط، إيمان ما بامرأة أو رجل، بوطن، طبقة أو عقيدة... التخلي عن الحياة يعني أنه محروم متروك منبوذ. لماذا ينتحر العاشق إذا كان عشقه يملأ حياته؟
من ينتحر حبّاً يكن خسر حبه ولا يقف في قمة شغفه. الحب يعطي الرغبة في الحياة، يمنحك الأنانية والنرجسية. حب الآخر ينعكس عليك حباً لذاتك، ويهبك معنى للوجود فترى الدنيا أجمل، خفيفة الوطأة. نعم الإنتحار بدافع الحب يكون بسبب فقدانه، إما لأنه في الأصل لم يكن موجوداً، إما لأن الآخر لم يبادل الشعور بمثله.
الإلتزام يمكن أن يكون أيضا سبباً لإكمال الطريق: هل انتحر بعض الشعراء الذين كتبت عنهم بسبب خيبات إلتزامهم السياسي أو الديني؟
صعقني أن معظم المنتحرين لخيبة سياسية هم عرب. ولكن يبقى كل إنتحار سراً. لا تستطيع أن تدرك الدافع الحقيقي ولكن تحاول، وبعضهم يترك خلفه كلمات توضح المبرر. مثلاً يقال إن خليل حاوي انتحر بسبب إجتياح القوات الإسرائيلية لبيروت، والشاعر الأردني تيسير سبول لأسباب سياسية، وأيضاَ الشاعرين العراقيين إبرهيم زاير وقاسم جبارة.
في المقابل لم أصدف أحداً من الشعراء الأجانب انتحر لأسباب سياسية. ماياكوفسكي مثلاً كان ملتزماً سياسياً، لكنه انفصل عن رؤيته السياسية وعاش خيبتها قبل وقت من انتحاره، فلم تكن هي دافعه. قلت إن الغالبية دوافعها وجودية. والشعراء كائنات حساسة: إذا غرزت إبرة في إنسان عادي يصرخ "آخ"، أما الشاعر الحقيقي، وليس المزعوم، فيكون وجعه أقوى وأعمق. طبيعي أن يكون مأزوما لأن الأمور الصغيرة تؤذيه، بينما هناك أناس يرتطم بهم الأذى ويرتد كالكرة.
بالعودة إلى خليل حاوي، ربما نحن العرب نحب أن نربط كل شيء بالأزمات السياسية، وربما يكون ذلك لإعطاء ما أقدم عليه معنى. علماً أن هذا المعنى ليس الأجمل بالنسبة إلي. أقل شاعر أو إنسان أحبه أو أعجب به هو الذي ينتحر لأسباب سياسية. أشعر أن رحيله كان دون معنى. وحتى الذين نخسرهم إغتيالاً لهذه الأسباب أرى خسارتهم إهداراً، وكم كان أفضل أن يبقوا قيد الحياة: فالقضية، أي قضية، لا تستحق فقدان الحياة من أجلها. هذا رأيي الخاص وأدرك أن كثيرين لا يشاركونني إياه.
أي أن روميو يبقى أفضل شهيد لأفضل قضية؟
لم أقل إن الحب وحده هو القضية والمبرر الأفضل، بل الإنسان. أزمة الإنسان في هذه الحياة. الحياة في ذاتها وليست السياسة.
ولا أحب كلمة "القضية" لأنها مرتبطة دوماً بالسياسة والنضال. "الوطن" أيضاً.
