مسألة الكاتب أو الفنان الأجير (*) تثير بامتياز سؤالَي "عدم المعرفة" و"العجز" في الكتابة الأدبية تحديداً، وفي قضية الخلق الإبداعي عموماً. وأعتقد أن هذه المسألة ستظل قائمة ما دام هناك كتّاب أو فنّانون لا يستطيعون أو لا يريدون - لسبب ما - إنجاز ما يتمنّون أن يحمل تواقيعهم وأسماءهم. وهي ستظل تكون أيضاً حتى المستقبل البعيد موضوعاً إشكالياً أثيراً لدى أهل الكتابة والتأليف في الميادين كلها، من الأدب إلى الفكر وصولاً إلى السياسة. لكن هذه المسألة، على الإثارة التي تنطوي عليها، تفتح الباب أمام قضية شائكة بل شبه "مستحيلة" على المستوى الإبداعي البحت، تتمثل في النص الذي يكتبه صاحبه ولا يكون هو النص الذي يريد كتابته.
بين النص المنجز والنص المحلوم والمهجوس به والمفتكَر فيه والمأمول والمرغوب والمشتهى، مسافة في المعنى والمبنى هيهات أن يتوصل الكاتب إلى ردمها.
*مسافة العبور من الهيولى
ما هي طبيعة هذه المسافة وما مناخاتها ودلالاتها، وما الذي يعتري "النص الهيولي" عندما يبتغي صاحبه نقله إلى الحيّز المكتوب؟
من الصعب التعرّف إلى معطيات هذه المسافة، وكم هو أصعب بكثير التعرّف إلى طبائع التحوّل الذي يصيب "النص الهيولي"، وعناصره، وخصائصه، ومستوياته، عندما يعبر هذه المسافة. أي عندما يصير نصاً كامل الحياة، وموجوداً بالفعل لا بالقوة فحسب.
في ما يتعلق بالمسافة، هي مسافة غامضة يفضي اجتيازها بأن يصير استيلاد المعنى المتوقع مختلفاً عن المعنى المولود. وينطبق هذا الاختلاف أيضاً على الشكل الذي يتلبسه هذا المعنى.
لا أعرف إذا كانت هذه المسافة المشار إليها ملموسة أو موضوعية أو نفسية أو متخيلة. أي لا أعرف هل هي مسافة فيزيائية تخضع للبصر أو للقياس المادي العقلي، أو هي مسافة افتراضية ومتوهمة. هل هي منطقة داخل الدماغ أو هي منطقة قائمة في التأويل فحسب.
أعرف في ما بعد، وبالشعور الذي يعتريني ككاتب، ثم بنوع من المقارنة النقدية المفترضة، أن هناك فرقاً، قد يكون كبيراً أو صغيراً، أفضل أو أسوأ، بين النص الهيولي والنص المتجسد. لكني لا أعرف كيف يحصل هذا الفرق، ولماذا لا يستطيع الكاتب أن يمحوه، ولماذا لا يمتلك المنطقة التي يسبح فيها النص الهيولي فيصير هذا النص - وكل نص سابق ولاحق - حقيقة متجسدة بتمامها وكمالها، ومخلصة للأصل الذي انبثقت عنه.
ما أعرفه بالتأكيد أن هذه المسافة موجودة عند صاحبها الكاتب فقط، وليست من اختصاص القارئ الذي لا يستطيع أن يقيسها لأن هذا النص الهيولي الذي عند الكاتب بالذات ليس في متناوله ولا يستطيع التوصل إليه والإطلاع عليه. إنها المسافة التي تجعل الكاتب - الكاتب وحده دون سواه - "يرى" بعين عقله وتصوراته ومشاعره أن الكلمات والأفكار والرؤى التي راودته ليست هي هذه التي يضمّها هذا الكتاب (أو المخطوط) الصادر باسمه والذي يحمل توقيعه.
*الكلمات هنا ولكن!
هائلة وغفيرة هي الكلمات التي نريد ان نكتبها ونقول لأنفسنا إنها هنا، في الرأس أو على رؤوس الشفاه والألسن، وإننا نكاد نراها وننطق بها ونجسدها فتكون مماثلة للمرآة التي نزلت منها. لكننا عندما نجلس وفي أيدينا القلم والأوراق، أو نكون وراء شاشاتنا، ونهمّ بكتابتها، "نعرف" و"نعقل" أنها تتمرد علينا، أو تخوننا، او تهرب منا، أو تختفي من أمامنا، أو تلتبس علينا. أو "نعي" أننا "لا نعرف" القبض عليها، أو أننا "عاجزون" عن ذلك.
