إدريـس عيســى
(المغرب)

إدريـس عيســى " بينما الشاعر والقاتل ينْبَرِيان
كلاهما من المجاز
ويمضيان إلى الموعد الدامي
كلٌّ واثقٌ من نفسه، كلٌّ في حيزه... ".
ماريو لوتسـي، " تذييـل"، في نار التنازع.

1- يُلاقينَ النَّهار بأفواهٍ حُرَّة

لِوَاذاً، منحازين إلى الجُدُر والأسيجة، نمشي في الوديقة. ولكي لا يصيبنا زفير شمسيٌّ، كنا نحاذي المنازل والجُدُر مدَّرئين بالشجر الألمى؛ الأزدرخت و" الضّي ـ مال" و" برنيق اليابان"، الذي يلاقينا بالظل الأليف، ويُزيِّن سكْع المشاء. وكانت لنا مظلة سوداء موسومة بقواقع بحرية صغيرة؛ مجسماتٍ لولبيةٍ صغرى للمتاه الذي يتكرر في المرأى، في هذه الأرض. قواقع. وسوم. فلتة يد؟ تدبير يد تريد أن تفتح بابا إذا عثرت على مزلاج في الباب، فينكسر في قبضتها المزلاج. لم تختر وسما آخر غير الذي يدل على ما يشدها إلى محنة اليد؛ أن لا تعثر أبدا على الباب .

عرفنا هذه الأرض بشمسها؛ حيوانِها الكبير الذي يهزم البحر بنظرة واحدة. يراه من شرفاته باكرا، ويتركه يختض في نظرته، رافسا سريره بأقدامٍ أجاجٍ، مكبَّلا بغطائه الكوني المنسوج من ريح السموم والخماسين. تعلمنا أن ننظر بعيون مفتوحة إلى الحيوان مشطورا، وصاعدا من شرفته في جبال اليمن، صباحا لدى الميناء، كلما عبرت بُهرتَه القريبةَ وليَّنتْها بالجُروحِ، بيننا وبين المدى، طيورُ الزُّمَّج والخَرْشَنةِ. وكنا نحب الطيور، كأنها صنيعنا. وكما اللاعب البودي بالطيارات الورقية، نأتي إلى الجون، ونرسل الطيور موصولة بنظراتنا. نثبتها في الرقعة المربكة حيث يرقى البحر إلى السماء ليكون سماء، وتنزل هذه لتغتسل في المياه وتكون الاسم. نخلط المرأى ونزعم أننا منقلبون، ولا نرى، ولسنا، ولا نريد أن نكون. وحينئذ نقدر أن نفلت الخيوط من أيدينا، ونطير.

وقفنا طويلا بمظلة على ساحل الجون. الريحُ المحمومة تخيط لباسنا وسهونا بظلال السنط، وكان السنط يعرفنا. وكثيرا ما ربت على رأسنا وأكتافنا بأكف ممتنة. نصحو في الصحو. ملح الأرق في جفوننا. عِثْيَرُ أقدامنا يفضح خطوة الضليل، وفي لباسنا رائحة المتاهة.

قلنا: " سنمضي إلى آخر الوهج. ". قلنا: " سنسير حتى تثقب الشمسُ جباهَنا مرة أخرى بحافرٍ منحوت من فلز الصاعقة. نترنح من هول الرفسة، ونخطو القهقرى في السقطة الأليمة. لكننا نَعَضُّ على المدى كشكيمة تُعْشي عيون الخيل. ونَعَض على كينونتنا بحنق الغريم. نهُبُّ متمسكين بالشجرة التي تنشأ كي نترنح بها وتترنح بنا؛ التي هي دوخة المصعوق. نسَوِّي خطوة صافية، ونسوِّي السماء المنكفئة التي أخطأنا بابها. نمضي بهمة الذي يملك أن يشير، فيظهر الباب. ونزدهي بجباهنا موسومة بعلامة الهاوية. ونسير في الناس. ".

وقلنا:" ربما دخلنا أرض الحبشة، واتبعنا الطريق إلى هرار، وزرنا سوقا في عدن.". لكن لم تكن تحت أيدينا تجارة مريبة من بُنٍّ ولا أسلحة ولا عبيد. لذلك لم نصدق نداء اللعين؛ أخينا في القول، الذي طوى قصائده وثبت فوقها حجرا كي لا تتناثر في زمهرير الشمال، وجاء إلى هنا كي ينادم التنين، ويخسر لؤلؤة العزلة التي كان يفركها فتنير العالم.

شمس يضاعفها الغبارُ مذروًّا من عَماء، والسَّماديرُ المجنونة التي تتراقص مثل أبدٍ من لاشيءٍ مُضيءٍ، وهُمودُ الأشجار في معدنها الذي يدهامُّ، والظلُّ الميِّت المدكوس الذي يكاد يرنُّ إن لعبت به ريح البحر، وهذا الوهجُ الزجاجي المُعْشِي الذي تتشظى به الجهات. يدخل الأعماق عبر العيون، ويثقل فيها مثل نعاس فاسد على جُرْف يميد.

والبلد؛ هذا الذي أتيناه بظلال منهوشة وقامات تتلافى سماء تنقض، مازالت تُتلِف نعالَنا فيه طرقٌ ممحوَّة، وتبهت ألبستُنا في جهاته المائلة، من غير أن ندرك اليوم الذي يلاقينا بسعفة نَضِرة من نخل الهاش. نمد جباهنا، بنشَّة واحدة منها، يزيل عن أهدابنا غبرة المسارات المنكسفة.

طرق؛ متاهات معلومة ومحتسبة، هي لا يقينٌ متلوِّبٌ كسلَّم منكشف في عمارة مقصوفة، هيكل من الحديد والحطام يستشري في خوائه، يشاء ذاته ويمتد في يقيننا. نقتحم الطرق بقدم واثقة بالسراب والخسران واللاشيء. كأننا فرحون بالغد الذي سيلاقينا في آخرها؛ مكشِّرا، قنديلُ الكارثة يزهو في كف، جيوبه ملأى بالملح، وفي الكف الأخرى، زهرة خشخاش كبيرة طرية يقضمها، ويمدها إلينا كي نقضم من بعده.

هذه الطرق التي لم يكن يغرينا فيها أن نسير، بل أن نفهم الطرق، وظلالَنا فيها، والسماءَ التي انحازت إلى سقطة النيزك في رماد، والعالمَ الذي يأتينا مثل مِقْطرة لازمة؛ قسطا من الخسران الأرضيِّ بين الناس، الذي نقتسمه مع أطيافنا إرثا من يد مغسولة بالقسوة والليل، ولا تعرف أن تلمس شجرة في لحائها القاسي، فتَلينَ منها الأصابع، أو تتبعَ بسبابتها سحابة النُّحَام الواطئة، التي لم تكن سحابة، بل سماء حية نريدها أن تهف تلقاءنا وننحر بها العدم.
يد لم تفتح مظلةً صوب الجون. ولم تلوح بها كي يفزع سرب "الإيبيس " فيعلوَ موجةً حمراء في طيران أحمر يشْدَهُ البَرَّ والجُون. ولم تقدر أن تشير إلى الأبواب.

نهارات آشِبَةٌ. تمزج فلزها المصهور بلهاثنا.

يا للطرقِ ممدودةً كمكائدَ ظاهرةٍ، نجُرُّ ظلالنا فيها كفخ ناشب في رسغ الحيوان الذي يرزح! يا للهجير مهيمنا؛ مكنسته من نار ولا تخطئ الظل. يدور بها على كل حي، في السبل!

جاراتٍ وكنَّاتٍ وحمواتٍ وقريباتٍ وأخوات، تجلس الحبشيات تحت عريشة الحوش. بُعُولَتُهن تاهوا في سراديب السُّخرة، ليعودوا مساء ويكتموا النهيم، مرتقبين طعاما شَظَفا، وسقطة عميقة في الفِراش. كأنهم عادوا من ليل التخوم. كأنما لم يبرحوا يحملون مراوح الريش ويهزونها أبدا، ماثلين بأيد خاشعة وركب تصطك، لدى أرائك النجاشيين. اليافعات بينهن يرسلن أهدابا فاترة، ويرعين ريشا يتطاير فوق أنفاسهن مندوفا ولا يزول. يُغْضين أحيانا وينصتن إلى الزهرة الوحشية التي تتنفس في بتلاتها وبُرعُمها المنفتق. من رائحتها السفلى المدوخة، التي هي مزاج اليود بالبهار والظمإ والأبدية، تتضوع الجرة المظلمة، ويدوخ الوقت.

الحرب وحدها تجعل الفراغ فراغا حين تزحم الأرضَ بأنقاض السماء، وصرخةِ الناس، زاحفة بالركام المكتمل الذي يدبِّره بشر، يقف في سمت القسوة، شمسه فوق هامته، يعوي مادحا يديه المخضبتين بالليل، المغموستين في نجيع أخيه، ويلعن السماء. وهؤلاء الرسل المختبئون في كتلهم القليلة وأطيافهم، الناظرون إلى العالم أبدا بأعين مندهشة، الهاربون من الخراب، والمساغب، والسِّياط، والقصاص، والثأر، والدية، وجحيم الأباطرة، والإثم، والبراءة، يتلمسون الفراغ ولا يعثرون على السماء.

وما من مُؤَوِّل هنا غير الطائر النسَّاج المتربص، أخينا في الخفة، الذي يحفظ لؤلؤته في لهاته، يليق به أن يحفظَ في مرآته ما نرى، ويكفلَ كل هذه السكينة التي تتهدل بالظل، كقربة ترشح بالزيت خاثرا في قيلولة الأشجارـ حين تجلس الحبشيات هناك، في الحوش، كي يسردن الأحلام، ويخرّمن بمقصات الضوء الشفيفة أستارا تتدلى عليهن من أعالي العزلة، منوطة بحمائل بعرض المدى الذي يسرحن فيه عيونهن القلقة، ولا يعثرن على المدى. يقصصن القماش، لعلهن يرين البصيص القادر الذي يأتيهن مما وراء القول والعتمة.

أفواههن حرة يلاقين بها النهار، وأيديهن في حديد الأرض. مشطورةً، وغائبةً، وملأى بأرق الأعماق، تمضي في الفعل الهيِّن الذي يدْرَأْنَ به أن تنزل في جفانهن، إذا انكببن على الغسيل أو الطعام، قدم الصاعقة. والفراغ مرآتهن المقتسمة التي تبقيهن في شرفة مُهَوَّاةٍ يرَيْن منها البحر. يلبثن بها ويستكففن بهرة الضحى والأصيل فوق المياه، قبل أن يشرن بأيد ترتاب في المدى ،إلى القوارب التي تنأى في الغمر أو تؤوب. يقطفن منها زهرة اليود والنعاس، وتفد عليهن فلول الرسل العجلين مختومي الأفواه، من حيث يَرَيْن الضوء كلَّه هيال كمد ونسيان؛ أزلا من الهباء الأعمى يهمي عليهن دوارا وحسرة من الجهة المعشية كلما تلفتن، ورأين القرى الفقيرة محزومة كبيادر شاسعة ما زالت ـ بأيد قادرة، وراءً ـ تركمها الحرب والمسغبة.

عنكبوت كوني؛ الشمس إزاء أهدابهن. وهُنَّ هنا، في هذه الأرض التي يأخذن حديدها بقوة، ويَريْنها طرقا دارسة، وشعابا صخرية ضنكا تأكل الناس، وأنفاقا لا تفضي إلى جَنة ولو عبر الجحيم، وحواجزَ حديدية عندها عسكر وأسلحة، يلمِسنها بأيد تخاف أن تهدأ، ويتذكرن الغبار في أقدامهن، ليعلمن أنهن نأين كثيرا عن السماء؛ يُرَجِّعن في المرايا التي صدئت فضتُها ظلال الذين وصلوا قبلهن الحدود. الذين استهلوا معهن الأرض بصُرَر خفيفة ومتاع بخس. ترنحوا في ظلالهم واحتملوا أن يسقطوا، وينظروا صامتين بأعين مكسورة إلى سماء تُدوِّم بالنسور. اختلجوا قليلا في أجسامهم القليلة المعصورة، وكانوا يتخبطون في الشُّعِّ الضوئي الكبير. غابوا فجأة بإيماء وجيز، كطائر يخرقه سهم ، إلى جهة سلكوها نائمين، فاختلجت في جناح الطائر السماءُ. ولم يتكلموا. لفُّوهم بظلالهم وبالطرق التي تمزقت في خطاهم. وتركوهم هناك، وراءهم في العراء. تلفتوا ليروا قبورا مجهولة موسومة بشواهد من حجارة مركومة لن تدوم. عما قريب تسوى الحدبات بوطأة خفيفة من الذي يمر كي لا يبقى شيء؛ النسيان.

منفى. تيه يقود شعبا إلى الإغماء عند شجرة العالم.

منفى لا يُرَدُّ، ولا يُضاهَى، ولا تحده الحسرة والحنين، ولا تمتد فيه يدٌ إذا كبا الكائن على ركبتيه. ثم تيْهٌ آخرُ مضاءٌ بالشعل التي يذكيها ويحملها شعب يسير إلى الأبدية، موكولا بقسط النار؛ فِديةِ أن يكون شعبا له جهة يعرفها ويرفعها بعينيه. يشير إليها ويقول إنها السماء. يحب ظله آمنا تحتها كوحش في مجال أنفاسه. حينئذ تكون له أرضٌ ويسمِّيها جنَّتَه. ويكون له بيتٌ صغير يسمِّيه العالمَ. يغرس شجرة تلقاء البيت تزين نظرته، وتعلي السماء التي فوق البيت. تؤتيه كتابا من الحفيف، وتعلمه أن يقرأ العالم. يرعاها بقلبه، ويتنفس.

الظهيرة تجعل الشمس سمَنْدل قيامةٍ يتخبط في لهبه، في قفص الكون. صرخاته تدخل الأحواش والغرف الخانقة. الحبشيات يتلافين الوَغْرة. يعصرن ملابسهن في الحوش تحت العريشة، وينشرنها على الأسلاك من جهة البحر. يفلين رؤوسهن في الظل، كل تفتح ليلها وتأخذ لمسة الأخت. ينتظرن أن تعلو قامات الأطفال في جهة أخرى بعيدا عن بازلت البراكين في هذه الأرض. أحيانا يحلقن سوقهن أو يمرطنها بالصمغ، ويصنعن أقنعة صفراء من دقيق الزهر والنبات، يلبسنها فتتفزَّر فوق وجوههن كجلد سقيم. وحينئذ نرى مسرحا تتخاطر فيه الأقنعة، فنفرح باللواتي يحييننا بتلويح شفيف من وراء السياج.

يأخذن زينتهن في الأرض. لذلك يحكين كي يذهبن أبعد من ظلالهن، ومن أنفاسهن في الغرف الخانقة. ولذلك يرفعن الكلام ويخلطنه بألسنة كثيرة وهرج، كأنما يسندن السلالم إلى جُدُر مرتجلة كي يعثرن على العلامة : الضوءِ الوحيد الحقِّ، الذي لا يداهن ظلمة تتكوم في جوشن الغراب، هنا؛ الذي يقدر أن يقودهن في هذا الليل الذي ذُقْن ملحه ناشعا من أجسامهن، بألسنة خبيرة مبتلاة، حيث دائما ينشعب الطريق.

نرى زهرة كبيرة من ظل وكلام تتفتح فوقهن، تتدلى بها شجرة العُنَّاب تحت فَنَادَتِها، كلما اختلط سرْدُهن بِهَرْج الأطفال. زهرة تفوح بالأصوات والصدى، وينفخ في بتلاتها البحر. نفرح بالزهرة التي تتفتح عفوا، كلما مررنا، من وراء السياج. ونزعم أنها لنا.

يلبثن في الكلام تحت السقيفة، تلقاء المنزل، قبل أن يأتيهن البواب الأفحج ذو الضحكة البَراحِ والنَّظرةِ التَّحويم في مهواة؛ أخوهن في الذهاب إلى ما يوحِّد الأنفاس تحت السماء التي لا يحجبها الخراب. طاقيته مائلة على جبهته. وفي فمه عود من شجر النِّيم. رجل ـ ظل موقوت. يأتيهن دائما في الظهيرة، كأنه شاخص مزولتها الكبيرة التي يمتد ميناؤها المتوهج حتى البحر.

الرجل يقرفص تلقاء النسوة ملصقا أذنه بالمذياع الصغير. عيناه غائبتان، كأنما يسترق السمع من وراء بابٍ وراءَه الأبديةُ والضوء، وبشر يقشرون بمكاشط حديد طلاء عن جدر عالية، ومعهم حيوانات كثيرة تموج. بعيد قليل سيأتيهم جميعا هدير الحرب، ويعلو دخانٌ يدْلَهِمُّ به مدى. يرمون الأعين إلى الأرجاء المقصوفة حيث تنْهَدُّ السماء فوق القرى، ويضمحل الظل والصراخ.

أحباش في الغبار. إزاءهم إرِيثْرِيُّون في الغبار ذاته، تهب به ريح محْترِبة واحدة. مرتجلو طرق وأمداء شاردون مثلهم في الخوف. الأرض مشدودة بينهم كرَقِّ غزال مرقوم بالتعازيم، تتجاذبه قبيلتان مُلتاثتان. والحرب لا تفتأ تُخرج الأسلحة المدَّخرة في المخازن والمطامير الخبيئة، والأهراء. أحيانا تعود إلى طبلها المحفور في جذع دوحة نَخِر لتقرعه ممجدة يديها، مرتِّلة نذيرها الأبدي؛ نذيرَها الذي يرج السواري والجدر. ويعمر الأرجاء.

الموت هو الراقص الوحيد الذي ينبري لها في الرقعة، قدماه حافيتان. ووجهه مقَنَّع بجذاذة من فرو العُسبُر. وفي كلتا يديه سعفة دوم تلتهب.

عُجْ يسارا، أيها الغريب! سِرْ على الحصباء، واستمع إلى خشفتك الحثيثة. خطاك أرزن من خطى الفهد يختلس المواطئ، قبل أن يطيش بالجهات في غسق الطريدة. شجرة السِّذاب التي يرقد تحتها الكلب الرمادي كلَّ ظهيرة في البقعة الحمئة، تأتيك منها رائحة قديمة كنوم طويل في صباح الخندق. حيِّ الشجرة وأسألها أين الدُّخّلَةُ و" المندران"؛ طائراها اللذان تزدهي بهما كوسامين في سترة البطريق. قل لها: " حتى أنتِ، مثل كلامنا، أعدتك الحرب، أيتها الأخت! ولم نعد نراك شجرة. الحبشيات اللواتي يسردن الظهيرة في الظل، عزلن الأرض مثل مائدة، وضعن عليها قنديلا من كلامهن. توهَّج القنديل. تبدَّلت كل الأشجار في عين الغريب. وتبدلت الأرض. ".

الحبش لا يبقون وحدهم تحت الأشجار. أطيافهم تأتي معك إلى بيتك ذي الشرفة السوداء، التي ترقى إليها الأزدرختتان والبيضانة. هناك ـ مستلقيا على الأريكة تحت المروحة، وفوق رأسك هالة الحفيف تدور مثل زوبعة ملجَمة ـ تدعو الأطيافَ، وتغمض عينيك على الضوء الذي تعصر أعماقك كي ينشأ ويبقى. وتزعم أنك في شرفة الغابة. وأنك تقدر أن تصون يدك دائما بحمل المصباح الشقيق، وأنك ضيف الأحباش الأبديُّ؛ أخوهم في الخطوة التي لن تخطئ حجرا فريدا ملقى على قارعة، مقدودا لها من عتبة المعجزة؟

2- سرد

كأنهم ولدوا هنا. لكنهم لن يلبثوا. أهم يُحْدِثون الطرق؟
كأنهم لم يكونوا في مكان آخر. يتنادون. ترن أسماؤهم في قلبك. وتفرح بالرنين. تقول: " يا للموسيقى في النداء! يا للسماء في الموسيقى في الأسماء التي ترن! يا لأسماء الأحباش ! ".

الطفل ينظر إلى الشجرة فتولد الشجرة. الطفلة ترفع كتفيها إلى الصباح فنرى الصباح؛ صباحَ كتفيها ويديها وإيمائها إلى العالم. والآخرون يقفون على العتبة فيحررون المكان.

لا مكانَ لهم غير أجسادهم المبْلُوَّة، يربُّون في ظلماتها حجرا صابرا. هم يصنعون الفراغ الآخَرَ؛ الذي لم تقدر عليه القبيلة، حيث تظهر السماء سالمة بريئة من زوابع المخالب والأجنحة، وتأتي الشمس التي لا تنكرهم. كأنهم ينشؤون هنا تحت شجرة العُنَّاب الهرمة، حين يجمع الشيخ ظلالهم حوله، لاقطا أرواحهم الخفيفة الشاردة بمغنطيس الحكاية، مُتَنَسّما في نظراتهم نوما هادئا يعرف كيف يجعله سرنمة في الأرض العسيرة، حيث تتراقص ظلال السباع.

شيخ أريب. مفتوح ككتاب. مبهم ككتاب. مشغول بتحرير الينابيع من قيد الجبل، من غير أن تسح أمطار المواسم. يحكي فيهمد الأطفال ليكبروا في مسارات أخرى لم يغمرها غبار الحرب. قامته محنية قليلا، كأنه عاش يدرأ سقفا ينهار، من أجل أن يحيا بين الناس.

وكنت ترى الشيخ مادا رجليه على السرير الحديد، متوكئا بيديه وراءً، تهز كفُّه منشةً من سعف الرافيا أهدابُها ضافية. ظهره رقيم من حجر مصقول، رقِمت فيه هجرة الأسلاف. الآناء تلعب دائما بالألق الرائق الذي يومض أعلى كاهله. ظهره عار كقلبه وشفتيه المليئتين بالعلم والحسرة، ويدِه التي لا تعرف أن تخذل السماء. يحكي، كأن لم يسبقه إلى مقيل الأشجار الرواة. كأن السراديب العميقة حيث يشرد الليل، تفضي إلى أبواب قصية، وفي حزامه تصلصل المفاتيح.

الطفلة تلك تعرفها. تلويحُها النعسان حديقةٌ معلَّقة في شرفة البحر، وبسمتها مرحة وفيها حفيف. وتعرف أخاها ذا الرُّقْية الحمراء الذي يتبعها كظل حي، ظلٍّ من ريش وفراش وخفة ونعاس. يعدوان إليك، كلما رأياك، من لدن شجرة العناب، حيث الأتراب والنسوة، إلى السياج المشبك. يعلّقان أكفهما بالأسلاك، ويحييانك بالأمهرية. أحيانا يمدان كفيهما من عيون الشباك ويسلمان. تفرح بالسلام. تتنفسه هبة تُليِّن الخطى في هذا الصقع. وترخي قليلا قبضتَك التي شددتها منذ الليل الذي أتى، وكسَّر قرب وجهك قنديلا على المائدة. أتذكر يوم أعطتك البنت، من وراء الشباك، غصن بوغنفيلي متوهجا بالزهر؟ أتنكر أنها رقرقت روحك كلها فغدوتَ دمعة واحدة؛ دمعة كبيرة تعثرت بها، معا، قدما الآن الذي كان يمشي معك؟

الشيخ نجمه معه صاعد في سمت الكلام؛ كلامِه الذي يأتيه مما وراء الأرض. ضوء الكوكب ظاهر لعينيه إذا تكلم أو سكَت، ويؤاخي دم الأطفال. والشيخ لا يمضي إلى الطرق. هي تأتي إليه كلما أغمض الجفون متذكرا محاجَّ الهجرة، حيث يترحل الإنسان والوحش. يده تمضي إلى ناصيته، يحكها بين الحين والحين، كأنه إشبيـن المسالك، ويريد أن يشير، كي يفتحوا طريقا في الجبل. طير من هواء ودهشة على زنود الأطفال، تتذكر سماءها كي تطير. أحيانا يعصرون عيونهم ليديموا طلعة النجم في الظلمة السعيدة، حيث تتخطر الأطياف. وبعضهم يغالبون الكرى الذي يسري كنمل في أجسامهم، فيصيبها بخدر يشبه تراب الساحل، إذا حفنوه وصبوه في غيران السراطين، كي يلعبوا. حينئذ يتمددون، يصيرون رقعة من تراب صاف في الساحل الذي يلمسه بجناحه بحر النعاس.

ينفصلون عن الشيخ والشجرة. ينودون بين الحكاية والنعاس. قبل أن ينبههم صوت الراوي الذي يريد أن يصلوا إلى الجهة السعيدة، حيث يلاقون أطيافا أخرى تقيس بعيونها عجاجا يعلو في المدى، وذهابَ راحلين بكَّروا قبل الشمس إلى الطرق، وقرى لم يبق فيها سوى الكلاب، والزوابع.

شجرة العناب القديمة تميل لينصت الأطفال إلى ما يجعلها بيتَهم المفتوحَ المعلق، في الأرض، هنا بعيدا عن الزوبعة. شجرة تبقى، وتصنع الظل؛ نسيجَها الذي، عنكبوتُ الكون حين يعبر الليلُ إليها الحوشَ ويهزها مثل جَنَّة مهملة موجزة، يخشع عنده ويهدأ ، قبل أن يرْتِقَه إلى ردنه الطويل.

ظلها حقيقتها الكبرى هنا، تتعهدها وتباهي بها العدم. والوقت يجعلها آلتَه. يضبطها نهارا ويسعى بها مقدِّرا خطاه، قبل أن يحل الليل.

طيور الدُّرَّة الكبيرة الخضراء تناثرت حدائقَ غامضةَ من لونٍ تتفتح تحت أهداب محموم. بأي غد يردها إلى نخلة الرافيا؟ أي مسار يقدر أن يحفظ كل هذه الهجرات؟ ما الذي يطبق شفتيك أيها الرائي الغريب؟ تزمهما كاتما أنفاسك ومغمضا عينيك، كأنما تتمضمض بالضوء، أو تذوق لؤلؤة. أعطيناك أن ترى طيور الدرة، فلا تسرف في الذي ترى. البث قليلا بيننا كي لا يغمى عليك.

أطفال تحت سماء هُونٍ. عُزَّلاً ينظرون إلى ما يجري في صدر الشيخ كي يجازفوا بذاكرات حرة، تابعين الأطياف والنجم، في سبل أخرى لا تضيق بالسَّارين، ولا بالبهائم التي معهم، ولا بالغناء الذي يقوِّي القلب، حيث لا أحد يشرف في الفجر من أعلى التل، ويمدح الحديد.

يرفع الأطفال أعينهم، وينظرون إلى الطيور. يكونون مرايا مدهوشة. يأخذون ظلالها الملونة، ويركسونها طيورا حرة في حكاية الشيخ.

هو ذا قرْنٌ آخَرُ من الجوارح والغبار يحوِّم بعيدا فوق السباسب والجيف والجثامين. وهم يذهبون إلى القرى المهجورة، ولا يقدرون أن يتنفسوا. الحكاية فيها سباسب، وفيها جوارح تعلو صباح الطرائد. والشيخ يرى بعيدا، ولا يهش النسور.

تنعطف، أيها الغريب. حوش من قصب على الرصيف. فوقه، أعليت بالأعمدة سقيفة من القصب وجريد التمر الهندي. في ظلها يصلي البوّابون الحبش. يذهبون إلى جهة أخرى لا ينكدر فيها الضوء، كي يمزجوا البحر بالسماء. بعضهم خرجوا من جنة "القات" المسقوفة بالنسيان، حيث كانوا يخلعون الأسياد، ويجلسون وحدهم على الأرائك. أو يطوفون عراة في غرف الحريم. سرب الوروار حوّم فوقهم. والطائر الذي هجر السّرب منقذفا في سقطة مائلة، شق سهو البيضانة، عازلا فيها ذروة صافية. ضم في الغصن الممرود جناحيه وهمد، جامعا تحتهما السماء.

صار الطائر المعزول ندبا جميلا في جبهة الأصيل.

تصمت، أيها الغريب. شفتاك منطبقتان على أخوة الطائر، وقلبك يتعلم أن يبتعد. تخجل أن تهجس:" أعيريني ندبك أيتها الشجرة، أكُنْ أجمل المشائين في السبل. أعيرينيه أعثرْ ـ لا ريب ـ على الباب. ".

3- نار المسرنم

شمس مضاعفة في سماء واحدة تضيق. وديقة مستحكمة تبطل المرواح التي تدور. لهيب فاحش يكمن تحت السقوف. والرئات آلاتنا الممتحنة.

البوابون متقاعسون. خمولهم لباسٌ لَهْلَهٌ يزين قعدتهم في الظل، حيث يرسل الغراب صرخة يئدها في الحين قبل أن تشيع، كي يبدل بها أخرى. في أيديهم مِنشَّات من السعف والريش، ويتناومون وراء أهدابهم، متلافين آخر الضحى الذي يتلهى بتحويل الحصى جمرا تمشي عليه الظهيرة في الطرق. ويسعِّر الزعيق في لهوات الغربان. أحيانا يترك أثرا من زفيره الحار في الحفيف.

البوابون تولوا إلى الظل العميق رافلين في هبة الشجر. ركنوا إلى السكينة التي أوكلتهم طيورا من ظل تنقر في أكفهم فتات الضوء، ناظرين إلى البواب ذي الندبتين والفم الأثرم الذي مر بهم ولم يسلم على أحد. أتى شبه نائم يعتل حزمة تنوء به من شذابة أوكله بها حدسه الحالم، ومن خلفه وشيعة. توسم المكان حيث سيصنع زُبْية، كأنما بات يدبر سلما يعليه كي يبدل السماء. ركم البيدر المنهوب من صباح الطير والنبات. ولم ينفض يديه. أخرج من جيبه قداحة وتنهَّد حادسا في بيدره قوة الضرام.

يسهون. يمضون أبعد من طيران الغراب في صرخته، وأبعد من أهداب الرافيا السامقة، حيث تترك طيور الدرة ريشا ملونا. أبعد من جَزْرِ البحر الذي يتولى ويهمد وراء جلاميد البازلت، كخذروف كبير يكبحه خيط القمر. كأن الضحى لا يعنيهم. كأن الذي أتى تابعا يديه ويحمل الحزمة، مولى النهار.

كثيرون يهرولون إلى المقاصير والباحات، وإلى العرائش التي تسيل بالظل، حيث تعقد " المبارز "، ويندلع القاتُ رائحةً مخلوطة بالكلام والهذيان والسهو. هناك يلاقون أيديهم، ويستعيدون ظلالا لا تقهرها الشمس العارية. يحلمون بأنهم ليسوا هنا، قريبا من الرحى الهائلة التي تدور، فيفيض من بين حجريها الجمر. بعضهم يرتدُّون إلى أمداء ممحوة، تملؤها دوامات من نسور وعدمٍ شاهق.

شجرات هامدة. جذورها من بازلت. جذورها ليست لها. والفراغ بيتها الأول الذي يضيق. شجرات تتضاعف بغيابها كلما ارتفعت في السماك شمس المدار خابطة بقرنيها على بوابات الكون. والظهيرة تأتي عجِلة بيدين محروقتين، وتمسح كفيها بالجذوع والأعطاف. أحيانا تُعَشِّق الأرومات المنكشفة بحجارة مالحة. فتستبق الظلمات والدوار إلى الجذور.

احتفز البواب الحبشي بالرفش في المفرق المتآكل، حيث الطريق الأحْصبُ المتهدم يقطع الطريقَ الذي يسحب رمله وغباره وإسفلته المفلَّع صوب البحر، في البقعة المرمّدة الساكنة، حيث استشرت نيران سابقة. كأنها محرقة القبائل، تأوي إليها بالقرابين والنذور وخوف في الشفاه، كي يلبث عند حدودها الأسلاف.

الرجل تقيِّده يداه. وليس ينقذه منهما سوى هذا الفعل؛ أن يشعل نارا في الظهيرة، ويصنع مرآة حية من النار، ويرى العالم في مرآته المشتعلة.

يداه تبحثان عن سكينة أولى في الجهة المعتمة. حيث يتربص الغياب. إنهما تمجدان اللهب. حيوانان شريدان يلتقيان في طريق. كلاهما يتشمّم القرين. شُذابةُ شجر السماء والبوغنفيلي واللبلاب وركام من جريد النخل المصوّح وكرانيفه، كلها تحت اليدين الخاشعتين اللتين هدأتا وراء ظهر الرجل، إذ دست اليمنى برهبة في الكومة السّامقة ريشة من لهب. كأن إحداهما عثرت على الأخرى أول مرة. كأنه يخبئهما عن الناس.

رفرف الطائر الوهَّاج الذي نشأ من ريشته بأجنحة عديدة اختلفت، في صعودها، على الجهات. انتفض، ثم أشَبَّ، ثم ترنح متخبطا في الشرك اللامرئي الذي يشده إلى عشه، ثم زاغ متلوِّبا يعصره صرع سماوي يرفعه أعلى ويفصله عن الأرض، ثم تضاعف في أطياف حارقة، ثم شاع متلمسا ذاته المنفلتة، ثم طغى، ثم استوى خيمة باهرة عالية من لهب.

" الدخان ـ يقول الغريب الذي يرى ـ طريق الجوهر. عتبة الصفاء.".

لا ركيزة ولا حبل. لكن الحرائق التي كان بعضها يلبس بعضا صعدا نزلا وينقض عليه ويتزوجه ويزيغ فيه ويحاكيه سارقا منه ذاته ويفترسه وينفيه، ارتفعت لتعطي الغياب بيته الواسع الأكمل، وتثبت أن الآدميين مأخوذون بالذهاب أبدا مع النار، مفتونون بما يكثر الرماد ويبقيه في الأرض من بعدهم، كي تعبث به الريح، فتصيبَ قلوبَهم الحكمةُ. يعلمون حينئذ أن خطوة واحدة مع الرماد خطوة مالحة، وأنهم ذاهبون نحو الليل.

الدخان أيضا ـ يقول الغريب ـ خيبة . طريق خيبة الجوهر. حافة ترابية تنهار على هاوية. ".

تراجع الحبشي مكشرا وفي وجهه كمالُ يديه. صرخ ضاربا بقدميه مرات عند باب لا يراه سواه، كأنما اللهب الذي يرقى لهبُه هو. كأنما رجلٌ يرى ذاكرته. صاح كمن يحَيِّي النار.

وجوه الأحباش لبثت عانية للذي تقهقر كي يقوى على مجاورة السعير، الذي خشع كأنما يلاقي يديه. يديه الأرضيتين المنهكتين بالمزاليج والمفاتيح والأقفال وطاعة الموالي. اللتين لا يستطيع أن يراهما لأنهما ليستا له. اللتين يستطيع بهما، في البلد الغريب، بعيدا عن سماء الحرب، أن يصنع نارا ويفرح بها، ويسلم عليها، ويكون سيِّد النار.

يتولى الغريب إلى البيت. رأى أسعد الناس باللاشيء. رأى أجمل النيران في الأرض التي يصنع الصخر فيها النار.

4 ـ نشيدُ الهائمِ بهِ

غَنِّ: " أنا الهائمُ بالفراغِ هائماً بالظلِّ مذروًّا ومسْبِيَّا وهائما بخَطْرة الغراب، الذي هو ظلٌّ، هائما بتموُّجه المبهم السعيد بين صرخته ـ البلاءِ وبين الذروة المشوَّشة في أشجار النيم و" الضِّي ـ مَلْ ". أنا الهائم...".

أحباشك ـ يا هذا ـ أحباشك. أبناء أمِّك الطريقِ التي ولدتك من غبارها في خطاك، ضاربا في المتاهة التي تلقَّتك عنيفا ومعضِلا كمخاض. والتي آتتك اسمَها، ورُقْيتَها، وطِلَّسْمها المكتوب بالجادِيِّ والنار، وأورثتك قناع المشائين.

جيرانُ ما لا يبلى. جيرانُ روحك، وإخوتُك في البقاء هنا ، تحت النَّجم الأعمى، في الجهة الأليمة . وإخوتُك في الصرخة التي ، كبيضة الوقواق، حفِظْتَها وديعةً من سَنَة الحداد التي تنزلتْ عليك مدىً من المخالب والدُّوَار، وأطلقْتَها صاعدا سُلَّم المالنخوليا بروحك المنشطرة. عدسةُ البلور التي في قلبك، كانت تكبر كلما اشتد الوهج. جمَّعتَ فيها شمس الهجرة وقمرَ الأطلال والخِرَبِ، وكوكبَ العدم، وركَّزتْ جمرتَها هنا، تحت المدار، في عين كينونتك حيث كانت تمور الزوابع. كأنما كنت تريد أن تحرق العالم؛ عريشةَ الجنون هذه، التي، تحتها، يحيا رهط تحت مراوح الريش والحرير. وتبقى شعوبٌ خلف أفواه مكمَّمة ترقِّع سرد السادة باستعارات رثة، وخلف أيديها تنام واقفة وتهزُّ المراوح.

إي: " أنا الهائم بالأحباش هائمين بالبلد الذي لم يَعُد وراءهم بلدا، هائما بخرابه الذي توسعه الحرب هائمةً بما يفعله الموت في الحيِّ هائما بالأبدية التي تعَض على روحه هائمةً بالمعنى في الأرض التي تُتلِفُ الحيَّ. أنا الهائم...". فلتغنِّ!

يأتون. وتعرف ظلالهم. كأنما تتدلى عليك من أبد. يأتون من جهة البحر، عبر الطريق الرملي الذي دأبه أن يسعر بجلده الرملي عين الظهيرة الملتهبة، ويدخلون عليك. يتركون صنادلهم منكفئة أو ملقاة لدى آخر الدرجات في سُلَّم العمارة، أمام باب بيتك. يجلسون إليك في الصالة، تحت المروحة. وينظرون معك عبر باب الروشن الذي يتدلى على جانبيه لفقا الستارة التي فيها نبات وطير مبهمة وسماء في الطير تبصرها، كأنما ينظرون منك إلى أنفسهم ليعرفوا أنهم هناك حيث ترى، وإليك غائبا في نظرتك، كي يلحقوا مدى النِّيم والبيضان و" الضي ـ مل "، ويتقروا فلتة الغراب من صرخته المدوِّخة التي تصدأ مثل سِلْكٍ في هوائها، التي يطوق بها خصر الأرض، أو يعلقها قلادة بخسة في لَبَّة المدار، أو يحط عليها أحيانا محلقا بها ومدوما في عدمه الظاهر الخفيض، إن لم يعثر على المراقب.

هلاَّ غنيتَ، يا هذا: ".. أنا الهائم بالهائمين بأيديهم هائمة بالمزاليج هائمة بمعدنها المجنون في الصرير هائما بالصوت في أوله وآخره. أنا الها.... ".