يحار القارىء أمام كل هذا الجهد في الكتاب، جهد إستثنائي للحصول على المراجع والمعلومات الحياتية والشعرية، وحتى الصور، والإطلاع على المضامين، ثم الإنتقاء فالتعريب من لغات متعددة... أنا فكرت أن هذا يجب أن يكون نتاج مؤسسة، فكيف بشخص؟
تعبتُ كثيراً في هذا العمل. لأعطيك فكرة تكفي الإشارة إلى أن المراجع التي اطلعتُ عليها على مر أربعة أعوام هي نحو 70 كتاباً (مذكورة كلها في قائمة المصادر والمراجع)، بين مجموعات شعرية ودراسات وأنطولوجيات أجنبية تناولت الموضوع. بما أني أسافر كثيراً، كنتُ كلما أعود إلى بيروت أحضر معي مزيداً من المراجع، وثمة أصدقاء كثر في بلدان عدة أرسلوا إلي كتباً عن شعراء طلبتها منهم (وقد وجهت إليهم رسالة شكر في آخر الانطولوجيا). هناك أيضا المكتبات الإلكترونية، اذ اشتريت بعض الكتب عبر الـ"أمازون". أما المعلومات عبر شبكة الإنترنت فشكلت مرجعاً ضئيلاً لي، لأنك إذا بحثت في الإنترنت فستصادف كماً كبيراً من المعلومات المتضاربة، تعطيك الشيء ونقيضه. لذلك لا أعتبرها مرجعاً موثوقاً به تماماً، إلا إذا تأكدتُ من هذه المعلومات في مرجع ورقي.
بين المراجع السبعين ثمة بعض الكتب التي قاربت الموضوع نفسه، لكن غالبيتها خلطت بين الشعراء المنتحرين والشعراء الملعونين، اي اولئك الذين عاشوا حيوات مأسوية. طبعا، ليس غريباً أن يثير موضوع الشعراء المنتحرين اهتمام الباحثين والمترجمين في العالم أجمع، ولكن في وسعي أن أؤكّد، بدون كثير ادّعاء، أن ليس هناك عمل واحد، حتى الآن، يضم هذا العدد النوعي من الأسماء والترجمات والجنسيات المختلفة. في هذا الإطار، كانت بعض المراجع أكثر قيمةً ودعماً من سواها، وأخصّ منها بالذكر "أنطولوجيا الشعراء الملعونين" لبيار سيغرز (منتحرون وغير منتحرين، لكنها تتناول فقط شعراء اللغة الفرنسية)، و"الشعراء الملعونون الجدد" لألان بروتون (فقط عن شعراء اللغة الفرنسية)، وانطولوجيا خوسيه لويس غاييرو الاسبانية، وهي الانطولوجيا الوحيدة التي تعالج تيمة الانتحار على حد علمي، لكنها تعاني ثغراً كثيرة، منها أن غاييرو أحصى فقط 53 شاعراً منتحراً (زد على ذلك أنه انطلق في إحصائه من سنة 1770، وأنه ثمة تاليا 45 شاعراً فقط من القرن العشرين، موضوع كتابي هذا)؛ وأنه لم يركّز على حقبةٍ زمنية محددة في القصائد، ما ضعضع الاختيارات وجعل بينها تنافراً مزعجاً؛ وأن نصف أسمائه من شعراء اللغة الاسبانية (اسبانيا والقارة اللاتينية)؛ وأنه ليس هو مترجم النصوص بل جامعها فقط (ثمة 26 مترجماً مختلفاً في الكتاب، أي 26 "نَفَساً" ترجمياً مختلفاً، وهذه في رأيي نقيصة العمل الكبرى، لأنه ينبغي لمعدّ الأنطولوجيا أن يكون صانعها و"خالقها" والساهر عليها من الألف الى الياء)؛ وأنه تغاضى عن اسماء شعرية مهمة ومعروفة، ما كان ليكون من الصعب حصدها وضمّها، من أمثال تور أولفن وتوفا ديلفسون وأميليا روسيللي وآنا كريستينا سيزار...الخ؛ وأنه، أخيراً وليس آخراً، لم يكلّف نفسه عناء البحث عن اي شاعر عربي منتحر.
أيضا، حرصت على إيراد القصائد بلغاتها الأصلية (أو بتلك الوسيطة التي ترجمتُ عنها) قبالة الترجمات العربية. فعلاً، تعبت جداً في البحث والتجميع وفي وضع "هندسة" الكتاب، اي في "التمييز" بين هؤلاء الشعراء إذا شئت، ثم في الإختيار والتعريب، لأني كنت أبحث عن "تيمة"، عن قصائد تحوي قدرة نبوئية ما. وهذا يتطلب وقتاً طويلاً، اذ عليك أن تقرأ وتميز وتقارن وتزن وتقوّم...