أو هي تصير أخرى، مختلفة، متغيرة، وأحياناً متناقضة.
ونكتشف بالمقارنة أحياناً أننا ننساها، أو هي تنسانا، فلا نعود قادرين على وعيها وتذكرها وتجسيدها في الكلمات، رغم أننا نتوهم أننا نراها ونحسها ونعرفها ونعقلها، أو نتوهم أنها تتملك كياناتنا اللغوية وتتماهى بها.
لم أكتب كتاباً، كان هو الكتاب الذي "أردت" أن أكتبه.
بين النص الأصل الذي كان في الرأس، أو الذي كان يهيم في مكانٍ ما من سماء هذا الكائن الذي هو أنا، وبين هذا النص المنجز، اختلافٌ جوهري قد يكبر أو يصغر، قد يكون أسوأ أو أفضل، تبعاً للمسافة التي أشرتُ إليها، والتي ما ان تعبرها الكلمات - الأفكار - الرؤى حتى تصير "ثانية" و"أخرى".
هذه المنطقة - المسافة التي تربط بين عالم الكلمات الهيولي "هناك" وعالمها الذي تشكلت منه وهي في طريقها إلى "هنا"، هي المنطقة التي أعجز، أنا الكاتب، عن إدراكها والسيطرة عليها وامتلاكها وإخضاعها. بل أنا لا أعرف كيف أفوز بها، بما يجعل عبور هذه الكلمات عبوراً أميناً لمراياها ومماثلاً لها وطبقاً لأصولها.
أجهل حقيقة هذه المنطقة - المسافة، لأني أجهل حقيقة هذا التغيّر الذي يعتري الكلمات ويجعلها مختلفة ومخالفة، وأجهل لماذا لا أستطيع أن أجعل الكلمات - الأفكار - الرؤى تكون مطابقة للأصول الهيولية التي كانت عليها.
وهذا هو السبب الذي قد يدفعني مراراً وتكراراً إلى إعادة كتابة تلك الكلمات، كأني أكتشفها للمرة الأولى، لكن من دون أن أتمكن من استعادة صورتها الهيولية.
هل تطير تلك الكلمات؟ هل تتبدد وتضيع؟ أو هل، بالأحرى، لا تعود موجودة بذاتها كلما حاولنا أن نعبر بها تلك المنطقة - المسافة القائمة بين الهيولى والتجسد؟
لستُ أدري.
مسألة الاستحالة أو عدم المعرفة أو العجز هذه، ربما تكون مقتصرة على الكلمات التي تنتمي إلى العالم الأدبي وما يماثلها في العالم الفني (أو الإبداعي) عموما.
قد لا تواجه الكلمات التي تنتمي إلى عالم العقل والوعي والمنطق البحت مثل هذا التحدي. ربما لأن المنطقة - المسافة الفاصلة التي تعبرها من التفكر إلى التجسد ليست ملتبسة بل واضحة، وخصائصها وطبائعها ودلالاتها غير خاضعة للتأويلات الفائقة العقل.
مسألة الكلمات الواعية هي عقلية وواعية بامتياز، ولا أعتقد أن مسألة الكلمات الأدبية تدخل في هذا المعيار.
بين الأصل الذي تنتمي إليه الكلمة الواعية والتجسد الذي تتشكل فيه، ثمة بالتأكيد منطقة - مسافة تخضع لسلطان العقل، وبسبب من ذلك لا تستطيع تلك الكلمة أن تختفي او أن تلتبس وتتغيّر. وإذا كان شيء من هذا ممكن الحدوث فإن نسبته ستكون ضئيلة جداً بحيث لا تفضي إلى تغيّر واضح المعالم.
ليس من "غيوم" في منطقة الوعي، لهذا السبب ليس من التباس هناك. "الغيوم" مقيمة في عالم الكلمات الأدبية وفي الفنون مطلقاً، والالتباس يقيم فقط هنا في عالم الأدب (والفنون). ومعه يقيم التغيّر والاختلاف والفرق بين الأص
إقرأ أيضاً: