• ممر...إلى القارة السوداء
  • وصية فرجينا وولف
  • البحث عن ضالة إيروسية
  • أعيدوا العد، ولا تنسوا سافو
  • بوطيقيا قبيلة الأنثى
  • تهريب الذات من النص
  • نسيان " الأنا " في المنفى الحقوقي
  • عضلة ناعمة
  • تناص بالديني .. لواذ بالمطلق
  • اسفكسيا الخنق
  • "هيت لك"
  • المثلي كرد على أسطورة الذكوري
  • سدانة القمر، مهمة شعرية
  • نسوية من أجل الشعر
  • كرزة حمراء يهصرها رجل معتم
  • محمد العباس
    (السعودية)
    m_alabbas@hotmail.com

    ممر...
    إلى القارة السوداء

    ممر إلى القارة السوداءالمرأة " آخر " يغري بالتماس معه على قاعدة الإنخطاف بالأنثوي، فهي محل الإنفعال، كما وصفها إبن عربي، ذات تولّه، بما هي ميراثه النبوي، وعشقه الإلهي، حسب تعبيره، فهكذا يعمل فعل الخيلولة البشري ليؤسس متكآته الطوباوية، حتى يستسلم إلى إستنتاج ذكوري شخصي، مرده خبرة حسية بالضرورة، ازاء كائن يهب الوجود بغامض حضوره، معنى شعريا قوامه الوعي والمتعة. ألم يقر نيتشة، بأن الحياة امرأة!؟

    وبالتأكيد، لا يتفسر هذا " الآخر " المتمادي في تشظيه، عبر صيغة أحادية البعد، فالشاعرة كوجود، وليس كتصنيف حاد الحواف الجنوسية، لا تختصر مفهوم المرأة الخالصة، وبالتالي لن تكون منتهى ذلك " الآخر" . لكنها بالضرورة أحد الممرات السرية إلى تلك القارة السوداء، كما وصفها فرويد، ذات حيرة نفسية.

    إذا، فالشاعرة مفتاح لذات تحضر بنص عميق الإنغراس في التاريخ، تريده مستقلا، أو خالص النوايا. وبإغوائه الأنثوي تقترح تصميما مضادا لعالم مغاير، بما هو حياتها المعاشة وليس الافتراضية، الأمر الذي يفرض على الدرس الألسني مهمة الكشف عن الأسس التاريخية والاجتماعية والنفسية لعملية إنتاج ذلك النص، للوصول إلى شكل الكائن الجديد، الماكث خلف تشكيلته الخطابية.

    هذا النص الشعري الأنثوي هو خطاب متعدد الأبعاد، ينهض على بنية فكرية، وهو صادر بالضرورة عن ذات فكرت فيه وأنتجته ضمن بنية تفكير أنثوي، كما يتوضح من تماسه بتاريخ الأفكار، أي في الأوهام الإتصالية، وفي الصدى المنفلت من كل تحديد تاريخي، حسب تعبير فوكو، بمعنى البحث الاستنباطي وليس التقريري المباشر، عن افتراضات تشكله من وراء قصدية تلك الذات المتكلمة، والوقوف على نشاطها الواعي، وما كانت ترغب في قوله، ولم تتمكن ، ليستعاد ضمن بنية التجليات اللاشعورية.

    ولا شك أن محايثة الأنثوي بالشعري، هو المدخل إلى فتنة هذا " الآخر " البشري من حيث علاقته بفتنة التعبير اللغوي، أي الإحتفال بالمتخيل الجسدي الفكري عبر جمالية الخطاب الشعري، بما يولّد كنص شعري من أنوثة مضاعفة، مدبرة في أصلها التكويني من مزيج الكتابة والجسد، ومؤكد لسلطته بسطوة الأنثوي، كحيلة عاطفية، أو استعارة هي مشروع الشاعرة الحضوري، أو أوتوبيوغرافيتها الفاقعة.

    هكذا تتأهل الشاعرة لتمثيل ذلك " الآخر " ولكن ليس بزعم كلياني، ربما لأنها كائن ذاتوي النزعة، أي من أولئك الذين لا يهابون الألم الإنساني، ولا تغريهم المنافي الموضوعية ، إذ لا تجهل، ولا تريد أن تنفى من جسد تعيش فيه، فهي من الذوات الفردية التي تسكن المناطق الأكثر تعذرا على التجاوز، بتعبير جاك دريدا، وتعيش الحياة، كما تنم ملفوظاتها، كحركة معاكسة للحكاية، بما هي الصيغة الأفقية لحراك الكائن، حيث يتصعّد الجسد مكانا مضادا لمنفى النص.

    إذا، هي تعين على فهم الكيفية التي تعمل بها تلك " العضلة الناعمة " في ديالكيتيك الإمحاء المتبادل بين المرأة والرجل، من حيث إلحاحها على ضالة إيروسية، قد تتناساها لحظة الإنفعال بمنفاها الحقوقي، ولكنها لا تتخلى عنها بحال عند تناصها بمطلق الديني واحتمائها بالصوفي، وحتى في التجادل الحسي بمخترعها المثلي الوسيط، أي ذلك الحيادي، الذي يتمرد على فعل التأنيث كرد على أسطورة الذكوري، لتجاوز الإعتيادي، ذهابا إلى العشق المحرم.

    وبالنظر إلى تماسها بأعظم اختراع إنساني وهو اللغة ، يضاعف لها اللسان قدرة تمثيل المرأة بمنسوب قابل للتصعّد، لأن المنزع الإيروسي كإشباع ( روحي/جسدي ) يتحقق عبرها، ففي وجودها الأنطوقي، كما يتمثل نصا شعريا، تختزن أقصى طاقة ممكنة لإرادات المرأة الشعورية، وإعتقاداتها العاطفية، ومبتغياتها الحسية، فالنص الشعري الأنثوي يهب مقابله الذكوري شفرات معيارية هي بمثابة المفاهيم الحقوقية والنفسية والشعورية لذلك الكائن.

    ولأنها لا تتحرك بمعزل عن الحب الذي تجهد لتوأمته بإغوائية الشعر، تحقق ضمن ذلك المعمل ( الشاعرة ) الكيمياء البشرية بكل معانيها، فالحب بالنسبة للمرأة/الشاعرة ليس فكرة افتراضية، أو مجرد خلفية يمكن أن تتسير الحياة على احتمال حدوثها، إنما هو الفاصل الطوباوي الأجمل من حياة واقعية مديدة، وشرط وجود، أو هو كل حياة المرأة، حسب مقولة مدام دي ستايل، بالنظر الى أن المرأة، حسب الخبرات الحسية للعاشقين، لا تبلغ كمالها الأنثوي، أو أقصى تطرفاتها الإنسانية إلا عندما تحب، وهنا سر الوله المودي بها إلى الرهبنة ، أو منع ذاتها من التداول، فهي كذات عشقية مغالية في النرجسية لا تهب نفسها إلا لذات تشبهها، تستحقها، أو تموت دون ذلك.

    هذا ما تعتقده بوطيقيا الأنوثة، فالحب المصعّد إذن هو الذاكرة، وبالضرورة هو أوتبيوغرافيتها، ووثيقة حضورها، وتاريخها، وهو ماء الحياة وروحها، أو هذا ما يحاول النص الأنثوي التأكيد عليه بنبرة واحدة، ومن حناجر مختلفة تاريخا ومكانا وعرقا، فهنالك قبيلة أنثوية ممتدة تتوارث مكنوناتها عبر نظام شفرات إيروسية، ومتعاليات نصية، بمثابة البوطيقيا المدبرة من لهفة إيروسية أصيلة يراها جورج باتاي بمثابة الإقرار بالحياة حتى الموت.

    إذا، هي لا تؤمن بنص خارج ذلك الإلحاح الإيروسي، مهما انتمت إلى قضايا وعناوين حقوقية، فالعالم بالنسبة لها مكان فائض الذكورة، وهو بحاجة إلى لمسة إستئناسية منبثة من شعرية الأنثوي، شخصية وعبر-جسدية بالضرورة، لأن جسدها هو عين صفاتها، فالمرأة التي تتقدم ناحية السرير متخففة من كل ملابسها عدا قلادة، كما تفعل البشتونيات مثلا، لا تقوم بفعل التعري الإغوائي بمجانية، بقدر ما تنجز فعلا شعريا بامتياز، على اعتبار أن القصيدة تفعل وتعاش، وقد تستحيل إلى نص مكتوب، يستحيل بفعل التراكم إلى خطاب لا تحدّه الألفاظ بل يتجاوز ذلك المؤطر العباراتي إلى دلالات فكريه، وفلسفة جمالية ليتأسس على مزيج من الصورة البصرية، والتمثلات الإيمائية، والتعبير الحركي.

    هكذا هي المرأة شاعرة في كل حركة من حركاتها، إيروسية في كل سلوكياتها، في اتكاءتها، في طريقة لبس وخلع ملابسها، في تمايلها، في كلامها، بل حتى في شكل موتتها، والعكس، أي كل شاعرة هي بالضرورة مشروع إمرأة تنفني جسدا وروحا لتلتقي بشروط كمالها، إذا ما تجاوزت لغتها المختونة، وكفت عن تهريب ذاتها من النص.

    هنا يكمن سر مصادقتها لأنا مقهورة، مستدعاة على الدوام في النص الشعري الأنثوي تحت مظلة لغوية من الكآبة الكثيفة، لمنع ذاتها من التداول، وللتجابه الحاد مع أنوثة باهظة تسلمها على الدوام إلى حس مفرط للإنجراح، وإلى نزعة مازوخية متأصلة تراها هيلين دوتش ضرورة لتطور الأنوثة عند معشر النساء بوجه عام.

    إذا، قد تختصر الشاعرة المرأة، أو تستعير مستوجباتها الإنسانية خصوصا عند النظر إلى المكانة التي تطالها اللغة في المجتمع، وورطة علاقتها بمفهومي السلطة والأيدلوجيا، في عالم متشكل أصلا بالممارسة الإجتماعية، وبما هي - أي اللغة - خطاب أيضا تتبناه المرأة كشكل حضور، وكممارسة تتحرك داخل جدل البنى والمؤسسات الإجتماعية، أي كصيرورة اجتماعية متحركة، مشروطة بمتطلبات لغوية وأخرى من وراء نظامها أو خبراتها اللغوية، بمعنى أن نشاطها اللغوي ليس مجرد انعكاس تلقائي للممارسة أو شكل التناظر المبسط ما بين اللغوي والاجتماعي، إنما يمثل أحاريك حيوية لا تنفصل عن تلك الصيرورة.

    وبتحليل الصلة ما بين النص الشعري الأنثوي كنتاج وبين شروطه وسياقاته المتعددة يتحقق ذلك التقدم حتى خارج الحدود المتعينة والبنى المعرّفة، من خلال محاولاتها بالشعر لأنسنة اللغة كرد فعل على تذكيرها ، بما هي ضرب من " الفعل والحركة والفكر والتفكير والوعي واللاوعي والتجربة والعاطفة " بمفهوم جاك دريدا.

    وهكذا يجد نصها حراكه في حيز الحرية، على اعتبار أن الكتابة مشتقة برأي رولان بارت من حركة دلالية تصدر عن الكاتب، وتلامس التاريخ بشكل محسوس، وإن لم يصحح نصها الشعري خطأ تاريخيا مفجعا، لكنه بالتأكيد يحفظ لتلك الذات الشاعرة حيوية الحضور، ويهبها شهوة الحياة، من خلال نص، أو فن يشتهي الحياة بتعبير نيتشة.

    ويبدو أن لسان المرأة أو لغتها المرحّلة اليوم كنسق من العلامات إلى سياق الكتابة الشعرية، هي مهمة الشاعرة لإعادة المرأة إلى الكتابة،حضورا بها إلى قلب الحياة، ففي النص الشعري الأنثوي تتجلى تلك الرسالة عبر الدعاوى الحقوقية، والحضور العاطفي، حيث التصعيد الصاخب لذلك الهاجس والوصول به إلى مرقى القيمة، وهو ما يفسر مراوحة ذلك الكائن المقهور ما بين الإحساس بالدونية أو التواري في هامش الحياة عبر ميكانزم " عقلانية النفي " وما بين سعار البارانويا الصريحة في ذلك النص.

    ومن هنا جاءت المحاولة لتمديد هذا الكائن على أرض الواقع بدل القذف به في متاهات التاريخ، أو هوس التدليل والشروحات، فمعيارية هذه المحاولة الإستكشافية، لا تعتمد المجادلة أو المفاضلة بأي اتجاه، فتاريخ المرأة الشعري هو تاريخ الإنسان، وعلى ذلك جاء الجهد توظيفيا لمركبات منهجية بخبرات شخصية، بعيدا في دلالاته الإنسانية والإبداعية، لوعي ذلك " الآخر " الذي لا يكف عن وصف مهمته بالشاقة بالنظر إلى كونه إمرأة، وأيضا للوقوف على الشكل الذي يبدو فيه الرجل كآخر مذكر في مرآة الأنوثة، فلا وعي للرجل بنفسه، كما يقرر بويتنديك، ما لم يدرك كم من ذلك الأنثوي فيه، أو كم يحتاج من ذلك الفيض ليكون رجلا طبيعيا.

    وصية فرجينا وولف

    للشاعرة، نص سراني مغيب لم يأخذ حقه في التمادي التعبيري للوصول بالأنا إلى حافة المطابقة مع مركباتها الروحية والجسدية، نتيجة خضوع المرأة إلى واقع قاهر كان هو المسؤولة عن صوغ هوية التجربة الشعرية الأنثوية، إذ غالبا ما كان يسلمها ذلك المؤطر الوجودي الحاد، والذي يتبدى في صيغة " وأد عاطفي " إلى الرهبنة، أو الصمت، وربما الجنون، وقد يصل الأمر أحيانا إلى حجب ذاتها، أو منعها من التداول إنتحارا، فيما يشبه الإتلاف المبرمج لكائن هو ضحية لما يعرف نفسيا بطقوس " أزمة الحياة ".

    وكما آخت أملي دكنسون ( 1830 - 1886 ) الموت - ذات قصيدة - في عربة، وثالثتهما الأبدية، لا تمل أيقونة تيار البوح الأمريكي آن سكستون ( 1928 - 1974 ) من التلويح به على الدوام ، ففي قصديتها " أغنية بسيطة للمرأة العزلاء " تستزرع ذلك الهاجس دون مواربة ولا احتشام، حتى تتهدج به مصيرا " في نهاية الأمر، دائما الموت " ربما بسبب إصرارها - كإمرأة - على أن تكون المعادل الإنساني لكل ما هو عاطفي، فهي تنتمي إلى فئة بشرية فارطة في حسها الرومانسي، تعشق الموت وتعتقده حد التوله بجماليته منذ لحظة ولادتها، حيث يكون ملهمها ومآلها المدبر في مخاطبات شعرية دون احتراز ولا تعقيد.

    هذه هي سمة الكائن الذي يصعّد العشق، من الوجهة العاطفية، إلى مرقى القيمة، فالقلب بتصور بول ريكور، هو لحظة الضعف بامتياز، الذي يستبطن بداخله لاتناسبات كلية تبلغ أوجها في لا تناسب السعادة والطبع، وهذا ما تتمثله الشاعرة بصراحة لفظية أحيانا لتكون المفردات هي موضوعها، فيما ترتد الكتابة إلى تلك الذات بنرجسية فائضة، تجهد لتحريرها من ضغوطات القهر الإجتماعي.

    ذلك هو ما يدفهعا إلى محل نفسي يسميه رولان بارت " طهرية الصمت " أو التماس حيادية صارمة هي درجة الصفر في الكتابة، التي تبدو في ظاهرها بريئة، لكنها عكس ذلك، فالكتابة بالنسبة للشاعرة تحمل حقيقة مزدوجة، فهي من جهة تنشأ عن المجابهة بينها ككاتبة وبين مجتمعها، ومن جهة ثانية تنشأ من غائية إجتماعية، وهي بالتالي ترمي في حيز الحرية.

    يتأكد ذلك المآل التراجيدي بالدلالات الأدبية، والشواهد التاريخية، فقد تأخر الإقرار باستواء " مخيلة أنثوية " مستقلة قادرة على الإنفكاك من سطوة المخيال الذكوري ووصايته، رغم الدعاوى بوجود ميراث شعري نسوي ضاع أكثره بسبب القمع الذكوري، فالشاعرة كمعادل فني ونفسي للبكاءة، لم تنتج من الشعر الرثائي النوعي ما يؤكد تفوق شاعرية المرأة في هذا المنحى، بقدر ما أهدرت أنهارا من الدموع ، والخواطر، والنصوص التي تفتقر إلى القدرة على الدّل، بل أن ذلك الطقس تحول مع الزمن إلى فن تمتهنه الندابات، ويعكس ثقافة المرأة وعقليتها، وهو فن المراثي الشعبية " العديد " الذي صنفه عبدالحليم حنفي كحاصل لتلك الثقافة الأنثوية والعقلية وتراكمية عوامل التكوين.

    وعلى ذلك العوز يمكن أن يدرج النص الشعري الأنثوي ضمن خطابات يراها فوكو " تعاني من قصور ذاتي وعطالة جوهريين، وأن الصدفة وحدها هي التي احتفظت لنا بها، كما رعتها عناية البشر وأوهامهم، فتلك الأوهام، التي يكونونها عن أقوالهم تذهب إلى إعطائها قيمة واستحقاقا يرفعها إلى مستوى الخلود، غير أنها لم تعد تمثل سوى أشكال وتعابير خطية تتكدس في المكتبات غارقة في سبات عميق، منذ أن تم التلفظ بها ودخلت في طي النسيان وطمس الزمان معالمها".

    وما تلك النصوص الأنثوية التي تراها الناقدة الدانماركية فيل دالروب، من ناحية إحصائية، تقارب الكم المنتج بأقلام ذكورية، سوى إضافات كمية ، فهي لا تعني أي شيء، رغم محاولة الإيطالية دوناتيلا بيزوتي مثلا لتأكيد القدرة الأنثوية بكتابة قصيدة مكونة من ستمائة بيت. ولكن فوكو لا يقطع الأمل، فمثل هذه النصوص قد يحالفها الحظ فتحيا ثانية " وتنبعث من جديد، حينما نصادفها في قراءتنا، أو قد نعثر فيها على علامات تأخذ بيدينا إلى مرحلة صياغتها ونسترشد بها في اكتشافها، وحينما نفسر رموز تلك العلامات، قد يحالفنا الحظ في أن نستخرج منها بواسطة تذكر يخترق الزمان، دلالات وأفكارا ورغبات واستهامات دفينة".

    والمهمة الأصعب هنا برأيه، يكمن في مفهوم " الندرة " أي البحث في نص كبير متجانس لم ينطق به أبدا، ويخرج للنور لأول مرة، كما كان في نية تلك الفئة من البشر أن تقوله، لا انطلاقا مما نطقوا به أو كتبوه، ولا انطلاقا من خطاباتهم أو كتاباتهم فحسب، بل ومن المؤسسات أيضا والممارسات والتقنيات والموضوعات التي ينتجونها، فكل خطاب يخفي في داخله القدرة على أن يقول غير ما قاله، وأن يغلف أيضا عددا كثيرا من المعاني، وهذا ما يسميه وفرة المدلول بالنسبة للدال الواحد والوحيد،الذي يشير إلى امتلاء الخطاب وثرائه.

    ويبدو أن الأمر، برأيه، لا يتعلق باستنطاق الصمت المحيط بعبارات ذلك الخطاب وإرغامها على الكلام، أو باستكشاف كل ما أرغم فيها أو بجانبها، على الصمت، ولا يتعلق الأمر أيضا بالبحث في العوائق التي حالت دون ظهور هذا الاكتشاف أو ذاك، أو تلك التي ساعدت على تكريس هذه الصيغة أو تلك، أو على كبت هذا الشكل من التعبير، أو تلك الدلالة اللاشعورية، أو هذه الآلية الآيلة إلى الظهور، بل بتحديد منظومة حضوره محصورة، فالتشكيلة الخطابية، ليست كلها متنامية ذات دينامية أو سكون خاصين بها، تحمل في أحشائها، في شكل خطاب لم يصغ بعد، ما لن تقوله أو ما لم تقله بعد، أو ما لو قيل لناقض أقوالها.

    إذا ، هنالك ما يشبه الخرافات الثقافية التي تحتاج إلى إثبات وتدليل، فقد روي مثلا عن ستين شاعرة عربية قبل الإسلام، كما يؤكد محمد جميل بيهم، وهو الأمر الذي عالجته رغداء مارديني في دراستها النقدية " شواعر الجاهلية " حيث استحضرت حياة شاعرات بلغ عددهن ثلاثا وستين شاعرة بين مقلة ومكثرة، مقرة بمعوقين على درجة من الدلالة: أولهما ضآلة الأخبار حول حياة الشاعرات، وثانيهما عدم ظفرها إلا بمقطوعات قليلة من شعرهن ، الأمر الذي لم يتح لها ترجمة لحياتهن، رغم اعتمادها على ركام هائل من المراجع التراثية الهامة.

    وإذ لا يمكن التشكيك في وجود هذه الوفرة من الأسماء، يصعب الركون إلى كفاءة المنجز المصادر بسطوة الذكورة، رغم أن لفاطمة المحسن رأيا فطنا في هذه المسألة يطال حتى الأسباب التكوينية، فالذي أضاع إسهامة المرأة الحقيقية شعريا في الفترة الجاهلية، كما جاء في دراستها " مرجعية شعر المرأة العربية - تقاليد الرثاء في القصيدة النسوية " ينطلق من أسباب وجيهة وليس من التفرقة بين الذكر والأنثى، كما يحاول النقد النسوي تعميق الحفر في هذه الخاصرة اللينة.

    هنالك إذا زاوية تحليلية أكثر أهمية، وهي الكيفية التي يكتب فيها التاريخ كأمثولة، فالتاريخ، بتصورها، لم يكتب إلا على هذا المبدأ، بالنظر إلى أن الشعر عند العرب رديف تاريخهم، وما كان أمام النقاد ومصنفي الشعر في عهد التدوين الأموي سوى أن يخلقوا من الخنساء وشعرها نموذجا أخلاقيا، عبرة تاريخية للنساء من بعدها، فهي تكتسب إحترامها من فكرة كونها بطلة قصة ميلودرامية تثبت ركنا من أركان الفضيلة الإجتماعية، بيد أن اللافت في الأمر، أن أغراض هذا الشعر ومضامينه لا تدل على أنه شعر نسائي، فهو فقير في الشأن الشخصي والحميمي الذي يميز شعر المرأة على مر العصور.

    وعند النظر إلى ديالكتيك " التجربة والأثر " تبدو الأرقام مضللة، إذ لا يصمد الطابور الطويل من الشاعرات الأمريكيات مثلا عند اختبارهن على محك الشعرية، رغم حرية التعبير المكفولة لأصواتهن حد الفوضى، تماما كما لا يبدو أن للستين ألفا من الشاعرات الأندلسيات أي قيمة أدبية، مهما بدت المحاولة جادة لإيقاظ النص الأنثوي عموما من سباته، أو التماس بأصله الضائع أو المضيع، ورغم الطفرات التعبيرية، التي هي بمثابة لسان النخب الإجتماعية مثل الأبيات اليتيمة المكتوبة على عباءة ولادة بنت المستكفي بماء الذهب:

    أنا والله أصلح للمعالي             وأمشي مشيتي وأتيه تيها
    وأمكن عاشقي من لثم ثغري             وأعطي قبلتي من يشتهيها

    هذه اللقطة البوحية ومتوالياتها، إنما أنتجت كمادة أدبية ضمن شرط تاريخي استثنائي اشتركت فيه مع صديقاتها الشاعرات الأرستقراطيات كمهجة القرطبية، والغرناطية نزهون بنت القليعي، والرميكية زوجة المعتمد الأشبيلية، فذلك النص واستتباعاته إنما يحيل إلى طقس ثقافي إجتماعي مفرط في النخبوية، وبما يقترحه الشكل الأحدث للحياة حينها، فمجمل المجتمعات والثقافات كانت تنتج شاعرات من هذا الصنف النخبوي الأرستقراطي، لكنها لا تؤسس لحركة شعرية نسوية مقنعة.

    وهذا لا يعني بالتأكيد أن تلك الذوات لم تتعرض للقهر والتحيز، فالموروث الشعري النسوي ظل موصوما بالإستعارة أو الإنتحال أو التبخيس أو التغييب أحيانا، وتعرض بقسوة لافتة للتهميش والإتلاف المتقصد، وقد جادلت جوانا روس بما يكفي أشكالا من ذلك التحيز الذكوري ضد المرأة الكاتبة عموما في كتابها " كيف تقهر كتابات النساء " . أما من الوجهة الفنية فقد قلل المعري مثلا من قيمة ليلى الأخيلية، إذ اعتبر شعرها بأنه " حسن ظاهره " رغم إعجاب كل من الفرزدق وأبي نواس وأبي تمام بشعريتها، كما سخر من شعر الخنساء ( 646- 575 ) التي طالما انحدر بها التصنيف الفحولي للشعر إلى مستوى " البكاءة " بسبب ضعف مخيلتها، وعطالة مجازها.

    كذلك علق بشار تهمته الأبدية على النص الشعري الأنثوي بوصاية نقدية صارمة ، فبرأيه " لم تقل امرأة شعرا قط، إلا تبين الضعف فيه " وهكذا يميل المعيار الذكوري الى أنها أصلح لأن تكون موضوعا شعريا، لا أن تقول الشعر، بمعنى أن تكون مادته الموصوفة بمزاج ذكوري، أو المقاربة باللغة الفحولية، لا أداة إنتاجه.

    بهذا التصور الجازم لم يتمدد النص الشعري الأنثوي إلا في حيز التقليد حد التبعية التعبيرية والشعورية، والتورط التناصي أو الإستعاري مع شعرية الرجل المهيمنة، فالأنثى بتصور وندي ملفورد كانت أشبه بالمعبودة، أو أداة الرغبة والهوامات، وحسب ظبية خميس، كانت هي الموضوع المستمر في روح الشعرية الغزلية منذ البدء، وحتى الآن في نصوص الشاعر العربي الذي نطق باسمها كثيرا، وربما لهذا السبب أفرط عبدالله الغذامي، في تأويل ريادة نازك الملائكة للشعر الحر كرد أنثوي على فحولية العمود الشعري، متجاوزا حتى أقصى تطرفات النقد النسوي.

    هكذا تم التصنيف القسري للهوية الجنسية، وفق اختراع نقدي مجحف، ابتدعته الثقافة الفحولية، تغييبا للإنساني والشخصي والقومي والثقافي بل والفني، فالأنوثة وفق الدعاوى النسوية التي تتعاطاه برهابية، مفهوم جنساني مدبر بالذهنية الأبوية، لإحكام مهمة تهميش المرأة، وإقامة نظام رمزي منحاز للإخلال بعلاقات القوى الإجتماعية وما يتبعها من اشتراطات، من خلال ترحيل القضايا الحيوية المتعلقة بالمرأة من سياقاتها واستحقاقاتها الإنسانية إلى هوامش طارئة.

    لكن ذلك الإحتراز لا ينفي الفوارق النفسية والبيولوجية والتاريخية، التي تجعل من كل تلك الخلائط مدعاة لاعتناق الكتابة بالنسبة للمرأة كفعل وعي وتحرر، وتحقيق الإنساني تحديدا، فكل شاعرة هي مشروع حقوقية، إذ لا يمكن أن تكتب، أو تنتج نصها الشعري، بمعنى أدق، على مسافة من أوتو-بيوغرافيتها، أو من درجة الصفر وعيا وإحساسا، فهذا هو ديدن الشعر الحديث الذي يدمر علاقات اللغة ويرجع الإنشاء إلى محطات الكلام في الكتابة، بتعبير رولان بارت، لأن أدبها حينئذ سيكون مقهورا أيضا، ولن يحقق لها ذلك الإنعتاق الإنساني.

    ولأن الكتابة الشعرية مثال صريح لقلق الروح، يغدو النص الشعري الأنثوي فرصتها للنفاذ إلى حرية الحضور بالكلام الحر، ليتأكد ذلك الإحساس بالطبيعة الأنثوبة المتميزة، ومبررات القضية النسوية بما تتمثله كحركة شعرية، من خلال رغبة الذات الحادة في تهشيم العادات الفحولية، والتموضع الذاتي الواعي على خط الزمن، بالنظر إلى أن المرأة، كما توضحت صورتها في الخطابات الأحدث، واقعة إنسانية تحدث في المستقبل، فالإماتة القربانية الساطية لم تحد من إنبعاث نبرتها الأنثوية الصافية بين حين وآخر، والتاريخ يشهد بحضورها الدائم رغم دعاوى الإنتحال والإستعارة الذكورية.

    ويشير ذلك التمثل الأدبي الملح أيضا إلى تماسها المطرد من الوجهة الفنية بالسلسلة الإبستمية لإشتراطات الحداثة، بما هي الرافد النوعي لتاريخ الأفكار، المؤسسة ضمن التشكيلة الخطابية على التصارع بين القديم والجديد، فالأنثوي هو طاقة أو سلطة، وبتصور بلانشو، هو ذلك الفيض الشعوري الذي تقوم عليه أركان الحداثة بما هي نسق ومنجز وخبرة الإنسان الجديد، كاستجابة لمجموعة من المراكمات الإجتماعية والنفسية والفيزيولوجية، التي يسميها كوتاك لقطة مضاعفة تضيفها ماكينة الحداثة لأسطورة الأنثى.

    أما تلك المتوالية من المراكمات المعرفية والحسية فأنساق سببية، لا تشي بمخزون الشعور لذلك النص الشعري الأنثوي وبناه التعبيرية وحسب، بل تحرض على فهم أفضل للكائن من حيث علاقته بالوجود، فهو يتساوق بشكل تام مع مفهوم الإنسان كاختراع تاريخي، تمادى بظهور العلوم الإنسانية، كموضوع للدرس والعلوم، فيما كانت اللغة تأخذ منعطفاتها الأنثوية الباذخة، اشتغالا على النصف الآخر من الإنسان.

    هكذا أصبحت الكتابة الأنثوية ظاهرة عالمية لها تبعاتها الإنسانية، وتقع في قلب الحياة وليس على مساحة الورقة البيضاء وحسب، الأمر الذي أتاح لفدوى طوقان مثلا تمثل الحياة الحقيقية والنأي عن منافي الورق، فقد كان عالمها الوحيد ازاء الواقع الرهيب بخوائه العاطفي هو عالم الكتب، كما تقول " كنت أعيش مع الأفكار المزروعة في الكتب معزولة عن عالم الناس، بينما أنوثتي تئن كالحيوان الجريح في قفصه ".

    ذلك التلازم البنيوي هو الذي مكنّها من صوتها على اعتبار أن اللغة وثيقة الصلة بمزدوجة السلطة/الأيدلوجيا وبالتالي فهي تهب المرأة عموما أنظمة خطاب بنائي داخل النسق الأنثوي، وعلى حافة أنظمة إجتماعية بنائية مغايرة، قد تبدأ من وجهة اقتصادية مثلا لتطال كافة الخطابات، استحواذا أو تفاعلا ، فعلاقات السلطة على الدوام هي علاقات صراعية، لا تجترحها ذوات مستأنسة، بل ذوات تزاحم " آخر " من أجل توسيع هامش حضورها.

    يبدو ذلك جليا إذا ما أمكن فض ذاكرة " الأنا " المصدرة لذلك النص، والمدفوعة كما يبدو من درامية الخطاب الأنثوي وأنويته، لتحطيم صرامة المعيارية الإجتماعية التي رسمت حدوده، فالشاعرة كما ينم نصها ذات متمردة على سجنها الفيزيقي، تواقة إلى رحابة الإنساني، بل قادرة على إبداء قدر لافت من الإستعداد للتفلسف والتفتت على حواف التفكير الوجودي الحاد، وابتكار نص لا يستنبت من وهم الحرية، إنما من أحقية امتلاك القوة أو الكفاءة اللغوية ازاء الآخر والوجود، حيث لم تكف فيسوافا شيبمورسكا مثلا عن ترديد عبارتها الفلسفية الأقرب إلى مذهب اللأدرية " لا أعرف " كلازمة للشاعر في علاقته بالعالم، خصوصا في طورها الشكوكي.

    على هذا المحك الشعوري/اللغوي تتفسر دافعية التنامي المطرد للشاعرات، وكثرة الطرق على إشكالية الجنس الأدبي، خصوصا في المجتمعات المرتبكة التي كان يعتبر فيها الشعر بالنسبة للمرأة مسألة استثنائية أقرب إلى اجتراح المحرم، أو اقتراف الخطيئة، وهو الأمر الذي يمكن على أساسه ملاحظات آثار المكان والثقافة المغايرة على شعر شاعرات عربيات خارج منظومة الأعراف العربية كفينوس خوري وأندريه شديد وناديه تويني، حيث يمكن القبض على أواليات سر الإغواء الحقوقي في النص الشعري الأنثوي، فالمرأة لم تمتلك هويتها التعبيرية، في كل الثقافات، إلا بعد فاصل طويل من الإستنقاع في التبعية ومدافعة الآخر.

    إذاً، فإستعادة الصوت أو الذاكرة الأنثوية عبر الأدبي أو الفني، إنما تمت عبر مثابرة إحتجاجية باهظة ازاء كل صنوف الإضطهاد والتهميش، ووفق خاصية أنثوية كانت بمثابة الوصية الفنية المتوارثة، التي رفعتها فرجيينا وولف شعارا ثقافيا صريحا وصاخبا، منذ كتابها " غرفة خاصة بها " فكل ذلك الضجيج الأنثوي خرج من تلك الغرفة لتحريض المرأة على عدم الإمتثال لوصاية الأدب الذكوري، سواء كمضامين أو كصياغات، بحيث لا تغفل أثناء أداء مهمتها النصانية عن كونها أنثى، أي أن تصر على أن تخالفه إجتماعيا وتغايره أدبيا، رغم اعترافها بأنه من المنهك أن يكتب الإنسان وهو يفكر في جنسه.

    ذلك يعني أن تجهد للإقتراب - ما أمكن - بوعي وإحساس متطرف إلى حاثات " الجندر " بكل ما فيه من خصائص وعصبوية، وباستنهاض كل ما تعرض للتهميش أو الإهمال كمركبات روحية وجسدية، بمعنى الميل إلى عنصرية بايولوجية تكون مصدرا للتمايز والإختلاف ومغايرة ذلك الآخر المذكر.

    وقد استوجب ذلك الإلحاح الجنوسي إلغاء المسافة بين الذات الأنثوية ومكتوبها، حتى تبدت المرأة من حيث علاقتها بالفعل الإبداعي وكأنها مجرد " جسد ينكتب " كإستطالة إيروسية متممة لروح الشاعرة، يجد مرجعيته في همسة زليخة " هيت لك " بما هي أقصى تجليات الخطاب، فكل الذي سطر على هامش ذلك " الفعل اللساني " إن هو إلا تفكيك تنويعي لسحرية هذا النداء الأنثوي.

    ذلك التقدم المثابر نحو اللغة وبها، هو ما يسخر منه نيتشة- كعادته - في تفكيكه للمقابلات التبسيطية بين النقائض، ويسمي إصرارها على الكتابة، محاولة أنثوية لارتداء زينة جديدة، فالمرأة بطبيعتها، حسب الخرافة المضخمة في تصوراته، مراوغة وشكاءة، وخانعة، بل قاصرة عن أداء مهماتها، وعلى ذلك فإن الميل إلى التزين، برأيه، يشكل جزءا من النسوية الأبدية، ذلك لأنها تريد أن توحي بالخوف، وربما تريد أن تطاع، لكنها لا تبحث عن الحقيقة، متسائلا عما يمكن أن تكتبه النساء حول المرأة، ومشككا في المهمة التنويرية لأنفسهن حول أنفسهن، فوعي الذات للذات مهمة وعرة يصعب تحقيقها، إنما يمكن تمثيلها على الأقل.

    ولأنها أرادت أن تنعتق، أخذت تنير الرجال حول المرأة بذاتها، وبتصوره، هنا يكمن أردأ مظاهر التقبيح العام لأوروبا، فلا شيء يبدو متناقضا مثل الحقيقة عند المرأة، بالنظر الى أن الكذب هو فنها الكبير وقضيتها الكبرى، ولديها الكثير من الأسباب والتحذلق والسطحية والإدعاء كي تبقى محتشمة.

    وما ذلك التماثل اللغوي الحسي الذي يشكك نيتشة فيه إمكانيته، وتؤيده فيه سيمون دوبفوار باشتراط أن يشترك معها الرجل للتحدث عنها، إلا المدخل المفهومي وليس التطبيقي لتحقيق الفكرة الهيغلية القائلة بمطابقة الذات لموضوعها، والإنفكاك من أسر السلف الشعري، بما هو المقترح الأنثوي للتعبير عن نظام مختلف داخل وحدة مركزية إنسانية.

    هكذا يغدو نص الشاعرة ممرا لأناها، بما هي - أي تلك الأنا - قشرة وجودية للذات، تسمح بانفتاحها على الذاكرة التاريخية، بحيث تكون سيرة جسدها بكل ما يتقاطع فيه من الخبرات العاطفية والمادية والإيقاعية أيضا، هي التجلي النصاني لذاتها، الأمر الذي تعتبره فيرينا رينش في قراءتها لليوميات النسائية الحميمة، نرجسية صادمة، مردها الإفراط في إعتدادها بالأنثوي.

    ولكن هذا الاقتراب التطابقي بين الذات ووجودها الأنطوقي هو الذي تقدم بالنص الأنثوي - كصيرورة تاريخية فنية - للإنحسام على محك الإنساني، حيث يتمدد الجسد كقصيدة تتكلم، بما أن الإستعارة من طبيعته، وبالتالي يكون بالنسبة للشاعرة هو السيرة ذاتها، إذ يتطلب الشعر بوصفه كتابة تعبيرية عن الإعتقادات العاطفية الجوانية، وليس وصفا للبراني ففي ذلك الأفق التعبيري تجاوز جسدي مبيت لمستويات التوصيف، واستعارة الأصوات، إلى منسوب مقنع من التجلي والبوح، وانطراح الذات بكل تفاصيلها وهواجسها الدفينة.

    ورغم ذلك الشرط الذاتي لا يتخفف ذلك النص الشعري الأنثوي في الغالب من لوثة القهر الإجتماعي، وهذا هو أحد الأسباب برأي سلمى الجيوسي في عطالة الشاعرة الحديثة، اثر استنقاعها في عصور الإنغلاق الأنثوي، الذي جاء نتيجة أو حالة استكمالية للعرف الأخلاقي في الحضارة العربية في الجاهلية، وما تلاه من مأساة عشقية أموية، حتى تسربلت بموروث من الكبرياء التاريخي، إلى أن نفرت من فعل البوح.

    وفي ثنايا ذلك الوسواس الأوتوبيوغرافي، المتأتي من أصالة غريزية، تنبني سرانية النص الشعري الأنثوي، وإن تزيا بعنوان نفسي لا أدبي، فهو كوجود أنطوقي، دلالة نصية على واقع مادي معاش. وبما هو منتج إنساني، وبناء ثقافي أيضا، هو في الأصل بنية منفتحة على المكون المادي للمقومات التاريخية والإجتماعية، فالنص هنا هو " الممر السري " إلى الوجود، الذي لا تدافع به الذات الأنثوية حالة القلق بقدر ما تتلبسه، إذ الشعر هو الشكل الجمالي للأسئلة القلقة، وبالتالي فهو المبرر الشعوري لاستدعاء الكائن، أو إعادة إنتاجه لنفسه.

    وما ظاهرة ازدحام المشهد الثقافي العالمي بأصوات نسوية من مختلف اللغات إلا إشارة شعورية حادة إلى كائن مقيم خلف النص المضيع منذ أمد بعيد، متربص بلحظة الإنوجاد، إو الإنفتاح على مكامن الوجود، بذات مغيبة تعي سر قصورها أو إقصائها، وبالتالي ضرورة تمردها على الصيغة التي كتب بها تاريخ الكائن، من حيث علاقته بالكتابة، وليس وفق معيارية التمييز بين الذكوري والأنثوي وحسب، على اعتبار أن ذلك التاريخ كان بمثابة المنفى الأكبر للمرأة.

    إذا، لم تنطق حواء بصوتها، كما تقرر ظبية خميس، فقد كانت ببغاء آدم أحيانا، وشهرزاد شهريار أحيانا أخرى، تلك الهمهمة التي تردد ما يقال عنها بصوت الأنوثة وذاكرة الذكورة المبررة، فالشاعرة العربية، برأيها " نعرف صوتها القادم عبر القرون من دموع الخنساء، وأغاني القيان والجواري، ومحاورات ولادة وابن زيدون. سمعنا صوت الأنثى في صلاة العذريين، وفي انتصارات فحولة شعراء الغزل والمجون .. ما بين آلهة مجنحة.. وما بين أنثى تم غزوها والإستلاء على مفاتنها غير أننا لم نصغ كثيرا لصوتها هي .. صوتها العميق، القادم من طميّ أنوثتها.. بريق بصرها.. كونها الخاص".

    وفيما يعتبر ثورة أو حركة شعرية نسوية عربية أحصت ناتالي حنظل في أنطولوجيتها " شعر النساء العربيات " قرابة الثمانين شاعرة عربية، يتوزعن على امتداد القارات ويكتبن بمختلف اللغات، وفي شتى الموضوعات، وهو عدد أقل بكثير من عدد الشاعرات الحاضرات اليوم في المشهد الشعري العربي بل هو أقل من عددهن في قطر واحد من الأقطار العربية. ولم تخف في ثنايا تلك الدراسة الهامة حماستها لشكل حضورهن الشعري، فقد أشادت بهن كمناضلات في سبيل الحرية، حيث تجلى في نصوصهن، برأيها، حس التوق إلى عالم عربي مستنير، والتنادي إلى لغة كونية ملؤها السلام والمساواة.

    وحتى في تلك النصوص المستغرقة في جلد الذات وندب غيابها، يبدو الشعر الذي تجترحه الذوات الإنثوية بكثافة وتطرف لافت صيغة من صيغ التحدي النسوي لابتداع " مخيلة أنثوية " تقاوم ما كرس كأمثولة بشرية وثيقة الصلة بالأخلاقي والرومانسي والرثائي والإمتاعي، أو التأكيد على وجود " موروث شعري " خاص، يكفل الإعتبار لهذا الكائن، حيث الحاجة إلى التعبير عن خبرات حسية إستثنائية لكائن مهجوس بلوعة الإنعتاق والحضور للمواءمة الشعورية/الموضوعية بين الذات والعالم، حتى ولو بشكل تبسيطي لذلك الوجود، حسب الرؤية الديكارتية.

    المهم إذا، هو استنطاق ذلك الموروث، فعبره يتم استدعاء صفاء الذات الأنثوية، وبموجبه يمكن، بل ينبغي حث تلك الآثار التي غالبا ما تكون خرساء على التكلم ، كما يقترح فوكو في " حفريات المعرفة " لئلا تكون ضحية مقرؤية تاريخ يرفل في ثوب التقاليد، ولا يتوانى عن ترحيل كل شيء إلى مكمن الذاكرة الباردة

    البحث عن ضالة إيروسية

    في مجادلته للوحدة الأصيلة بين الصوت والكتابة، يفصل جاك دريدا بين كتابتين: حسنة وأخرى سيئة، فالكتابة الحسنة الطبيعية، برأيه، هي تلك المنبثة من خط إلهي في القلب والروح، التي تجهد لمفارقة مقابلها المدّبر في الخارج، أو ما يسميه الفاحش، المصنّع، التقني، المنفي في برانية الجسد.

    في ذلك المركز الجوهراني تتأسس نيات ومقاصد النص الشعري الأنثوي، فالقصيدة بالنسبة للمرأة حالة تعاش وتقترف إلى أقصاها، أكثر مما تنكتب أو تتوهم، فعلاقة الشاعرة باللغة حسية، كما تصفها الشاعرة سلوى النعيمي، التي تتعاطاها بمتعة حذرة لتأتي " الكتابة فعلا طبيعيا مجردا وملموسا معا " وهكذا تبدو السمة الإيروسية مسبغة على لغة ذلك النص المشبع حد الإغراق في الإستيهامي كمعادل لتطرفات المخيالي، أو ما يسمي جورج باتاي إلحاحه الإيروسي، الإقرار بالحياة حتى الموت، فهذا الهاجس يعمل كطارد للموت، ومؤانس لإطالة حياة الشاعرة، أو التخفيف من إحساسها بسطوة الزمن.

    هكذا تحال اللغة في النص الشعري الأنثوي إلى لعبة إيروسية، أما محلها - أي القصيدة - فهو الجسد، بما هو علامة الفرد، أو بنيته الرمزية، على اعتبار أنه " إستعارة " كما ينقل ديفيد لوبرتون عن بيار فيديدا في كتابه " انثربولوجيا الجسد والحداثة " بحيث يكون وهما فاعلا، فهو شفاف لصور اللاشعور وأوردة إيروس، التي تسقي أعضاء أو وظائف الجهاز العضوي، فأعضاء الجسد، بتصوره، وحتى أوضاعه، ومواقفه تنخرط بشكل بدائي في المشهد الخيالي للهلوسات الأكثر بدائية.

    من تلك الزاوية الإستعارية، أعتبرت " المازوخية " بمعناها الشهوي، أي كحاجة أنثوية للتألم، رغبة مموهة لتحقيق إشباعات إيروسية، بالنظر إلى أن المرأة كائن ذاتوي النزعة، لا يخشى الألم الإنساني، بل يعليه، ويبالغ في أهميته، على حساب الموضوعية كمعطى عقلاني، بالنظر إلى أن للإيروسية سمة الوهم العلوي المؤسس على معنى إنعتاقي، وهكذا تكون " أنا " الشاعرة على وجه التخصيص الأنثوي، كما ينم نصها، مكانا لمواءمة أصالة الطبع بالرغبة التهويمية في السعادة، وهذا ما تختصره جويس منصور شعرا في نصها " تنجيم " :

    لا أعرف الجحيم
    لكن جسدي يتقد منذ مولدي
    ما من شيطان يؤجج أحقادي
    ما من كائن خرافي يلاحقني
    لكن الكلمة تتحول إلى حشرة مؤذية بين شفتيّ
    وعظم عانتي جد الحساس للمطر

    هكذا تتورط الشاعرة في ثيمة العشق - نصا وواقعا - الذي ينحى كخطاب إلى تأكيد إيروسية الغائب، أو اللامرئي، وحتى مستحيل التحقق، لئلا تتحول، بسبب ذلك الشح أو العدم العاطفي، إلى مجرد شيء، فالذات الأنثوية الشاعرة متطلعة ومتطلبة على الدوام، لكنها محكومة بالمعاش، وعلى تلك المناداة تتأسس العملية الشعرية، فديالكتيك الرؤية/اللارؤية هو الكفيل بمضاعفة السطوة الإيروسية في نصها.

    تلك الإستعارة النصانية هي ما استوجبت من فرويد الإنزياح عن كفاية الوجود للدليل المادي، والإمعان في قراءة النصي كأعراض، وبالتالي معارضة التصور الطبي للجسد، اللاشخصي، الموجود خارج الزمن، إذ الجسد " سيرة ذاتية " تجهد الشاعرة بحمولاته لمواءمة ذاتها بالعالم، من خلال التأسيس لروح إتصالية نقدية، متحررة من ارتكاساتها الذهنية والعاطفية، لتحقيق صيغة التطابق بين منطوقها ومعاشها.

    على هذا النسق الإستيهامي العلوي تتحرك سرانية ذلك النص الشعري الأنثوي، بما يتأتى من لذة يئن بها جسد مهجوس بالإنوجاد، ولا تمكث فيه إلا كهوامات، كما تشير الآثار النصية المتوارثة فنيا وشعوريا، فالنرجسية الفائضة في ذلك النص دلالة على رغبة مبيتة وواعية لإضفاء طابع شخصي على الموجودات، تشبه إلى حد كبير نرجسية الحداثة كخطاب، بما هو حجر الزاوية للأساطير الحديثة بتعبير لوبرتون، من حيث تطابقه مع فكرة بودريارد حول النرجسية الموجهة، كتمجيد موجه ووظيفي للجمال باسم استثمار وتبادل الإشارات.

    وكتعبير لغوي، يقوم ذلك النص الشعري الأنثوي في جوهره على فكرة النبش الحاد في مكنونات النفس بحثا عن ضالة إيروسية ( روحية/جسدية ) هي بمثابة الوجود الإنساني المقترح من ذات الكائن، لا المعطى بمجانية واعتباطية من قبل " الآخر " وهي الوجهة التي أكد عليها هنري هافلوك ايليس بشأن أهمية " الإيروس " في نضال الفرد بحثا عن السعادة، فهكذا أرادت سافو تخيل إيروس مقبلا من السماء العالية، في بزة جندي، وتمنته مرة أخرى أن يرج عقلها، كريح جبلية تهب على أشجار السنديان.

    هذا ما يعلنه النص الشعري الأنثوي، حتى وإن بدت نضالاته بمثابة الحلم المبهم للقبول بالحياة، كما يحللها بول ريكور، بحيث تكون مجرد فكرة ساذجة لمجموع اللذة التي تتحين بها الذات فرصة التخفيف من وطأة العذاب، أو تعلن رضاها، فيما يقترحها شكلا خاصا بالخرق، أو بالتعالي الإنساني بما هو حالة من التطلع الشامل لكل جوانب التجاوز الإنساني كمنتج أدبي، وفني، وكسلوك أيضا، لتحقيق الإنسجام بين الحاجات الفردية ومتطلبات المجتمع، حتى المفروض منها، بما هي حالات معاشة ومتداولة.

    إذن، فالواقعة العاطفية بمتطلباتها الإيروسية، التي تموضع الكائن في مكامن الخطر وتدفعه إلى حافة الحياة، هي الدعامة البنيوية لشعرية ذلك النص، أو هذا ما يتبدى عند اختبار تلك الموجة من الأصوات على محك الحداثة بكل تطرفاتها التعبيرية، ووفق بناها الشعورية، المقاربة بمعطيات اللحظة، على اعتبار أن الحداثة هي صيغة من الصيغ التي تقترح بها الذات حراكها أو حضورها الحاد على خط الزمن، من حيث تحرير المعاني والقيم من تاريخانيتهما.

    يتأكد هذا الحضور الفاعل عند النظر إلى ما يلعبه الجنس في الأدب الكلاسيكي والرومانتيكي مقارنة مع الأدب الأحدث، من حيث علاقة ذلك النمط الإبداعي بالإيروسية، فالجنس يأخذ شكلا مصعدا ومتساميا إلى أبعد الحدود، فيما يكون فعل الحب بمثابة التدمير، لا بمعنى أخلاقي أو سوسيولوجي، بتصور هربرت ماركوز، وإنما بمعنى انطولوجي، فهو تدمير يتعالى على الخير والشر، وعلى أخلاق المجتمع، وبالتالي فهو غير قابل لأن يمت بصلة الى مبدأ الواقع القائم، ذلك المبدأ الذي يرفضه إيروس وينبذه، على اعتبار أن الحياة الخاصة هي الأس الذي تقوم عليه منظومة القيم الأساسية للحداثة، بما هي حالة لإنتاج الأحاسيس الجديدة، التي يتم بموجبها اكتشاف الذات ، وتحقيق الرفاهية الجسدية.

    بهذا المعنى يغدو الشعر العاطفي، الأنثوي والذكوري على حد سواء، حداثي النزعة في جوهره، من حيث كون الجسد بمعانية المتعددة، وما عرف بالثورة الجنسية تحديدا، أصلا تكوينيا لخطاب الحداثة، حيث اقتراب الكائن من الأرضي، ومن حيث إلحاح النص الشعري الأنثوي في هذا المجال على تفعيل مناطق اللاوعي، أو إعادة الإعتبار لها، لتعطيل مساحة عريضة من تقاليد الرومانتيكية الرافلة في مفهوم الشعر من أجل الشعر، ورد دعاوى الإلهام الشعري الفوق-بشري، أوالمنّزل، قبالة الشعر المنتج من الذات الحية كفعل وجود.

    ثمة الحاح إيروسي ضاغط بالتأكيد في النص الأنثوي يستمد سطوته من الحسي مباشرة، إذ لا يمكن حصر خطاب المرأة الشعري في محدودية التعبير اللفظي، حتى وإن كان هذا هو المدخل، فلا بد من تأمل شكل التمثل البصري والتعبير الحركي أيضا، فحسب فرانسوا سوليسم في " شعرية المرأة " هنالك إشارات جنسية صريحة وضمنية بعيدة الدلالة في خطابها الحياتي، وشكل حضورها الأدائي ( سلوكها ، وملابسها ، وكلامها ، وطعامها ) يتبدى حتى في شكل تسريحتها، ونوع حليها، وطريقة تدبير منزلها، فيما يسميه إيروسية الشوكولاته، والملابس ( الداخلية والخارجية ) والمظلة، والمنديل، والعطر إذ يصعب التغاضي عن كل تلك العلامات الملحة، عند تأمل مجريات نص أي شاعرة، وتأمل أنساقه اللفظية الصريحة أو الباطنية الغائرة، وهو بكل تأكيد يمد سرانية النص الأنثوي بالروح حد الإستبداد به.

    أما التورط النسوي الكثيف في ديالكتيك الحداثة وما بعدها، المؤسس على سيكولوجية إستثنائية للجملة الأنثوية، فلم يسهم في ضبط انفلاتات هذه المفاهيم وحسب بل عجّل في تدمير ما تبقى من مقومات الرومانتيكية، على اعتبار أن مفاهيم الحداثة وما بعدها هي ثقافة تضع الإنسان موضع الدراسة، وتندرج ضمن ثقافة التمرد والفردانية، وتفتيت فوقية الثقافة، وطبقية النص إلى تشطيات وألوان تأخذ حراكها على أديم الحرية، وتمثل الذات بكل عنفوانها وكيميائيتها البشرية، بنفس القدر الذي تلامس فيه الإشتراطات التاريخية.

    ذلك هو ما تبدى في الشكل الشعري الأنثوي، المتداول كمقترح تعبيري عن الوجود، من حيث إقترابه من المقومات المادية، وخلع سمة الإستلاب عن تعاليات الفن الكلاسيكي، تلك التي كانت تحمي التناقض وتبقي على المسافة القائمة بين الذاتي والموضوعي، وبين المتوهم والمعاش، وأيضا بين النخبوي والجماهيري حتى في صورته الشعبية، أو ما عرف بصراع الفن الطليعي قبالة طغيان التعبير السوقي عن الوجود الإنساني، فالكتابة تبدو هنا، بتصور بارت ،فكرا متعاليا على ديكور الكلمات، وتجاوزا لكل أحوال الترسيخ التدريجي، وعلى ذلك يستنكر الكتابة بطريقة أدبية في المجتمع البرجوازي فهذا يعني التواطؤ على التقسيم الطبقي.

    هذا هو المنجز الذي حققه الفن الأحدث عموما بتصور هربرت ماركوز في كتابه " الإنسان ذو البعد الواحد " حين أصبح شكل العمل الأدبي أو الفني طريقا جماليا، ووعدا بالسعادة، بعد أن كان الأدب والفن، وقبل أن يتصالح المجتمع والثقافة، يمثلان الضمير التعيس المنقسم والإخفاقات والآمال غير المتحققة، والوعود المنكوث بها، فقد كانا قوة عقلانية وعرفانية، يكشفان، برأيه، عن بعد الإنسان والطبيعة يقمعه الواقع ويردعه، وكانت حقيقتهما تكمن في الوهم الذي يوحيان به، في إرادتهما المصرة على خلق عالم علّق إرهاب الحياة وأقصاها عنه وسيطر عليه لأنه عرفه.

    تلك هي معجزة الرائعة الأدبية أو الفنية، حسب تحليله للأدب الجديد، الذي يشكل النص الشعري الأنثوي أحد روافده. انها المكابدة حتى النهاية، فبفضل شكل هذا العمل تكتسب الظروف الآنية بعدا جديدا، يبدو فيه الواقع المعطى كما هو، فيقول الحقيقة عندئذ عن نفسه، وتكف لغته عن أن تكون لغة الخيبة والجهل والخنوع، حيث يدعو الخيال الوقائع بأسمائها فينهار ملكوتها، وهو يبلبل أركان التجربة اليومية ويبين أنها زائفة ومشوهة، ولكن الفن لا يمتلك هذه القدرة السحرية إلا عندما يكون هو نفسه قدرة على النفي. وهو لا يستطيع أن يتكلم لغته الخاصة إلا عندما تكون الرموز التي تدحض وترفض النظام القائم حية لما تمت.

    ذلك هو عنوان الارث اللغوي الضاغط كما تقصته روزالند كوارد في مجمل الآثار المادية للصور والكلمات، وهو تماما ما أرادت لورنا سيج - أكثر كتاب السيرة شهرة - التأكيد عليه بعد إعادة قراءة الكتابات النسائية، وهو النفاذ الى جوهر المبدعات بما يشتمل عليه إبداعهن من العناصر الملحة لروح العصر، ومحاولاتهن الدائبة للتملص من ضرورات الكتابة التقليدية، حتى تلك المكرسة فنيا وتاريخيا وحضاريا من خلال أساليب تشكيكية، فخوف الشاعرة من الإنئسار للتكرارات والإستعادات والولاءات يورطها فيما يعرف بمرض " وعي الذات " المؤسس في جوهرانيته على الحاحية الإيروسي.

    وبالنظر إلى كونه يستمد طاقته من المعاش، والوجود، والتجربة لا من المواضعات اللغوية، والأسس الجمالية المعرّفة، تصعد فعل المطابقة في النص الأنثوي بين العبارة الشعرية والوقائع الشعورية، وفق آليات تقوم على اختراق اللغة، وإزاحة ظاهرية المعنى أيضا، لتتضح الدلالة الكبرى ممثلة في استعادة الكائن الملقى على هامش الحياة، وبالتالي إستعادة صوته المصادر، وتفصيح الخافت منه كنتيجة طردية وطبيعية لاستعادة الدور الإنساني المضيع أو المغيب، أي العودة - بميكانزم استقرائي - إلى طهرانية التصور الأنثوي للوجود، أو براءة الأصل الإبداعي .

    هكذا أنجز النص الشعري الأنثوي، بمحاذاة جملة من الخطابات الإنسانية، مهمته الأولى لوصل حقيقة فعل " المابعد " الشعري بجوهرانية وجود " الماقبل " الانساني ، كما تمثل في السادنة السومرية انهيدوانا ( 2300 ق. م. ) ابنة سرجون الأكدي ، صاحبة أول أثر أدبي ( شعري ) مكتوب في تاريخ البشرية قبل أن تطرد المرأة من الكتابة، حيث تم تذكير التاريخ والصورة بل الذاكرة الانسانية بمجملها، وفق تصميم ذكوري إستحواذي محسوب، لا نتيجة لواقعة عرضية.

    هذا ما تعتقده القراءات النسوية، وتتحداه، وتحاول بكل الوسائل إعادة الكائن الأنثوي إلى قلب الحياة، من خلال أنسنة اللغة، كرد فعل على تذكيرها ، بما هي - أي اللغة - ضرب من الفعل والحركة والفكر والتفكير والوعي واللاوعي والتجربة والعاطفة ، بمفهوم جاك دريدا ، والمرحّلة اليوم كنسق من العلامات إلى سياق الكتابة الشعرية، بما تشهده من فورانات شعرية أنثوية متمادية.

    إذا، فمهمة إعادة المرأة الى اللغة إنما تعني العودة بها الى الحياة،كرد أنثوي نضالي على فعل التذكير الساطي، لتجعل من الأنوثة فعلا إنسانيا جديرا، ولتشترك بوعيها وشعورها في مهمة إنتاج النص، بما هو فكرة وإحساس، فيما سمته فيسوافا شيمبورسكا ذات قصيدة " فرح الكتابة " لتنوجد على أرض الواقع . فداخل ذلك الكائن نداء بحاجة إلى الإصغاء، وربما كان في نص " تسألني لماذا أنفقت حياتي في الكتابة ؟ " لسيلفيا بلاث ( 1932 - 1963 ) بعض الجواب:

    أكتب وحسب، لأنه
    في داخلي، ثمة صوت
    لن يهدأ أبدا...

    أعيدوا العد، ولا تنسوا سافو ...

    انهيدوانا إذا، هي الحدث الإبداعي الأنثوي الأول من الوجهة التاريخية، وهي أولى دلالات الميراث الشعري النسوي، حيث يتأكد - حفريا - بتمثال ومجموعة من التراتيل النصية تقارب الثلاثين قصيدة موجهة إلى " إنانا " آلهة الخصب والطبيعة، يوم كانت الأسطورة تاريخا ونصا أدبيا، وحيث كان الفن شكلا من أشكال الدعاء والتبتل، من أجل الإبقاء على علاقة متوازنة بين الإنسان والطبيعة في حدود الضرورة والحاجة، أو بين البشر أنفسهم وفق تراتبية طبقية، تتوفر على سمة روحية من أجل تمكيث الإنساني في الإنسان، كمخاطبتها لإنانا مثلا :

    يا سيدة الروح، والضياء التام
    أيتها المرأة المكسوة بالبهاء
    .......
    مكللة أنت بالفضائل الجليلة
    تستحقين تاج القديسة العليا
    التي تحمل بيدها الأرواح السبع
    آوه ، يا سيدتي ،
    يا حارسة الروح العظيمة

    أما إيقاع اللهفة الإيروسية فلم يتشكل كحضور شعري إلا مع الشاعرة اليونانية سافو ( 610 - 680 ق. م. ) المخلدة في المتحف الوطني اليوناني في أثينا بلوحة وهي تقرأ من بردية، والمحفورة وجها على عملة مدينة ميتيلين بجزيرة ليسبوس، فهي المرجعية الشعرية الأكبر، وصاحبة الميراث الشعري الأنثوي بالغ الأهمية، فهي الأمثولة الأدبية الأكثر جاذبية لتأكيد وجود أم شعرية ناظمة لتلك السلالة المبعثرة في التاريخ كما يتصورها فينغشتاين، لدرجة أن ول ديورانت مؤلف موسوعة " قصة الحضارة " يعتقد بأنه إذا كانت صفة "الشاعر" قديماً تحال مباشرة إلى هوميروس صاحب الإلياذة، فإن معنى أو صفة الشاعرة هي الإحالة الأصدق، والأكثر التصاقا بسافو، بمعنى أنها، الأصل للنص الشعري الأنثوي، وبالتالي فهي الأساس الروحي واللغوي لفكرة التاريخ الحي المتصل المفتوح، حسب التصور النتشوي.

    إذا ، هي مجرة التأثير الكبرى، أو المرجعية الأهم لذلك النص لأنها أقرب إلى تمثل تشكيلته الخطابية، أو نظام تكونه، بما هو إنجاز لفظي أو لساني، حسب مفهوم الخطاب، وبمعنى أدق في شعرها ما يصطلح فوكو على تسميته حفريا " العبارة " أي الكيفية التي توجد عليها مجموعة من الأدلة، التي تسمح بأن تكون شيئا آخر غير مجرد آثار، وغير مجرد علامات متتالية تعلو جوهرا ماديا، وغير مجرد موضوع من الموضوعات، صنعها كائن بشري، بل الكيفية التي تسمح بأن ترتبط بميدان موضوعات، وأن تحدد موقعا لكل فرد ممكن، وتجد مكانها بين الإنجازات اللفظية الأخرى، وتتحلى بمادية متكررة.

    وإذا، هي شجرة اشتقاق ذلك الخطاب، بما يحتويه من " عبارة " هي مختصر الفعل اللساني الأنثوي، ففي شعرها قد نجد ما يتقصاه فوكو في حفرية خطابه أي " عبارات لها علاقة بتعريف البنيات القابلة للملاحظة، وحقل الموضوعات الممكنة، عبارات ترسم أشكال الوصف والمسالك الإدراكية التي باستطاعة الحقل أن يعتمدها. عبارات تبرز الإمكانيات الأكثر عمومية للتمييز وتفتح بذات الطريقة ميدانا بكامله من المفاهيم في حاجة إلى بناء. عبارات تفسح المجال لأكبر عدد من الخيارات اللاحقة".

    والأهم أن في نصها يكمن العصب الأهم لسرانية النص الأنثوي، أي مرجعية ضميره المؤنث، فهي اليوم أكبر من المثال الشعري، أو حتى المذهب الأدبي الذي يستحضر دائما تحت مسمى " السافوية " بل هي طريقة أنثوية خاصة لإعتناق الحياة، وأيقونة شعرية على درجة من التبجيل، يحتفى بها لإعداد سلسلة من الجوائز من مختلف الجهات الثقافية العالمية، فما أن تتفوق شاعرة حتى تلقب سافو زمانها أو مكانها كما حدث للشاعرة اليونانية دراكوبولو ثيوني ( 1885 - 1968 ) الملقبة بميرتيوتيسا، أي الريحانة الصغيرة ، أو كما اعتبرتها فرجينا وولف المرجعية الأفضل حين أحالت الشاعرة الانجليزية كريستينا روسيتي اليها.

    وقد عرفت سافو كمسؤولة تربوية عن جمعية نسوية " ثياسوس " تدرب فيها النساء على الشعر والموسيقى، فقد نسب اليها ثلاثة اختراعات موسيقية هي البليكترون، والبكتيس، والمكسوليدياني، وهي آلات يستخدمها الشعراء الدراميون، كما برعت فيها سافو لتأهيل نسائها بنفحات الحب لإبراز صفاتهن الأنثوية من أجل تحضيرهن للزواج، وخدمة ربات الجمال ، وعلى ذلك تضمنت قصائدها أسماء مجموعة من تلميذاتها مثل تيماس، ناكترريا، هيرو، على شكل نداءات وتوسلات " تعالي خلصيني " الأمر الذي أوحى بميول مثلية، أهلّها لأن تكون ربة ذلك الهوى المثلي ومرجعيته، كما أدمنت التغني بإبنتها انكليس التي وصفتها بالكنز أو الوردة الذي تتنازل عن العالم من أجلها.

    ولأنها تنادي تلميذتها أتيس - شعريا - كمعبودة ممتعة، وتصف جونجيلا بالزهرة، حيث تخاطب كل واحدة من مريداتها بدلال ومعاتبات مفرطة في النعومة، أخذ الأمر على أنه حالة صريحة ومعلنة من الميول المثلية والسحاقية وليس مجرد إشارات ود نسوية أو إنسانية، خصوصا اتيس وميجارا وتيليسبا ، وربما كان الأمر كذلك، وبموجب ذلك التصور قرئت، وصنفت كربة للمثليات والسحاقيات، لدرجة أن هنالك من يرى أن فكرة المثلية بين النساء Lesbianism أشتقت من جزيرة لسبوس اليونانية، التي كانت تعيش فيها سافو، وتقيم في أروقتها وباحاتها مهرجانات الحب والتربية الجنسية.

    وقد صار ذلك الإتهام المثير للجدل، الموجه لشخص وشعر سافو، خيارا حياتيا وشعريا لشاعرات معاصرات، احتذين بموجبه أثرها من الناحية الموضوعية والفنية، حيث الغنائية والبساطة العروضية المصوغة في رباعيات بوحية جريئة، وكانت سافو قد صاغتها وهي متيقنة من خلودها أمام أكبر ناقد وهو الزمن، فقد أوصت كل من يمر على المقابر ألا يتذكرها كشاعرة ميتة ، بل ككلمة خالدة ، فهي كما تخاطب أفروديت تناغي الشعر، وتعلن ثقتها دائما فيما تعتقده شعوريا وفنيا، لدرجة أنها تخاطب الرجل بثقة أنثوية مفرطة تؤكد فرادة فعلها اللساني " يبدو موازيا للإله .. هذا الذي يجلس أمامك " حتى كلماتها التي تشبهها بالأنفاس تحسها بصمات لفظية فطنة في اتجاهها ناحية الخلود، فهي عصية على النسيان، حتى وإن اكتفت بمخاطبة قريناتها:

    أحدهم ، كما أقول لك،
    سيتذكرنا،
    كلتانا منسيتان،
    لكننا مطوقتان
    بذاكرة الرجال الطيبين

    أفلاطون ذاته الذي نادى بطرد الشعراء من جمهوريته الفاضلة أربك الميثولوجيا اليونانية، عندما توقف طويلا أمام فتنة الثراء الدرامي للنص الأنثوي عند سافو، مطالبا بإضافتها إلى مصاف الآلهة اليونانية، فبوجودها، ينبغي إعادة النظر في تصنيف آلهة الشعر والفنون، فهي ليست تسعا، كما تصر الميثولوجيا.

    " أعيدوا العد .. ولا تنسوا سافو " أجل هكذا قال أفلاطون مشيدا بتلك الأسطورة الشعرية، الأمر الذي دعا الهيلينيون لاسباغ صفة الملهمة العاشرة عليها، أما سقراط فقد لقبها بالجميلة، ووصفها المؤرخ سترابو، بالمرأة الفذّة الرهيفة، وبرأيه، ما من شاعرة أوتيت من أصول الشعر معشار ما تتقن، كما تمنى صولون الحكيم أن يحفظ أشعارها ثم يموت، ربما لأنها استطاعت بفعلها اللساني المتمادي ذاك، ابتكار جملة إضمارية وايجازية في صيغة غير معهودة أو متواترة، تتجاوز من الوجهة الخطابية، حسب تحليل فوكو، الفعل المادي والمقاصد وحتى فعل التعبير، المحرر من ربقة الأشكال المعرّفة.

    وما تلك الإشادات إلا دلالة لديالكتيك ذكوري أنثوي عنوانه الإجرائي هو " اليعاسيب والملكة " ومفاده قدرة سافو على إختصار الأنثوي وتكثيفه في النص، بما هو عنوان الذات وليس في الوظيفة وحسب، وبالتالي تأهلها لتمثيل ما يسميه ادموند جابس " سلطة الأنثوي " وهو اعتبار مؤكد عند ابن عربي أيضا الذي بنى هو الآخر جانبا من خطابه على أن المرأة هي " محل الإنفعال" رغم انها كانت أقرب الى القبح منها الى الجمال المظهري بسمرة بشرتها وقصر قامتها وبسماتها الغليظة الشبيهة بخشونة الرجال.

    هكذا تناقل العالم القديم قصائدها وأغنياتها التي جمعها أكاديميو الأسكندرية في تسعة كتب، وأعيد نسخها والترويج لها بحماسة وإعجاب، قبل أن تأمر الكنيسة بإحراقها لمرات ومنعها من التداول، وفي أكثر من مكان، لعل أشهرها تلك التي تمت في روما علنا بأمر البابا جورج الثامن، إذ لم يسلم من شعرها الا قصيدة " صلاة الى أفروديت " فيما يعكس بشكل أو بآخر، رهاب الذكوري الدائم من الأنثوي المضاعفة سطوته باللغة، فحتى سافو ذاتها نفيت إلى صقلية.

    أما بقية آثارها فقد عثر عليها كمقاطع متفرقة في الفيوم، أو على شكل مقولات وحكم متضمنة في كتب القدماء، ولا زالت تخضع لترجمات بمختلف اللغات، لكنها لا تطال سحرية نداءاتها الأنثوية المحيرة، أو هذا ما يشاع عن أسطورة شعرية أنثوية إختراقية للذائقة والزمن، يمكن أن تكون خافية ذلك النص الشعري الأنثوي، حسب المفهوم الفرويدي، أو أقصى ما يمكن أن يبدو عليه كفعل لساني، وفق التصور الفوكوي.

    بوطيقيا قبيلة الأنثى

    بالمعنى النقدي، ثمة سلالة شعرية أنثوية ممتدة عبر التاريخ تنتظم فيما يمكن اعتباره " بينصية " ترتد كمجموعة من الإرادات إلى إرادة واحدة حسب الكوجيتو الديكارتي، منذ انهيدوانا، التي كتبت شعرا سياسيا وكونيا تخاطب به الآلهة السومرية، وتأسيسا بسافو مرجعية الحركة الشعرية النسوية، ووصولا إلى طفرة التعبير اللغوي السافر عن هامشية العرضي، ونزقية الجسدي في الشعر الأمريكي الحديث، كنتاج ثقافي إنعكاسي للمجتمع الصناعي وما بعد الصناعي.

    وهذا المجموع النصي، حسب التعبير الألسني، المنتظم في مسارد بنيوية، وسلسلة إرتباطات مورفولوجية، هو النسق الأنثوي كما يتوارث كوصايا وآثار، أو شفرات معيارية، حين يمفهم تودروف " الشعرية ". ويكون فيه النص نقطة تقاطع مكثفة في اللغة، فيما يشبه المراجعة على مقومات الكائن الأنثوي، الروحية والموضوعية، لإعادة إنتاجه بمحاذاة الخطابات الإنسانية التي تعيش حالات من التبدل المستمر، أو ما يعرف مجازيا بتكرارية التقدم إلى الأمام.

    ذلك الولاء الرحمي هو ما يسميه جيرار جينت في مفهوم الشعرية أيضا " المتعاليات النصية " أي العصب السري الذي يربط النص الأنثوي، عبر علاقة خفية أو صريحة، بجملة من نصوص القبيلة، أو الفئة كإطار مرجعي، تتطابق بموجبه رابعة العدوية مع الهندية ميرابي، وتبدو فيه مرام المصري مثلا وكأنها نسخة معرّبة من آن سكستون، ولا تفارق فيه المصرية أروى صالح الإيرانية فاروخ فرغ زاد إلا في تفاصيل المآل.

    ذلك التواشج لا يعني أن النص الشعري الأنثوي يستمد وحدته كما تفترض حفريات الخطاب من افتراضية التجانسات العبارية وحسب، أو نتيجة تشابه المضامين القاموسية، أو حتى تماثل التنظيم الصوري للتشكيلة الخطابية، أي ليس وفق نمط معياري واحد في الكتابة، ولا من ميدان موضوعات مليء ومتراص ومتصل ومحكم البناء، بل يمكن تأويله أيضا مما تعبر عنه فوارقه وفجواته وثغراته المطبوعة بالتداخل والتشابك كمصدر لتلك الوحدة المؤسسة على التبعثر في الزمان والمكان.

    إذا، لا ينبغي التسليم بهكذا خطاب لمجرد مراكمة مجموع عباراتي ككلية مغلقة وإن بدلالات وافرة، حسب تصور فوكو، بل كصورة تتخللها الفجوات ويطبعها التناثر، وتتبعثر خارج بنية الخطاب أيضا، في نسق يشي بالتراكم النوعي الذي يؤدي إلى ما يسميه " وضعية " تحيل بالضرورة إلى دراسة التشكيلة الخطابية من خلال الإنجازات اللفظية، لعدد من الشاعرات ينتسبن لنفس التشكيلة الخطابية دون دراية منهم، ويتكاملن عبر خطاباتهن الفردية في خطاب أشمل وأكمل.

    وربما لهذا السبب قدمت الشاعرة اليمنية نبيلة الزبير ديوانها " محايا " محبة الى " بنت ثوبان " شاعرة مدينة " بين " منذ سنة 2500 كاستدامة تمكيثية لذلك الهاجس الأنثوي التآزري، فبهذه المحايثة الدائبة أو التراسل الباطني، تختبر تلك الطائفة البشرية حضورها بالرمز اللغوي، على حافة اليومي والذاتي والكوني، على إعتبار أن الراهني، الذي يتعاطى شعريا كهامش، ليس سوى صورة للتاريخي، فكلاهما يحتوي حقيقة إنسانية وجمالية، ولكل طاقته التعبيرية والموضوعية، التي تصاغ ضمنها حقيقة هذا النص.

    ويعاد النظر إلى ذلك النسق بين حين وآخر وفق ما بات يعرف ببوطيقيا الأنوثة، بوصفها شكلا تخصيصيا للكتابة الشعرية، تماثل حد التعادل الموضوعي والشعوري مفهومات الفلسفة أو الأيدلوجيا، بما يتطابق أيضا مع اشتراطات الخطاب الذي لا يقطع بالضرورة الأواصر التي تجمعه بالأيدلوجيا، وتحديدا مع وجهة نظر جوليا كريستيفا حول " مفهوم الشعرية " المستدمجة بسياقات ثقافية وخطابات إنسانية، والمحقونة أصلا بحمولات أنثوية متمادية، كانت هي المسؤولة - ربما - عن تأخر الإقرار بشاعرية المرأة، أو التسليم بتملكها لمخيالية مستقلة وفق معيارية إبداعية ولقرون طويلة.

    وقد تحطم ذلك العناد الذكوري عندما أعلن سنة 1945 عن فوز التشيلية غابرييلا ميسترال بجائزة نوبل، التي عرفت عبر مجموعاتها الشعرية " رقة " و" إفقار " و" إحساس " و " مجنّح " بشعرية شديدة الصلة بجوهر العناصر الطبيعية للحياة، منذ قصيدتها الأولى " سوناتا الموت " التي التي كتبتها إثر انتحار خطيبها وحازت بموجبها على جائزة تشيلي الوطنية للشعر، التي تقول فيها :

    من خلال الكوة الثلجية التي ألحدوك فيها
    أملت بجسدك ناحية التراب المشمس الفقير
    ولم يعلموا ،
    أنه كان ينبغي أن أنام، أيضا ، أنا فيها
    وأحلم على نفس الوسادة

    أسندتك الى الأرض المشمسة
    بحنو أم تهدهد إبنها الغافي
    ستكون الأرض مهادا ناعما
    عندما تستقبل جسد طفولتك المطعون

    أبعثر بعضا من التراب وغبار الزهر
    وإذا ما لاح الشفق أذر غبار القمر
    فما تبقى منك مجرد أسير

    هأنذا أكف عن التغني بانتقامي الفاتن
    فلا يد ستصل إلى ذلك العمق القاتم
    لتفاوضني على قبضة ضئيلة من عظامك

    لكن أهميتها الأدبية أخذت تتراجع في العقود الأخيرة بشكل محير، وكأن الأمر لم يكن أكثر من ترضية للحركة الشعرية النسوية، أو نتيجة حسابات أملتها ظروف الجائزة، ليعود الحديث عن هامشية الأداء الشعري النسوي، فتلك الإيروسية المتأصلة في شعر المرأة، المساء توظيفها أو الرهان على مستوجباتها، هي المسؤولة عن أنوثة باهظة تراها الأمريكية اريكا يونغ " مصيدة " فهي محل إنساني /إبداعي على درجة من الخصوبة والإلتباس في ذات الوقت، تنفصم فيها جمالية بوطيقيا الأنوثة ما بين الدلالات الفنية ( اللغوية والتعبيرية ) والدلالات الاجتماعية بمركباتها الثقافية.

    يحدث هذا الإرتباك المخل عندما يتصعد حس الإنجراح في الذات الأنثوية، ويضغط الموضوعي على الفني حتى يحيل الشاعرة إلى " كائن لفظي " والنص الشعري إلى مجرد تغريد وجداني، خطابي النبرة دون مناطق عمى ضرورية لاختبار الكفاءة التعبيرية للنصوص، نتيجة تقاطع جملة من العوامل والمركبات النفسية والاجتماعية والثقافية، تدفع الشاعرة، كما يبدو، إلى الإبقاء على أطر المفهوم الإجتماعي للأنوثة، المعادل لمبدأ النسوية، وبالتالي الإمتناع عن بث حقيقتها، واستمراء التعبير عن مكبوتاتها، أو توصيف ما تعرفه وتتوهمه عن نفسها تحديدا، عبر مضخة اللاوعي، أو أحلام اليقظة.

    ويتطابق ذلك التشخيص مع ما استنتجته وأقرته رغداء مارديني في دراستها لشواعر الجاهلية، حتى بالنسبة لما يعرف بتجربة الحب التي لم تتضح سماتها من خلال ذلك الأثر الشعري الأنثوي، حتى أن شعر النساء قليل في هذه الخانة، كما تقر الشاعرة ظبية خميس في كتابها " صنم المرأة الشعري " فالشاعرة الجاهلية برأي مارديني " لم تبعد في معانيها عن حدود المعاني الوجدانية الصرفة، كمناجاة مواطن الأحبة، وانتظار الريح لحمل رسالة، وايقاف الركبان ومناجاتهم، ووصف ألم الفراق والوجد الذي شق القلوب وقطع الأحشاء. والأنين المستمر للقاء الأحبة" ورغم ذلك جمعت وندي ملفورد ما يقارب الثلاثة آلاف قصيدة أنثوية عن الحب من كل الثقافات.

    إذا، فالمرأة حسب الإعتقادات الإبداعية المتوارثة كلما اقتربت من نسويتها وتمادت في النأي عن أنوثتها، صارت أوثق بقرائن الشعر ومشتبهاته منها إلى جوهرانيته، أي إلى الشعور والأحاسيس المباشرة التي تستنهض بها مركبات الروح والجسد بصيغ حلمية، دون إشارات فلسفية، ودون أن تحيل ذلك المركب الإيروسي ( الروحي/الجسدي ) إلى لسان، أو وجود انطوقي يكافئ إنجراح الذات، أو فائض نرجسيتها المعلنة.

    وربما لأن المرأة، بتصور لوثر لودتك، أحدى أيقونات ثقافة الرفاهية المعممة بكل الوسائل، كما تبدو غالبا، أو هكذا تصنف، فهي أبعد ما تكون عن الأدوات أو الرؤى الكونية الكبرى، وأميل إلى خاطرات التوصيف للأحاسيس الصغيرة وتصعيد مشتهياتها، أو التغني بمستحيلاتها لمحايثة تاريخ قهرها أو لتدوين سيرتها بالشعر.

    وهي إذا، حسب التصور الذكوري، أصلح لأن تكون موضوعا للحب والشعر منها لكتابة القصيدة، وأعجز عن إنتاج المعنى الشعري، لأنها قاصرة لغويا عن إحالة عناصر اللغة، بمراكمة تاريخية ومعرفية، من صفة الدال إلى سمة المدلول، التي تؤسس لمرجعية يتم بموجبها تحطيم المدلول اللغوي القديم بمدلول أحدث، وفق خصائص الكائن الجديد وشروطه التاريخية، بمعنى تحطيم ذاكرة المفردة، فالأنثى كائن قدره الاستلاب، يستخدم الشعر كمعرفة وممارسة وسلطة لإبراز وعيه ومفهومه الأحدث، أو هذا هو الشكل الأدبي لحداثة تحاولها الذات الأنثوية.

    وقد حدثت تلك الإزاحة الذكورية للأنثى الإفتراضية مثلا مع الشاعرة البرتغالية سور فايولانتي دوسيو، فرغم كونها شاعرة معروفة في زمانها، إلا أن شعراء القرن السابع عشر أرادوها مادة لأشعارهم وموضوعا لغنائياتهم، وكذلك بالنسبة للإيطالية فيتوريا دا كولونا، وإلى حد ما بالنسبة لليلى الأخيلية التي تغزل بها توبة بن حمير، وكادت أن تخلد كمحبوبة لتنسى كشاعرة عندما رحلّت في الذاكرة التاريخية، أو كما حدث لمي زيادة أيضا التي لم ينظر لها كشاعرة، أو ربما أزيحت عن هذا المكمن.

    وفي هذا الشأن تمارس ظبية خميس حالة من مفاعلة السياقات، وإن بصيغة تساؤلية، فالمرأة العربية، برأيها، لم تكن سوى آلهة للحب، فهي مجرد موضوع للحب ولكنه غير منجز تماما، ولا متحقق ، فهو يراوح بين إرضاء نرجسية الشاعر، أو التعبير عن حرمانه، بالنظر إلى أن الحب العربي القديم بقي كصورة من صور الأسطورة والوثنية القديمة، فحتى عندما يرق فإنه لا يستطيع تقديم امرأة من لحم وعظم، بل آلة قديمة فاعلة ومؤثرة في مصير الشعراء وعشقهم، بينما هي في منطقة المفعول به، ذلك أن ظاهرة الحرمان، حرمانهم هم منها وحرمانها هي منهم كان يتم بفعل سلطة الرجل في القبيلة والعائلة أو الدولة.

    وهذا هو تماما ما أرادت الشاعرة الأيرلندية سارة ماغوير الرد عليه في ديوانها الأول " حليب مراق " بإصرارها على تفكيك تلك المهمة الفحولية، أي بزحزحة المرأة كموضوع في الشعر الغنائي إلى خانة الفاعل الشعري، فلأنها تؤمن بالأفكار النسوية صممت على أن تقوم بهذه المهمة الشعرية من الداخل، أي باقتراف خطيئة القول الشعري النسوي الصرف، لتبدل عهودا من الشعر الانكليزي الذي لم يعترف بالمرأة كشاعرة، رغم اعترافها الصريح بأثر الشاعر جون دن خصوصا في قصيدتها " رمانة قندهار " وبالشاعر أزرا باوند في قصائدها القصيرة، وانتفاء أي أثر لشاعرة من السلالة الأنثوية.

    وإذا ما تم تجاوز مستوى الصوغ اللفظي المتسم بعبارة رخوة على الدوام، إلى عمق الدلالة النفسية لروح الشاعرة، يتبدى ذلك الهاجس الأنثوي أحيانا في هيئة إتهام نفسي عصابي للذات المنتجة له، من حيث إنشطارها بين نوبات الهستيريا والبرانويا، فالذات الأنثوية مركبة من عنصاصر السلب والإيجاب، ومن مراودات الحضور والغياب، وهكذا هو النص الأنثوي مؤسس على بوفارية نرجسية فائضة، يفترض أن يغدو بها النص لسانا تتلبسه " الأنا " في سعيها لتحقيق الإعتراف بوجودها، ولتوسيع أطر معياريتها الاجتماعية.

    وربما، لهذا السبب بالذات، أي عند مقاربته كنظام أدلة، أو كفعل وعي تشخيصي، كما يفترض الشعر، تزدحم مفاصل هامة من الخط البياني لشعريتها بمؤشرات تتأخر فيها اللغة عن تعاليات الإحساس في سرديات إستغراقية، وتتقاطع فيها كافة الخطابات الإنسانية، إذ تبدو مهمة التحرير الإجتماعي المعزّمة باستنهاض " نون النسوة " رسالة إنسانية متوجبة على الدوام، بل عصبا حيويا، أو مهادا لشعريتها، يأتي في أول ضحاياها سحرية النداء المتأتي من رهافة وحيوية " تاء التأنيث ".

    بهذا الإنزياح الموضوعي، تغدو الكتابة الشعرية الأنثوية وسيلة موضوعية بتبعات حقوقية في الغالب، للتحرر والتمرد على ضراوة الواقع، أو شكلا من أشكال التعبير عن مسكنة الكائن المحكوم عليه بالعيش على " حافة الحياة " حيث يندر أن تنجو شاعرة من سطوة الرومانسية الفارطة، المؤكدة على صراحة الإعتقادات العاطفية بصيغتها الأفقية، المودية بالذات إلى السوداوية والعطالة، وحيث تمتزج نبرة رثاء الذات والنعي المكثف لها بثيمة القهر الجمعي، ونعومة الحلم الذي يتبدى كمركزية لشكل الوعي.

    ذلك المنحى الوجداني الساذج هو تماما ما تتبرأ منه، حد الكراهية، البريطانية دوريس ليسنغ، الحائزة على جائزة أمير أستورياي الأسبانية، فيما يسمى بالأدب النسوي عندما تختصر الذات الأنثوية، برأيها، ضمن ذلك التصنيف في امرأة محاصرة بالنزق، والإشمئزاز، والترقب، تحتسي كوبا من القهوة، وتنتظر حبيبا مؤجلا، ولن يأتي، ولن يتصل، ولن يستجيب لأي من نداءاتها البائتة فتنتحر، أو تعلن كآبتها الدائمة بنص متخثر، كعنوان للأنوثة المقهورة، كما يتبدى في سياقات الكثير من النصوص الشعرية النسوية بشكل صريح ومكثف.

    تلك إذا دلالات سوسيولوجية تختصر الكثير من تداعيات بوطيقيا الأنوثة وتعدد موضوعاتها، وتشير إلى شكل الصلة الطردية بين نبرتها الشعرية وانعطافات الخطاب الإجتماعي، كما تحيل إلى الخط البياني - موضوعيا وفنيا - الذي رسمته تلك الذوات عبر التاريخ، وصولا الى شكل التعبير الأنثوي الآني شعريا، والذي يبدو أحيانا وثيق الصلة بتطرفات الحداثة، محاذيا لمتطلباتها أو متصادما معها باعتبارها مخترعات ذكورية، فيما تحاول المرأة عموما، والنسوية بوجه خاص، أن تجعل من ذلك الخطاب الحداثي وما بعده، خيارا نسويا بامتياز.

    نسيان " الأنا " في المنفى الحقوقي

    لم يكن بمقدور أول كاتبة وشاعرة أفرو-أمريكية فيليس ويتلي ( 1752 - 1784 م ) أن تنجو بشعرها من أثر العبودية ومتعلقات المسألة الزنجية ، فهذه الشاعرة التي حملت رقيقة على ظهر السفينة " فيليس " سنة 1761 م من جنوب افريقيا إلى بوسطن، لم تحقق حريتها من عبودية جون ويتلي إلا بصدق وحماسة شعرها حيث وصل سحر نداءاتها لجورج واشنطن، لأنها كانت تتعاطى الشعري كامتداد للحقوقي والسياسي.