ولكن أقسى من التعب الجسدي - وهو تعب لا يستهان به، وأقولها براحة ضمير - ثمة الجهد أو التعب الروحي. أنا حساسة جداً وأتفاعل مع الشعراء الذين اقرأهم، فكنت كمن يدخل نفقاً مدلهماً، وبعد النفق تطالعه دهاليز راعبة، الى ان يرى في النهاية الأشياء مترابطة جدا بعضها بعض. حتى لتشعر في آخر المطاف كأن هناك "جنساً" بشرياً على حدة هو جنس الشعراء المنتحرين. في اي حال، معاناتي مع هذا الكتاب "أفرغتها" في مجموعتي الشعرية الجديدة، "مرايا العابرات في المنام"، التي تصدر في مرحلة لاحقة، و"أروي" فيها اثنتي عشرة شاعرة من المنتحرات في العالم.
كأنك كنت تتمشين بين قبورهم...
أكثر. قل إني نبشت قبورهم بيديّ. وأشعر أن التراب الذي نزعته عن تلك القبور لا يزال تحت أظافري.
هل يسعدك القول إنك مذهلة؟
(تضحك) أكيد. إنما أنسى كلمات الثناء بعد دقيقة. وهذه فضيلة في ذاتها. لكن الأمر في الوقت نفسه مصدر عذاب، اذ اني صباح كل يوم أفتش عن طريقة لأفاجىء نفسي من جديد، وأنسى ما فعلت في اليوم السابق. كل يوم معركة جديدة مع نفسي، ونهم هائل للتعلّم والتحسّن والتطوّر. البناء عندي ليس تراكمياً بل يومي. أنا أعمل بكدح ونفسي طويل، ولكن حصراًُ في المواضيع التي أشغف بها وتحرضني. لا جلد لي إطلاقاً على أعمال أضطر إليها اضطراراً. لم يكن ممكناً أن أجبر نفسي على عمل بهذه الضخامة لو لم أكن أشعر بأنني معنية به، متحمسة. الفضل ليس لي إذاً، بل للموضوع في ذاته. إذا التزمتُ عملاً ولم يستهوني لا أقدر على إعطائه شيئاً من نفسي، فتكون النتيجة صفراً.
إذا أجبرت على الإختيار والتفضيل بين الـ 150، من تختارين؟
صعبٌ الاختيار، ولكن ربما تبقى المجموعة – النواة التي حرضتني في البدء. أي الشاعرتين الأرجنتينيتين ألفونسينا ستورني وأليخاندرا بيثارنيك، الشاعر الإيطالي تشيزاري بافيزي (رغم أنه روائي ولم يكتب شعراً إلا القليل)، وهناك ايضا الشاعر الفرنسي جان بيار دوبريه، والشاعرة الأسوجية كارين بوي، والشاعرين الروسيين فلاديمير ماياكوفكسي ومارينا تسفيتاييفا، والشاعر الروماني بول سيلان، والشاعرتين الأميركيتين سيلفيا بلاث وآن سكستون، والشاعر النمسوي جورج تراكل...الخ
هؤلاء وبضع آخرين كانوا النواة، كتبتُ عنهم في "الملحق" على حلقات وكنت أهجس وآمل في أن أتوصل إلى التعرف على 33 منهم، لأنه كان في نيتي انجاز كتاب عنوانه "33 شاعراً انتحروا في القرن العشرين": فهذا رقم أتفاءل به، وأينما ذهبت يلحق بي. ولكن شيئاً فشيئاً صارت النواة تكبر، والحلقة تتوسّع، حتى أصبح عددهم 150: تصوّر! والمشروع مفتوح في اي حال، وربما في الطبعات اللاحقة يكون عددهم أكبر، اذ ثمة أسماء ذكرتها في المقدمة لم تتضمنها الأنطولوجيا. عرفت بها ولم يتسن لي التوسع فيها. ربما في الطبعات اللاحقة أفيها حقها. أصلاً لا شك عندي في أن الشعراء المنتحرين في القرن العشرين هم أكثر من مئة وخمسين، لا بل ربما أكثر بكثير من هذا الرقم: فصحيح أن من الصعب أن أكون قد أغفلتُ اسم أي شاعر "كبير" وأساسي، ولكن: ماذا عن الشعراء والبلدان الذين لم أستطع الوصول إليهم، بسبب عائق اللغة أو المسافة؟ ماذا عن مونغوليا مثلاً؟ وهل يُعقل ألا يكون أيّ شاعر سري لانكي، أو أذربيجاني، قد انتحر في القرن العشرين؟ وماذا عن أندونيسيا، وكازاخستان، وموريتانيا، وبوتسوانا، وباربادوس، وبوروندي، وأريتريا؟ ماذا عن لغات الماندنكا والبانتو والغوراني والشيشونا والأوزبكية والتاميل والتيبيتية، كي لا أذكر سوى سبع لغات من الستة آلاف وثمانمئة لغة الموجودة على سطح البسيطة؟ ماذا عن اللغات المحكية فقط، وغير المكتوبة (4539)، وشعرائها الشفهيين المنتحرين وتراثهم؟ إنما هذه فقط بعضٌ من تساؤلات كثيرة لم تنفكّ تقض مضاجعي طوال الأعوام الأربعة التي عكفتُ فيها على تحقيق هذا المشروع، بحثاً وتجميعاً واختياراً وترجمة.
هل خطر ببالك أن الرغبة في الإنتحار قد تكون مشتركة بين بعض الناس وأصناف حيوانات، الحيتان مثلاً، ونحن كائنات خرجت من تحت الماء الغامرة كل شيء؟
لا أعرف، فأنا غير ملمّة بالموضوع – ولكن على سيرة "الحوت"، غالب المنتحرين من هذا البرج الفلكي. فأنا أجريتُ كذلك في الكتاب، وفي قسم خاص عنوانه "إحصاءات وبيانات"، سلسلةً من الدراسات الاحصائية (الموجزة لكن المعبّرة) على الشعراء المنتحرين (جنساً وجنسيةً وسنّاً وطريقةً وسبباً وتوقيتاً)، مع بعض المقارنات بينها وبين معطيات الانتحار عموماً في العالم. وهي إحصاءات قد لا يكون لها أيّ مغزى "معرفي" أو دلالي نهائي، وليس لها أيّ علاقة بالعوالم الشعرية التي تتوخّاها هذه الأنطولوجيا في المقام الأول، لكني شئتُ تقديمها بسبب اقتناعي بوجود ارتباطٍ ما بين الاشهر والفصول واللغة والطبائع والابراج...الخ، وهو اقتناع ينحاز إليه عددٌ لا يستهان به من العلماء في العالم.
عموماً، في العودة الى سؤالكَ، لا تطرح الحيوانات على نفسها أسئلة وجودية على غرار الإنسان. اي أن انتحارها قد يكون غريزة أكثر منه خياراً.
لماذا لا ينتحر العرب؟ ذكرت في الكتاب 15 شاعراً عربياً منتحراً فقط، مع أنهم شعب يحب الإستشهاد؟
الفارق كبير بين الإستشهاد والإنتحار. أفضل ألا أعطي حكماً قيميا وألا أقارب هذا الموضوع، ولكن أكرر أن فكرة الإنتحار لأسباب سياسية، وهي الأقرب إلى الأستشهاد، لا أحبها ولست معجبة بها، نقيض عدد كبير من الناس، يعتبرون أن من يستشهد يتنازل عن حياته في سبيل هدف سامٍ. أنا لا أعتبر فعله بطولة ولا قداسة، أبداً. هناك أيضا، غير الشعراء، روائيون وكتّابٌ عرب انتحروا، وهم مذكورون في لائحة في آخر الكتاب. فقد خصصتُ لائحتين ببعض أبرز الروائيين والفنانين المنتحرين، للفائدة. طبعاً، لائحتا الروائيين والفنانين هما محض نواة، لكنها اسماء "اعترضت طريقي" أثناء بحوثي الشعرية، فرأيتُ أنه قد يكون من المفيد جمعها، تسهيلاً لعمل من يرغب التوسّع في الموضوع. هناك ايضا ملحق خاص في الخاتمة للشعراء الذين انتحروا ما قبل القرن العشرين. ثم، هناك عرب وعربيات كثر ينتحرون، لكنهم ليسوا شعراء.
