**
الغربة بالنسبة لي هي ذكرى وعشق،
أحجار، أشجار، طيور وتراب وطني.
يلماز كُوناي
*****
قطيع الوعول يموت من الظمأ
تركنا خلف ظهورنا قطيع الوعول يموت من الظمأ
ألَّفنا قصصاً
وأدرنا وجوهنا إلى المنافي البعيدة خلف البحار
شممنا الغربة فآلفتنا
نسينا ورود حبنا الأول هناك في خزائن الأشجار
ولم نعد نتذكر حبال الغسيل التي اشتاقت إلى ثيابنا
لم نعد نردد كلمة "أمي" العزيزة على قلوبنا.
تيبسنا، جفَّتْ ينابيعنا على طاولات القضاء
أنهكتنا الرسائل،
ليست رسائل الأهل ولا الأصدقاء.
لم نعد نحب تحية "صباح الخير"
لم نعد نحب سعاة البريد.
تركنا خلف ظهورنا قطيع الوعول يموت من الظمأ،
أصابنا الصدأ
ولم ندرك بعد بأننا تعطلنا في منصف العمر،
وبأننا انحدرنا إلى الغياب وأرواحنا تواطأت
مع الخواء والفراغ.
أَنشتاق يوماً إلى عصافيرنا التي تركناها هناك
أَنشتاق يوماً إلى شقاوة الأصدقاء
أَنشتاق يوماً إلى أهلنا وصورة أختنا الكبرى؟!
لم أعد واثقاً،
لم أعد أدرك هذا الإرتخاء الذي في أضلعنا
لم أعد واثقاً من شيء،
لأننا تركنا خلف ظهورنا
قطيع الوعول يموت من الظمأ.
بون 14/4/2002
اشتياق
أشتاقكم
أيها الوارفون بالقسوة والحنان
والانكسار الأزلي
أشتاقكم كمن لدغه اشتياقكم
في ظهيرة قائظة.
أستجمع قواي المتهدمة
أطير،
أطير،
أطير،
ثمَّ لهواء غائم بالشوق أصل إليكم،
يصل إليكم قلبي..
قبلي على حصان الوجد
أو على ترانيم المسافة المتعبة.
بحدَّة الحبِّ أدوس عتباتكم
ولا أراكم.
أشتاقكم
أشتاق إلى طاولتكم الممدودة
كوجه الأرض يوم القيامة
ألعب معكم نردي الأخير،
أخسر،
وأعلم بأني سأخسر
جميلٌ،
جميلٌ،
جميلٌ جداً أن أخسر،
أخسر الدنيا معكم.
أشتاقكم
أفتح أدراج الذكريات
لعلَّ نسمة ريحٍ منكم تدخل
كالعطر،
كالدفء،
كالبشارة،
كالشمس
إلى العين أو إلى أعماق القلب
لعلَّني أشفى بكم.
أشتاقكم
وأعرف بأنكم تبعثرتم،
تزوجتم غرباءَ، غرباءْ،
نساء غاربات، شبقات،
منحرفات،
متعبات ومطلقات.
ابيض مفرقكم، تغضنتم،
ترهلتم،
وفقدتم أزرقكم الشامخ
كوجه الملائكة هناك.
أشتاقكم
أشتاق إلى أقدامكم الضائعة
في التشرد
أو في ثبات المكان المنكمش
كهرٍّ مذعور.
لكنكم ضعتم،
ضيعتم سبيل الوصل،
تجهمتم، تجاهلتم خرائبكم
وانهياراتكم،
لكني أشتاقكم،
أشتاق إلى تقشفكم، بداياتكم،
بدائيتكم ونداءكم السحيق..
لكنكم تهتم
وتصدعت بكم الأحلام كالبالونات
سرعان ما هوت على الأرض.
وفي المفارق ضعتم،
وضيعتُ الطريق إليكم.
أشتاقكم
أشتاق إلى مسباتكم البذيئة
وإشارات أصابعكم المبهمة،
تعتعاتكم وأصواتكم العالية
في وجوهكم ساعة الغضب،
إزعاجكم واعوجاجكم الفاتن.
خطاياكم، آلامكم الكبيرة
وأوجاعكم السرية.
أشتاقكم
أشتاق إلى يأسكم،
إلى بأسكم وسيلان الأوجاع
من عيونكم
إلى زجاجات نبيذكم
إلى عاداتكم السيئة والطيبة
إلى لهوكم بالموت حتى الموت
إلى ألعابكم النافرة وكبريائكم
المتدحرج على أسنان القسوة
إلى لا هدؤكم وعنادكم
وصراع الديكة في أمزجتكم.
أشتاقكم
أشتاق إلى نسائكم،
عفواً نساء مجلاتكم
لذتكم، شبقكم وفضائحكم الباهرة.
أشتاق إلى أعراسكم،
إلى أعراس مناماتكم،
ونومكم مع مراهقة واحدة
طيلة يوم عاهر.
أشتاقكم
أشتاق إلى آخر سكين
شهرتموه في وجوهكم،
وجوه أمانيكم.
أشتاق إلى دمكم
وأفكار الإنتقام في أعماقكم
وإلى بكاء بعضكم على بعض
في منتصف الليل،
وفي منتصف الكرب
تسعفون جراحكم
لم أعد أتذكركم،
لكني أشتاقكم.
أشتاقكم
أشتاق إلى لعناتكم
عليَّ،
عليكم،
علينا،
على آبائكم،
على أجدادكم،
على أرضكم،
على أوطانكم الخائبة بكم،
والمخيبة في كل شيء لكم،
على رسائلكم التي تصل ممزقة
أو لا تصل إلا في الأكفان!
أشتاقكم
أشتاق إلى دراجات أحلامكم،
مقايضاتكم
وثيابكم القديمة والأنيقة
وعطوراتكم البخسة.
أشتاق إلى حيواتكم الآفلة
وملاحظاتكم المشوشة
وخيباتكم المزركشة بالبعد الهارب
وصَرعَات الهيبيين
في هيئاتكم.
أشتاقكم
وأعرف بأنكم تفرقتم،
تقاتلتم،
وصرتم في مهب الإشتياق
لبعضكم بعضاً
أأقول:
لم يفُتْكم الوقت،
ولم يفُتْنا؟
أأقول:
تعالوا معاً يداً بيد ووجهاً لوجه
نعبُّ من زجاجاتنا،
نسكر ونلعب نردنا الأخير
على طاولتنا الممدودة
كوجه الأرض يوم القيامة؟
أقولها:
ملء اليأس،
ملء الحزن.
فاتنا الوقت،
فاتنا الوقت،
فاتنا الوقت.
بون 9/2/2001
الحديقة اليابانية
الأشجار المنحنية
على القوس الأخضر لينبوع الماء
تمسِّد بظلها وجه المسلة
المزروعة فوق هواجس الصخرة
كقامة "يوكو ميشيما"
وكأنها تقود وراءها فرقة فرسان
من "الساموراي"
إلى معترك الكبرياء
وساحة الدَّم.
شعاعٌ من القلب ينخطف كإله
ويمتزج مع النداءات الكثيفة
للعصافير كقصائد "باشو"
أو ترنيمات المؤمنين
في المعابد البوذية المنزوية
في ضلوع الجبال،
أو قرب همهمات الأنهار
هناك.
تدخلُ الحديقة اليابانية
تودُّ أن تخلع نعليك
كأنك تدخل صلاة
أو تدخل جوف ملاك
خلقه الله للتوِّ،
أو كأنك تصير وتراً عاشقاً
يغفو على صدر قيثارة قديمة
بلا تخوم ولا أطرافٍ
تصغي إلى أعماقك
أو إلى العمق الموغل
في الحبِّ،
في
قلب
الحديقة
اليابانية.
الحديقة اليابانية ـ بون 19/7/2002
أوقات
الصباح: قلم
يكتم فضيحة المساء.
الظهيرة: قيلولة
كاذبة.
المساء: استراحة
محارب.
منتصف الليل: هاجس
المرهفين.
حلب 1994
حب
إذا كنتم تحبون
الشمس
فلا تطفئوا قناديلكم
أما إذا كنتم تحبون
القمر
فأخرجوا
مثنى..
مثنى..
متأبطين بعضكم
البعض.
حلب 1994
عقرٌ بامتياز
ما فات كان عثرات
وما يفوت خيبات مزمنة.
يوم انسحبت الشمس
ولد العقل الحديد.
يكتسي الرماد السواد
وفي الظلمة
يولد الطفل الشلل.
منجل يحصد القمح،
منجل يحصد الضوء
الأصابع على الزناد،
طلقة خرساء،
الموت.
بلاغ هام:
العجز في لحاء الشجر،
القطة بدون مواء
جاء الزمن الأصم.
ما فات فات
وما يجيء عقرٌّ
بامتياز.
حلب 20/10/1994
فجيعة النزول من جبل آغري
عندما أراد الجرح أن يلتئم قليلاً
سكتت البنادق أسفل سفح آغري
وغطَّ المقاتلون في سبات
أليم.
انحدروا،
انحدرت أناشيدهم وتراتيلهم
وقبعاتهم المائلة إلى الحلم
انحدرت فوهات بنادقهم متأتأة
تطالب الغفران.
قلت:
أيها الجبل المعني حجراً حجراً،
صخرة صخرة، عشبة عشبة
بهذا الألم العظيم.
الشيخ سعيد، حاجي آختي
سيد رضا، مظلوم دوغان،
والجنرال شريف باشا
المنتدب إلى مؤتمر الصلح
حاملاً مواثيق الكرد في جعبته الأليفة..
كلهم أوقدوا شموعاً فوق صدرك الجريح
وانطفأت أجسادهم
بزعاف الموت وأعواد المشانق.
قبلوا..
لكن قلوبهم كانت تشدهم من الأعماق
ومن لهيب الشهداء إلى السفح،
إلى الجروف الشاهقة،
إلى النار،
إلى الكبرياء،
كبرياء آغري الذي لا يهادن أبداً.
لكنهم نزلوا بقرار ضريرٍ وأعمى
سلموا المتاريس والقبعات والآهات
وفوهات البنادق
سلموا الأناشيد والتراتيل والأحلام
لكن قلوبهم بقيت هناك.. هناك
نابضة تحت أجنحة الصخور
على سفح آغري.
رحيل
للتوت يرحل الندى،
ذاكرة الخصب تنثر
حبات القمح
في بئر النابذة.
للأرض يرحل المحراث،
"ماوية" خصر الفلاحات
وهن يتعرين
تحت رعشة القرِّ.
للأصابع ترحل الأبراج،
فكرة مكوثية،
برهة في ظل الأنوثة
ترتِّق ثقب الغبار.
للأحواض ترحل
أسماك المياذيب،
لذة الكرنفال تفرِّد للغيمة
خمس رقصات
غارقة في المدرجات.
للفضاء ترحل النغمات،
"فيولا" الأحزان تعزف
خيبات ماجنة
للسربلة ماء الوتر
وللسفر عثرات الفكاهة
العمر يغيب قبل المغيب،
ومدينتي المؤنثة تلوِّح
بكلتا نهديها
لزوارق الملائكة
وهي تمضي
إلى حتفها البري.