    وقد كتبت شعرا من عمق المأساة الإنسانية، عن عذابات الزنوج وغربة فقد الأحبة، حيث سطرت قصائد عن موت النساء والأطفال، كما جسدت أوجاع الأمهات، لتصنع من كل واقعة درسا حياتيا بليغا للمرأة، وبلغة شعرية رهيفة، في كيفية التغلب على فجيعة فقد الزوج أو الأخ أو الأخت أو الأبناء بوجه خاص، حتى بدا شعرها بمجملة ملحمة رثائية بتنويعات أدائية مختلفة، في مناحة دائمة لتأمل الدموع الناعمة المتهاطلة، التي تسابق بعضها بعضا على وجوه المعزين، لتزيح عن قلب المرأة وطأة الألم.

    ولم تبتعد وريثاتها عن نفس الآثار، فغولندلين بروكس أول أفرو-أمريكية تحصل على جائزة البوليتزر وصفت في " حب أسود " مجتمع الزنوج بولاء عرقي حميم ورقة آسرة، فهو - أي الحب الأسود حسب نصها - عصيانهم وقيدهم. كما تغنت نيكي جيوفاني بالزنوجة في " إحساس أسود - كلام أسود ". وكتبت مارغريت واكر صرختها الشعرية " من أجل شعبي ". أما ريتا دوف، وصيفة الشعر الأمريكي، ففضلت لمختاراتها الشعرية عنوانا ذا مغزى " في الباص مع روزا باركس " كإحالة إحتفائية بالمرأة السوداء ( الرمز ) التي رفضت أن تتخلى عن مقعدها في الباص، لتتحول إلى أيقونة رفض، إبان حقبة التمييز العنصري.

    ذلك الإلحاح للمسألة الزنجية هو الذي استوجب من الشاعرة مايا انغلو ( 1928 - 1999 ) الإنضمام إلى حركة مالكوم اكس، والعمل معه لتأسيس منظمة الوحدة الأمريكية الأفريقية. وقد بلغت بها الحماسة إلى حد ترك زوجها وابنها والعودة إلى الولايات المتحدة لتحقيق هذا الهدف النضالي. كما اشتركت في مسيرة المليون بقيادة لويس فرحان لتنشد شعرا إنسانيا وحماسيا، وهي المعروفة برقتها، ورهافة أحاسيسها عبر مجموعاتها الشعرية " أعطني كوب ماء باردا قبل أن أموت " و أعرف لماذا يغني العصفور الحبيس " و " شاكر لماذا لا تغني ؟ " لتتخطى مهمة التعبير الأدبي إلى ورطة التعبير عن أزمة وجود حقوقية تاريخية سياسية، أو كما اختصر رسالتها جيمس بالدوين عندما وصفها بمتوالية السواد والمرارة والجمال الكفيلة بإنقاذنا.

    وهكذا لم يكن أمام أكوا لالوا، وغوندلين بينيت، وجسي ردمون فوست، وانجلينا غريمكه، وأنيتا سكوت، وآن سبنسر، وفرجينيا هيوستن سوى الإنضمام إلى " حركة هارلم " الداعية الى محاربة العنصرية، والمؤكدة على فرادة الثقافة الأفرو-أمريكية. لكن ذلك التورط العرقي الحقوقي الصريح، لم يمنع كل ذلك الطابور الطويل من الشاعرات عن مداومة التغني بشعر عاطفي أخاذ، ودال على أنثوية فائضة في كثير من النصوص ولاء للشعر، فكل شاعرة كانت مأسورة لسيرة عاطفية مهربة، تحاذي بها متطلبات الجماعة، واللحظة، وتاريخ القبيلة.

    إذا، هنالك ضرورة إبداعية محتمة بالمكان والزمان والعرق في كثير من الأحيان، تمزج بها الشاعرة أنوثتها وإنسانيتها داخل المرأة، فيما يشي بالتضاد أحيانا، ولا تقتصر بالتأكيد على المرأة السوداء، فتلك الضرورة الإنسانية هي التي حتمت على الشاعرة "آي " لتتقاطع مع قضايا العنصرية والحرب الفيتنامية، وسجالات الحرية والعدالة في المجتمع الأمريكي، وقد انطبع ذلك في شعرها، ليعكس شبكة إنتماءاتها العرقية المختلطة، فبالإضافة إلى عامل الزنوجة، برزت خلائط من اليابانية والإيرلندية وقبائل الشوكتو الهندية التي تشكلت منها.

    ولمبررات مشابهة إنزاحت البريطانية دوريس ليسنغ عن نبرتها الصوفية، إلى منحى الصراع الإنساني من أجل الخير الإنساني في مواجهة عنصرية الشر، نتيجة إقامتها في أفريقيا لفترة من حياتها. كما توجب على فدوى طوقان أن تواري الطراوة الأنثوية في نصوصها لصالح الفلسطنة حيث برز الهم السياسي في ديوانها " الليل والفرسان" . واندفعت أنغريد يونكر ( 1933 - 1965 ) لتبني قضايا السود في جنوب أفريقيا، كما التحمت دينيز لفرتوف ( 1923 - 1997 ) بضحايا حرب فيتنام، وجسدت ذلك الولاء بنضالية مشهودة في قصائدها،كما بدا مثلا في رثائيتها :

    لا أحد يذكر. تذكر
    أغلبهم كانوا فلاحين
    حياتهم كانت في الأرز والخيزران
    لعل الآباء رووا لأبنائهم حكايات قديمة
    حيث كانت الغمائم الهادئة تنعكس في حقول الأرز
    وجاموس الماء يخطو بثقة عبر المصاطب
    حين حطمت القنابل تلك المرايا
    لم يكن ثمة وقت الا للعويل

    كذلك تحمست وندي روز لكتابة " تاريخ قبلي " دفاعا عن سكان أمريكا الأصليين، وهو الأمر الذي دفع التعبيرية الألمانية السي لاسكر شولر ( 1869 - 1945 ) لمقاومة بلاءات النازية فحوربت بضراوة حتى أجبرت على الهجرة إلى سويسرا، تماما كما تورطت بذات القضية اليهودية الليتوانية كادايا مولودسكي( 1894 - 1975 ) وأيضا الألمانية نيلي شاخس ( 1891 - 1970 م ) الحائزة - أو المكافأة ربما - بجائزة نوبل سنة 1966 بعد هربها إلى استكوهولم، نتيجة مقاومتها للنازية ومناصرتها للصهيونية أيضا، وانتصارها لروح الكائن المناضل كما بدى في مجموعاتها " موطن الموت " و " الباحث " و " سمامات المداخن " ، حيث شبهت ذلك الحصار - شعريا - بحال عابرين ، ما زالو واجفين في صندوق زجاجي.

    ولم يكن أمام الشاعرة الروسية الشهيرة آنا أخماتوفا ( 1889 - 1966 م ) التي رسم لها مودلياني ستة عشر بورتريها، إلا مواجهة الستالينية وسياسة الستار الحديدي في الإتحاد السوفيتي بحلقة أدبية كانت تضم مشاهير أمثال باسترناك وبرودسكي، حتى أعدم زوجها الشاعر غوميلوف، وصار ابنها ضيفا دئما على المعتقلات، إلى أن أعتقلت هي الأخرى، وطردت من اتحاد الكتاب السوفيت، فكتبت في وذلك في رائعتها الشهيرة " قداس جنائزي " التي تعتبر واحدة من أهم قصائد القرن، فهي بمثابة الشهادة على عصر من الرعب والارهاب، لدرجة أن القصيدة لم تنشر حتى بعد وفاتها، بل بعد انهيار الإتحاد السوفيتي.

    هنا امرأة وحيدة
    زوجها في القبر
    وابنها في السجن
    فلتصلوا إذا من أجلي

    وعلى طريقتها كانت حكاية الشاعرة مارينا تسفيتيفا، التي فقدت زوجها نتيجة مواقفها، فأخرست هي وأولغا بيرغولتس شاعرة الحصار، كما تلقب، التي خسرت هي الأخرى زوجها الشاعر بوريس كورنيلوف، بسبب مواقف مشابهة، فقد ديست بأحذية السجانين الستالينيين وهي حامل حتى أخرج الجنين من بطنها، كما صودر ارشيفها مرتين، بما في ذلك مذكراتها " نجوم النهار " لكنها ظلت الأن الروحية لحصار ليننغراد.

    أما الشاعرة النيكارغوانية روساريو موريو فقد لازمت زوجها دانييل أورتيغا، زعيم الحركة الساندينية حتى بعد خسارته لموقع الرئاسة، مثلها مثل مواطنتها جوكنده بيلي التي كتب " نشيد الزمن الجديد" لتعلن انسلاخها عن طبقتها لتعاضد الجبهة الساندينية، فهي امرأة، حسب نصها " مولودة بين وسائد حريرية " تستيقظ على تعب المقهورين لتغني " حتى لا يتوقف صوت الزحف أبدا ".

    حتى من الوجهة الفنية المؤسسة على عصبوية حقوقية، يبدو أن كارولين كاسيدي لم تتمادى في تطرفاتها التصورية للعالم لولا وجودها ضمن حلقة " جيل البيت " مع ألن غينسبرغ وجاك كرواك ونيل كاسيدي بالطبع، وكذلك الإيطالية دوناتيلا بيزوتي شاعرة " الزن " التي مارست هذه الفلسفة وعلى ذلك كتبت قصائد " الهايكو " كتعبير عن شكل الحياة المفترض والمجسد عبر النص الشعري.

    أما جويس منصور ( 1928 - 1986 ) الطفلة المسكينة القادمة من فضاءات الحكاية الشرقية، بوصف أندريه بروتون، فلم تتجه إلى السريالية وتعاند مقترحات الكنيسة، لولا وجودها في حلقة باريسية مهمومة بذلك التوجه، وما كانت لتبالغ في تصويراتها الشعرية كما يكتبون نصوصهم المغناطيسية الرافلة في المخيالية عن فم بلا ظل، وغرفة بلا باب، وعينان بلا نظرة، وخطوات بلا أثر، لولا إعتقادها بأفكارهم، والإنتماء لحلقتهم، والإشتراك مع تلك الزمرة البشرية في ذات النظرة الحياتية الجمالية الصدامية للأخلاقي والديني.

    عضلة ناعمة

    ومهما أزيحت الشاعرة إلى الهوامش، تظل متورطة بالعاطفي، وإن تجاوزته إلى ما هو أبعد، لتعبر عن قضاياها بنبرات مختلفة إنطلاقا من حنجرة واحدة مشتركة، لتكشف عن ولاء للشعر تختصره أملي دكنسون بعبارتها المتكررة الشهيرة " أنا كممثلة للشعر " فقد بدأت فيسوافا شيمبورسكا، مدللة الأدب البولندي - كما تنعت - تاريخها الشعري بقصيدة " أبحث عن الكلمة " حتى تخطت الأثر الثقافي للستالينية إنتماء للشعر.

    وقد أنجزت شيبمورسكا هذه القفزة الإبداعية لأنها حققت ما تراه سلمى الجيوسي ضرورة لقراءة النص الأنثوي، أي ملاحظة العلاقة الجدلية بين ذلك الإبداع والعرف الإجتماعي الأخلاقي المنحدر اليها من قرون طويلة من الإستبداد بالمرأة وقهرها، ومن ناحية أخرى علاقة المرأة المبدعة بالعرف الشعري، وهذا ما أكدته بأحقيتها وشرعية إنتمائها للموروث الشعري البولندي حتى قبل حصولها على جائزة نوبل سنة 1996، فهي لم تخلق من لا شيء ، كما صرحت عقب حصولها على الجائزة.

    ولذات السبب الشعري، أعلنت تنصلها عن شعارات مجموعتها الأولى " لماذا نحيا " والثانية الى حد ما " أسئلة نسألها " بل وحتى الثالثة " نداء يبتي " التي بشرت فيها بالإنسان الإشتراكي الجديد، لتتوب عن مهمة تهريب ذاتها من نصوصها، ولتنتج قصائد تنضح عذوبة ، كما تبدى في مجموعاتها اللاحقة " الملح " و " مائة سلوى " و" كل حال " و " العدد الكبير " و" ناس على الجسر " و " النهاية والبداية " حيث التجأت الى مظاهر الحياة والطبيعة، وتوغلت بشكل لافت وحيوي في موضوعة الحب، كما تشف مثلا قصيدة " صراحة " التي ترجمها فوزي محيدلي، والمنشورة في آخر أعمالها " معرض الأعاجيب " التي أنهتها بحديث قلبين يتوهجان في الظلام :

    ها نحن ، حبيبان بلا كساء
    جمال كل منا لصاحبه، وهذا يكفي
    أوراق جفوننا غطاؤنا الوحيد
    وهزيع الليل صديقنا

    بهذا التحول الحسي، والتنويع الأدائي تشير الشاعرة إلى ذاتها كشاهد على اللحظة، حيث تبدي على الدوام إنهماما ملحوظا وحادا بعرقها، ومواطنيتها، وقوميتها، وجنوسيتها أيضا، إذ لا تخلو نصوص أي شاعرة من نسوية - ضمنية أو صريحة - تؤكد على الإنتماء إلى قبيلة النساء، والدفاع عن السلالة الشعرية النسوية المتوارثة، كما يتبدى كلطخة وجودية في نبرة الإباء الأنثوي الرهيفة في قصيدة الشاعرة البورتريكية خوليا دي بروجوس في قصيدتها ( إلى خوليا دي برورجوس ) التي أرادت بها أن تتحرر من سجن أفكار الرجال حول المرأة، وفي قصيدة مايا انجلو " المرأة الظاهرة " وكما تتمثله الشاعرة ثريا العريض مثلا بقصيدتها " كلهن أنا " والتي تصل فيها إلى الصراخ بحنجرة جامعة لصوت القبيلة:

    أنا كل موؤدة لم تكن
    كل ذات تطالب ألا تموت
    وتنضو الكفن .

    إذن، فتلك الانتحاءات التي تؤطر النص الأنثوي، لا تلغي نعومة نسقه بقدر ما تنحاز بالمرأة عن مركزوية موضوعها الحياتي الأهم، وتحيد بها عن جوهرانية نصها السراني إلى متاهات التصريف العاطفي فهذه المنافي المموهة غالبا ما تتمثل في التفافات عاطفية وموضوعية، عندما يغيب الحب أو يبدو فعلا إنسانيا مستحيل الوجود وهو بالنسبة للمرأة واجب الوجود، بل مبرر الحضور.

    وهكذا تتعطل كل الدعاوى الحقوقية والبيولوجية أمام شرط الحب، الذي تراه عائشة أرناؤوط حضّانة نتبلور فيها، حتى وإن بدى في شكل فنائي، أو كما تسميه الشاعرة الأسبانية ماريا دولس " لحظة عبودية " نريدها، حسب قولها، ولو من قعر الجحيم لنكون أكثر صفاء وجمالا، فيما تتساءل السورية رندة قوشحة " من أين يأتي الحب بكل هذا النبيذ، ويملأ به رأسي " وتسميه الشاعرة الإيرانية فاروخ فرغ زاد " لعنة " . وهكذا هو بالنسبة لمارينا تسفيتفا فهو ليس مجرد حديث منسي على طاولة، فهو جسد، أو وردة فائضة بالدم، بل هو ساعتها المقدسة، أو كما اختزنته ذاكرة النص الشعري الأنثوي كمرجعية فيما تمثلته شولاميت في " نشيد الأنشاد " بقولها:

    الحب قوي كالموت
    والغيرة قاسية كعالم الموت
    لهيبها لهيب نار
    وجمرها متقد
    الحب لا تطفئه المياه الغزيرة
    ولا تغمره الأنهار
    لو أعطي الانسان ثروة بيته
    ثمنا للحب لناله الإحتقار

    هكذا يستحوذ الحب على المرأة/الشاعرة التي تتعاطاه بنرجسية من لا يهب ذاته إلا لمن يكافئ وجودها، لتحاكيه قدرا، ولا تتنازل عنه إلا بحكاية حب جديدة، وكأنها تؤكد ألا خلاص من الفجيعة إلا بفجيعة أكبر، فهو أداة المرأة الشاعرة لجس الوجود، تتوارثه الشاعرات جينيا فيما يشبه " رومانس العائلة " كما سمى هارولد بلوم ذلك التواطؤ الضمني العميق بين الشعراء، فهذا الولاء الرحمي للمنزع الإيروسي أو للأصل الأنثوي لا ينفك إلا بالخيارات الأقسى أي بحب أكثر إيلاما، وقديما نسب الى أم الضحاك المحاربية ( جاهلية ) قولها :

    سألت المحبين الذين تحملوا تباريح هذا الحب في سالف الدهر
    فقلت لهم ما يذهب الحب بعدما تبوأ ما بين الجوانح والصدر
    فقالوا شفاء الحب حب يزيله من آخر أو نأي طويل على هجر
    أو اليأس حتى تذهل النفس بعدما رجت طمعا واليأس عونا على الصبر

    ومرد ذلك الحراك التكراري إلى الأمام بالنسبة للمرأة عموما، يكمن في الذات المأزومة، التي تعاني عادة من إنتفاء العلاقة التبادلية مع الأشياء، ومع الآخر ( الرجل ) تحديدا، وفق شفافية المقترح الأنثوي، فهي محتجة على عبثية الإعتياد البشري، الأمر الذي ينتج وجودا انطوقيا يعلن الرغبة الواعية واللاواعية في تطويع الأمثولة البشرية، أو التواري عن المشهد الحياتي، وبصمت رثائي في أغلب الأحيان، فخلف ذلك النص ذات تقاد بكل مقوماتها النفسية والجسدية إلى الإعدام، أو هكذا يتم تقديمها بشكل مصعد داخل النص.

    أما ما كان يبدو اضطرارا موضوعيا وحذرا عاطفيا في النص الشعري الأنثوي، فلا يمكن النظر إليه كحالة من حالات التنوع والتعدد الحيوي، بقدر ما يمكن إعتباره دلالة قسرية تحيل إلى كائن يحايث بعض مقومات وجوده بموضوعية تحت إلحاح عقلانية النفي، كالتصوف مثلا الذي يعمل في كثير من الأحيان كمنطقة عازلة للذات عن جوهرانيتها ومتطلباتها الوجودية.

    وغالبا ما كان يبدو ذلك التهريب الواعي واللاواعي للذات من داخل النص فرصة مترامية للفرار من الحيف الذكوري، وهو ما يتبدى بلغة عاقة، أقل مما تزعمه رهافة الحواس، نتيجة إنقهار منتجها وطرده من مكامن تشكيل اللغة والصورة والذاكرة البشرية، من هنا كان اللجوء إلى شكل الحضور الأنثوي المصعدكمحرك للنص، المؤسس بدوره على دعاوى عقلانية واستيهامية، بمعنى فلسفة الخيبة والتعاسة والخذلان، حيث الصّور المشكلة أصلا وفق مخيال ذكوري قاهر، لا تستطيع الشاعرة الفكاك منه بقدر ما تعيد توظيفه لمعادلة الجدل اللا متكافئ بين المتصور والموضوعي.

    وعلى ذلك التواتر الغريزي يأتي هذا الصوت الآخذ في التفصح والتوضح حد المصادمة، كرد إنساني على فعل التعتيم المضاد الذي قوبل به نصها الشعري، فالشاعرة تحاول تخليق مثالها الروحي من خلال معاودة التجادل مع الرجل المعاد إنتاجه بمحاذاة الخطابات التاريخية والإجتماعية والثقافية المختلفة، كمفهوم " نهاية الفحل " مثلا الذي أعلنته كاترين غودنز، أو وفق تصورات أحدث لمفهوم الآخرية، أو حتى ضمن بنى أصغر مناطقية كالدراسة التي ربطت بموجبها سوزان براون بين عنفية الرجل الأمريكي ومؤثرات حرب فيتنام في كتابها " ضد إرادتنا، الرجل والمرأة والاغتصاب ".

    وبلفتة استقرائية للنبرة البوحية في النص الشهير لولادة بنت المستكفي المنتج ضمن خاصية ارستقراطية، يمكن التماس بحقيقة العضلة الناعمة، التي لم تضمر كنص، بل تصعّد المطلب الإيروسي ليستحوذ على النص الأنثوي بشكل علني، فبمثل هذه الاستنسابات تتوضح تباشير هوية جديدة محدودة، ضمن ظرفيتها الإجتماعية والتاريخية والثقافية، ولكنها لا تعني في احتمالاتها المرئية، زوالا للكينونة الأقدم أو استكمالا تاريخيا لاشتراطات الهوية الأنثوية المطموسة.

    وإذا ما أحيل هذا النص الى سياقات فيما وراء نظامه اللغوي تحضر الذاكرة الأنثوية فيه بأحاريكها الأفقية والعمودية، فهو غير مبتور عن " الماقبل " حتى في إنقلابه على هوامية التعبير المجاني في الأصل الرومانتيكي الذي طالما وسم به هذا النص، فالخط البياني يسجل لعشرقة المحاربية تجاوزا فاضحا ولكنه يظل محدودا، أو مجرد طفرة من الطفرات حين تقول :

    جريت مع العشاق من حلل الهوى وما خلعوا الا الثياب التي تبلى
    ولا شربوا كأسا من الحب حلوة ولا مرة الا وشربهم فضلي

    وقد تمادى ذلك الحس الإيروسي بشكله الثوري الصريح في مدرسة البوح والإعتراف في الشعر الأمريكي الحديث عند آن سكستون مثلا، وسيلفيا بلاث المتتلمذتين على بوحية روبرت لويل، ليتحول إلى تيار عريض ألقى بظلاله على الشعرية الأحدث، فآن سكستون التي تجيد تفصيل عباراتها على شهوانية الرجل ومزاجه الحسي، كتبت بكل جرأة إيروسية قصيدتها " عندما يلج رجل امرأة " كما باحت بالكثير في مطولتها " ثمانية عشر يوما بدونك " عن رجل فكرت فيه بالفراش، لسانه نصفه شوكولاته، ونصفه بحر، لتنهي قصيدتها بانتشاء أنثوي:

    كيف وصلت للذروة وتناولت كأس دمي
    ثم لحمتني معا وأنت تشرب مائي المالح
    كنا عاريين مقشورين حتى العظام

    وقد تصعّد ذلك البوح إلى حد إنتاج النص من داخل غرف النوم، ليصل إلى مقترح شعري أنثوي متطرف بوحيا، تغامر فيه الذات في الإنطرح بمادية حضورها ولا تخشى من الإنكشاف متلبسة بمشاعرها فمركزه وغايته الجسد كما تمثل عند اليونانية ماريا بوليدوري ( 1902 - 1930 ) صاحبة " لحظات جنون زائلة " التي عاشت حياة صاخبة أقرب إلى الفوضى الحسية، ونالت بموجب ذلك الحضور شهرة أوروبية واسعة، يراها بعض النقاد نتيجة انفلاتها وليس تعبيرا أمينا عن عبقرية تعبيرية، حتى ماتت صغيرة متأثرة بالسل الرئوي.

    وكما تتوضح حقيقة ذلك البوح المتأتي من لهاث العضلة الناعمة في النسخة الفرنسية عند الشاعرة المتمادية ندين أغوستيني مثلا، في مجموعتها " النائمة " المؤسسة على شعرية إيروسية فاضحة، تنهض بالكلام الإغوائي الذي يبثه الرجل توددا واشتهاء ناحية المرأة في السرير لحظة الوصل الجسدي، بعد إخضاعه لبعض قوانين الضبط اللغوي والبلاغي البسيطة، التي لا تلغي ولا تخفف حتى من حدة جاذبيته الإيروسية، بل تبقي أيضا بقصدية وانتشاء على روحه وصراحته البورنوغرافية.

    تناص بالديني .. لواذ بالمطلق

    ثمة ملمح عشقي أصيل وملتبس في استراتيجية خطاب المرأة الشعري يلبس نصها معنى الإنعتاقي. وفيما ينطلق بالشاعرة من جذور الذات، يتأسس على استيهامات جسدية ويتمادى إلى صوفية علوية، فعندما تتوحد الأنوثة باللغة في مقابلات سيمترية، وبصورة أدق، بين الأنا وهواماتها، ينحى النص الشعري الأنثوي بهذا المعنى الهدمي البنائي لأن يكون التلاشي الخاص لأنا الشاعرة، تمجيدا للفنائي الذي ينقل أنطوقها من سفلية المحسوسات، كما يفلسف الفكر الصوفي مراتبه، إلى علوية ومعاني المعقولات، ذهابا إلى برزخية المتخيلات.

    ولكن ذلك التمادي لا يسلمها إلى مستوى النصوص الشطحية، إنما إلى نوايا تبتلية، أقرب إلى مطواعية التأملات الناعمة، التي تفضي إلى قصيدة جميلة، بمثابة الجنون المرقع، بتعبير باشلار، فهذا هو ما أغرى سيلفيا بلاث في نهاية المطاف لأن تتمتم " الآن ، أنا راهبة " حيث تتلقى الكلمات كثافة معينة من التعبير عندما تتطور من الإنساني إلى الإلهي، ومن الأحداث الملموسة إلى التأملات ، كما يقرر غاستون باشلار، فليس ثمة مكان، برأي مارجريت بوريت لكليانية الإله وطيبته إن لم ينزرع فيها، وإن لم يتمثل حضوره في محياها.

    هكذا يتعاطى النص الشعري الأنثوي مزدوجة الحضور والغياب، فالبنية الدالة للغته تحيل دوما إلى شيء آخر، أي كما يمارس فوكو حفره في عمق الخطاب ليتحرك بلغة تشير إلى موضوعات، أو إلى معنى، وبالضرورة تومئ إلى الذات بعدد من الأدلة حتى في الوقت الذي لا تكون فيه تلك الذات موجودة كحضور عيني، فاللغة برأيه، يقطنها دوما آخر، خارج، ناء، بعيد، وفي جوفها يقبع الغياب. وليس مكان ظهورها شيء آخر سواها. وفي هذه الوظيفة بالذات يتبدد وجودها ويضيع.

    وإذا كان الجسد هو مكان تلك الأنا، فالنص الشعري هو صوتها المؤكد، حتى من الوجهة الحداثية، لأن ديالكتيك التجلي والإحتجاب في ذات الشاعرة، لا يحيل العمى إلى ضد سالب للرؤية، إنما هو ضرورتها، حين يتعلق الأمر بالعشق والصوفية على اعتبار أن النرجسي كعاشق لا يهب ذاته إلا لذات تكافئ وجوده، ولذلك يستميت لبلوغه.

    وهكذا يغادر النص الأنثوي، في منعطف الخيبات البشرية، الأرضي ليخاطب العلوي، ويفنى فيه، دون إغفال لسطوة الإنهدام البيولوجي والفسيلوجي الذي تواجهه المرأة كرهاب على خط الزمن كما حدث لعائشة التيمورية مثلا التي أحرقت قصائدها القديمة وتوسلت الخلاص في الديني والصوفي، بعد أن أعياها الفقد والمرض ، فيما تسميه ظبية خميس لعبة الأقنعة الجاهزة كحلول نهائية للقلق الإبداعي، الذي يحاول أن يعبر عن تلك الأنوثة الضائعة الملامح بين أكثر من عصر وزمن.

    وذلك الفعل الإنساني المتمادي بقدر ما يعلي الحس النرجسي في المرأة، لا يسمح لها بالإنكفاء على قضية بعينها، إذ لم تختصر المرأة ذاتية وحقيقة وجودها الشعري في تلك المتاهات الموضوعية، فالنرجسية، الحديثة تحديدا، وبما هي حاضرة في التيارات النسوية، تترجم الواقع المتناقض ظاهريا إلى واقع وجود، تتولد بموجبه مسافة نحو الذات نفسها، وبتصور ديفيد لوبرتون، تحيل الشخص إلى عامل، يجعل من وجوده، ومن جسده شاشة تنتظم فيها الإشارات بشكل موات.

    وتتوضح الخيوط الخفية لذلك النص بالتدريج في المخاطبات التي أدمنتها انهيدوانا بتبل قرباني نحو الأساطير، والمعاد انبعاثها مثلا في شعر سيلفيان دوبوي وميشلين واندرز وكارل جريجوري كدلالة على الحداد، بتصور وندي ملفورد، الذي يعقب بالتأكيد نبرة التصوف الديني المهيمنة على ثيمة خطابها الشعري، أي في معاودة الإتصال بالمثال الروحي، من حيث ولع المرأة بمطابقة سرانية نصها الشعري بالنص الديني، كما تؤكد الدلالات النصية والتاريخية، فيما يعتبر تصعيدا للذات أو مثلنتها وفق مقتضيات اللحظة بكل وطأتها القيمية والموضوعية والروحية، بمعنى تخفيض منسوب التعالي في الثقافة الرفيعة على تجربة الكائن وخبراته اليومية لامتصاص المسافة بين الفني واليومي.

    ذلك الإلغاء للمسافة الجوهرية القائمة بين النص الشعري الأنثوي كفن وبين نظام ما هو يومي هو ما يسميه هربرت ماركوز في الحقل الفني " عقلانية النفي " أي الرفض الأكبر في مواقفه القصوى، أو الإحتجاج على ما هو كائن، فالأساليب التي يجعل بها الإنسان يظهر ويغني ويتكلم، والتي يجعل بها الأشياء ترن، هي أنماط الرفض، من المقاطعة، من إعادة الخلق لوجودها الواقعي، بمعنى أن ذلك النص/الخطاب لن يبقى ، وفق مفهوم فوكو، تجليا لذات تفكر وتعرف وتقول ما تفكر فيه وما تعرفه، بل سيغدو مظهرا لتبعثر الذات وانفصالها عن نفسها، فهو مكان كله خارج ، لا باطن له، تنبسط عليه مجموعة المواقع المتمايزة للذات.

    إذا ، يتمثل النص الشعري الأنثوي كظاهرة تعبيرية ، وليدة نشاط ووعي مركب، تتم ترجمته كفعل وسلوك وقول أيضا خارج الخطاب، وليس بعيدا عن مقتضياه، فلا الكلمات، ولا الكيفيات، ولا حتى المختزنات السيكولوجية هي الرابط لذلك الخطاب، لأن تلك الأشكال من النفي تدفع الغرامة المترتبة عليها للمجتمع المعادي المرتبطة به، فعالم الفن المخلوق من قبل أشكال النفي تلك، المفصول عن عالم العمل، الذي يعيد فيه المجتمع إنتاج نفسه وبؤسه، يظل على الرغم من كل حقيقته إمتيازا ووهما.

    يتحقق هذا الوجود من الوجهة التاريخية في بوطيقيا الأنوثة المؤرخ لمرجعياتها عند إنهيدوانا بخطاب توسلي إلى " إنانا " تأكد مثيله عند سافو بمناجاتها " أفروديت " ليذهب هذا الخطاب بعيدا في التصوف، أو الحب الإلهي عند البرتغالية سور فايولانتي دوسيو ( 1602 - 1693 ) بخطاب تصوفي أميل إلى نبرة الحداد، فهي لا تمل من إستتابة ذاتها وقبيلتها النسوية، بحديثها الدائم عن أيام طائشة، وسنوات مليئة بالمغامرات والخطايا والمتع، وذلك بدعوة أنثوية صافية لتعلم منطق الصخرة القاسي، إهتداء لحكمة الحياة وعبرتها، فتحت التراب ، كما تقول مخاطبة قريناتها:

    تتوارى كذبات طرية وباهرة
    فكل بهرجة الحياة مجرد هباء
    غبار،
    لا تساوي الا النزر اليسير في حياتك وأكاذيبك
    خذي في حسبانك
    الموت الهادم عندما يأتي
    كيف يسخر من الجمال والفطنة
    فلا يتبقى بالتأكيد إلا الفناء
    تعلمي من هذا الضريح
    ما ستكونينه عاجلا
    وعيشي بتعقل حتى ذلك الحين
    حيث النهاية الحتمية

    بمثل هذه النبرة الرثائية للأنا المفجوعة بالحياة زاوجت سور فايولانتي دوسيو الشخصي بالجمعي، والذاتي بالموضوعي، وحتى الواقعي بالتنزيهي المجرد، وكأنها تؤكد وتعلن التبرؤ من مقولة أن المرأة " نبع الخطيئة ومكمنها، لتعيد سيرة أيقونة الحب الإلهي الأنثوي، أو مثالها العربي الاسلامي رابعة العدوية ( 712 - 801 ) التي انقلبت على كل مظاهر الحسي، وتنصلت بمنتهى التنسك من بيو-غرافية لهوية صاخبة، ذهابا إلى الروحي، كصيغة من صيغ الإحتماء الأنثوي بالمطلق الإلهي، حيث ارتدت من حب الرجل إلى عشق المطلق، فقد نسب إليها القول:

    أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا
    فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك
    وأما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراكا
    فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

    بهذه المخاطبة الطقوسية يغدو النص الشعري الأنثوي موصولا ككتابة طبيعية بالصوت وبالنفس، حسب تفريق جاك دريدا بين الكتابة ذات الطبيعة الغراماتولوجية المتعلقة بالكتابة ومقابلها البنويمالوجي المتعلق بالروح والنفس الإلهي، فهي كتابة شعائرية، وأقرب ما يمكن من الصوت المقدس الداخلي، صوت الإعلان الإيماني، الصوت الذي يسمعه المرء عندما يفيء إلى ذاته: حضور مليء وحقيقي للكلام الإلهي الموجه إلى شعورنا الجواني.

    وباستكمال الحفر العمودي في سرانية ذلك النص، يتأكد ذلك المنزع الشعائري في كل الثقافات كما في بوحية فيديا وسيلا في الهند، وعند ميرابي تحديدا ( 1498 - 1573 ) المعروفة موضوعيا بتدينها ونضالاتها، وفنيا بنبرة غنائية إنتشائية، مصوغة في مخاطبات شخصية إيروسية للآلهة، ترتد بها على حسية الدنيا ناحية الرباني أيضا، فهي لا تمل من توسل الرب ومواعدته، والتقرب إليه بتضرعات قربانية، إذ غالبا ما تستهل قصائدها بتبل صوفي تؤكد بموجبة عذابات الذات في طريقها نحو الرب، واستماتتها من أجل الوصول إلى سكرة التوحد به، وشقاء تلك " الأنا " التي يزداد وهنها وذبولها كلما نأت عنه ، كقولها:

    سأمزق ساريي
    وأتشح برداء أحمر باهت
    لأعيش كالزهاد
    سأحطم أساوري
    وأشعث شعري
    وأتطهر من أصباغ تثقل أهدابي
    فكم يعذبني
    إنفصالي عن الرب
    والسلام لا يزورني

    حتى معلمة التاو الصينية الأشهر بان يغي، القائلة بألا متعة في الحياة تضاهي غيبوبة الفعل الجنسي لإدراك الواقع، لم تبتعد عن ذلك الحس التصوفي رغم اتكاء فلسفتها على طاقة الجسد، والتعيش الحسي على امتصاص الرجولي، وهي في ذلك المنحى الذاهب إلى روحنة الجسد، تشبه مريم البجية التي أتاحت لابن عربي فرصة اكتشاف العشقين البشري والصوفي معا، وجعلته يتذوق متعتي الروحي والجسدي، لتدفعه إلى مراتب الوجد الصوفي عند فاطمة بنت المثنى القرطبي، التي التحق بها كخادم ومريد، وهو ما يؤكد إتقان الكائن الأنثوي لمزدوجة العشقين .

    أما الهندية ماها ديفي ياكّا التي زوجت من رجل عظيم، فقد تركته لتنضم إلى جماعة شيفا بهاكتي، متخلية حتى عن الثياب ففي حضرته، وتحت بهاء نوره سيكون من الحماقة التستر بالحرير، أو الخجل مما تحت الملابس، وهكذا اتجهت لعبادة شيفا أو " السيد الناصع كالياسمين " كما كانت تذيل قصائدها باسمه دائما كقولها:

    " ما أهمني
    أيصير جسمي مضغة كلاب
    أم يذوب في الماء
    بعد أن كان ملكا
    لسيدي الناصع كالياسمين "

    " من أين تعلمون
    أيها الأصحاب
    ما الذي أرعشني
    حين اخترقني
    سيف عشق
    سيدي الناصع كالياسمين
    وشقني نصفين!؟ "

    " ساعديني
    يا قوة ذهني
    يا ذكريات الماضي
    فأنا أهلك
    من دون سيدي
    الناصع كالياسمين "

    هكذا يتمثل المطلق في مزدوجة الهيام الروحي الجسدي المفعّل بواسطة الخيال ونشوة الحس الجواني للذات المنعدمة واقعا، والحاضرة وهما، فالحب يتقد مع الحرمان، والمواعدات المنكوث بها أو الميؤس من تحققها، أما الرغبة كقوة فهي المعادل للسعادة كمبتغى، التي تحيل في النهاية الى حب الذات كعنوان للوعي، والمدلّل عليها بعاطفة عليا وسامية يميل بانكيت إلى تأكيد جوهرها الإيروسي.

    وبمزيد من الإستشهادات في كل الثقافات تتوضح سطوة الصوفي بمعناه الديني على الشعري، أو تتأكد الصلة الوثيقة بين النص الشعري الأنثوي والنص الديني بكل صيغه وأشكاله، أو بمعنى أدق إصرار الأول على التناص بالثاني، أو تمثله أحيانا، للإحتماء بمطلق أنساقه، كما يتبدى في خضوعه للحس التوراتي، أو في تساوقه بالنبرة الانجيلية، أو في تماثله بالروح التاوية، والبوذية وهكذا.

    وعربيا، يبدو من خلال تلك الصلة النصانية، في حالة جوار لغوي للبيان القرآني، وإن كانت الدلالة اللغوية هنا لا تنفك عن الدلالة النفسية، إن لم تكن تابعا لها، سواء الصريح منها أو الضمني، وهي المرحلة الثالثة في محاولة الجاحظ لمفهمة معنى البيان كفكرة مركزية، بعد مرحلة التعبير الأولية باللسان أو الإشارة، ثم توظيف اللغة كبعد إجتماعي تواصلي، لكنها كما يبدو، لا تطال المرقى الرابع الذي تتحول بموجبه عناصر اللغة من صفة الدال إلى مدلول، بحيث تلغي المدلول الأقدم وتحل مكانه.

    ويمكن التقاط إشارته مثلا عند الشاعرة سعدية مفرح كمماهاة قولية " سآوي الى جبل من كلام " فبهذه العبارة إنما تشير إلى حالة خاطفة من ذلك التشاكل الضمني، الذاهب إلى حافة اللفظي، وإلى صيغة أنثوية من صيغ الإحتماء الشعوري المطمور في اللاوعي، التي يمكن مقاربتها لدى طابور طويل من الشاعرات العربيات يعدن إنتاج البيان القرآني تضمينا وتصريحا وفق تصور أنثوي.

    وأحيانا يتلبس ذلك الإحتماء شكل الولاء الإجتماعي كالذي نذرت به الخرينق صوتها لزوجها بشر بن عمر، فيما يشبه الإنتماء الذي أعلنته الإيطالية فيتوريا دا كولونا ( 1490 - 1447 ) صديقة مايكل انجلو وموضوع أشعاره ولوحاته التي كرست نصوصها الشعرية لزوجها بعد ترملها، فالمرأة التي كانت تتعرض لاضطهاد الرجل أو نفي الكنيسة، سرعان ما ترتد إلى ذاتها لتحجبها عن التداول ، ولتحضر في الأديرة والمعابد ومحاريب الذات.

    وهكذا يستحيل النص مكانا أرحب وأكثر أمانا لإقامتها، أو قد تعلن التواري عن المشهد الحياتي برمته، وكأن سرانية النص الأنثوي، الذي يربط بين ما تنتجه المرأة والمآل الذي تنتهي اليه، لا يتوضح إلا في الشكل النهائي للذات، بمعنى أن تلك الذات العاشقة التي لا تتنازل عن عشقيتها، لا تنفك عن هاجسها الإيروسي إلا بالجنون، أو الموت، فحس الإنجراح المتأصل في هذه الذات ليس طارئا، انما هو لازمة وجودية لكائن رومانسي النزعة يعلن شهوته للغياب أو الإنمحاء منذ ولادته.

    تهريب الذات من النص

    لا تطال الشاعرة فائض أحاسيسها إلا بلغة عادية، فالكلمات " دائما أقل من الرغبة " كما تؤكد إيمان مرسال في نصها " جدوى صوتي ". ولأنها كذلك لم تتأكد كفاءة الموروث الشعري النسوي بما يكفي للإقرار بإسهامتها الأدبية، وبرأي فاطمة المحسن، لم تنافس الرجال - شعريا - في التاريخ العربي المعاصر، سوى امرأة واحدة هي نازك الملائكة، ولكن قصيدتها لا تصمد في المحاججة الجمالية أمام شعر السياب وصحبه، عكس مباحثها الأدبية التي بكرت بدراسة الظاهرة الشعرية الجديدة، فتفوقت بذلك على أندادها ثقافة وعقلا ديناميكيا، فكل الشاعرات العربيات هن مستعمرات درويشية أو نزارية أو أدونيسية وهكذا.

    وعلى هذا الإمحاء التام للمنجز الشعري النسوي العربي المعاصر، تتساءل عن سر تخلف المرأة العربية شعريا عن الرجل، فيما يشبه الإستفهام التقريري، المؤكد لحقيقة الوهن الشعري الأنثوي، إن كان لتقادم كبح مشاعرها من تأثير على تحجيم دورها في هذا الميدان، حتى ولو كانت الفرصة سانحة أمامها لتقول ما تشاء. وتذهب إلى احتمالات عطالة تكوينية تسائل بموجبه مخيلة المرأة إن كانت قاصرة بالفعل عن أن تكون بمستوى تمثل النتاج الشعري الذي خلفته أمة تفاخرت بشعرها على بقية الأمم.

    ويبدو أن التساؤل يأخذ نبرة الإتهام، ليس بالنسبة للشاعرة العربية وحسب، ولكن لكل الحركة الشعرية النسوية، فالقراءة التاريخية تؤكد ذلك القصور التعبيري في النص الشعري الأنثوي، رغم الطابور الطويل من الأسماء، وترده الى أسباب كثيرة يأتي في مقدمتها التغييب القسري للذات، لولا بعض الطفرات والإستثناءات المحتمة بظرفية تاريخية وبتطرفات فردية، فقد كانت تلك الإزاحة، التي تم بموجبها تهريب الذات من النص، هي السبب الأوضح لحقبة طويلة من التردي التعبيري، بمعنى الخوف، أو الامتناع عن ترحيل التجربة العاطفية والخبرات الحسية إلى سياقات النص الشعري.

    ولكن رغم التعذيب الذي كانت تمارسه الذات الأنثوية على نصها، تبقى بعض آثاره المعنوية والمادية حاضرة في حركته الباطنية، فالحدس بما كانت تريد قوله تلك الذات، حسب مقرؤية فوكو لأثر العبارة المستمر يستند إلى دعامة مادية وليس مجرد محاولة تأويلية صرفة، وهو الأمر الذي يتطلب النظر إلى عبارات النص الشعري الأنثوي في صورتها الجمعية، ليأخذ التحليل العباري فرصته لاستعادة الظاهرة، فميزة هكذا تحليل بتصوره" ليست ايقاظ النصوص من سباتها الراهن، قصد اكتشاف وميض ميلادها، عن طريق فك ألغاز حروفها المكتوبة فيها، بل العكس ملاحقتها خلال سباتها الطويل ".

    هذا ما يفصح عنه أنين النص الشعري الأنثوي، وتؤكده كل المناهج النقدية، فبالتأكيد، ثمة كائن مأزوم خلف العبارات، تصعب رؤيته دون التماس مع وعيه وأحساسه كذات مبدعة لذلك لنص، وبصورة أدق، تفكيك المعنى الفلسفي لذلك الإبداع ومبرراته الوجودية ككتابة، من خلال تواشج حميمي مع حركة النص في تبرعماته الأولى.

    ذلك هو الكفيل بالتقدم في فعل القراءة، والتجادل المفتوح مع البؤرة الشعورية التي تولد بموجبها ذلك النص على اعتبار أن النص الشعري الأنثوي هو المكان الأنطولوجي لحركة ذلك الكائن. ولتأويل ذلك النص لا تقويله، يمكن ملاحظة الذات وهي تنسج ضمن سياق لغوي، بالنظر الى كون اللغة هي الأصل التكويني لذلك الوعي، ومن هنا تتأتى الحاجة النقدية الماسة لتأمل أصل النص، بما هو واقع مادي، وبالتحديد لحظة تولده ضمن صيرورة البعد الزمني.

    والتجادل مع مهادات، أو مخطوطات النص الشعري الأنثوي الأولية، يشي بمسافة وعرة وطويلة قطعتها تلك المنتجات المقهورة لتظهر إلى النور، لدرجة يبدو فيه النص أحيانا، لفرط المحو والمواربة التي تعرض لها بمشرط الذات المنتجة له، أقرب إلى اللغز العصي، حتى على قراءة نفسه بنفسه كما يشترط جاك دريدا، وكأن الذات المنتجة له أرادت إغلاقه ليستعصي، أو ربما يستحيل، على أي ناقد تفتيش ضمير تلك الذات ومطاولة هواجسها، فكل قارئ بالنسبة للشاعرة هو رقيب في المقام الأول.

    والمحو هنا - أي ضمن النص الشعري الأنثوي - ليس بالمعنى التقصيفي، القائم على آلية محو وكتابة ما بعد حداثية، الذي يمنتج به المبدع نصه ليشخصنه، أو يندس به في التاريخ على طريقة ايهاب حسن، أو ليشده فنيا، ويزيده توترا، بعد أن يجتث منه الفائض البلاغي، والترهلات اللفظية، فهذه مهمة فنية لا يقدر عليها إلا القليل من المبدعين، إنما تم إلغاء حيوية النص بمعنى الإماتة، وإصابة وعيه وأحاريكه الشعورية بمقتل، حين أطل الرقيب،كعازل لوجودية النص، بأذرع أخطبوطية نفسية وإجتماعية وأخلاقية وذاتية ليمنعه من التمدد في رحابة السؤال، فالخوف من التفكير والتعبير، الذي أدمنته المرأة والشاعرة كمنتجة للنص، أدى على الدوام إلى فقدان شهية الحياة، وتمثلها بشكل مشوه إبداعيا.

    هكذا أفلتت اللحظة التاريخية بكل مقوماتها من كائن يعاد إنتاجه بالنص، أو ربما آثر هذا الكائن المهادن الحفاظ على لحظة تاريخية متخثرة، بوعي جزئي بائت، فالذات الشاعرة هنا لم تخسر التعبير الفني وحسب بل خسرت- حتى حين - حرية الحركة، بتعاميها عن مهمة الكتابة كفعل تحرر ووجود، نتيجة ركونها إلى هشاشة الذات المستدعاة بنص أو عبارات رخوة.

    وتكون الخسارة أكثر فداحة، عندما لا يترجم ذلك الوجع والتوق إلى كلمات، أو نصوص شعرية مقنعة، تماهي لوعة الكائن، بقدر ما يسد منافذ الذات بالأنات والآهات، فالتاريخ لا يعيد سرد صيرورته على نحو تراتبي إعتباطي، إنما يقوم على مأساوية الحركة كما حاولتها الذات كلحظة حرية متكررة، وجسّدها النص الشعري الأنثوي في أكثر من محطة، وبأكثر من صيغة، كما يبدو من الخط البياني للخطاب.

    وبملاحظة العلاقة التلازمية بين الوعي والمهمة الشعرية، يلاحظ أن النص الشعري الأنثوي، غالبا ما يبدأ بضربة عفوية ومباشرة في عمق الواقعة العاطفية، ليحدث تعالقه التلقائي الصريح بجوهر الحياة، فهو نص جذل، يبدأ من الأعلى إلى الأسفل، وتنعدم في أولياته المسافة بين الذات وموضوعها، ولذلك يغدو بحدته التعبيرية أقرب إلى الصرخة أو الاستغاثة وربما النشوة أو القهقهة أحيانا.

    إذا، فالمرأة كشاعرة، بقدر ما هي وثيقة الصلة بالذاكرة التاريخية، ودلالاتها الإنسانية، مموضعة على الدوام في واجهة الحدث الإنساني، الأمر الذي يدفعها بموجب ذلك الشرط الوجودي لاجتراح قوانين كتابة تعبيرية مضادة، وإن بدت تلك الذات المبدعة لفرط الإنتحابية مجرد بكاءة، أو ما يشبه القصبة المجوفة عكس ما يفترضه باسكال من كون الإنسان " قصبة مفكرة " فالشاعرة تصدر أصواتا توقيعية ولكنها غير مدوزنة، بل مبثوثة كيفما اتفق.

    أما أصل النص كمخطوطة، أو كوثيقة مكتوبة بخط المبدعة كما يقارب في النقد التكويني مثلا، فيبدو في الغالب شديد التعالق في أولياته بالأشياء، إذ تمنحه تلقائية الضربة الأولى القدرة على بعث الطاقة الحية للنص، وحيث تشير ركائزه المادية إلى براءة التصور الأنثوي للوجود فيما يشبه مراودة الضحية لكتابة تاريخها، أو تنصيص أوتوبيو-غرافيتها بشكل شعري، قبل أن يعبر النص ضرورات التنقيح، وتمرير العبارات في ممر ضيق من الإحترازات، وخنقها تحت وطأة سقف خفيض، بجملة من المضادات والتحفظات، التي تعطل الكتابة الشعرية كفعل وجود.

    كم يشبه الدموع والضحكات والشهقات والحشرجات، فهو نص إيمائي حر في جوهره، وفي تدفقه نحو حقيقة الإعتقادات العاطفية، لكنه سرعان من يصلب على سرير بروكست ليفصل عباراته على متطلبات الضرورة، ويدخل مع الحقيقة والذات والمفاهيم في علاقة مقننة، مصفاة من وجع التجربة، وحرقة الخبرة، الأمر الذي يخلع عنه أحيانا سمة الشعرية لينزاح إلى نبرة خطابية أو ممارسة حقوقية مصعّدة، كما في نص اليونانية غالاتيا كزنتزاكي" خطيئة " الذي يموضع المرأة في مجابهة أو محاكمة اجتماعية:

    المواخير هي بيتي وموطني .. وأشقى لحظات حياتي .. هي سنوات طفولتي .. إنها الآن مجرد صور باهتة كالحة .. ذاكرتي مثل صندوق خاو .. واليوم أسوأ من الأمس .. وغدا سيكون حتما أسوأ من اليوم .. أوقاتي أمضيها في قبلات من شفاه مجهولة .. تحمل لي معها المذلة والمهانة ...
    حياتي بأسرها مآلها إلى البوار والهلاك .. غير أنني أهتف صائحة وسط عذاباتي : أيها المجتمع، ما أنا إلا صورة منك .....

    هكذا يتشوه النص الشعري الأنثوي بارتكاسه إلى صورة الوجود عوضا عن الوجود ذاته، ليفارق الكتابة الشعرية التلقائية الى قالبها المدّبر، ويكون مجرد قناع يعزل النص عن جوهرانيته ويحيد به إلى مشتبهاته، وبذلك تصدق مقولة نيتشة، حتى على نصها الشعري، فلا شيء يبدو متناقضا مثل الحقيقة عند المرأة ، لأن الحقيقة جزء من البلاهة في نظرها، بغض النظر عن مسببات ذلك الجفاء المدّبر مع الحقيقة.

    وهكذا كان المتوهم في النص الأنثوي يتقدم، فيما يتضاءل المعاش، حيث الفكرة المستعارة، التي تهرّب بواسطتها الذات من مركز النص، في قوالب جاهزة، وطرق آمنة، تصل بالأنا إلى ضفة التسالم النفسي الإجتماعي، وحيث ينتفي القلق الوجودي لتسقط الذات في العطالة، وتكون الكتابة الشعرية حينها محاولات تكيفية، أقرب ما تكون إلى العادات السلوكية التنفيسية الرتيبة، التي تشبه طقوسية الإستهلاك وتداول الهموم اليومية، ولا يمكن بأي حال أن تندرج في آلية إنتاج المعنى الحياتي أو الإبداعي أو المعرفي، فكل شيء ناجز، لا يشوبه الإرتياب، ولا المغامرة، ولا يتحفز بحرقة الوعي والخبرة الحسية.

    وبالتأكيد، ليس بإمكان الشعر تصحيح سطوة الواقع، ولا التاريخ، لكي لا تتحمل الشاعرة وزر تصحيح خطأ تاريخي ما زال يفرض ارتباكاته، ولكن الكتابة الشعرية تحفظ للذات حيويتها من أجل القادم، وهو ما يبدو كنوايا مضمرة ومعلنة في النص الشعري الأنثوي، فالوعي التاريخي، والكينونة أيضا، يمكن تأسيسها على علاقة جدلية بمفهوم الكتابة الشعرية، التي قوامها العصيان، فهي على محك حداثة تحاولها، وتزعمها أحيانا، وقد لا تطالها عبر النص الشعري.

    وربما يمكن الرهان على إحساس الشاعرة التراجيدي بعنصر الزمن، كما بدى في منعطفات تاريخية لافتة، ليس بالإنغلاق السلبي على الذات، إنما بتصعيد العاطفي كمشروع فردي، ليتوحد النص والأفكاره وشعوره ولا شعوره فيما يشبه الرؤيا الشخصية للوجود، لا أن ينتظم في مفردات مستنقعة في حضّانة معجم بوطيقيا الأنوثة، أشبه بالقشور دون روح أو معنى، فالورقة البيضاء ليست إلا مكانا للترجمة اللفظية، أما الحياة فهي المكان الحقيقي للنص.

    ولأن الشعر، في أبسط صوره الأنطولوجية شوق مزمن للحرية، ومواعدة للذات بالانعتاق، أو ما تسميه شيمبورسكا " ذراع الخلاص " حتى وإن لم تتحقق تلك النيات، أو هذا تعلنه الشاعرة، لم يكن بإمكان تلك الذوات الخرساء أن تنتج إلا نصا صامتا، يتمادى فيه اللفظ حد التسيد على حساب الفعل والمعنى، نتيجة الفائض الرومانسي، فقد كان نصها معفى من التمرد لفرط إصغائه للمواعظ والوصايا البائتة، المنبثة من إملاءات فوقية أخلاقية واجتماعية، عوضا عن إنبعاثها كأنغام حية من نداءات الحياة.

    هذا هو ما ما حدث لكائنات محبوسة في ذوات إمتثالية، أو هكذا تصنف، ولا زالت تعيش ضمن بعض المجتمعات تحت وصاية باطرياركية، لدرجة أن الشاعرة المغربية فتيحة مرشيد، صاحبة ديوان " إيماءات " وصفت علاقتها بالشعر بأنها كانت سرية على الدوام، وقد عاشتها " كعلاقة غير مشروعة، بحدة وقلق ، وبمتعة يشوبها إحساس بالذنب " فهذه الكائنات قدرها أن تحلم أكثر مما تمارس إنوجادها. وإذا ما حاولت الحضور بالشعر، إستعانت بالرجل، لتستعير صوته وأدواته إحتفالا بامتياز أنوثتها، ولكن على طريقته، لتعيد سيرتها القديمة وهي تهريب سيرتها العاطفية، وذاتها المقهورة من نصوصها المسيجة بالتابوات، وكأن صور القهر الجنسي ترحّل إلى واقع النص الأدبي عبر الوسيط الاجتماعي، لتظل كائنات مغلولة، لا تمل من التقنع .

    وبالتأكيد، لا يكمن جوهر الشاعرات في النصوص المتملصة من الأنوثة، إنما في تلك التي تتعمد الإلتصاق بحاثاتها، فالتاريخ الإبداعي يسجل تجاوزا إيروسيا لافتا، واستدعاء جريئا للذات الى مركز النص، كما سيتضح ضمن الواقع والقراءة التاريخية الأحدث للمرأة الجديدة، وأيضا ضمن ظرفية تاريخية أو نتيجة طفرات فردية، إذا ما أخضع النص الشعري الأنثوي لقراءة تسلسلية وغورية، يتضح بموجبها شكل الكائن في مراوحاته ، وصيغ حضوره التعبيرية، فقد نسب لحفصة بنت الحاج الركونية قولها:

    أزورك أم تزور فان قلبي إلى ما تشتهي أبدا يميل
    فثغري مورد عذب زلال وفرع ذؤابتي ظل ظليل

    ومن نفس المنزع الإيروسي المتأصل في شعر المرأة يمكن تأمل سحر النداء الأنثوي على مستوى الموضوع في الصين واليابان القديمة وأمريكا الحديثة ، كما تبدى ذلك الملمح - مثلا - بشكل سافر في شعر اليابانية أونو نو كوماشي ( 834 - 880 ) تلك الأسطورة التي لم تكف عن استدعاء جسدها واستعراض نكالاته الإيروسية، كما وصفته ذات قصيدة :

    جسدي ،
    عشبة طافية تؤلمها جذورها ،
    فيما يغويني الماء
    وعلى ما أظن
    سأتبعه

    لكن ذلك التجاوز الموضوعي المسجل في التارخ كطفرات لا يكافأ في الغالب بأدائية فنية أنثوية مقنعة، حتى في تيارات البوح التي هيمنت على جانب كبير من الشعر الأمريكي الحديث، والتي جاءت على إيقاع التطور الدراماتيكي للمجتمع الصناعي حيث، تراجعت الإيروسية لصالح الفورات الجنسية، أو استدمجت بها وفق ضرورات مختلفة طالما بخست النص الأنثوي.

    وهذه الخطوة، أي إخراج الجنس والجسد من ظلمات المحرم إلى علنية اللغة وعلنية الممارسة، بتصور الدكتورة أنيسة الأمين، كانت مفصلا جوهريا في سقوط المقدس، إلا أنها، وفي العالم الغربي، أفقدت الإنسان بعده العاطفي، الذي يشكل سندا نفسيا ضخما، تأكيدا لتصور فرويد النفسي بأن الطاقة الإيروسية تنضغط كلما تمادى الفاعل الجنسي، بمعنى يقارب ما رآه ابن قيم الجوزية في " روضة المحبين " من فساد العشق أو بطلانه بغائية الجماع، فقد كانوا يسمون الحب على الخنا الحب السقيم.

    ويتعزز ذات الرأي عند هربرت ماركوز، الذي يؤكد بدوره على المفارقة بين الجنسي والإيروسي، كما يبدو جليا في شعر الأمريكيات ويتأكد بالشواهد النصية، فبتصوره، كلما جرد الأدب والفن من انفصاليتهما، أفقدت الغريزة الجنسية تساميها، واستبدل المجتمع التكنولوجي الإيروسية التي هي أكثر من مجرد تعبير عن الرغبة الليبيدوية بنوع من واقعية جنسية تقلص عالم الليبيدو إلى مجرد نعرة تتطلب التلبية على نحو سريع ومباشر وواقعي.

    بموجب ذلك التواطؤ على المفهوم الأحدث للإنسان عموما ابتكرت الأنثى/الشاعرة طريقة جديدة لتهريب ذاتها من النص، وهكذ فقد النص الأنثوي بعض مبرراته الوجودية، ولم يعد من وجهة النقد الذكوري المتطرف سوى إستعارة أنثوية لمزاج الرجل، واستجابة نصية لحسيته، وكأن الأمر لا يتعدى كونه لعبة حلقوية الحركة تعود بالمفهوم إلى منطلقاته البكر، ولكن بزي مخالف، فسيلفيا بلاث تتلبس روبرت لويل، وسعاد الصباح تؤنث نزار قباني وهكذا يتم تحديث الذات الأنثوية خارج غرفة فرجينا وولف، فأغلب الشاعرات أقرب إلى التأثر بالشعراء وليس بأسلافهن أو مجايليهن من الشاعرات.

    هكذا تبدو صفات الجمال والحقيقة والحب المطروقة بقوة في النص الشعري الأنثوي، فما هي إلا تأنيث بائت لمفاهيم ذكورية أصلا، فليس ثمة انقلاب تعبيري على نظام الكتابة الشعرية الذكورية، وهو الأمر الذي تقاربه مي تلمساني - نصا - بروح مجازية في " أوهام إيروسية بما يشبه البصمة القدرية، أو الأرق الذكوري المزمن، إذ لا تقدر عندما تتقلب ازاءه في الفراش " نسيان أن رجلا هو كاتب " الكاماسوترا " .

    ومثلها كانت عائشة التيمورية التي وقعت أسيرة لأشواق الحب الوهمي، فراحت تردد بصوت الأنثى مفاهيم الذكورة والفحولة الشعرية العربية لتقول الغزليات، حسب تصور ظبية خميس ، التي تسجل عليها الفشل في تجاوز تقاليد الشعر العربي فيما تعطيها فضيلة الهمسة الأولى لصرخة ذلك الصوت النائم داخل الذات الأنثوية العربية، حتى التشيلية لوثلا جودوي أليكاياجا، لم تجد بدا من تأنيث الجزء الأول من اسم غابرييل دي أنونزيو، والإستحواذ على الشق الثاني من اسم الكاتب فيديريك ميسترال ، لتصبح غابرييلا ميسترال، أول شاعرة تحصد جائزة نوبل.

    بوطيقيا قبيلة الأنثى

    بالمعنى النقدي، ثمة سلالة شعرية أنثوية ممتدة عبر التاريخ تنتظم فيما يمكن اعتباره " بينصية " ترتد كمجموعة من الإرادات إلى إرادة واحدة حسب الكوجيتو الديكارتي، منذ انهيدوانا، التي كتبت شعرا سياسيا وكونيا تخاطب به الآلهة السومرية، وتأسيسا بسافو مرجعية الحركة الشعرية النسوية، ووصولا إلى طفرة التعبير اللغوي السافر عن هامشية العرضي، ونزقية الجسدي في الشعر الأمريكي الحديث، كنتاج ثقافي إنعكاسي للمجتمع الصناعي وما بعد الصناعي.

    وهذا المجموع النصي، حسب التعبير الألسني، المنتظم في مسارد بنيوية، وسلسلة إرتباطات مورفولوجية، هو النسق الأنثوي كما يتوارث كوصايا وآثار، أو شفرات معيارية، حين يمفهم تودروف " الشعرية ". ويكون فيه النص نقطة تقاطع مكثفة في اللغة، فيما يشبه المراجعة على مقومات الكائن الأنثوي، الروحية والموضوعية، لإعادة إنتاجه بمحاذاة الخطابات الإنسانية التي تعيش حالات من التبدل المستمر، أو ما يعرف مجازيا بتكرارية التقدم إلى الأمام.

    ذلك الولاء الرحمي هو ما يسميه جيرار جينت في مفهوم الشعرية أيضا " المتعاليات النصية " أي العصب السري الذي يربط النص الأنثوي، عبر علاقة خفية أو صريحة، بجملة من نصوص القبيلة، أو الفئة كإطار مرجعي، تتطابق بموجبه رابعة العدوية مع الهندية ميرابي، وتبدو فيه مرام المصري مثلا وكأنها نسخة معرّبة من آن سكستون، ولا تفارق فيه المصرية أروى صالح الإيرانية فاروخ فرغ زاد إلا في تفاصيل المآل.

    ذلك التواشج لا يعني أن النص الشعري الأنثوي يستمد وحدته كما تفترض حفريات الخطاب من افتراضية التجانسات العبارية وحسب، أو نتيجة تشابه المضامين القاموسية، أو حتى تماثل التنظيم الصوري للتشكيلة الخطابية، أي ليس وفق نمط معياري واحد في الكتابة، ولا من ميدان موضوعات مليء ومتراص ومتصل ومحكم البناء، بل يمكن تأويله أيضا مما تعبر عنه فوارقه وفجواته وثغراته المطبوعة بالتداخل والتشابك كمصدر لتلك الوحدة المؤسسة على التبعثر في الزمان والمكان.

    إذا، لا ينبغي التسليم بهكذا خطاب لمجرد مراكمة مجموع عباراتي ككلية مغلقة وإن بدلالات وافرة، حسب تصور فوكو، بل كصورة تتخللها الفجوات ويطبعها التناثر، وتتبعثر خارج بنية الخطاب أيضا، في نسق يشي بالتراكم النوعي الذي يؤدي إلى ما يسميه " وضعية " تحيل بالضرورة إلى دراسة التشكيلة الخطابية من خلال الإنجازات اللفظية، لعدد من الشاعرات ينتسبن لنفس التشكيلة الخطابية دون دراية منهم، ويتكاملن عبر خطاباتهن الفردية في خطاب أشمل وأكمل.

    وربما لهذا السبب قدمت الشاعرة اليمنية نبيلة الزبير ديوانها " محايا " محبة الى " بنت ثوبان " شاعرة مدينة " بين " منذ سنة 2500 كاستدامة تمكيثية لذلك الهاجس الأنثوي التآزري، فبهذه المحايثة الدائبة أو التراسل الباطني، تختبر تلك الطائفة البشرية حضورها بالرمز اللغوي، على حافة اليومي والذاتي والكوني، على إعتبار أن الراهني، الذي يتعاطى شعريا كهامش، ليس سوى صورة للتاريخي، فكلاهما يحتوي حقيقة إنسانية وجمالية، ولكل طاقته التعبيرية والموضوعية، التي تصاغ ضمنها حقيقة هذا النص.

    ويعاد النظر إلى ذلك النسق بين حين وآخر وفق ما بات يعرف ببوطيقيا الأنوثة، بوصفها شكلا تخصيصيا للكتابة الشعرية، تماثل حد التعادل الموضوعي والشعوري مفهومات الفلسفة أو الأيدلوجيا، بما يتطابق أيضا مع اشتراطات الخطاب الذي لا يقطع بالضرورة الأواصر التي تجمعه بالأيدلوجيا، وتحديدا مع وجهة نظر جوليا كريستيفا حول " مفهوم الشعرية " المستدمجة بسياقات ثقافية وخطابات إنسانية، والمحقونة أصلا بحمولات أنثوية متمادية، كانت هي المسؤولة - ربما - عن تأخر الإقرار بشاعرية المرأة، أو التسليم بتملكها لمخيالية مستقلة وفق معيارية إبداعية ولقرون طويلة.

    وقد تحطم ذلك العناد الذكوري عندما أعلن سنة 1945 عن فوز التشيلية غابرييلا ميسترال بجائزة نوبل، التي عرفت عبر مجموعاتها الشعرية " رقة " و" إفقار " و" إحساس " و " مجنّح " بشعرية شديدة الصلة بجوهر العناصر الطبيعية للحياة، منذ قصيدتها الأولى " سوناتا الموت " التي التي كتبتها إثر انتحار خطيبها وحازت بموجبها على جائزة تشيلي الوطنية للشعر، التي تقول فيها :

    من خلال الكوة الثلجية التي ألحدوك فيها
    أملت بجسدك ناحية التراب المشمس الفقير
    ولم يعلموا ،
    أنه كان ينبغي أن أنام، أيضا ، أنا فيها
    وأحلم على نفس الوسادة

    أسندتك الى الأرض المشمسة
    بحنو أم تهدهد إبنها الغافي
    ستكون الأرض مهادا ناعما
    عندما تستقبل جسد طفولتك المطعون

    أبعثر بعضا من التراب وغبار الزهر
    وإذا ما لاح الشفق أذر غبار القمر
    فما تبقى منك مجرد أسير

    هأنذا أكف عن التغني بانتقامي الفاتن
    فلا يد ستصل إلى ذلك العمق القاتم
    لتفاوضني على قبضة ضئيلة من عظامك

    لكن أهميتها الأدبية أخذت تتراجع في العقود الأخيرة بشكل محير، وكأن الأمر لم يكن أكثر من ترضية للحركة الشعرية النسوية، أو نتيجة حسابات أملتها ظروف الجائزة، ليعود الحديث عن هامشية الأداء الشعري النسوي، فتلك الإيروسية المتأصلة في شعر المرأة، المساء توظيفها أو الرهان على مستوجباتها، هي المسؤولة عن أنوثة باهظة تراها الأمريكية اريكا يونغ " مصيدة " فهي محل إنساني /إبداعي على درجة من الخصوبة والإلتباس في ذات الوقت، تنفصم فيها جمالية بوطيقيا الأنوثة ما بين الدلالات الفنية ( اللغوية والتعبيرية ) والدلالات الاجتماعية بمركباتها الثقافية.

    يحدث هذا الإرتباك المخل عندما يتصعد حس الإنجراح في الذات الأنثوية، ويضغط الموضوعي على الفني حتى يحيل الشاعرة إلى " كائن لفظي " والنص الشعري إلى مجرد تغريد وجداني، خطابي النبرة دون مناطق عمى ضرورية لاختبار الكفاءة التعبيرية للنصوص، نتيجة تقاطع جملة من العوامل والمركبات النفسية والاجتماعية والثقافية، تدفع الشاعرة، كما يبدو، إلى الإبقاء على أطر المفهوم الإجتماعي للأنوثة، المعادل لمبدأ النسوية، وبالتالي الإمتناع عن بث حقيقتها، واستمراء التعبير عن مكبوتاتها، أو توصيف ما تعرفه وتتوهمه عن نفسها تحديدا، عبر مضخة اللاوعي، أو أحلام اليقظة.

    ويتطابق ذلك التشخيص مع ما استنتجته وأقرته رغداء مارديني في دراستها لشواعر الجاهلية، حتى بالنسبة لما يعرف بتجربة الحب التي لم تتضح سماتها من خلال ذلك الأثر الشعري الأنثوي، حتى أن شعر النساء قليل في هذه الخانة، كما تقر الشاعرة ظبية خميس في كتابها " صنم المرأة الشعري " فالشاعرة الجاهلية برأي مارديني " لم تبعد في معانيها عن حدود المعاني الوجدانية الصرفة، كمناجاة مواطن الأحبة، وانتظار الريح لحمل رسالة، وايقاف الركبان ومناجاتهم، ووصف ألم الفراق والوجد الذي شق القلوب وقطع الأحشاء. والأنين المستمر للقاء الأحبة" ورغم ذلك جمعت وندي ملفورد ما يقارب الثلاثة آلاف قصيدة أنثوية عن الحب من كل الثقافات.

    إذا، فالمرأة حسب الإعتقادات الإبداعية المتوارثة كلما اقتربت من نسويتها وتمادت في النأي عن أنوثتها، صارت أوثق بقرائن الشعر ومشتبهاته منها إلى جوهرانيته، أي إلى الشعور والأحاسيس المباشرة التي تستنهض بها مركبات الروح والجسد بصيغ حلمية، دون إشارات فلسفية، ودون أن تحيل ذلك المركب الإيروسي ( الروحي/الجسدي ) إلى لسان، أو وجود انطوقي يكافئ إنجراح الذات، أو فائض نرجسيتها المعلنة.

    وربما لأن المرأة، بتصور لوثر لودتك، أحدى أيقونات ثقافة الرفاهية المعممة بكل الوسائل، كما تبدو غالبا، أو هكذا تصنف، فهي أبعد ما تكون عن الأدوات أو الرؤى الكونية الكبرى، وأميل إلى خاطرات التوصيف للأحاسيس الصغيرة وتصعيد مشتهياتها، أو التغني بمستحيلاتها لمحايثة تاريخ قهرها أو لتدوين سيرتها بالشعر.

    وهي إذا، حسب التصور الذكوري، أصلح لأن تكون موضوعا للحب والشعر منها لكتابة القصيدة، وأعجز عن إنتاج المعنى الشعري، لأنها قاصرة لغويا عن إحالة عناصر اللغة، بمراكمة تاريخية ومعرفية، من صفة الدال إلى سمة المدلول، التي تؤسس لمرجعية يتم بموجبها تحطيم المدلول اللغوي القديم بمدلول أحدث، وفق خصائص الكائن الجديد وشروطه التاريخية، بمعنى تحطيم ذاكرة المفردة، فالأنثى كائن قدره الاستلاب، يستخدم الشعر كمعرفة وممارسة وسلطة لإبراز وعيه ومفهومه الأحدث، أو هذا هو الشكل الأدبي لحداثة تحاولها الذات الأنثوية.

    وقد حدثت تلك الإزاحة الذكورية للأنثى الإفتراضية مثلا مع الشاعرة البرتغالية سور فايولانتي دوسيو، فرغم كونها شاعرة معروفة في زمانها، إلا أن شعراء القرن السابع عشر أرادوها مادة لأشعارهم وموضوعا لغنائياتهم، وكذلك بالنسبة للإيطالية فيتوريا دا كولونا، وإلى حد ما بالنسبة لليلى الأخيلية التي تغزل بها توبة بن حمير، وكادت أن تخلد كمحبوبة لتنسى كشاعرة عندما رحلّت في الذاكرة التاريخية، أو كما حدث لمي زيادة أيضا التي لم ينظر لها كشاعرة، أو ربما أزيحت عن هذا المكمن.

    وفي هذا الشأن تمارس ظبية خميس حالة من مفاعلة السياقات، وإن بصيغة تساؤلية، فالمرأة العربية، برأيها، لم تكن سوى آلهة للحب، فهي مجرد موضوع للحب ولكنه غير منجز تماما، ولا متحقق ، فهو يراوح بين إرضاء نرجسية الشاعر، أو التعبير عن حرمانه، بالنظر إلى أن الحب العربي القديم بقي كصورة من صور الأسطورة والوثنية القديمة، فحتى عندما يرق فإنه لا يستطيع تقديم امرأة من لحم وعظم، بل آلة قديمة فاعلة ومؤثرة في مصير الشعراء وعشقهم، بينما هي في منطقة المفعول به، ذلك أن ظاهرة الحرمان، حرمانهم هم منها وحرمانها هي منهم كان يتم بفعل سلطة الرجل في القبيلة والعائلة أو الدولة.

    وهذا هو تماما ما أرادت الشاعرة الأيرلندية سارة ماغوير الرد عليه في ديوانها الأول " حليب مراق " بإصرارها على تفكيك تلك المهمة الفحولية، أي بزحزحة المرأة كموضوع في الشعر الغنائي إلى خانة الفاعل الشعري، فلأنها تؤمن بالأفكار النسوية صممت على أن تقوم بهذه المهمة الشعرية من الداخل، أي باقتراف خطيئة القول الشعري النسوي الصرف، لتبدل عهودا من الشعر الانكليزي الذي لم يعترف بالمرأة كشاعرة، رغم اعترافها الصريح بأثر الشاعر جون دن خصوصا في قصيدتها " رمانة قندهار " وبالشاعر أزرا باوند في قصائدها القصيرة، وانتفاء أي أثر لشاعرة من السلالة الأنثوية.

    وإذا ما تم تجاوز مستوى الصوغ اللفظي المتسم بعبارة رخوة على الدوام، إلى عمق الدلالة النفسية لروح الشاعرة، يتبدى ذلك الهاجس الأنثوي أحيانا في هيئة إتهام نفسي عصابي للذات المنتجة له، من حيث إنشطارها بين نوبات الهستيريا والبرانويا، فالذات الأنثوية مركبة من عنصاصر السلب والإيجاب، ومن مراودات الحضور والغياب، وهكذا هو النص الأنثوي مؤسس على بوفارية نرجسية فائضة، يفترض أن يغدو بها النص لسانا تتلبسه " الأنا " في سعيها لتحقيق الإعتراف بوجودها، ولتوسيع أطر معياريتها الاجتماعية.

    وربما، لهذا السبب بالذات، أي عند مقاربته كنظام أدلة، أو كفعل وعي تشخيصي، كما يفترض الشعر، تزدحم مفاصل هامة من الخط البياني لشعريتها بمؤشرات تتأخر فيها اللغة عن تعاليات الإحساس في سرديات إستغراقية، وتتقاطع فيها كافة الخطابات الإنسانية، إذ تبدو مهمة التحرير الإجتماعي المعزّمة باستنهاض " نون النسوة " رسالة إنسانية متوجبة على الدوام، بل عصبا حيويا، أو مهادا لشعريتها، يأتي في أول ضحاياها سحرية النداء المتأتي من رهافة وحيوية " تاء التأنيث ".

    بهذا الإنزياح الموضوعي، تغدو الكتابة الشعرية الأنثوية وسيلة موضوعية بتبعات حقوقية في الغالب، للتحرر والتمرد على ضراوة الواقع، أو شكلا من أشكال التعبير عن مسكنة الكائن المحكوم عليه بالعيش على " حافة الحياة " حيث يندر أن تنجو شاعرة من سطوة الرومانسية الفارطة، المؤكدة على صراحة الإعتقادات العاطفية بصيغتها الأفقية، المودية بالذات إلى السوداوية والعطالة، وحيث تمتزج نبرة رثاء الذات والنعي المكثف لها بثيمة القهر الجمعي، ونعومة الحلم الذي يتبدى كمركزية لشكل الوعي.

    ذلك المنحى الوجداني الساذج هو تماما ما تتبرأ منه، حد الكراهية، البريطانية دوريس ليسنغ، الحائزة على جائزة أمير أستورياي الأسبانية، فيما يسمى بالأدب النسوي عندما تختصر الذات الأنثوية، برأيها، ضمن ذلك التصنيف في امرأة محاصرة بالنزق، والإشمئزاز، والترقب، تحتسي كوبا من القهوة، وتنتظر حبيبا مؤجلا، ولن يأتي، ولن يتصل، ولن يستجيب لأي من نداءاتها البائتة فتنتحر، أو تعلن كآبتها الدائمة بنص متخثر، كعنوان للأنوثة المقهورة، كما يتبدى في سياقات الكثير من النصوص الشعرية النسوية بشكل صريح ومكثف.

    تلك إذا دلالات سوسيولوجية تختصر الكثير من تداعيات بوطيقيا الأنوثة وتعدد موضوعاتها، وتشير إلى شكل الصلة الطردية بين نبرتها الشعرية وانعطافات الخطاب الإجتماعي، كما تحيل إلى الخط البياني - موضوعيا وفنيا - الذي رسمته تلك الذوات عبر التاريخ، وصولا الى شكل التعبير الأنثوي الآني شعريا، والذي يبدو أحيانا وثيق الصلة بتطرفات الحداثة، محاذيا لمتطلباتها أو متصادما معها باعتبارها مخترعات ذكورية، فيما تحاول المرأة عموما، والنسوية بوجه خاص، أن تجعل من ذلك الخطاب الحداثي وما بعده، خيارا نسويا بامتياز.

    " هيت لك "

    وتحت إيقاع وابل الطرقات التبخيسية، تدفع الشاعرة بالفعل نحو " مستعمرة النساء " بعيدا عن نداءات الحياة، إلى الأديرة، أو محاريب الذات، ليتضاعف في داخلها حس التناقض والقلق والرغبة في الإنزواء، وحيث تنسج أوليات نصها السراني، المؤسس في هذا الجانب على تدمير معايير " الأنا " ببدائل يرتفع بموجبها منسوب التمثيل الاجتماعي كما يحددها هوبهوس كمعايير زيادة في كل من المدى، والكفاءة، والتبادل، والحرية، فيما تعتبر انبثاقات موضوعية للخطاب غير تامة التكوين، ضمن شرطية تاريخية، وإن تزيّت بزي موحد من الألفاظ والعبارات، أو بذات المضامين القاموسية.

    وربما يقود ذلك الإستنتاج التأويلي إلى قراءة إرتدادية، ترفع النص الأنثوي إلى أعلى بموجب تحديات وشواهد أيضا، فذلك المنزع يتبدى في صورة ذات نزقة معبر عن وجودها بنص تراكمي الدلالة، هو بمثابة تاريخ أدبي مضاد يورطها في صيغة " آخر " مغاير، ومستعد على الدوام للمصادمة، إثباتا للحضور بصخب الصوت، والتباؤس، وكم الحراك، وليس بكفاءة المنتج، فيما يعتبر دلالة على توفر شكل من أشكال العلاقات الخطابية ليست كلها من داخله، أو وليدة النص الشعري الأنثوي.

    وهكذا تكون تلك الصيغة ( الآخر ) مرتبة مثيرة للتخرصات التجنيسية، حيث لا يتم التعاطي مع النصوص الشعرية الأنثوية باعتبارها منتجات أدبية، متأتية من بوطيقيا ذات دلالات جمالية، أو صادرة عن كيان بمواصفات روحية وفسيولوجية موجبة لأداء تعبيري خاص، بقدر ما تقارب كمركبات نقص إنسانية، ودعاوى نسوية، لدرجة أن انتشار مصطلح شاعرة poetisa كان بالنسبة لشاعرات أمريكا اللاتينية مذمة ، وقد أصبح بتحليل الأرجنتيني خايمي عمر بيليزير من أقبح الكلمات، بالنظر إلى حدته التصنيفية، التي جلبت بشكل أو بآخر متواليات اتهامية لشعر المرأة كما يوصف بالشهوي أو الإباحي، فالشاعرات النطقات بالأسبانية لا يعجبهن أن يطلق عليهن اسم شاعرة، بل تعارفن فيما بينهن على استخدام لفظة شاعر.

    ذلك يعني بالتأكيد حبسها في محدودية الجنس وحجبها عن حقل النوع الأدبي، إذ لا تخلو سيرة أي شاعرة من صدام مباشر مع منظومة الأعراف، ووحشية الإشتراطات البطركية، رغم أنها لا تخفي هجسها العاطفي الحاد ازاء الرجل وإن بمزيج من التودد والتحدي المضمر، فكل شاعرة مهما انتمت إلى قبيلة النساء، ومهما أعلنت من حماس لقضايا وحقوق، لا يمكن أن تتخفف من رهافة مواربة وتوق لوجود عاطفي أجمل، تختصره جويس منصور بقولها:

    رذائل الرجال
    ميدان اختصاصي
    جراحهم مغانمي اللذيذة
    أحب أن ألوك نواياهم الخسيسة
    لأن دناءاتهم تصنع جمالي

    إذا، ثمة إعتداد بوفاري في النص الشعري الأنثوي، وهو بمثابة الروح الراسخة كعناد وجودي. وفي تلك الروح تكمن مركزوية المطلب الإيروسي، فالمرأة عموما مسكونة بقدر التجديف ضد التيار، وضد الواقع، بل وضد الممكن إلى درجة الهوس بالمستحيل والوسوسة بإمكانية تحقيقه، أو أن المستحيل العاطفي هو ما تراه واقعا وممكنا بل وحقا طبيعيا للكائن، فهي تتحرك على أرضية تصارع فيها المتأتي والمعطى من أجل ما ينبغي تخليقه، فالمجابهة مفروضة وليست اختيارية.

    وهكذا يبدو نصها وكأنه الشكل المقلوب للحياة، أو المطمح المؤجل ، وربما الوعد المنكوث به، الذي غالبا ما تفقد فيه التوازن، وينفى من رحابة الأدب إلى دعاوى الخطاب المجنس، أو خطابية المقاومة والضدية، وهو الأمر الذي ينطبع في شعرها بشكل حاد، بحيث يحيل إلى مطابقة وحشية بين الصورة والمرجع، أو بين النص والذات، فيما يعتبره كرافت ايبينغ بشكل إتهامي في وثيقته النفسية إرتباطا، أو نموا باثولوجيا لإستيهامات نفسية أنثوية .

    وفي تلك الهوامات المتأتية من إلحاح إيروسي تكمن الغمرة الشعورية الآخاذة التي تسم سرانية النص الأنثوي، أي عند حافة التطابق بين الإغراء الأنثوي والمكتوب، حيث تنبث النداءات والتوددات الوسواسية من ذات تسطر مكبوتاتها ولا تبوح بحقيقتها، فهذا هو شكل الرد الأنثوي بمعناها وشكله الإغوائي، كما يتبين بوضوح فيما تسميه صاجبة " الكتاب الأبيض " شاعرة الأورجواي الأشهر ديميليرا أغوستيني " الجسد الكامل " وذلك في قصيدة " جحر الحية " حيث تشبه فحيح جسدها بشريط من اللذة ، ينزلق ويتلوى كجدول ماء، فهذه المراوغة هي الشكل الأمثل لما يسميه نيتشة " الجنون الجميل" الذي تختصره سليمى رحال بالتفاف أنثوي في موبقاتها:

    هكذا هم ..
    يخدعون طفولتي
    هؤلاء الرجال

    هذا هو ما يحترمه الرجل/نيتشة وما يحبه في المرأة إذا، أي هذا الفن وهذه الغريزة، برأيه، وعلى ذلك تبدو ازدواجيته كرجل مفضوحة، برأي دريدا، فسطحية المرأة أو لا موضوعيتها أحيانا هي المبرر لانتقادها بقسوة، وتارة هي الأس الإغوائي الذي يقوم على مجازيته أس الإعجاب، فالرجل يصغي بكل حواسه للهفة الفونسينا ستورني وهي تصيح " أين يوجد من يشعل رغبتي ؟ " ولهسيس " شاعرة الأورجواي خوانا دي ايباربورو " يفوح لحمي الآن، وعيناي صافيتان، وجلدي وردي " وعندما قرأ غاستون باشلار مقطع آن ماري باكر " ترك لي كل ما يلزم للعيش، قرنفلاته السوداء، وعسله في دمي " وصف البيتين حسب قواعد الأنيما أو الأنوثة بالشيطانيين.

    مثل هذه العبارات الخاطفة متولدة من ديالكتيك زليخة " هيت لك " المتعامد مع نداءات سافو، بما تلخصه هذه العباره من التجربة اللسانية المحركة لجوهرانية الخطاب، من حيث كونها عبارة نوعية المستوى، لا تكتفي بعنصر اللفظ أو الفكرة أو القضية الشعورية، بل تدخل في علاقات عمودية مع بقية الوحدات، وتولد جملة من الإشارات، كما ترتبط خارج الخطاب بفضاءات متاخمة، مع الإقرار بالحاجة دائما إلى أكثر من عبارة لإنجاز فعل لساني واحد تتكثف فيه مرادات الخطاب.

    ومن خلال تلك العبارة العابرة للأنساق يمكن رصد تشكيلات النص الشعري الأنثوي الخطابية، وقانون التمثيل المتميز لبعثرة العبارات، ليس كوحدة بلاغية وانما كممارسة خطابية تتجاوز المستوى التعبيري، إلى الضغط بالهالة السيكولوجية للكائن الأنثوي، كما يتبين ذلك في قصيدة " الأصوات المصاحبة " للشاعرة فيرا دوارتي الحائزة على جائزة تشيكايا أوطامسي، عندما تخاطب حبيبها، إن رآها تترصد من النافذة، أو أحس بموجة من التمرد العاجز، تلهب عينيه، وتطارد روحه ، تناديه:

    فاسحبني بهدوء
    من تنورتي الواسعة
    واغرقني
    في عناق هائل خانق

    هذا هو ديدن الكائن الأنثوي الذي لا يكف عن المطالبة بآخر ذكوري، فتلك الذات المقهورة تتوسل على الدوام ملامسة شعرية ناعمة للوجود تنحت فيه - حسب استيهاماتها - مواصفات الذكورة المتوجبة، فكما يسقط الرجل المحب على امرأته جميع القيم التي يجلها في أنيماه الخاصة، بتصور ياشلار، كذلك تسقط المرأة على الرجل الذي تحب جميع القيم التي يود أنيموسها تحقيقها، وكأنها - أي المرأة - تؤكد المقولة الأراغونية " المرأة هي مستقبل الرجل " ولكن بشكل معكوس وحتمي، فالنيكاراجوية روساريو موريو تريد أن تصنع الثورة مع ذلك الآخر، الذي استحوذ عليها بأحذيته العسكرية، وأخافها بنظراته الحزينة وخرائطه المعقدة ، لكن الطبيعي بنظرها :

    هو هذه الغرفة
    ذات النوافذ المغلقة
    وأنا في داخلها
    عارية،
    والحب يتساقط من الجدار

    ويصل هذا الإحتياج أحيانا إلى ميل واضح للإحتماء بمظلة ذكورية مستبدة، تعلن بموجبها المرأة رغبة صريحة في التحول إلى ضحية أو غنيمة، كما بدى مثلا في مثال الشاعرة بنت حباب التي ضربت بالسياط بسبب حبها ليحيى بن حمزة وإصرارها على الوفاء له حتى لو قطعوا لسانها، وكما ظهر ذلك بشكل سافر في تمجيد بعض الشاعرات الغربيات للهتلرية كسيلفيا بلاث التي يتهمها هيوز بعشقها الأوديبي لأبيها، فيما كانت تماثلهما في قصيدة " دادي " حين صاحت " ما من امرأة إلا تعشق فاشيا" وكل ذلك الارتهان لسطوة الذكوري إلى مرجعية مخاطبات شولاميت، أي لجبروت الرجل العاشق سليمان في " نشيد الأنشاد" ، وإلى هوامية المطلق المتهم كما تمثل عند اليونانية ليلى ياكوفيذي ( 1899 - 1985 ) في نصها " دعوة إلى إيروس " :

    هيا .. تعال لتعطر أنفاسي.. هيا تعال .. لتروي جسدي .. وتنضر قوامي ..
    هيا .. تعال .. يا عزيزي .. وابعث من الممات روحي ..
    هيا .. تعال .. ولتفعل بي ما تشاء .. فإني قرينتك .. بل أنا امرأتك .. محبوبتك .. عشيقتك .. خطيبتك .. وسواء كنت حرة أو أمة .. فإني أجثو عند قدميك .. وأغدو ملكا لك ..
    .........
    لا يهم ! هلّم إليّ .. سواء تزودت بالمنجل .. أو بأزهار الزنبق .. لا يهم! هيا للحصاد .. أو لبث الإخضرار .. لا يهم!
    .. فسأكون دوما متجردة من ثيابي .. وقابعة في انتظارك ....

    هكذا تتوارث الشاعرات تلك النبرة الإيروسية الأصيلة، التي تسمي القطرية زكية مال الله هسيسها الخفي " نشوة أزلية " فذلك يظهر بشكل جلي في شعر نساء البشتون الأفغانيات المعروفة باللانداي ( الموجز ) المفرط في صفائه العاطفي، المنبث من شهوية أنثوية، فالمرأة كأصالة صوتية لهذا اللون من الشعر هي المركزوية الحسية، التي تعبر فيه عن إذعانها، فيما تغري الآخر/الذكر وتستفز شرفه وكرامته ورجولته، فهذا هو منطق شعر اللانداي المتطرف في شهويته، كما يتمثل في هذه المقاطع في قول الباشتونية :

    أيها القذر الصغير تناول بندقيتك واقتلني
    فطالما أنا على قيد الحياة
    لن أتخلى عن عشقي أبدا
    ..............
    إما أن تكون على صدري دائما
    وإلا فالأفضل أن تكون بين ذراعي الأرض المعتمتين
    ..............
    أكلت فمي دون أن تشفي غليلك
    أيها الأبله ، تحملني على ظهرك
    أنا مستعدة لأتبعك

    وهكذا تنلجم أيضا كل المطالب التحرر البيولوجي والأيدلوجي، وشعارات التمرد فجأة أمام لحظة الحب، بتعبير الدكتورة أنيسة الأمين، فبرأيها أن الشعر الذي تكتبه النساء يمكن إدراجه في خطين متوازيين : خط أول، هو أعلان الذات المتمردة والحديث عن الإحباط. وخط ثان، عنوانه الرضوخ والخضوع للحب، كأن هذا المستوى العاطفي، لم ينضج وما زال أسريا، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك، وذلك بسبب كون المرأة أصلا قد تربت في ضمن الدائرة العاطفية الأسرية، الأمر الذي يفسر طفرات النص الشعري الأنثوي الأحدث نتيجة خروجه على المفهوم أو الضابط الأسري، وحتى المعايير الإجتماعية.

    إذن، النمط الأدبي المقاوم هو النص المعلن للشاعرة، او هذا ما يشي به ذلك المنتج، من الوجهة المظهرية ، أي كحركة تحرر نسوي من استعمار أبوي النزعة، تشبهه ظبية خميس في نقديتها لشعر البحرينية فوزية السندي بالوعاء الحربي لكل " العنف المرعب الذي يسكن رأس الشاعرة " وذلك في دراستها " الذات الأنثوية من خلال شاعرات خليجيات " فذلك المنزع الحقوقي لا يصمد أمام شرط الحب، ونداءات إيروس، حتى عندما تبتسم المكسيكية روساريو كاستيانوس ( 1925 - 1974 ) لفجر بلا رجال، في قصيدتها " يوم في حياة امرأة وحيدة " فإنها تشعر بخجل من الوحدة، بل بالإحتضار في فراش بارد تحاور بيأس " أطياف الرجال ".

    وقديما بررت الشاعرة الجاهلية المعروفة بحكمتها هند بنت الخس مطارحتها الغرام لعبد هو خادم صالح بن عجيف، ردا على استهجان قومها بـ " قرب الوساد، وطول السواد، وحب السفاد " رغم كونها سيدة شريفة في قومها، فقد لقبها الجاحظ كإحدى داهيتي نساء العرب بجانب زرقاء اليمامة، لدرجة أنها فضلت مفارقة أبيها على أن تفارق ذلك العبد بقولها:

    أشم كغصن البان جعد مرجل شغفت به لو كان شيئا مدانيا
    ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه سلافا ولا عذبا من الماء صافيا
    وأقسم لو خيرت بين فراقه وبين أبي لاخترت أن لا أبا ليا

    هذا هو مبرر غواياتها وجمالياتها ككائن تعيد تعريف ذاتها من خلاله، فهذه فيديا تقسم - شعرا - لأصدقاء محظوظين لأنهم استطاعوا التحدث عما فعلوه كمحبين عن حيل ومتع وكلمات ونشوة الحب، أما هي فلم تعد تتذكر شيئا بمجرد أن وضع حبيبها يده على عقدة فستانها، حتى سافو، الخبيرة بنوايا وأمزجة الرجال، ينعقد لسانها، ويجتاحها لهب رهيف تحت جلدها، ولا ترى شيئا،كما تقول، عندما تتأمل ذلك الرجل الذي يشبه الإله.

    اسفكسيا الخنق

    طالما أخبر التاريخ عن " الموؤدات " المسطرة سيرهن - شعرا - بصراحة لفظية أو بإشارات ضمنية، عن كائنات لا يلهمها سوى الموت. وهذه هي حقيقة " الوأد العاطفي " الذي تسمي أروى صالح تراجيديته " اسفكسيا الخنق " والمستدعى بلبوسات وعناوين مموهة، وبمزيد من الأسى تنعى حالها في " سرطان الروح " فالمحبون - حسب نصها - يموتون :

    لا شهداء للعشق
    بل باسفكسيا الخنق
    فحتى فعل الحب أضحى فعل قتل
    مص دماء
    حتى الأبرياء يقتلون
    حتى الطيبون
    ففي زمن ينكر الشعور
    يملأ الانسان الفراغ الناجم بالسطوة والقهر
    وحينئذ بحجم الرأس المقطوع
    تقاس قوة الجلاد
    لذلك انسد الأفق
    بتلال الجماجم

    تلك اللبوسات المراوغة لا يراها فرويد إلا تفرعات لرغبات مكفوفة الأهداف، فالأسطورة الشعرية الهائلة املي ديكنسون ( 1830 - 1886 ) كما تنعت في التاريخ الأدبي، احتجبت في منزلها اثر اختلافها مع صرامة أعراف والدها، ولأسباب جوانية لا زالت غامضة، ولم تنشر طوال حياتها سوى خمس أو ثمان قصائد، حسب الروايات المختلفة.

    وذات المصير واجهته الشاعرة زيبون نيسا ( 1638 - 1702 ) وهي المعروفة شعريا بنبرتها الدينية الصافية، حيث سجنها أبوها بسبب بعض أرائها المتطرفة من وجهته. أما سافو فتتحدث الأسطورة عن قفزتها اليائسة من أعلى جرف صخري إلى البحر عندما رفضها بحار اسمه فاؤون. وكذلك ماتت املي برونتي ( 1818 - 1848 ) بما يشبه الإنتحار حيث رفضت أن ترى أي طبيب إثر وفاة أخيها.

    وتحليل معظم نصوص الشاعرات العربيات، برأي الدكتورة أنيسة الأمين، يشير الى أنهن جميعا يصرخن لا .. لا للصورة الماضية البائسة، لا للإرتهان، نعم لذات منعتقة حرة، فمعظم الكتابات مملؤة بالشكوى، بالوحدة، بغياب الآخر، فالوقائع والآثار التاريخية والمعاصرة تؤكد ذلك، فقد وصفت فدوى طوقان سيرتها بأنها " رحلة جبلية صعبة " استكمالا لمسيرة موهنة لعائشة التيمورية، ونازك الملائكة، ومي زيادة، وصلت إلى حد التكفير والتهديد بالقتل ثم الإستتابة للشاعرة الكويتية عالية شعيب، وإخراجها من صنعة الإبداع.

    وهكذا يمكن إستدعاء طابور طويل من الخذلانات النسوية اللافتة في كل الثقافات، التي غالبا ما تلجئ الشاعرة إلى مرجعياتها الدينية في صيغتها التصوفية التي تهرب بموجبها من جسدها الشخصي إلى جسد الكون الكبير، مهما تباينت آليات التواري، حيث تستأنس الذات الأنثوية الشاعرة بالتناص الذي يتأسس بين الوجود الحقيقي وما يوازيه من الرمزي، حتى ينعدم الواقعي، ويتضخم المتوهم بشكل أسطوري.

    يحكي التاريخ الشعري للمرأة مثلا، عن الفيتنامية لي نغوكيو ( 1041 - 1113 ) التي نذرت نفسها للبوذية بعد ترملها، وعن الكورية سب أوك ( 1902 - 1966 ) التي فرت من اضطهاد زوجها إلى معبد سودوك لتقوم على خدمة البوذية، وعن الكشميرية لال ديد التي هجرها زوجها فتحولت إلى راهبة تقوم على خدمة شيفا.

    أما ميرابي الهندية فقد امتزجت سيرتها بالأسطورة نتيجة مكوثها المطول في المعابد حتى ماتت مسمومة بأمر من الحاكم بعد وفاة زوجها، كما يخبر التاريخ أيضا عن التبتية ييشي تسوغيل ( 757 - 817 ) التي قضت حياتها متبتلة على طريقة الزهاد البوذييين، وعن طابور طويل من الصينيات المتعبدات على الطريقة التاوية أمثال سن بيور ، و سوي شاكسوان فيما يشبه المحو المتقصد للذات.

    مقابل تلك الإنسحابات الأنثوية المتوالية عبر التاريخ، هنالك صدامات يبدو فيها تاريخ المرأة الشعري وكأنه المعادل الموضوعي لتاريخانية قهرها النفسي والإجتماعي والإعتقادي، فقد قادت الشاعرة الجاهلية عفيرة الجديسية ( الشموس ) قومها لثورة حقيقة على عمليق الذي استأثر بحق الليلة الأولى لكل عروس، وكان قد وجأها بحديدة في قلبها فأدماها بعد أن رفضت هذا المبدأ المجحف وأنشدت :

    أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم وأنتم رجال فيكم عدد النمل
    وتصبح تمشي في الدماء عفيرة جهارا وزفت في النساء إلى بعل
    ولو أننا كنا رجالا وكنتم نساء لكنا لا نقر لذا الفعل
    فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم وذبوا لنار الحرب بالحطب الجزل
    وإلا فخلوا بطنها وتحملوا إلى بلد قفر وموتوا من الهزل
    فللبين خير من مقام على الأذى وللموت خير من مقام على الذل

    أما الصينية شيو شن فقد كتبت شعرا سياسيا كان هو السبب في محاكمتها وإعدامها سنة 1907، والراهبة الألمانية الضليعة هيلدغارد بنجن ( 1098 - 1179 ) المشهود لها بالكفاءة الدينية والطهرانية اصطدمت بالبابا نتيجة رؤيتها ومواقفها المتقدمة، لتنتهي إلى التهميش والإماتة المبرمجة.

    ونفس المآل المحزن لاقته تيريزا أفيلا ( 1515 - 1582 ) التي حوكمت من قبل محاكم التفتيش، كما جلدت الراهبة اليونانية كاسيان، وأيضا الإكوادورية دولوريس بنتيميا دي جاليندو( 1830 - 1857 ) وكذلك المكسيكية سور خوانا إينيس دي لاكروث ( 1648 - 1695 ) لأنها أرادت في تدويراتها، أن تجادل لا وعي الرجال الذين ينعتون فعل المرأة بالسوء، رغم أن المرأة الشاعرة لم تكن آنذاك تفصح - شعريا - إلا عن بعض الأحاسيس الحذرة والمرتبكة، المتأتية نصيا على شكل رسائل موجهة إلى الزوج والأبناء والوطن والطبيعة، ولم تكن قادرة على استدعاء الرجل من وعيها إلا مرثيا، أو معبودا، مرهوب الجانب.

    وقد برز ذلك الهاجس عربيا في شعر الخنساء وكافة السلالة الأنثوية ، فقد أخذ موضوع الرثاء ، برأي رغداء مارديني " الحيز الأبرز في شعر النساء ، وحملت الينا المصادر كما هائلا من شعر النساء في الرثاء، وهو في مجمله مقطوعات شعرية سريعة ، تبرز مناقب الميت ، وخصاله الحميدة، وتعدد مآثره ، من كرم وشجاعة ، ونجدة ورعاية لليتامى والأرامل ، وفكاك للأسرى والسبايا... الخ فقد كان رثاؤهن يعبر عن تجربة حزن مريرة عندهن ، إذا كان الفقيد الفرد أبا، أو زوجا، أو أخا ، أو إبنا " وهو الأمر الذي تلقفته فيما بعد وردة اليازجي ، وملك حفني ناصيف في رثاء الأقارب، حتى تغيرت النبرة ببروز جيل إحتجاجي، كما تمثله أليس سلوم مثلا، التي تقول " في أنثى تحت الرمل" :

    ألم تسمعوا صرختي ؟
    أنا امرأة عربيه
    أودع عشرين قرنٍ
    وما زلت...
    وما زلت...
    سبية من الجاهلية !

    إذا، ثمة رجل يقف دائما بالمرصاد، يدخل كالرصاصة في الموضوع، بتعبير الجزائرية سليمى رحال، وإن تبدى في هيئة مستبد سياسي، أو واعظ ديني، أو كائن إجتماعي، يقوم بمهمة الزوج أو الأب أو الأخ، فهو إنما يستفز المرأة على الدوام لاستدعاء نسويتها، تغييبا لأنوثتها ولآدميتها أيضا، ويمكن الإلتفات إليه بسهولة في رهان المرأة الشعري على كفاءة الرقة الأنثوية مقابل صلابة الذكورة، كالذي يمكن التقاطه في تصريحات الشاعرة لميعة عباس عمارة عن الحرب الشرسة الدائمة التي تعرضت لها، لدرجة أن امرأة قد أعدمت خطأ بالنيابة عنها، بسبب قصائدها الوطنية .

    ولأن الأدبي ليس سوى استطالة تكميلية للسياسي، أو مهاده ربما، تبين ذلك العداء الصريح حد التعويق في مسألة الشاعرة المغربية، والناشطة الحقوقية، حكيمة الشاوي، عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، التي كفّرت بسبب بيت شعري أستل من سياقه بقصدية مبيتة " يا سيدتي من قال عنك من ضلع أعوج خرجت ملعون " وذلك ضمن قصيدة لا يمكن بحال أن تقرأ مجتزأة أو مبتورة عن سياقاتها بما تمثله من صراحة بوطيقيا الأنوثة، وتقول فيها :

    مشرقة أنت يا سيدتي
    كالشمس
    والشمس تشرق كل يوم من عينيك
    شامخة أنت كسعف النخيل
    والقمر تحت قدميك يزحف
    والنجوم تتناسل بين يديك
    ملتهبة أنت يا سيدتي كشعلة الثورة
    وكل الثورات تعلمت منك
    كم من الشعراء ألهمت
    كم من نزار أنجبت
    زاهية أنت كقوس قزح
    وقوس قزح يستمد ألوانه من وجنتيك

    ملعون يا سيدتي من قال عنك
    من ضلع أعوج خرجت
    ملعون يا سيدتي من أسماك
    علامة على الرضا بالصمت
    ملعون منذ الخليقة من قال عنك
    عورة من طولك حتى أخمص قدميك
    ملعون من وأد الكلام فيك
    ملعون من عقف شعرك
    في ضفيرة تاريخية كمرثية الموت
    ملعون من كبل يديك بالأساور
    وبنى سجونك الآبسية
    ملعون من حرم العشق عنك
    ولم يتعلم كيف يعشقك

    صامدة أنت يا سيدتي
    فهذا الحاجز يشتعل
    لكي يحرق كتب الأمس
    ويكتب تاريخك المنسي
    ملعون من يخون جنسك
    وأنت من سلالة البشر
    والقمر والشمس

    هكذا يميت الرجل الأنثوي في المرأة ، فالمؤسف، من الوجهة النسوية إن ذلك الكائن/الرجل المتربص بها لا يحرضها على إعلاء أنوثتها قبالة ذكوريته، انما يصّعد فيها نون النسوة ليزيحها - بوعي أو بدون وعي - عن سحرية تاء التأنيث إلى المنفى الحقوقي، وكأن المرأة، كتاريخ وجنس وشعور وثقافة، كتلة إعتباطية لا تستفرد كل أنثى بمواصفات، وهو الأمر الذي أسر النص النسوي في بنية دفاعية مؤسسة على تجنيس جبري أميل الى دافعية " الجندر " الذي يجرد سرانية ذلك النص من سحرية الضمير المؤنث، أو ينحاز به إلى الهوامش.

    المثلي كرد على أسطورة الذكوري

    وكما تحتمي بالمطلق كمثال أو كمهرب روحي، تبث الشاعرة، نداءاتها ناحية المرأة بصراحة لافتة ومتطرفة تعبيريا، إذ تتبدى كعنوان جريء للمثلية، لتوازي فعل الحب بفعل الشعر، عندما ينتفي الرجل أو ينفى، حيث تتطلب قصيدة الحب، برأي وندي ملفورد محبا ومحبوبا، على اعتبار أن الحب في إحدى دلالاته الوجودية هو الرغبة في الإرتماء إلى آفاقية " آخر" عندما تضيق " الأنا " بهواجسها، وتتعب من الحديث عن الحب كموضوع، أو تستهلك ثيمة غيابه، ويتوضح هذا المنزع نصيا عندما تصف جويس منصور مثلا، بمشهدية بورنوغرافية، امرأتين لهما عيون مجانين:

    رفعتا تنورتيهما
    ملابسهما الداخلية
    زبانياتهما
    وتداعبتا بالفخذ، وربلة الساق والركبة

    وهذا المشهد الموصوف شعريا، الذي يشبه، من الوجهة التشكيلية، لوحة " رقة " لايجون شيلي، ليس مجرد موضوع شعري تتلذذ الشاعرة بتسطيره لإحداث الصدمة الجمالية، بقدر ما هو نزعة أصيلة في النص الشعري الأنثوي، إذ يتكرر هذا المشهد بدلالات ثقافية وإجتماعية ونفسية وفنية كتنويعات على ثيمة مركزية، تعكس أصالة ذلك الصوت المثلي، وعمق انغراسه في النص الأنثوي، ففكرة " العيش كمثلية " ليس مجرد عنوان لكتاب تتحدى به الشاعرة الأفرو-امريكية شيريل كلارك مجتمعها، بقدر ما هو تعبير عن إعتقاد، وسلوك، وطريقة حياة.

    أما الخنوثة، كما تحضر ضمن تصورات الفكر الفلسفي، فهي فكرة تعكس أصلا تمام الوجود، مثلها مثل الروح وكافة العناوين الوجودية الأصيلة ، وتتعدى دلالاتها المظهر الجنسي إلى رمز الأزلية، وقد استدعاها يونغ مثلا بتحليل تعادلي للجسد الواحد المتوج برأسين كما بدت في دلالات التماثيل التي تشير إلى كائنات ملتبسة تعكس في الأصل وحدانية كل شيء في الطبيعة، فالخنثية، برأي غاستون باشلار " ليست متوغلة في حيوانية مبهمة منذ أصول الحياة الغامضة، انها ديالكتيك القمة. انها تظهر لأنها تنبثق عن الكائن ذاته تعظيما للأنيما والأنيموس، انها تحضر التأملات الشاردة المشتركة التي يقوم بها ما فوق المذكر وما فوق المؤنث ".

    ويبدو أن جانبا من النص الشعري الأنثوي يتأسس على مسافة من المعنى الأخلاقي للجسد، أو لا يقره، إذا ما أخضع هذا المنجز لقراءة جمالية لا إنتقائية أو محتشمة، ففي الشعر العربي القديم كما في كل الثقافات هنالك حالة من التباوح الحسي، الذي يتجاوز حتى الإيروسي إلى البورنوغرافي، وقد تبدى ذلك المنحى ضمنيا وصريحا رغم صرامة التابوات، كما جسدته مثلا أم الضحاك المحاربية بقولها:

    شفاء الحب تقبيل وضم
    وجر بالبطون على البطون

    ورهز تذرف العينان منه
    وأخذ بالذوائب والقرون


    إذا، فالمثلية أو السحاقية ليست مجرد موضوع شعري بالنسبة للمرأة، أو حالة استعراضية لعادة من عادات الحداثة، وما تؤكده مدرسة التحليل النفسي يشير إلى أنها حالة من الفشل في الإنتقال إلى الغيرية الجنسية، لأسباب وتداعيات مختلفة، ففي هذا المنحى التعويضي الفارط في التحدي الأنثوي تتوضح زاوية هامة من إلتباسية كينونتها الشعرية، فالمثلية كما يعبر عنها شعريا فعل أنثوي بامتياز يسري في النص الأنثوي مرة بصيغة مناداة ومعاضدة جمعية، وأخرى بنبرة إستسرارية شديدة الخصوصية.

    وربما يكون هذا هو الرد الأنثوي على أسطورة الذكوري، كما تتمثله أدريين ريتش، التي طالما حلمت بصاحبتها قصيدة، وتمنت أن تؤاخيها علنا لتعلنا حبهما على الملأ، فهي ترى أن المثلية أمر مفروض على المرأة بالقوة، ومن وراء وعيها أيضا، وكانت ريتش التي تزوجت سنة 1952 قد طلقت زوجها سنة 1970 لتصاحب امرأة بديلة وتتغني بتلك الصحبة شعرا، حتى غدت أشهر شاعرة مثلية في أمريكا:

    يدك الصغيرة تعادل يدي تماما
    الإبهام فقط أكبر بعض الشيء، وأطول
    في هاتين اليدين
    أستطيع أن أثق بالعالم
    وبمثل هاتين اليدين
    يمكن أن أقاوم ما لا يتقى من العنف

    هذه هي طريقة الشاعرة للثأر من الرجل، حيث تخلّق كائنها، أو قرينها الوسيط، المدبر بوعيها وإحساسها، الذي لا يمارس إهانة المرأة، أو تهميشها، أو الحظ من قدرها النفسي والجسدي، ولا يحيلها إلى لعبة ذكورية، فهنا اضطرار من طرف أنثوي للاسترجال كما وصف هوراس حضور سافو مثلا ، وحيث تشبه الشاعرة ماري وورتلي مونتاغو غرمها بالجسد المثلي بفاكهة يانعة لا تتطلب جهدا كبيرا لتتساقط، لتعزز اعتقاد الشاعرة جودي غران بهذا الشأن كما روجت له في كتابها " التفاحة الأعلى " أوكما يلخصه خطاب جويس منصور الملتبس بعشقية مثلية أو ربما مخاطبة ذاتية مموهة:

    أحب جواربك التي تثبت ساقيك
    أحب مشد خصرك وردفيك الذي يسند جسمك المترنح
    تجاعيدك، نهديك المتهدلين، شكلك الجائع
    شيخوختك في مواجهة جسدي الفارع
    فساتينك التي تنشر رائحة جسدك النتن
    كل هذا يثأر لي أخيرا
    من رجال لم ينتظروا شيئا مني

    وربما يكون ذلك التحدي العلني جانبا من الرد الجمالي، ضمن دائرة الحقل الأدبي في ظل وجود أدباء يجاهرون بالشذوذ ويعلنون تفوق الجسد الذكوري جماليا على جسد المرأة كاسخيليوس، واندريه جيد، وتنسي ويليامز، وأوسكار وايلد، ليصل إلى تطرفات الدعاوى المثلية، او السحاقية بمعناها وواقعها كممارسة جسدية، أي عشق المثيل، كما اعترفت به مثلا فرجينا وولف التي تحدثت بصراحة في مذكراتها عن ذلك المنحى، من خلال علاقتها بالأديبة فيناسكافيل ويست، ومحاولتها مع كاترين مانفيلد، أو ذلك الذي أعلنته رائدة الشعرية التعبيرية آمي لويل ( 1874 - 1925 ) التي أغرمت بالممثلة اليانورا دوس بمجرد أن رأتها على المسرح فكتبت فيها أول قصائدها، كما هامت بالممثلة أدا روسل.

    ومنذ جرأة المناجاة البوحية التي اجترحتها سافو ناحية بنات حلقتها " ثياسوس " صارت كل شاعرة تحمل شيئا من السافوية بشكل أو بآخر، وهو الأمر المتحقق كمثال شعري أنثوي عند عفرا بين ( 1640 - 1689 ) التي ترملت في سن الخامسة والعشرين، وكانت تلقب نفسها " الأستريا التي لا تقاوم " وقد أقرت - شعرا - بأنه من رجل أثارها جنسيا كما فعلت المرأة، وكذلك بالنسبة لسور خوانا إينيس دي لاكروث، التي تعرضت للجلد من قبل الكنيسة، وأيضا عند آنا سيوارد ( 1747 - 1809 ) التي كتبت قصائدها لصديقتها هونورا سنيد، وكذلك معلمة التاو الصينية وو تساو ( القرن التاسع عشر ) فهي حسب كينيث ركسروث أعظم شاعرة مثلية.

    وبالنظر إلى ما تشترطه وحدات إي خطاب تبدو تلك التعاقبات والتماثلات مندرجة في سمة موحدة، ترد مجتمعة إلى نبع واحد له جاذبية التأصيل، وتمثيل الهاجس، مع ضرورة التخلي عن جاهزية الأشكال كأوهام اتصالية، عند محاولة المكوث داخل هذا النص كخطاب، للتفريق بين مستويات التشابه اللساني والمنطقي وبين التجانس العباري، فعلية بنت المهدي لم تتشبب بجاريتها زينب إلا بعد أن حرمها أخوها الرشيد من التعلق بغلامها " طّل " حيث قالت بيتها الشهير:

    وجد الفؤاد بزينبا وجدا شديدا متعبا

    وفيما يعتبر ذلك التوجه إحياء أو عودة لسيرة السلف الشعري حسا وتعبيرا وسلوكا، إلا أن شكل الإقتداء الأدبي والسلوكي لا يمثل حقيقة الخطاب الشعري الأنثوي إلا من الناحية المظهرية، فهنالك جيل يفاخر بإستنسابه لسافو مثل جين ميلر مثلا، وبصورة أوضح وأكثر فصاحة تعبيرية صديقتها الأمريكية يونانية المولد أولغا بروماس، إحدى دعاة " السافوية " المتمثلة لنزعتها المثلية كما يتبدى في مجموعتها " هذيان " وأيضا " الإبتداء بحرف الأو " كما يتبدى في مقاطع من قصيدتها " الجميلة النائمة " :

    لسانان يتقاسمان الوقت
    ...
    أحس بعضات كالقنابل
    ...
    دم، ودموع، وملح جسدينا
    فمّانا قبالة بعضهما كما الحلم
    طعمك يشحذ لساني كآلاف الصدفات

    إذا، لا ينبغي النظر إلى كل تلك التجميعات والاتساقات المظهرية كوحدات طبيعية وبديهية وشمولية، كما يحذر فوكو لتحرير الخطاب من أوهامه، فتلك العبارات المبعثرة في الزمان والمكان تؤكد هذا المنزع، وعلى واحدية المرجع، كما تحيل إلى وحدة موضوعية في ذات المكمن بأشكال مختلفة للتجربة الفردية والاجتماعية، كما يبدو من نمطية الترابط والتسلسل لنظام مفاهيمي عاطفي متناسق وثابت التوجه، وقد لا تكون سوى حالة من التمازج بين الحس الذكوري والأنثوي في الذات المبدعة لإحداث التوازن في عملية الإبداع، كما يميل غاستون باشلار.

    وهكذا يتوضح ذلك المنحى الجريء بشكل مبالغ فيه عند سوزان ميتشل مثلا في مجموعتها " ايروتيكون " ، ولاريسا زبوروك بمجموعتها " أيسولاتو " فالشاعرة كما يسجل التاريخ تجد متعة قصوى في التخاطب الوجداني مع قرائنها على شكل رسائل متبادلة، غالبا ما تطال حافة تمجيد الحب المثلي، أو المناداة به في أقل الأحوال، كما خلدته سافو ابتداء فهذا التراسل الخفي، المؤكد عليه بتجانسات عبارية، شأن شعري يتأتى في المقام الأول من إنتماء النساء المشترك لمتطلبات الأنوثة وانقيادهن الغريزي لمجرات تأثيرها.

    وقد استغل الشاعر بيير لويس هذا المنزع الإستيهامي، فألف أكذوبة شعرية تحت مسمى " أغاني بيليتس " ونسب مترجماته المفبركة لشاعرة بنفس الاسم، لينّصبها آلهة للسحاق بجانب أفردوديت آلهة الجمال، إذ ادعى أنها عاشت في القرن السادس قبل المسيح، وقد اكتشفها باحث مختلق أيضا باسم غوستاف هايم، تماما مثلما نسب إلى ليلى العامرية بعض الشعر للمبالغة في تجسيد أسطورة صحراوية جامعة للعشق العربي، لتأكيد بنية طباقية للرغبات والمثل.

    والتاريخ الأدبي يحتفظ بسجل طويل في كل الأزمنة والثقافات لشاعرات قاربن المحظور المثلي مثل ماتيلدا بيتام ادواردز ( 1836 - 1919 ) وكريستينا روسيتي ( 1830 - 1894 ) وادنا فنسنت ميلاي ( 1892 - 1950 ) وأيضا السا غدلو ( 1898 - 1986 ) وشاعرة العصر الفكتوري الانجليزية شارلوت ميو ( 1879 - 1928 ) واليهودية غرترود شتين ( 1874 - 1946 ) التي الهمت ماتيس وبيكاسو، وقد سطرت حكايتها مع اليس توكلاس، والفرنسية بولين ماري تارن المعروفة برينيه فيفيان ( 1877 - 1909 ) التي أحبت ناتالي بارني، وكذلك الأمريكية انجلينا ويلد غريمكه ( 1880 - 1958 ) والروسية ماري مادليني ( 1881 - 1944 ) والأسبانية غلوريا فيورتيس، واليوغسلافية جيلينا لينغولد.

    ويبدو أن المرأة الشاعرة ترى في مقابلها الأنثوي ما لا تراه في الرجل، وتؤكده بإلحاح تعبيري مصعّد، ففي نص لعالية شعيب " ملح على ثديي يرتعش " قبل أن تستتاب، تحرض قرينتها على ملامسة شبقة للحم الوردي، وتقول " رأت في عيني المرأة المشتعلة، ما لم تره في عيون كل الرجال، الذين سال لعابهم على شمع ركبتها من قبل. رأت رغبة امرأة لإمرأة " تماما كما تفاخر الشاعرة أودري لورد ( 1934 - 1992 ) التي تصف نفسها بالمثلية السوداء، بانطباع أثر كل من عاشرتهن من النساء على جسدها، واكتشافها عبر تلك الزوايا المهملة من أقاليمه ما لا يمكن التنبه إلى مكامنه.

