عقل العويط
(لبنان)

عقل العويطأيهما أقوى الواقع أم الصورة؟ في المنطق الحسابي، الواقع أقوى. في المنطق التأويلي، الصورة. لستُ في صدد البحث عن حرب استيهامية مريضة بين الواقع والصورة، لكني أعرف أن الواقع يمثل هزيمة الصورة التي تتوهم أن في مقدورها الإستيلاء على سلطان الواقع. في حين تجعلني الملَكات التي تتقدم على الواقع وترى أكثر منه، تجعلني أدرك بالشعر أن الصورة هي الأقوى، أن صورة سمير قصير، مثلاً، أقوى من قتله.
هناك مستويان من الإجابة، أريد أن أكرّم ثانيهما الافتراضي على حساب الأول الواقعي. فقط لأن الافتراض ينطوي على تعظيم أدبي وفني للمعنى، قد لا يستطيع الواقع أن يمنحه إياه. والأرجح ربما أنه يسلبه إياه بحكم الفعائل التي تنجم عن هذا الواقع.
في عالم الصورة أحب ان انحاز الى الحضور الذي يحرر موضوع الصورة من منطقه الغيابي ويتفوق عليه، وإن يكن عقل الحواس ومنطقها يجعلان هذا الغياب جزءاً أصلياً من عقل الواقع ومنطقه وتابعاً لهما.
صحيح أن شيئاً ما يشبه غرائز الطبيعة وتوازناتها القدرية و المنطقية ، يجعل الصورة رهينة الأصول التي تنبثق منها. صحيح ان هذا الشيء الاسترهاني في مقدوره مثلاً أن يشلّ سطوة الصورة وأن ينزع عنها صفاتها الواقعية بعد ان يوضح تابعيتها لسياقها الزمني، ويمنعها من الاستمرار في الزمن. صحيح أن هذا السياق الزمني هو الذي يضع الصورة في الآلية الزمنية المحدودة الرجاء وينزع عنها صفة الخلود. وصحيح في هذا المعنى أن الصورة ليست في حالة حرب مع الواقع وأنها محض وقائع سالفة لا تستطيع أن تشارك الآن في توليد الزمن وإضفاء الديمومة السالفة على وقائعه المتغيرة. لكن الصحيح الإعجازي - لا الواقعي - أن النجاة، نجاة الصورة، تكون بالشعر، وبالشعر وحده، عندما يستتب الخلاف بين الواقع والصورة.
ليس من سبيل الى تكذيب واقعية الصورة بسوى القول شعرياً إنها من جزيئات الواقع السالفة التي تستطيع، بقوة افتراضية مخالفة، أن تكون الواقع بجزيئاته كلها. وهي لن تكون الواقع براهنيته وبما يضيفه من جزيئات محكومة بالتغيّر والتبدد، إلاّ إذا قررتُ - أنا الشاعر - أن أحررها شعرياً من الواقع، بما يجعلها تنتمي الى ما يخالف هذا الواقع وينقض تأويلاته.
أنظر الى الصورة ووقائعها، ليس لشيء سوى لأني، في واقع الأمور، رهينها الواقعي. ولأني أريد شعرياً أن أستنطق جزيئاتها المتحققة في الزمن بما يمنحها سلطة الانوجاد البشري السابق والراهن واللاحق، وبما يجعلني حقاً أمام الأشخاص الذين تلتقط تلك الصورة لحظاتهم لا بما يجعلني فقط أمام صورتهم.
لكني بشرياً لا أستطيع. والأحرى ان الصورة هي التي تستطيع ولا تستطيع.
أنظر الى الصورة وأكلّمها وأريد أن تكون نظراتي إليها وكلماتي معها حواراً بشرياً حقيقياً وكاملاً وواقعياً وملء الزمن، لكنها لا تستطيع - واقعياً - أن تنظر إليّ ولا أن تتكلم معي إلاّ من كونها لحظات سابقة في الزمن وفي الوقائع.
هذا ليس هجاء للصورة وانتقاصاً من فعائلها. إن هو سوى اعتراف بشري بأحوال المعنى عندما لا أستطيع ان أضفي على الصورة بعضاً من القدرة الإلهية المتحققة في غريزة الطبيعة البشرية ومكانتها الحياتية... إلاّ في الشعر.