من أقصى الرماد
إلى نواح الضوء.
مدينتي،
عشبك
يذوي
تحت
خف
الحديد.
عفرين 3/6/1996
في مديح أبي
ما زال أبي بسرواله الفضفاض
وقميصه المطرز من رائحة التراب
وجبهته الواسعة كحقل قمح،
مازال ينظر بعينين
متلهفتين وعاشقتين
إلى أشجار الزيتون الخضراء
ويقيس المسافة بسكَّر الشوق
بين "شيخ الحديد" و"بون"
التي حفظ اسمها عن ظهر قلب.
ما زال يهدر كنهر "عفرين"
صلباً، عنيداً وخشناً
لا يخاف إلا الله
وفراق ابنٍّ آخر.
ما زال بلغته العربية الركيكة
يكر الدعاء
على مسبحة الصلاة
كل يوم خمس مرات
طالباً من الله ألف مرة
بين كل ركعة وركعة
أن يحفظ أبناءه من كل مكروه.
ما زال بسيطاً
ينحني للضيوف،
للصلاة،
ولشتلات بستانه الصغير
ولا لشيء آخر.
مازال يجلس
على كرسيه الخشبي القديم
متوسطاً صحن الدار
يدير الحديث مع ضيوفه بكبرياء
يستمع إليهم بكبرياء
يصمت بكبرياء
يضحك بكبرياء
ويصافح الأفق البعيد..
البعيد
بكبرياء أيضاً.
ما زال يقارن
بين الفراشات والإنسان،
بين الأشجار والإنسان،
بين الحبِّ والإنسان،
بين الشمس والإنسان،
بين الأرض والإنسان،
...................
...................
لكنه عندما يستمع
إلى نشرة الأخبار كل يوم
من مذياعه القديم
الذي لا يفارقه أبداً
تغزو تقاسيم وجهه التجاعيد
وعشرات السنين من الحزن
متمتماً:
رغم ذلك ما أجمل الإنسان!
بون 25/10/2001
فرات
- 1 -
الفرات يسحب غليونه
من أدراج الريح،
يملؤه بالتبغ
يجلس في المساء الهادئ
على حجر قلبي،
يشعل ذاكرته الجريحة
ويستنشق نفساً عميقاً
من الدخان إلى رئتيه،
متأملاً حال الهاربين
والفارين من وجه الطغيان
الذين عبروا قامته
إلى الأرض الغريبة
إلى المجهول..
إلى هناك!
- 2 -
صامت يهدر
بالحزن،
يكتب للتضاريس
شهوة الجبل
ويقتني قصائداً
من العاج
كقصائد شيركو بيكس
ثم يقرأها على المنحدرات
و"أبناء الجن".
- 3 -
يمضي إلى العزلة
كجندي حراسة
يراقب النجوم،
يشحذ القمر والبلاد
ويلتقيان هو والشاعر
أحمد خاني
يتجاذبان
أطراف القصائد.
- 4 -
هو ودجلة توأمان
يتزاعلان،
يتشاجران
ويفترقان..
يشتاقان لبعضهما
البعض
وفي نهاية المطاف
دائماً، دائماً
يلتقيان،
ثم يتعانقان.
بون صيف 2000
مارتِن هايدغر في الغابة السوداء
في الغابة السوداء، في قرية صغيرة ووادعة
كان "مارتن هايدغر" يصغي
إلى أصوات العصافير
وينظر إلى الغيوم التي تعلو الأشجار
بكثافة داكنة.
يقرأ الكتب، ويطالع لوح الأفق
منكبَّاً على أوراقه البيضاء
يكتب أحوال الدنيا وخرائبها
مستدعياً الأزهار والفراشات
إلى قلبه الهائل كضحكة.
في الجهة الأخرى
كان أصدقاءه في الحكمة
يظهرون أمامه كزهور بيضاء
على أغصان الأشجار
ملوِّحين له بقلوب ملائكية وعيون خضراء،
بأشيائهم الجميلة وهيئاتهم الغريبة.
في الغابة السوداء تلك،
كان مارتن هايدغر يشيِّد للفلسفة
والفن بيتاً جديداً.
بون 2001
هاربون عبر نهر إفروس
النَّهر الغاوي، النَّهر الرشيق
والعنيف جداً
النَّهر الذي كان يوهمهم بالفراديس
وجنَّات عدنٍّ تجري
من تحتها ورود الفجر والخلاص،
خيَّب قارب الأمان الذي كان يقلهم
إلى الطرف الآخر،
إلى "أولمب" الحرية
ورماهم على درب الهلاك في طرفة عينٍ
غرباء،
غرقى
تتناوش أجسادهم المتعبة أنياب الأسماك الجائعة
وصخب هدير الماء
دون أن ينتبهوا ودون أن يكحلوا
عيونهم بتلك الفراديس
والجنَّات التي تجري من تحتها ورود الفجر
والخلاص.
* * *
لم يستطيعوا في تلك المحنة
أن يتركوا خبراً ولا أثر،
لم يتركوا سوى بقايا يومٍ دمويٍّ
في سروال النَّهر العنيف جداً،
نهر المشنقة والقيامة والجحيم،
نهر إفروس.
شتاء 1996
حسرة
ليس لي وطن أخطُّ على جدرانه
بطبشور الطفولة:
"عاش وطني".
ليس لي وطن أتجرعه في الصباح
مع فنجان القهوة،
مع شروق الشمس وتساقط الدفء عليه.