والموت ما هو لك؟ هل فكرت يوماً في أن الغياب "بروفة" ؟
الموت سفر. أفراد قبائل المايا كانوا يهمسون في أذن المحتضر: "سفراً سعيداً"، وأرى أن هذا من أروع ما يمكن أن يقال لإنسان على وشك الموت. غيابنا "بروفة" لمن سنغيب عنهم، ولكنه ليس "بروفة" لنا. فهناك فارق بين كيف يعيش الآخر موتي أنا، وكيف يعيش موته هو. أما الغياب فحضور في مكان آخر. الموت ايضاً كذلك. بل إن الموت قد يكون حضوراً ناتئاً جداً. حضور أمواتك ناتىء في حياتك. وأنا كتبتُ عن ذلك في مقدّمة الكتاب.
[تحت عنوان "في النافذة المفتوحة أبداً"، كتبت الشاعرة جمانة حداد: أتراك أيضاً نهاية أيها الموت؟ لا لست نهاية لست امحاءً لست غياباَ لست غيبوبةً لست تنازلاَ لست استسلاماً لست اندحاراً لست تراجعاً لست هزيمة لست تقهقراً لست فراقاً لست سهواً لست فقداناً لست خسارة لست هجراناً لست منفى لست رحيلاً لست سقوطاً لست اختفاءً لست توارياً لست أفولاً لست ضياعاً لست زوالاً لست إلغاءً لست إبادة لست تلاشياً لست فناءً لست فراغاً لست هلاكاً لست حتفاً لست حتفاً لست هلاكاً لست فراغاً لست فناء لست تلاشياً لست إبادةً لست إلغاءً لست زوالاً لست ضياعاً لست أفولاً لست توارياً لست اختفاءً لست سقوطاً لست رحيلاً لست منفى لست هجراناً لست خسارة لست فقداناً لست سهواً لست غفلة لست فراقاً لست تقهقراً لست هزيمة لست تراجعاً لست اندحاراً لست استسلاماً لست تنازلاً لست غيبوبة لست غياباً لست امحاءً لست نهاية لا"].
في رأيي الموت هو تحوّل، انتقال من مكان إلى مكان، أو من عالم إلى عالم. أؤمِن بما بعد الموت، ليس بالمعنى الميتافيزيكي فحسب، بل الفيزيكي أيضا، اي أنني أفكّر: "أنا راجعة". لذلك أقول إني أعيش الآن حياتي السابعة، ومن يدري؟ قد أكون على حق في اعتقادي هذا. المهم لي أن اعتقاد يسعدني واني مقتنعة به.
كلنا ننتظر أن يحصل شيء ونعيش بدفع هذا الأمل، ومعظم الأحيان لا يحصل. غير الإنتظار، ماذا يعيش الناس؟
سأتكلم ذاتياً ومن تجربتي: حب الناس لي وحبي لهم (حبيبي، طفلاي، والداي، أخي، أصدقائي، قرّائي، زملائي...) يجعلانني أتشبث بالحياة. وإلا، إذا كنتَ تشعر بأنك لست محبوباً ولا تحب أحداً، وإذا كنت تحب آخرين وهم يرذلونك، فستقول: لمَ الدنيا؟ أفهم بسهولة كيف يمكن أن يصل الإنسان إلى هذه النقطة من "التخفّف" من الحياة والآخر. هي نقطة ليست بعيدة عن أحد.
أما عن الإنتظار فمعك حق، ولكن – واعذرني إذا بدا كلامي رومنسياً أو يشبه الكليشيه - إنتظار الشيء أن يحصل لذة في حد ذاته. المهم أن تظل مصدّقاً أن "شيئاً ما سيحدث".