يأتون من جهة الغيب وتعرفهم بسيماهم:

شيخُ الكلام؛ الذي يحكي فتعثرُ على قنديلها، في كلامه، شجرة العناب. تنشر الظلَّ مشويا كمسلاخ بعير في تنُّور الظهيرة، وتأخذ الفراغ سُلَّما ترقاه وتنزله في ذاتها. الرافيا، من منبتها، كثيرا ما تعثر على عتبة فتدبر خطوة صوب البحر تلقي قدما خفيفة في صحوها، وتُبَرعِم، في غمدها، سعفة جديدة؛

الطفلة ذات الحديقة المعلقة في إيمائها وبسمتها. وأخوها زوبعةُ الفَراش والريش الذي لا يخطئ ظلك ولا عبورك المطوي كظل مالك الحزين، يتربص في الساحل ويتناوم فوق الصخر؛ ملَكاك اللذان يحميان خطوتك من لوثة الفلاة، ويعطيانك ترسا موضونة من الرضا والمحبة لا تُفَلُّ. أحيانا يتلقيانك بالزهر الذي يتمنى أن يديمه على كتفيه الصباح ؛

البوابون؛ المنسيُّون في أسمائهم التي تضيق، هنا. يوسعونها بنظرة شاردة، وهشةٍ بالمراوح في الظل، وكلامٍ خفيض يميس خَدِرا كعش الطائر النَّسَّاج في أعطاف الأزدرخت التي تتهدل. لكنهم حدادون. إي! يُحَمُّون معدن اللامرئي في أتون الغيب. يطرقونه صامتين على سندان السهو في الجهة الكَدِرة. ويصنعون سنابك إذ يرفعونها تلمع في الضوء. يحلُمون، ويُسَمِّرونها على حوافر العدم. أليسوا الحدادين؟

ألا فلتغن: " أنا الهائم بي أرِقا كأن لا جفون لي فأغمضَها عليَّ وأرقدَ، وهائمةً بي الطرق هائما بها غباري هائمةً به المتاهة التي لا تحد ولا تعرف ذاتها هائما بها العدم الذي ينكب على جهاتي يطليها لي بفرشاة كبيرة ماحية من عدم مغموسة في طلاءٍ عدمٍ...".

والصامتات. أنسيت الصامتات أبدا؟ المدَّرئاتِ بأفواههن مخافة أن يتكلمن فتنشق السماء من سردهن المر. المطويَّاتِ أبدا كغِطاء الغائب، كشيلانِهنَّ البيضاء التي يلفُفْنها حول أعناقهن إذا غادرن المنزل. الممحوَّاتِ وتعلو في ألبستهن، إذا مشين متأودات، مواسمُ الحفيف. هن المبتلَيات بكينونة ضنك بين البوابة الحديد وإطارها في سور العالم. يَلبثن في الصِيَر التي هي شقوق في الجحيم ولا يتنفس فيها الهواء. خَدَمُ البيوت والأسرة والقسوة المرحة والفرح الأعمى ذي الأنياب؛ هذه الحدائقُ الممتهَنة المنزوعة الأبواب والأسيجة. يصفِّين عزلة في العزلة، ويَحْيَيْن كظل مهمل لشجرة وحيدة في براح. تنحسر الأرض كلها عن خُطاهن كنفثة غبار، كموجة فوق صخرة بازلت ملساء مائلة. وتضمحل السماء. تغدو السماء، في منفاهن هنا، طيَّة صغيرة في الشيلان. وربما لمسنها وتذكرن العالمَ؛ خلاءَهُن القدريَّ الوعر الذي يَركضن فيه منكشفات كخِشْف يطير إلى أجله موجزا ومكسورا في وثبة الفهد الذي يسرق منه مداه وخطوته واسمه وظله، ويكون السماءَ ذاتَها والأرضَ والجهاتِ؛ قدَرا مجنحا في الأرض.

كلهم يفدون على ليلك الذي هو مُلْك. لك فيه عرش عال، وشعب من الأطياف، وخادم واحد؛ الأرق المسرنم. الصمت التاج.

تغطس قدميك في جفنة ذاتك وتهدأ. يهدؤون. يبسطون أكفهم فيظهر في قعرها حجر الصواعق؛ موشورُ الهذيان الكبير. خاشعين، يضعونه بأيد خفيفة في يدك، وينصرفون. أحيانا يغلقون الباب وراءهم من غير أن يتكلموا. يعلمون أنك عثرت على الباب الخفي؛ المرجإ أبدا، الذي وراءه أبدٌ من العتبات مرصوصةً في اللانهاية. وأنك ذاهب إلى نفسك، لتتلقى القول المستور، وتكلمَ الظلال.

ألم تدْعُهم كي يغَنُّوا معك: " أنا الهائمُ بي هائما بالمتاهة هائمةً بي فيها هائماً بها وبالأحباش هائمين بأسمائهم هائمةً بالرنين الذي في حروفها وفي الصمت، ويريدون أن يخرجوا على العالم ولا يعثرون على العالم، كأنما جاؤوا متأخرين إلى مأدبة سرية لم يعلموا بموعدها من قبل..".

تأخذ الحجرَ الذي ينبض بالغيب؛ أمانةَ الأحباش التي لم ينلها من أيديهم سواك. تُقلِّبه عشيةً في آخر الضوء، قبل أن ينزل الغراب بئرا في صرخته المظلمة، وينطفئَ في ريشه كزوبعة يكتمها رَدَبٌ سحيق، وتخلدَ الشجرات إلى ليلها الآخر العميق الذي يفور في دمها ونُسْغِها، نازلةً إلى موقدها السفلي، حيث تربِّي جمرة الغد.

هادئا ومستسلما لما يكون، ترفع الحجرَ
ترى العالم عبر جسمه الذي يُصَفِّيك

ينتثر المرئي في أضلاعه وزواياه السعيدة
فتكون المعجزة:

يكون لك حينئذ أن تكلم، عبر ضوئه، الماوراء
وتكون لا أنت .

*) مقاطع من نص طويل كتبته في جيبوتي بين أكتوبر 2000 وأبريل 2002. عنوانه الجامع: "شمس مضاعَفة فوق منزل الحبش ". عناوين المقاطع غير موجودة في النص الأصل .

جيبوتي، أكتوبر 2000