ليس لي وطن أكون رئته
ويكون رئتي
أكون بحته ويكون صوتي
أكون الشقيُّ، المشاكس، المتمرد، العنيد
ويكون الحكيم، العاقل، الرؤوف، الواسع القلب.
ليس لي وطن أكتب على نحاس
بيت من بيوته:
هذا بيت حسين حبش
أهلاً بالأصدقاء.
ليس لي وطن أسكر في حاناته
حتى الهزيع الأخير من الليل
أتسكع في دروبه
ويتسكع هو في قلبي
ألبسه ويلبسني
أعاتبه ويعاتبني
كصديقين.
ليس لي وطن...
بون 5/6/1999
بروج
برج في صدور النساء،
منائر.
برج في قبعات الجنود،
شموخ.
برج في عيون الأطفال.
براءة.
برج في رؤوس الملوك،
خوف.
إسن 24/9/1998
هتاف الماء
سبحان من يعظم من شأني
ويسرف في مديح كرسيي العالي
هكذا يهتف الماء في بلاغة محابره
وهو يأوي إلى كرنفال الأزهار،
يصف عذوبته بفتنة النرجس ولذته،
يتوارى في أقواس المكائد
وحمحمة الأساطير
يلقي حكمته البيضاء على الهواء
ويختفي في ملاءات الوردة.
هكذا يهتف الماء
سبحان من يرتمي في تعاويذي
ويوقد سفوحه بالرقص والعراك
في علوِّ القمر.
أنا الماء يضيق عليَّ لهاثي
حين تعبرني نواقيس الرَّجس.
أنا سليل البروق
ولدت من رحم الغيمة
والغيمة طفلة ضلعي
إذن سبحان من يعظم من شأني
ويسرف في مديحي ووصفي.
أرمم نفسي
وأثور على هدوء الرمل
في مدي وجزري.
أنا الماء من رعشة زبدي
انبثقت أفروديت
تتوِّج عرش الأرض بالفتنة.
أرقد على رذاذ الخفَّة
وأغوي نهد التراب برشاقة ظلي.
صهيلي يرسم للمرايا وجوهها
ووجهي رحم الأنوثة
هكذا إذن أهتف لِذَاتي
تراتيل القداسة
وأناشيد الخلق
في معصمي ساعة الميلاد
وفي ذكورتي خصوبة الأشياء.
أرتكب وحدي حماقة الوجود
وأؤطر ليونة الأرض
بالزركشة والعشب
أنا الماء سبحان من يعظم من شأني
ويسرف في مديحي ووصفي.
أنا المااااااء...
حلب 18/8/1995
مساهمات البحر
- 1 -
يساهم البحر في تشكيل الحواف
مرتهناً إلى قوة خياله
وأسراره الغائرة في أعماق الأزل
يجد ضالته في ظنون الرمل
ويحاذي الأفق الذي لا ينضب..
يساهم في تشويه المراكب من الأسفل،
وتغريه استدارات النهود الطافية بشهوة
على رفة عينيه ورموشه المبتلة
بالمناقير اللازوردية.
يساهم في رصد الكائنات الهزيلة،
يبتلعها كوحشٍ يتبدى في صورة المغفرة،
ثم يرسلها منفوخة نحو الشاطئ،
ليتمرن عليها رجال الإنقاذ
وعربات الإسعاف المترعة برائحة الأبواق.
يساهم في تقليب صفحات السماء
يوماً بعد يوم ليثير صدى النجوم
على العتبات الضيقة والمعتمة
كلسان ملتهبٍ ومحروق.
يساهم في استدراج النوارس الهاربة
إلى ملاذات غير آمنة في قيعانه،
ويهمس في آذانها نبوءات مفقودة ومتروكة
تعصف بها الوساوس وهمهمات لا مفرَّ منها.
يساهم في تفعيل أوار الرياح
متَّخذاً من المدِّ والجزر واللطم والتلاطم
أفكار مفتوحة الفم لإبتلاع أوصاف الخوف
والإستسلام.
يساهم في بثِّ الرعشة في عروق المجاديف
المتصيدة لجبهته الهائلة
آمراً إياها:
أوصلي القوارب إلى اليابسة لتشرب الزنود
نخب شجاعتها.
يساهم في إقامة الأعراس في هوادجه،
يزوِّج الأسماك بعضها ببعض
ويقيم شريعة الغاب المقلوبة:
الأسماك الكبيرة تفرُّ
من أمام الأسماك الصغيرة،
وترتكن الحيتان في مواقعها
متَّخذة احتياط الخوف الأقصى!
يساهم في كتابة الشتات الأبعد،
جامعاً هالة الضباب من حول أيقوناته
ولآلئه وحلزوناته وقواقعه الباهرة.
يخلق كورساً من الأشجار
والأعشاب الغريبة
لحنجرته الرخيمة
ويغني أغاني الريح
والشساعة.
- 2 -
يحيا البحر من خصلاته الطويلة،
ومن لمعان شهوته التدميرية.
يحيا البحر من تعريه الأبديِّ،
ومن شيبته التي لا تتبدل ولا تشيخ أبداً.
يحيا البحر من جرحه
الذي يتبدَّى أمام الناظر كوجه الله.
يحيا البحر من لغاته التي لا تفهمها
سوى المراكب وقبعات الصيادين.
يحيا البحر من كتبه وفهارسه ومدوَّناته،
من خصاله وهيئته الفارعة الزرقاء.
يحيا البحر..
يحيا البحر..
دائماً
وأبداً.
بون 16/4/2002
محمود الصغير ينصب الفخاخ للقبرات
إلى أخي محمود في شقاوته
يدحرج القبرات بشغف إلى فخاخه
المموَّهة بلباس التراب وإغراء الأوراق اليابسة،
يتلذذ من وقوعها في مصيدته،
ممتحناً بلادتها وارتجافاتها تحت سطوة لسان فخاخه القاسية
يشمر عن يديه الصغيرتين والملطختين بدم تلك القبرات
والغبار والتين المسروق من كروم الأغنياء.
ينزل كملاك ممتلئ بهالة النور وهالة الجرائم الصغيرة
تحت قبعته المعروقة
وجيوبه مليئة بالديدان وأجنحة الجراد الحمراء.
يجدد ألسنة فخاخه
بعد أن ينتف الريش عن الأجساد المجمدة والمنكمشة لضحاياه
ويتوه مرة أخرى بين الأحراش.
يدوس الوجع بقدميه الحافيتين والمعطرتين برائحة التراب والأقحوان.
رويداً، رويداً تأخذ الشمس أشكالها الإعتيادية في صيفنا القائظ
وتنحني بتمهلٍ نحو الغروب.
يقترب أوان عودة محمود الصغير إلى البيت،
يعود...
وأكياسه المليئة باللحوم الطرية تتدلى بشموخ
على كتفيه المتعبتين
يستقبله أمام الدار:
كلبه، محرِّكاً ذيله
نهيق حماره الجهوري،
بصاق جدته المحكم التسديد،
وَعِيْد أمه،
قطته التي تموء بحدة حول كيس الطرائد
ثم صوت الغضب من داخل غرفة الضيوف
أين كنت إلى هذا الوقت يا .. ؟
...........................
...........................
ترتعد فرائص الصغير من الخوف،
الخوف الذي يخفت بعد هنيهة عندما يلمح همهمات الضيوف
المنقذة إلى حين!
قرية كوسلن الألمانية 1997
دَا نَاني.. دَا نَاني..
عيناي،
كانتا تحدِّقان في الأفق البعيد
وتختاران لك نجمة أو نجمتين..
وكانت الملائكة من عليائها تعلم بأنك ستجئين
مباركة بضياء الله وهادئة كركنه القصيِّ،
كانت تربت على كتفي حنانها باطمئنان
وتقول لي:
قليلاً من الصبر
قليلاً من الهدوء
ستأتي هيفا مكللة بالنور بعد حين.
أتيتِ إذن يا ابنتي
أتيتِ لتسرقي غداً من الشمس تاجها الذهبيِّ
لتوقدي من رموشها مصباحاً لأيامنا المقبلة
أتيتِ لتكوني زينة البيت ونقشاً لحياتنا الهادئة
أتيتِ لتسوي بمكواة الشقاوة التجاعيد عن شرشف القلب
أتيتِ لتقربي المسافة بيني وبيني
أتيتِ..
أهلاً بك
أهلا..
غداً
سأرسم إبتسامتك بريشة العين
وسأحرسك بزنابق الروح المتيقظة
سأتوِّجك ملاكاً في المرآة
سأعطرك،
وبماء السفرجل سأغسل قدميكِ.
ابنتي،
سأشتري لك دفتراً صغيراً ستخطِّين فيه أساطيرك
وسوسن أحلامكِ
وأنا سأدوِّن فيه مراكبكِ
سأسهر بقربك وسأهدهدك بالدفء
سأدندن لك بترانيم النوم
دا ناني..
دا ناني..
دا ناني..
حتَّى تنامي.
طفلتي،
صغيرتي،
حبيبتي..
سأضعك على حنجرتي وسأعلِّمك لغة الأشجار
سأصغي إليك،
أصغي إلى أسئلتك الأولى وأبجديتك الصغيرة كفم العصافير
سأعتني بك
كما أعتني بزهور الحبِّ.
سأزرعك في آنية الكلام
وسأرشك بعطر القصائد.
ابنتي
طفلتي
صغيرتي
صديقتي أهلاً بكِ..
أهلاً بكِ،
أهلاً بكِ في العين، في الروح، في رعشات القلب.
أهلاً بكِ..
بون 8/9/2001
دَا نَاني.. دَا نَاني.. : هي ترنيمة الأم الكردية أمام مهد طفلها،
هي الدفء والشجن والحنان…
انشغالات
يركض في الصدفة
ويستميل الجهات هامساً في قيعانها خفر المكيدة
يتوعد كنسر ينشغل بالأفق..
ويقود المراثي إلى عراء اللهوِّ المبتكر
من أزقة القنص والإصطياد.
يبدِّد الإنقياد وينقاد إلى نعيم الخطر.
يستميل الجهات إلى القيامة متشبهاً
باللهب ومتهيأً للمستحيل
كما لو أنه ينهمر من الغدِّ المبارك
كما لو أنه منذورٌ للمنعطفات الخاطفة
هنا وهناك.
بون 24/3/2003
خريف
يحمل تعبه
ويطارد كآبته كسجين
يخبئ في عينيه
صورة امرأة طاعنة في الغياب.
يضع خلف أذنيه تبغ الغيبوبة
بدلاً من قلم الرصاص المبراة
على شجن البراءة والطفولة.
ينسج بيديه القلقتين
جملته الكثيفة والموجزة:
"حزيناً مرَّ من هنا".
تدهس قلبه عجلات البشر
والسيارات.
يمتهن الفكاهة
ويتكئ على خريف العدالة،
ويكتب للمرة الأخيرة
جملته القاسية:
"حزيناً مرَّ من هنا"
مضيفاً إليها:
... مات مرتين.
بون 27/7/2000
السماء مزرقة الوجه، لكمها الشاعر بالقصائد
- 1 -
أجادل العصافير
في الطيران
أراني أخسر
المعركة
وأطير.
- 2 -
قتلوا نسراً
محلقاً
في السماء
فجاء الشتاء
مطراً
أحمر.
- 3 -
الرصيف أصلع،
تُرى أين
المتسكعون؟
- 4 -
يمشي،
يمشي
ويمشي
ليرد إلى قدميه
الكبرياء.
- 5 -
حين يكون
للشاعر بيت
يبحث
عن بيت آخر
في العراء.
- 6 -
المجنون:
مأواه،
أسماله.
- 7 -
قطاران
مارسا الحب،
أنجبا عربة.
قطاران
مارسا الحقد،
اصطدما وأنجبا
كارثة.
- 8 -
الكلمات
التي كتبناها
على شواهد
القبور
جعلت الموتى
يرقصون.
- 9 -
لا يكترث
بالأغاني
يستمتع بأغاني
العصافير.
- 10 -
السفن:
محض
ارتكاب البشر
لخرافاتهم
في ركوب البحر.
- 11 -
يخيِّط دمي
بالتخثر
ظانَّاً
أنه ينقذني.
- 12 -
أقرِّب السكين
إلى عنقي
ولا أدَّعي أبداً
بأني قاتل
نفسي!
- 13 -
الجرائد:
فضيحة
الموجز
بتفصيل ممل.
- 14 -
ملؤوا جيوب
العصافير
بالمفرقعات
فطارت مذعورة
بلا رجعة.
- 15 -
السماء
مزرقة الوجه،
لكمها الشاعر
بالقصائد.
- 16 -
أنا والقطار
توأمان
هو يسافر دائماً
وأنا أحلم
بالسفر.
- 17 -
معذرة منكِ
أيتها الصحراء
فحياتنا
أكثر جفافاً
من رملك
ومع ذلك
نتهمك بالقحط.
- 18 -
التِّين فخورٌ
جداً
لأنه المخلوق
الوحيد الذي
يطرح
من مؤخرته
العسل.
- 19 -
تابوت لصديقي
قبرٌ لظله
مقبرة لأصدقائي
أصدقائي
الذين يجيدون
الطعن
من الخلف.
أشرس
من الأعداء.
- 20 -
لحية البِحار
زبدها
المدُّ والجزر
قلقها
وما بين الإثنين
تغرق أحلام
الصيادين.
- 21 -
ناموا،
حين ناموا
أدركوا
في الأحلام
بأنهم كانوا نياماً
منذ قرون.
- 22 -
الوحش
الذي شمَّ
عطر الوردة
تأنسن.
الإنسان
الذي داس
على الوردة
توحَّش.
- 23 -
أنا الحزن
من يجلب الفرح
إليَّ ؟
أنا الفرح
من يعرفني؟
- 24 -
كنَّس حلمه
حين
نكَّس رأسه.
- 25 -
رجلٌ بلحية
تُرى لماذا؟
امرأة بعين
واحدة
تُرى لماذا
الرجل حزين؟
دمٌ يتسلق مهب الرغبة
دمٌ يتسلق مهب الرغبة ويعلو جدار الهلع راسماً
خطوط الصلصال على جبين اللهب
وعلى قوس البسالة الممتدة من العراء إلى العراء.
بعيداً من هناك،
من قفطانه الأحمر تنهض الورود
متيقنة بالإزدهار،
تطوف على الأرض قارعة الأمكنة
بالعطور وخلاصات التراب اليانعة،
ممجدة مطارح الفرح العذراء.
أيا هذا الشاهر سهره على ركبة الصمت،
أيها الصامت أبداً، أبداً كمنارة المساء
أية مشيئة ستمسك بتلابيب الضوء عند هذه المنعطفات الهاربة
وأي آدميٍّ سيرفع حشود الفجر على أكتاف الصباحات
في هذه المطافات الغريبة.
نقولها: سنتقدم هذه المرة،
سنتقدم دون تلكىء إلى أمل الغد،
ننقش ظلال الطيور على الرئة الشمالية
سنتنفس الشمال شمالاً
شمالاً
نقياً،
نقياً كأنفاس الأطفال.
سنصعد سلالم الرب دون عكازات،
دون ولائم مغرية على سطوح الزرقة،
ننذر البيوت برشاقة الملائكة
باباً، باباً
وبفتنة العصافير
نافذة، نافذة.
أيتها النساء الباسقات،
يا قرينات الشرفات الضاحكة
داعبن بأوراقكن طوافنا النحيل على نبضات الأقاصي
واحجزن خرائبنا في المراثي القديمة،
لتخفق أرياشنا المهيبة على أرجوحة الهواء
وتتماوج حروفنا على أناشيد الرجاء.
سنأتي محملين هذه المرة بالوميض الأبهى
ودغدغات الغيمة المنبلجة من هديل السماء.
سنأتي محملين برسل الندى
وغبطة الحدائق، نجس نبض البراعم
ونقطف زهور اليقين.
سنأتي عابرين الأزقة والمتاهات والساحات
نكتب على القباب والأروقة:
دمنا،
دمٌ يتسلق الآن مهب الرغبة
ويرغب أن تنبت على مصاطبه
ورودٌ جورية.
دمنا
هلال
يكتمل
بعد
حين.
بون 31/3/2003
عصافير الفجر
أيها الليل
تدرج في الجنون والآثام
لأمنحك القيامة،
وأغسل قامتك من رماد الألم.
نم قرير القلب
لأرفع إليك هواء الخطيئة
وأنزل بكامل أحلامي إليك.
تغلغل في دمي
وأيقظ الأساطير ممطرة
وجارفة في جهة الحب.
كن رهيفاً
وخذ حجر الذكريات.
استنشق غيمتي
وتسكع هادئاً بقدميك الأسمرين
على رصيف الخيال
لأكتب حزني
وأطلق عصافير الفجر
إلى الشمس الهاربة.
بون 8/5/2000
علاقات
الطفل:
صباح، مساء الخير
يا كرز الجيران
الشاب:
صباح، مساء الخير
يا بنت الجيران
البنت:
صباح، مساء الخير
يا ابن الجيران
الكبار:
صباح، مساء
العداوة
يا جيران!
بون 2000
الرحابة الطليقة لأوقيانوس اللهب
نداءات تؤازر نداءات بودٍّ وسماحة
لغة تتكاتف عدالة في سلاسل عنيدة عبر أصقاع الأزل،
تباركها ألسنة وأدمغة حكيمة وعسيرة على الإستكانة
أحمد خاني
فقي تيران
ملاي جزيري.
ملاحم تعبر خطوط الكليِّ الأعظم بنباهة ملك طاووس ورهافته،
خيالات بعيدة وكثيفة تمعن في الفضاء الأزرق
لشعبٍ يعبر حدود البرزخ في أرتالٍ متدفقة،
لعبر لا تموت.
هناك يدققون بنظر ثاقب في الكواكب المتناطحة
كالثيران في فصاحة الأرض
المرعبة والمرتعبة في آن،
تارة بالتمرد الصقيل وتارة بالجلوس المُتَرَقِّب،
التراب، الذَّهب هنا،
هل مرَّ الأجداد ثانيةً؟.
يسيل الحبر كشفاعة في الميدان،
كنافورة كونية في الريح المقابلة
للهول على اللَّوح الأكثر اكتنازاً بالتقوى والجذور.
يكتبون:
كاساي
خالدي
ميدي
كوتي...
كأن للحسرة التي تنخر في القلب كرصاصة مدوية في الصمت،
مستهدفة ما يقابلها من الرحابة الطليقة في أوقيانوس اللهب
المتفجر إستعادة
لن نموت ما دام السمرمر
فينا.
تعالوا إلى الإحتفال، نوروز نهب للكسل المتلبس
والملتبس في عيوننا.
تعالوا لنرقص بالأبيض والأخضر والأحمر
والشمس المُحرقة في منتصفها.
هامات الجبال تتدلى وكأن العراك يتقدم في التناوب الحرِّ
مستقدماً الخواص العالية لخصالنا وأفكارنا المقلقة لهم!
تعالوا
كاوا سبارتكوس الكُرد
تعمدوا في ماء مطرقته ورحابة ناره
تعالوا
لنزاول التراجيديا
وندخل مع الإغريق ـ بعد حربٍ دامية ـ في صفة الحبِّ
تعالوا
اندحر جبروت الإسكندر الكبير ذي القرنين المفتولين
وبقيت أبواب ميديا منيعة تفوح بنار
الثورة والقيامة.
بون 2000
-------------------------
إشارات:
1 ـ أحمد خاني، فقي تيران، ملاي جزيري: شعراء كُرد كلاسكيين، كبار.
2 ـ كاساي، خالدي، ميدي وكوتي: قبائل كردية، قبل الميلاد.
3 ـ كاوا: بطل أسطوري كردي.
4 ـ نوروز: رأس السنة الكردية.
تراتيل أمي
1 ـ ترتيل الرؤية:
في هذا الصباح، كانت أمي تجلس في البيت وحيدة
ترتِّق بنطال أخي محمود الممزَّق من شقاوة البارحة
انغرزت الإبرة في إصبعها، سال الدم حارَّاً على الخيط، تلطخ البنطال
وتشوَّشت أفكار أمي.
أَقْسَمتْ لأبي ولكل الجيران،
إنها رأتني أو رأت ظلي أو رأتني دون ظلي أمرُّ أمامها هذا الصباح
وحين رأتني كما قالت،
ارتبكت من اللهفة وكادت أن تعانقني
لكن الإبرة خانتها وانغرزت في الإصبع.
أرأيتني كنت حقاً هناك،
أم كان قلب أمي؟
* * *
2 ـ ترتيل الشوق:
أمي
ثلاثون عاماً، وأنا مازلت أركض حافي القلب
كلما وجدت امرأة تلبس فستاناً طويلاً، أو تضع على رأسها شالاً أبيضَ
أناديها: أمي، أمي،
أمي..
ثلاثون عاماً وستة آلاف ميل الآن
منفياً من الورد، من إشراقة الصبح ومن وجه الملائكة،
وجه أمي.
ثلاثون عاماً،
كلما كتبت عن امرأة، أو كلما رسمت صورة لامرأة
أراني أكتب عن أمي، أراني أُلَبِِّسُ الصورة ألوان أمي.
ثلاثون كفناً، ثلاثون قبراً، ثلاثون...
أداويها بالأمل، بالإطمئنان، كلما وضعت رأسي
على صدر أمي.
* * *
3 ـ ترتيل الشغف:
الرقيمات المرسومة على جدران بيتنا الطيني،
الكحل الأصفر للباب،
صورة العائلة المعلقة باعتناء قرب صورة للإمام علي،
بقايا الوشم على صاج الخبز الحديدي،
الحجر الكبير الهادئ أمام الباب والمتأهب دائماً لإستقبال الضيوف،
الرفوف الضاجة بالجرائد القديمة،
المصباح الذي يتفلسف كثيراً بلسان ضوئي طويل،
السجادة المعلقة دائماً للصلاة،
الضحكة المقدسة التي أدَّت كل هذا الشغف، وكل هذا التعب،
هي ضحكة أمي.
بون 2002
ذات
يجهش بالأحلام المقتبسة بمهارة من شهقة الشرود
ويساوي بين الأخطاء وارتقاء سلالم العصيان
يتعمَّد بقرط الغيبوبة ويغتسل بأنفاس الضلالة
مانحاً إياها حاشية واثقة للغرابة والإستدارة.
يكحِّل القلب بالبهجة ويوسِّع أفق النبضات
يفتن البحيرة ويتوغل في الإحتدام
لئلا تنشف طمأنينة الرمل.
ينسى الهدوء ويلتاع إلى الإختراق كسهم عاشق
في شهيق الأفلاك.
يا للجرح ما أجمله في برزخ الإرتواء
يا للترنح بنشيد الإستيعاب
يا للذات الجليلة في هدير العاصفة.
بون 24/3/2003
دموع هيفا
هيفا
تبكي من الصباح إلى المساء
في كل دمعة من دموعها
تنبت زهرة.
أنا وهيام
نملك الآن حديقة أزهار
في البيت.
بون 8/5/3003
ينبوع
الأم تُرضِّع طفلها،
ثدياها ينبوع.
الأنثى تمنح حبها بلا مقابل،
قلبها ينبوع.
العصفور يطير في الأفق،
جناحاه ينبوع.
القلم يرقص على الورق،
حبره ينبوع.
"رأس الشاعر المتدحرجة
في وسط الساحة،
ينبوع".
إسن 30/11/1998
مدارات الاغتباط
اغتبطي يا كائنات المديح فإننا ورثنا عتبات الأوج
بمدائحنا الأرجوانية للينابيع
وشرايينها التي تغرف من أخاديد التراب
جرحاً مسفوكاً في الحقول والبساتين.
اغتبطي فإننا خلعنا المحاريث وارتطمنا بالأفق
نعلِّي مصير الزرقة من فوق الأباطيل،
نزوِّدها بتيجان الشهوة وقناديل الفراغ المزدحمة
بالأحلام المتلألئة ومرجان النوم.
اغتبطي فإننا اختبرنا الموت في شروده
واقتحمنا لهوه بثقة العشاق
نحمل رعشة النبات في الأعماق
مروِّدين قطيع النهر إلى حكمته
من فمه الأملس ومن غشيانه الأشقر.
اغتبطي يا عروش الصقور
فإننا ورثنا الأبراج العالية من أختام البنائين
وأقاصي اليقظة، ننقضُّ على الظلام
ونقفل على عمائه المسالك
ونكون الدليل إلى الفجوات والأرخبيلات
المفتونة بالعراك والدويِّ الذي تحدثه
جدران أعماقها الهائجة.
اغتبطي فإننا نوالي الخفقان في ضرباته
السريعة
وهبوب خطواته المختالة
من رنين الإغواء ومن قدوم كماله
من مطالع المشيئة،
نهيء له الظل الأثير للروح.
اغتبطي فإننا نؤرخ هبات المصادفات
من خزائن العدم ونعثر على محبرة الخفيِّ
نكتب بيانات البرق على ميزان
النهاية المشغولة
بإنجاز ما لا ينجز
وإمساك ما لا يمسك
وحفظ ما لا يحفظ.
اغتبطي يا أنفاس الرعد فإننا ورثنا
كيمياء الكواكب من زقاق الخيال
وصداقة البرق وأجواء نعمته
الطاغية في سقوطه المتعمد
على وجه الصخور المربوطة
بعناية الله غلى سفوح الجبال.
اغتبطي فإننا عمَّدنا الأمواج بملاءات الإوز
وأعناق البجع في إحتفال باسط الذراعين
أمام إتساع البحر ونهبه المتسارع.
لا ميثاق يوقفنا ولا إجفال يغمض
أعيننا المترصدة
للذبذبات اللاهثة في نهاية السرِّ
والفجاءات المرتجلة من الأعالي إلى الخضم.
اغتبطي فإننا قلَّصنا المسافة بين السماء والأرض
وحلجنا قطن المسرات لأعشاش الطيور المرتعشة،
لا تخبط ولا خوف بعد الآن،
لترقد أرياشها في أمان باذخ
وترف مطمئن وطويل.
اغتبطي يا خيام الغفوة فإننا أرهفنا السمع للغيِّ
واحتدمنا مع البطش
نقاومه ويقاومنا،
نعانده ويعاندنا..
حتى أوصلنا القمم إلى القمم
والجهات إلى الجهات
وربطنا الهواء بالهواء..
موقدين فوانيس المشارف البعيدة.
اغتبطي فإننا نثرنا الزنابق على الجسور
وتماهين مع بهاء الشهقة
في طلوعها التنكريِّ من خيلاء المعنى،
نخوض معها تجربة الألفة
على منعطفات السماء السابعة
نفتح مشيئة الأقدار.
اغتبطي فإننا عرينا اليأس من مشاربه
وخلعنا أنياب النمور الشرسة،
أنذرنا الرقباء وأقمنا مأدبة الياقوت
فوق كمين الخسارات.
اغتبطي يا الرغبات
يا لجسارات
يا الأقدار
يا المصائر الهائمة في مجاهيل
القلق
والسؤال
والجنون
ا غ ت ب ط ي...
بون 2/4/2003
حسين حبش: - شاعر كردي سوري يقيم في ألمانيا.
- له "غرقٌ في الورد" شعر
إصدارات دار ألواح (مدريد) ودار أزمنة (عمان). - البريد الالكتروني: husseinhabasch@maktoob.com
|
هاربون عبر نهر إفروس: دار سنابل/ القاهرة 2004
إقرأ أيضاُ