معادلتان متوازنتان في نظرك فعلا، أن نولد وأن نموت؟ هكذا تنظرين إلى الصورة الشاملة؟
نعم، بالنسبة إلي الحياة والموت حركة دائرية. من يولد سيعود يموت ثم يعود يولد ويعود يموت. واللا مكان غير موجود لأفكر في ما إذا كان سيان ولد المرء أم لم يولد. الحياة والموت في دائرة، نكون إما على حافتها وإما داخلها. أما خارجها فاقتناعي، أو إيماني إذا شئت، أنه غير موجود.
وإذا أردنا تخيل المسألة بصرياً (على غرار الدائرة المرسومة في خاتمة مقدمتي للأنطولوجيا): هناك نقطة بداية تبدأ في الدائرة، ومن هناك تكمل إلى ما لا نهاية. تظل تدور وتدور وتدور. والإنسان "يكون" دائماً. ربما يكون في مرحلة ما غائباً عن الأنظار، وفي مرحلة أخرى مرئياً: ولا فرق حقيقة. فأينما كان يظل في الدائرة.
ماذا عن الوجع؟
مرعب بالتأكيد. لذلك أفهم الناس الذين يتمنون موتاً عاجلاً أو هادئاً. عجائز كثر يصلون: "أعطنا يا رب نعمة الموت نائمين". فعلاً هذا الموت هو نعمة. النوم يقال عنه "الميتة الصغرى"، وبعضهم يتزحلق منها إلى "الميتة الكبرى"، وهذا اقل أشكال الموت إيلاماً، وأكثرها "جمالية".
هل حمّلتِ الكتاب رسالة إلى العرب؟ إذا لا لماذا كتبته بالعربية وتجيدين لغات أخرى؟
الكتاب لا يحمل رسالة، وأنا لا أحب "الرسائل" اصلا، لا للعرب ولا لغيرهم، إنما حقّقته بالعربية لا لشيء سوى لأنها لغتي الأولى والأثيرة، وأحب الترجمة إليها وأعشقها أكثر من اللغات كلها. لكنه في اي حال سيصدر في لغتين ثانيتين، وطبعاً سأحققه في تينك اللغتين بنفسي، وهما الفرنسية والاسبانية: اذ تلقيت عروض نشر من دورٍ بارزة من الجهتين. ولكن ليس الآن، اذ سآخذ "فرصة" منه لوقتٍ قصير، كي ارتاح من أجوائه قليلاً. وفي المناسبة، ينطلق اليوم توزيع الأنطولوجيا في المكتبات اللبنانية، اذ ان الكتاب بات متوافراً أخيرا، وهو في المناسبة صادرٌ عن دارين جميلتين وراقيتين اعتنيتا به أيما اعتناء، هما "دار النهار" التي ستتولى توزيعه في بيروت، و"الدار العربية للعلوم ناشرون" التي ستتولى توزيعه في البلدان العربية، فضلا عن أنه سيكون متوافرا أيضا للبيع في المكتبات الالكترونية.
أريد، اخيراً، العودة إلى جدتك التي ذكرتِ أن انتحارها أثر فيكِ طفلة، ولا يزال.
"ستي جميلة" لم تكتب شعرا في حياتها. أعتبرها شاعرة حياة. لا شك أنها عاشت ألماً داخلياً عميقاً مؤذياً جداً. أحاول أن أكتب رواية عنها، رواية كبيرة تشمل مواضيع وحالات متعددة أوصلتها إلى تلك النقطة. هي أرمنية عايشت المجازر والتهجير وأعمل على جمع ما تيسر من وثائق عنها، ولا سيما طفولتها ومرحلة العذابات، وأواجه صعوبات كبيرة في ذلك.
حياة جدتي أحب أن أرويها وتعني لي كثيراً. ستكون المرة الأولى أكتب رواية، وطبعاً فيها تاريخ بإطار روائي. لكنّ الرواية ليست مجالي المفضل. كتبت سابقاً قصصاً قصيرة، ولكن أنا شاعرة وسأظل أكتب شعراً حتى آخر لحظة في حياتي.
عن (إيلاف)
أت أة تموت