وإذا كنتُ لا أستطيع على المستوى البشري المحض، فلأن تقنية العجز ناجمة بالطبع عن الخلاف المستحكم بين الصورة والأصل.
الصورة ليست أصلاً وإن تكن مستندة الى لحظة أصلية. إنها انتهاز خاطف ينزع لحظة الالتقاط من سياقها الوقائعي ليضعها في سياق لم يعد من الوقائع في شيء.
لكن ما لا أستطيعه بشرياً، أستطيعه شعرياً. طبعاً، ليس من فعل إرادي و عقلي على هذا الصعيد. إن هو الا إعجاز عاطفي يتكهرب بصوّان اللغة فيصير إعجازاً صورياً.
الآن، أذهب الى الصورة وأقع فيها. هذا ليس استنكاراً أو إعراباً عن ضغينة. على العكس، إنه ذهاب بالصورة الى منطق الشعر. ذهاب عميق عميق من شأنه عندما يستتب أن يصنع عالماً يشلّ استبداد اليقين الواقعي ويُحلّه محلّه.
هنا فقط تتكوّن سلطة للصورة تُحلّها محلّ الواقعي وتجعلها تستولي عليه. فما أعجز عنه في الوقائع، أستطيعه في الشعر ويستطيعه الفنانون في الفنون جميعها. هذا ليس تعويضاً وليس هرباً. إنه إنشاء لعالم آخر يشكل تتويجاً للمعنى الذي لا يستطيع هذا العالم الواقعي أن يحميه وينتصر له.
لا أريد ان اكون مهلوساً. أريد فقط أن أذكّر بأن الصورة إذ توقف زمن الواقع (أو الوقائع) فإنها لتنتج زمناً اعتراضياً مخالفاً.
هذا ليس تفسيراً عاطفياً يندرج في الإرهاق الانفعالي. إنه شأن شعري لا يقع تحت التفسير، وهو يتصل بصعوبة القبول البشري بالانتقال قسراً من منطق الوقائع الى منطق الصورة. الثاني يتوافق مع الأول في أصل اللحظة ثم يخالفها في التأويل.
وأنا أنحاز الى الثاني لأني به أفوز على الوقائع.
كنت اريد أن أجعل الوقائع تتراكم بما يجعلني أستطيع ان أرفع النقاب عما يعتليها لكي أعود الى الأزمنة الهاربة التي تسجل وتلتقط وتحفظ، كي تجمد ما تسجله وتلتقطه وتحفظه في الواقع المستمر. وإذا كنت لا أستطيع على هذا المستوى، فإني لمستطيع في الحيز الافتراضي.
وحده المنطق الافتراضي يستطيع الإيغال في تأويل الجزيئي بما يجعله يصير كلاً مخالفاً للكل. أي بما يجعله يفترض أنه يلغي الواقع اللاحق استناداً الى وقائع سابقة.
المنطق الافتراضي هو المنطق الشعري الذي يصنع وهماً قادراً على إنقاذ الصورة من الأقدار التي تتحكم بأزمنتها ووقائعها.
وحده الشعر، وأعني الفنون جميعاً، يضع الصورة في موضعها المطلق ويحررها من سلطة الواقع لتصير أعلى مقاماً وشأناً وأبعد مرمىً منه.
وهذا هو أصل المعنى: الوصول بزمن الصورة الى زمن الشعر لكي يصير زمنها أشدّ زمناً، من كونه يتمرد على الزمن، يتخطاه، ليصنع زمناً إلغائياً لآلية الزمن ولحجارته القاتلة.
وإذا كنتُ أضع الصورة في هذا الموضع فلكي ألفت الى خلاصها الكامل من استبداد الزمن ومن استبداد طغاته.
حسب الشخص الذي أعنيه وأضعه في زمن هذه الصورة، حسب سمير قصير، أنه ينتمي الى زمن الصورة الشعرية. وهذا هو انتصاره الوحيد الكافي. وهذا هو ثأرنا.

منتخبات (جهة الشعر)