    على هذا الهاجس المثلي خاطبت الشاعرة قريناتها، حتى املي دكنسون تغزلت بصدر صاحبتها المتلألئ، بعد أن صاحبت سوزان غلبرت وكتبت فيها الكثير من القصائد، إذ يبدو أن الحيادي أو المثلي يقود الحساسية الشعرية إلى الأقاصي، أو تجاوز الإعتيادي إلى العشق المحرم، حتى أن أرنست كريس يميل إلى أن الإبداع ما هو إلا مثلية جنسية سالبة، لكنه يبقى هاجسا مؤرقا ومواربا حتى وإن تفصّح داخل النص، كما يبدو مثلا في قول الشاعرة الجاهلية أم النحيف:

    مهفهفة الكشحين محطوطة الحشا
    كهم الفتى في كل مبدى ومحضر

    لها كفل كالدعص لبده الثرى
    وثغر نقي كالأقاحي المنور

    وهو ذات المأزق الذي واجهته موريل روكيسر ( 1913 - 1980 ) التي لم تقر بعلاقتها المثلية إلا قبل فترة قصيرة من وفاتها. أما اليزابيث بيشوب ( 1911 - 1979 ) فقد أعجبت بالشاعرة ماريان مور وصاحبتها، قبل أن تقابل في البرازيل لوتا دي ماسيدو سواريز ، لتعاشرها ستة عشر عاما، وكذلك ماي سونسون ( 1919 - 1989 ) وأيضا كرايستوس المتحدرة من أم ليتوانية، والحاصلة على جائزة سافو.

    وكما تمنت سافو أن تموت حزنا على فراق صاحبتها، وتفصمت آمي لويل على حافة الليل بعد أن غاب وجه معشوقتها، لم يكن من المستغرب أن تعيش كاثرين لي باتيس ( 1859 - 1929 ) وفية لذكرى عشيقتها كاثرين كومان، التي صاحبتها في علاقة لمدة خمسة وعشرين عاما، وعندما أصيبت كامون بالسرطان، وأصرت باتيس على تطبيبها حتى توفيت سنة 1912 . وفي العام 1922 نشرت " البرسيم الأصفر " الذي يحكي حكايتهما، وقد كتبت عبارتها الرثائية الشهيرة " يبدو أن الكثير مني قد مات بموت كاثرين كومان لدرجة أني لا أدري إن كنت بعدها حية بالفعل أم أني أتوهم ".

    إذا، فالمشهد الغرامي الموصوف شعريا بين امرأتين ليس مجرد موضوع شعري، أو صيغة جمالية مصعّدة من صيغ المنتجات الغربية المعولمة الصادمة، لأن التاريخ الأدبي كمرجعية يسجل للحركة الشعرية النسوية توسعا لهذا التيار بشكل فارط، حيث الوفرة من الأسماء المهمومة بممازجة الحقوقي بالمثلي، تماما كما هو الحال في ترهيف الخط الفاصل بين العشقي والصوفي، بل بين كل التخوم التي يطاها النص الشعري الأنثوي.

    هكذا تمادت الشاعرة في تصعيد المثلية لتقرنها بالحقوقي، لتجعل منها قضية نسوية بامتياز، بل وتفسح لها صوتا في النص الشعري، كما تبنتها باولا غن ألن، الحقوقية المولودة لأبوين لبنانيين، وأيضا بيكي بيرثا التي تصف نفسها بالمثلية الهزازة السوداء، وكذلك كلير كوس، وجيويل غوميز، وميني بروس برات، ومارلين هاكر، وهنالك جوان لاركن التي أعدت مع ايلي بولكن أول أنطولوجيا للشاعرات المثليات، وشيري موراغا أول شيكانية تنشر شعرا مثليا في كتابها " الحب في زمن الحرب " وأيضا ليسلي نيومان المعروفة اليوم كواحدة من أكثر الشاعرات المثليات إنتاجا وتنويعا، صاحبة العمود الشهير " خارج الخزانة ولا شيء ألبسه " والمعروفة أيضا باهتمامها بالمثليات اليهوديات، وكذلك ماي سارتون ( 1912 - 1993 ) التي سردت حكاية حبها لجود ماتلوك في ديوانها " عسل في خلية " كما جسدت حياتها في فيلم بعنوان " ماي سارتون - بورتريه شخصي ".

    حتى آن سكستون التي ارتبطت بنساء كثيرات تحوم حولها الشكوك، وعلى الأقل هنالك قصيدة " غناء لسيدة " من مجموعتها " قصائد حب " كانت تشف عن ميول أو تجربة حسية مثلية، والتي تقول فيها :

    في يوم الأثداء والأفخاذ الصغيرة
    ينقر النافذة مطر رديء
    مطر يجيء ككاهن
    كنا كزوجين ، في منتهى العقل والجنون
    رقدنا كملعقتين في حين كان يهطل
    المطر المشؤوم على شفتينا
    وعيوننا السعيدة وأفخاذنا الصغيرة

    " الغرفة قارسة البرد بالمطر " قلت
    وأنت الأنوثة أنت، بأزهارك
    تتلو التاسوعات لمكحلي ومرفقيّ
    فأنت نتاج محليّ وقوة
    يا أوزتي، وكادحتي ، يا وردتي الصوفية الغالية
    لسوف يوثق القاضي سريرنا
    بينما تدلكيني فأنتصب كالعجين

    كرزة حمراء يهصرها رجل معتم

    إذا، في النص الأنثوي الأحدث، لم تعد الذات الأنثوية الصافية تكتفي بمحاذاة الغريزة، بل تتحرك وفق حاثاتها، حيث تعلن عن مطالبها الإيروسية دون تحفظ ولا مواربة ولا احتشام، وتضع ذلك الإعلان مركزية لنصها، ففي أوهامها الإيروسية، تتحدث مي تلمساني بلسان امرأة تحلم، كل ليلة برجل غير رجلها المعتاد، يأسا من رجل داومت معه على أمر واحد منذ سنوات: التفكير في الموت، وتعليمه كيف يتنازل عن أنانيته لأجلها.

    ولأنها لا تصل إلا إلى اليأس تعلن في نصها( أوهام إيروسية ) نهاية حزينة تماهي بها عبثية الحياة " أنت ستقضي حياتك سعيدا بين فخذي امرأة مثلي، متوهما أنك ترضخ لها في الصباح وأنك ترضخها في الليل. وأنا سأقضي حياتي سعيدة بين رجلين، متوهمة أني أحب أحدهما في الصباح وأحلم بغيره في الليل. سوى أن المعادلة انتظمت معك ولم تنتظم معي أبدا".

    بذلك الانحياز الغريزي الجريء يتصعيد الحس الوجودي للملفوظات بشكل ملحوظ، حيث يتم تهديم مفردات الزوج والأخ مثلا لتحل محلها مفردة الرجل بمعناها المفتوح المكافئ لرغبات ووعي الكائن الأنثوي الجديد، المتجاوز لمحدودية الضوابط التي تؤطر الخطابات الثقافية، فيما بدا إنجازا لغويا على درجة من الأهمية، وقد خضع بالتأكيد لمراجعة ممتدة لتخفيف أو الغاء هامشية المرأة، نتيجة نضالات الحركة النسوية التي أعادت أنتاج السياقات الثقافية، فيما يعتبر حالة من أنسنة اللغة ردا على مصادرتها الذكورية.

    ولأن التحول كان من السطوة بحيث يشمل كل الثقافات، لم تعد هنالك فئة أو جماعة أو ثقافة بمعزل عن إنعطافاته الإنسانية، ففي ايران مثلا، سجلت فرزانة ميلاني بروز أصوات أنثوية متحررة مثل طاهرة سافرزادي، وزاند دوخت شيرازي، وجالة أصفهاني، وبارفن دولاتا بادي، وسيمين بحبحاتي ، ولوبات فالا شيباني، وماهين اسكندري، وأشادت بشكل خاص إلى أيقونة الشعر الفارسي الحديث فاروخ فرغ زاد، فحسب رأيها، إستطاعت هذه الشاعرة استحضار الرجل، مجردا من ستر الغموض، بكل نقاط ضعفه وتناقضاته البشرية، والسخرية في بعض الأحيان من التزامه المبالغ به بقوانينه الذاتية الذكرية ، وهو يحاول أن يكون رجلا لدرجة يصلح فيها كاريكاتوريا للذكورة، تماما كما يصف خايمي عمر بيليزير تعامل الفونسينا ستورني مع الرجل بشكل ظاهري، وتصوره على أنه ضعيف وغير قادر على امتلاك العاطفة.

    ولكونه متخما بالإدعاءات، حسب رأيها، فهو مدمن على الإطراء، لكن خلف مظهر القوة لديه، يكمن قلقه الشديد وتتوارى مواطن ضعفه، فهو غير مخلص، وأناني، ومستبد، ومتسلط، وباعتباره مخلوقا شهوانيا، فهو يتبع غرائزه الجنسية ويبتعد عن الألفة والحميمة فقدرته على تغيير مشاعره وفقا للظروف تخيب آمال المرأة التي تطالب بالتزام عاطفي يماثل التزامها، كما تصف ذلك بقولها :

    لم يلقن شيئا سوى الشهوة
    لم يهتم بشيء سوى المظاهر
    أينما ذهب همسوا بأذنيه
    خلقت المرأة من أجل شهوتك

    وتكمل على ذلك التصور التحريضي ضد مكتسبات الذكورة في لقطة أخرى بتوجيه الخطاب إلى المرأة، وكأنها تنحاز بنفسها والمرأة عموما عن مهمة الإلتجاء إلى الأديرة، فلم تعد هذه الأماكن خيارا وحيدا للمرأة، حتى اللواذ بالمحاريب هو اليوم فلسفة أكثر مما هو خيبة معلنة كما فعلت مثلا شاعرة جيل البيت آن والدمان التي التجأت إلى البوذية كحال شعراء تلك الموجة المعتقدة بخلائط من الصوفية والعقائد، فالمحاريب ليست مدفنا لأحلامها، لأن اليوم لها الحق في بدائل أرحب من خيارات الماضي، ولذلك توجه نداءها للمرأة:

    وأنت ، بقلب صادق
    أيتها المرأة
    لا تبحثي عن الإخلاص في رجل
    فهو لا يعرف معنى الحب
    لا تخبريه أسرار قلبك أبدا

    ذلك هو الرجل المستحيل الذي تفتش عنه أليس سلوم في " أنثى تحت الرمل " بحيث لا تكون الشهوة ثالثهما، وهو ما تسميه أروى صالح في كتابها " المبتسرون " البرجوازي الصغير المنافق، المتثاقف، الذي يتحّدر من فئة يتحدثون عن أحر القضايا وعيونهم على ذلك النصف الأسفل من المرأة، فيما تؤدي كل الطرق لديه إلى الذات، حتى الحب فهو صيغة من صيغ الأنانية والإستئثار وحب التمتع، الأمر الذي يضع الحب، بتصورها، في رتبة العادة السرية فالمهم ليس الشخص الذي يفترض أنه موضوع الحب، بل الحالة أو الإثارة التي يتحصل عليها، إذ تغدو مجرد تكنيك إستدراجي للآخر، لا كنبع حقيقي للشعور، ولا يتعدى الأمر في النهاية كونه لعبة مصقولة.

    بمثل هذه المشاكسة العاطفية المفهومية تحطمت محدودية الأطر المتاحة للشاعرة في رثاء الموتى والتفاخر بالأخ والأب والقبيلة، أو التغزل من قبل القيان بمفاتن الرجل في العصور المتأخرة، أو حتى التغني بمفاتنها كأرستقراطية، لتطال المرأة عبر صوت الشاعرة، وبعد مكابدات طويلة، حق التعبير الأدبي والموضوعاتي عن وجودها بشكل أوسع. وبذلك انتهت فترة التقنع والإستعارة والتواري خلف رهانات التأجيل ورهابات الحيف الذكوري.

    حتى الصديق الذي كانت تريده نازك الملائكة بقولها " لنكن أصدقاء ، في متاهات الوجود الكئيب ، حيث يمشي الدمار ويحجيا الفضاء ، في زوايا البكاء ، حيث صوت الضحايا الرهيب ، هازئا بالرجاء ، لنكن أصدقاء " لم يكن رجلا محضا بتقدير صلاح فضل بقدر ما كان مقترحا انسانيا، حيث التماهي مع صوت الرجل في وعيه بذاته، حيث يغطي ضمير المتكلم المرأة والرجل معا ، أما ما تريده سعاد الصباح كنبرة متجاوزة بوحيا حتى لجيل وصوت فدوى طوقان بقولها " كن صديقي " فهو اشارة صريحة الى رجل من لحم ودم ، فهي تصنع صورة مباشرة للرجل:

    كن صديقي
    كن صديقي
    كم جميل لو بقينا أصدقاء
    إن كل امرأة تحتاج أحيانا الى كف صديق
    وكلام طيب تسمعه.

    إذا، انتهت " القوامة الذكورية " بمعناها الإبداعي، وماتت اللغة الأنثوية المختونة. ولم تعد الشاعرة تؤدي مهمة تهريب ذاتها من النص، بل تستزرع حتى جسدها في مركز النص، حيث بدأت تنسى إنقيادها للرغبات المحبوبة التي تنعطف صوبها، كما حذر نيتشة، فهدى حسين تصرخ في رسائلها الآدمية " لنستلقي متجاورين ، ولنطبع شكل جسدينا كاملا في الرمل ".

    وبتلك الإنعطافة الحادة تغير مفهوم الرجل المعرّف عند الخنساء اجتماعيا، والذي لم تكن المرأة عموما تتلمس تضاريسه في وعيها الا عبر مرثيات الأخ والزوج، وبذلك الانزياح الواعي والنضالي عن المعيارية الأخلاقية أو الأمثولة النسوية كما كرست تاريخيا بمكيدة ذكورية، إتسع معنى الرجل في أنساق بوطيقيا الأنوثة وفي آفاق الحداثة الشعرية العاطفية نتيجة إرتفاع منسوب القامة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والنفسية للأنثى.

    من هذه الزاوية يمكن التعاطي مع قصيدة التودد التي ناشدت بها أول شاعرة أمريكية مسترس آن برادستريت ( 1612 - 1672 ) زوجها تكريسا للسلطة الأدبية والاجتماعية الذكورية، والتي يقابلها اليوم إنقلابا مبيتا على تلك البطرياركية، من خلال لهجة تحد واستبراء ودعوة سافرة للمنازلة كالتي وصفت بها آن سكستون حبيبها في قصيدة " نشيد قمر ... نشيد امرأة " بقولها :

    أتقلب في عرض لا نهائي
    من أجلك يا رجلي البارد .. البارد

    أو كما خاطبته البوليفية آديلا ثاموديو ( 1854 - 1928 ) : آه ، أيها المدلل القاتل، أيها الكامل العقل. وكما وصفته جويس منصور بالقرد الأبله القبيح البائس الذي يريد زوجة بيضاء، ويشتهي أسرّة النساء، حين خاطبته بمنتهى الإستخفاف بقولها:

    أيها الرجل العاجز الخبيث الجاهل
    الراقد في كامل ثيابك
    دع لي جلدي

    ذلك الهجاء التحقيري يذكر بالثيمة التهكمية المستخدمة في شعر اللانداي لنساء الباشتون إذ تنعت الباشتونية زوجها المفروض عليها وفق أعراف القبيلة " البشع الدميم " وهو تقليد ينحى اليه خطاب العشق للشعر اللاندي عموما، حيث السخرية من عطالة الرجل المتخفف من مستحقاته العاطفية، أو الهارب من مهماته ازاء المرأة، وهكذا تظل الباشتونية تردد " ينام البشع الدميم بجانبي متناسيا المعركة .... البشع الدميم لا يفعل شيئا: لا الحب ولا الحرب ".

    ومن ذات المنطلق يمكن مقاربة القصيدة التي تضرعت بها الصينية شو ون شون ( 117 - 179 قبل الميلاد ) إلى زوجها ترجوه أن يكون وفيا لها ، وألا يبيع قصائد الحب للنساء:

    أينبغي على المرأة عندما تتزوج أن تبكي
    إذ لا ترى رجلا
    بقلب مستقل
    يأبى أن يفارقها
    حتى يبيض شعرها

    إذا، لم يعد التباكي أو الإنزواء أو حتى التودد المجاني لغة مقبولة بالنسبة للمرأة، ففي مقابل ذلك التودد الرافل في التأسي من قبل المرأة المقموعة القديمة، يتعرض الرجل اليوم في النص الشعري الأنثوي لفنون من الهجاء المر، فالأم الروحية لشاعرات البوح والتمرد مثلا سيلفيا بلاث تصف زوجها تيد هيوز، شاعر البلاط البريطاني، بالرجل المعتم.

    وهكذا غدت الشتائم التبخسيسة طقسا تخاطبيا مهيمنا على النص الأنثوي بوجه عام، بالنظر إلى اكتظاظ قاموس الخيبات الأنثوية بمتواليات القهر والقسوة والتهميش والخيانة التي استنبتها الرجل في المرأة حد تعطيلها عن أداء مهماتها، كما تختزل تلك العلاقة أروى صالح مثلا في " سرطان الروح " بكثير من الحسرة والهزء :

    المرأة الأكثر عمقا
    المتشبثة برجل أكثر ضحالة
    لأنه يعرف كيف يطفو
    وهو إذ عرف موطن خوفها
    أخفى ضعفه
    كي لا تلتهمه هي
    وبفريق التواطؤ
    سد كل منافذ حيويتها، قوتها
    أما هي فإذ غدرت بماضيها
    سمحت له أن ينتقم لضعفه
    من قوتها ونيابة عن الجميع
    ومن بعد النهاية السعيدة
    راح يتملكها ويملها
    حتى النهاية
    لن يبقى لك شيء لتسليمه بعد
    أيتها الصغيرة التي كانت يوما
    رائعة

    أما مرام المصري فتصف شكل ألمها المتأتي من الرجل كجهة مصدرة للوجع والحسرات، لا بغرض إمتهانه والتقليل من شأنه ، بل تأسفا على الرجولة الغائبة ، وانعدام الثقة في الأمثولة البشرية :

    لن يكون ألمك
    أكثر من وخزة إبرة
    وأنا أدير ظهري
    سيكون ألمي
    أحمر
    كهصر كرزة ناضجة
    على بلاط أبيض

    شاقة هي المهمة عندما يولد الإنسان إمرأة، بهذه العبارة المحملة بالدلالات الأنطولوجية تختصر الشاعرة مايا انغلو تبرمها، وشكواها من كونها أنثى في نسق ذكوري عابر للتاريخ والثقافات والأمكنة، وهو احتجاج مشروع تؤكد عليه مرام المصري بمنتهى الرهافة والالتباس الأنثوي ولكن وفق مخيال ذكوري في أصله التكويني:

    هل مهنتي الأبدية
    أن أكون امرأة
    أغسل قدميك
    وأتشكل بالورد
    كلما أتيت

    إذا، حدث ما كان يخشاه، وحذر منه، خير الدين نعمان الألوسي في مخطوطه " الإصابة في منع النساء من الكتابة " وضاعفت سلطة التعبير المكتوب جاذبية الأنوثة ، وحدث أيضا ما حذر منه نيتشة، ذات نزق، وظهر ما لديها من " إزعاج أبدي " بتصوره، عندما أقدمت على فعل الكتابة، ولم تتوقف عن مهمة أو سلوك شرح نفسها لنفسها، لتجترح فعل الإنكتاب، وتتحقق فتنة الكيان الأنثوي المجسد في اتحاده بفتنة اللغة.

    وهكذا، استطاعت الشاعرة أن تمنع الرجل من إحراق أو إتلاف قصائدها، وأن تنهي مرحلة لغتها المختونة، وهاهي مرام المصري تختصر من خلال مجموعتها " كرزة حمراء على بلاط أبيض " قاموس بوطيقيا الأنوثة بكل ما فيه من رثائية ورومانسية وجرأة تعبيرية عن " الأنا " الأنثوية المستباحة والمستعادة شعرا كصرخة في وجه الذكورة الفائضة.

    وكغيره من الدواوين الشعرية المطروحة كاستغاثات، تحشد فيه مفردات متململة تشير إلى الخذلان وفقدان الثقة في الآخر، كما تعلن بكل حنينها الآدمي إمكانية تحديه وقهره ببدائل إنسانية تشبه تلك الحاضرة بكثافة في الثقافة الأمريكية، كما يتمثل ذلك التحدي في كتاب باميلا جين " تخلصي من ذلك الأخرق " كتفسير شعري لمعنى " المرأة المتوحشة " التي لا تتوانى عن طرد الرجل من بيتها بمجرد أن يحدث نفسه بمضايقتها، كما توصي الشاعرة ايدا كوكس ذلك الكائن الجديد، فيما يشبه الصرخة الإنتقامية الغاضبة للكائن المطعون في أنوثته ضد أولئك الذين يسيئون معاملة المرأة نتيجة فائض الذكورة لديهم.

    وربما جاء هذا الخطاب الشعري، بكل ما فيه من مطالب حقوقية فارطة الحضور راهنا تأصيليا لاستغاثات أقدم، لتصخيب صيحة الشاعرة الجاهلية عفيرة الجديسية " الشموس " مثلا، التي لا زالت ترن. وما زالت بذرة دعاواها الحقوقية تتوارث، ففي مجموعاتها الشعرية " فتافيت امرأة " و " في البدء كانت الأنثى " تتمثل الشاعرة سعاد الصباح تلك النبرة الحقوقية، لتعلن في قصيدة " أنثى " خيانتها المبيتة والمعلنة لقوانين الأنثى، من أجل أنثى جديدة بمواصفات أحدث، تعيد بموجبها رسم المسافة الفاصلة عن الآخر/الرجل.

    ولكن يبدو أن المأساة التعبيرية التي حذرت منها فرجيينا وولف حدثت، إذ لم تفارق الكتابة النسائية ضدها الذكوري تماما، ولم تبتعد بالقدر الذي يفصلها عن نقيضها، أو على الأقل خضعت النساء إلى وصاية ذلك المخيال الذكوري المستبد. وها هي المرأة الشاعرة تدفع مرة أخرى إلى دس همها الشخصي في متوالية القهر الجمعي، للتعبير عن نسوية جمعية كامنة أو مواربة، وكأن عناوين الصراع التي منعت الفن من إقامة علاقة متوازنة ونبيلة بين الجنسين تعود من جديد.

    هنالك فروق بالتأكيد بين الأمس واليوم، فالتشابك هذه المرة يبرز بنبرة فصيحة تأتت للمرأة نتيجة مراكمات تاريخية وثقافية تستنهض حدتها من خلال الإصرار على نعومة النسق الأنثوي والإستمساك به كامتياز، مع الإحتجاج الصريح على ذكورة القاموس اللغوي، كما تعضد بالحفر النقدي في منسيات التاريخ، والإعتراض على معتقدات الأساطير التي تصنف المرأة عنصرا سالبا يحيل إلى الليونة والعتم والغموض والرخاوة قبالة الذكوري كمبدأ موجب معزز بعناصر الشدة النور والحرارة والقوة والوضوح .

    هذا هو العنوان الأبرز في بوطيقيا الأنوثة اليوم، فنبرتها الإيروسية لم تعد مواربة بل ازدادت فصاحة وإصرارا على المنازلة لدرجة الإسترجال، فما تعتبره الشاعرة الكندية مارجريت أتوود قدرا أنثويا محيرا في كتابها " المرأة القابلة للأكل " يحيل إلى كائنات توصم بأنها شكاءة، ربما لأنها لم تنجح على مر التاريخ في تفعيل ممكنات الروح والجسد للوصول إلى متطلباتها الإيروسية، وهو سؤال حاولت أن تجيب على علته سلسلة طويلة من الشاعرات بدواوينهن المكتظة بحيرة أنثوية فيها من الجدل اللامتكافئ بين الصياد والفريسة، الجلاد والضحية ، والخيانة والخيانة المضادة .

    يأتي ذلك كله، كما تشير بنية الصمت وتاريخ القهر عن احتجاج حاد على الموت القرباني المجاني، أو الموضعة الذكورية للأنثى على حافة الحياة، فالرجل الحقيقي المشدود بشكل تفصيلي على رافعة إيروسية ( شعورية/جسدية ) كائن مؤجل، أو يستحيل وجوده، فهو لم ولن يفهم المرأة، كما تقول الفونسينا ستورني، وهي بالطبع لن تفهمه.

    إذا، لا بد من توهمه أو إختراعه، حسب النص الشعري الأنثوي، وربما هذا ما أرادت أن تؤكد عليه نور سليمان في مجموعتها " إلى رجل لم يأت " وعززته كاتلين جامي التي صرفت عمرها، كما تقول، تعد غرفة لرجل لا يأتي.

    سدانة القمر، مهمة شعرية

    عند الحفر في طبوغرافيا تلك العاطفة الفائضة بما هي مشروع الذات الأنثوية في نضالها، يمكن التماس بطبقات رهيفة في طياته، والتي هي بمثابة الجوهر المحاذي لشعرية النضال الإجتماعي والسياسي والحقوقي، فالمحاججة الخطابية تستبطن حالة من التخفي أو النرجسية الأنثوية التي لا تطيب لها الهدهدة كذات إلا بمماثلة حواضن الطبيعية، ومنادمة الروح والكون، فالصورة الكونية، تمنحنا راحة فعلية محددة، كما يميل غاستون باشلار، وهذه الراحة تتناسب مع حاجة، مع شهية.

    هذا ما تسميه وفاء العمراني في البورتريه الذي رسمته لنفسها " صداقة العناصر " بالنطر إلى طبيعة الإيقاع الفكلي الذي تحايثه المرأة على الدوام ، فالكلمات والصور الكونية هي الكفيلة بربط الذات مع العالم عبر هذيان خفيف ينقل التعابير الإنسانية إلى تعابير شيئية، لتتعزز النغمتان الإنسانية والكونية، تماما كما تعبر سعدية مفرح عن ذلك التشابك التماثلي في نصها " لا تعليق " عن تورم عين الشمس، وأنوثة الكرة الأرضية، حتى أن الوفونسينا سورني لم تندفع إلى جوف البحر إلا بعد أن أهدت قصيدة إلى الطبيعة بعنوان " أنا ذاهبة لأنام " .

    وككائن بشري، تنفعل الشاعرة بكل مظاهر الحياة، ويتأتى انفعالها من احساس ايكولوجي بالمكانة السامية للطبيعة، المتأتي أصلا من تصور ديني للأرض، ولكن الأيقونة الخفية المحرضة على صفاء ذلك الصوت الأنثوي تتمثل بالقمر، الذي يكاد أن يكون الحبل السري الذي يربط المرأة بالوجود، فهو الثيمة الأكثر سطوة على شعر المرأة منذ انهيدوانا التي كانت سادنته، مرورا باليابانية ايزومو شيكيبو ( 974 - 1034 ) إحدى شاعرات العصر الذهبي للكتابة اليابانية، والتي لم تفارق عادة اليابانيات في مساورة القمر، فهي لا تتأنث، حسب قولها، إلا عندما يكتمل في منتصف السماء، ووصولا إلى كثافة صوره، وتنوع دلالات حضوره عند الشاعرات في كل الثقافات بشكل إجمالي.

    سافو مثلا تساوره كمصلى، تحلق حوله بناتها، وآنا أخماتوفا تتخيله تارة صليبا مضيئا، وأحيانا تشخصنه رجلا يدخل عليها بقبعة مائلة، وماريا إلينا ولش تحيله إلى فخار طري، فيما تتمناه الألمانية ماريا شميل طائرا محلقا، أما الكشميرية لال ديد المفتونة بضيائه المثير للجنون، فتحقنه بمعنى نفسي لتتوئمه بالروح، فهو متجدد دائما كما تعاود الروح انبعاثاتها، وهكذا تره اليابانية جوكسامي شيكاكو رمزا لعبقرية الوجود وتناسقه، كما تتمنى الصينية زهاوكسوانجنغ ألا يبقى بعد فناء الموجودات إلا نوره البهي.

    ويندر وجود شاعرة لم تشخص ببصرها وتعبيراتها ناحية القمر، حيث الزعم الدائم بمصاحبته والإستئناس بموحياته، وكأن السدانة الشعورية للقمر، مهمة شعرية على درجة من القدسية والضرورة النفسية، حتى عندما تقول الأسبانية بالوما فيرنانديث غوما بأنها لم تعد تتأمل القمر الأصفر، السائر بين الماء والريح ، فإنها تؤكد ذلك التواشج ولو بشكل إنكاري، فالمهم هو التلفظ به ومساورته.

    وحتى في الشعر الأمريكي الحديث حيث المجتمع الصناعي وما بعد الصناعي يحضر هذا الصاعق الشعوري بقوة وتنويعات مختلفة تتلاءم ولغة العصر، كما تشبهه مثلا الشاعرة اولينا كاليتياك دايفس بالضوء منخفض الفولتية، وذلك في قصيدتها " ستة اعتذارات يا مولاي " وكأنها تعيد حكاية آن سكستون القائلة في " نشيد امرأة ، نشيد قمر " " أحيا على الليل ، وأموت في الصباح ، كمصباح قديم استهلك زيته ".

    هذه إحدى الدلالات الأنطولوجية الغامضة للقمر، من حيث سطوته الشعورية على الشاعرة، فهو مؤشر زمني يتمادى في تأثيراته الحسية كلما تعالق بالرمز اللغوي، أما حكاية المصاحبة الأزلية فتشير إلى أنه ليس مجرد ميكانزم شعري تشخيصي تلجأ اليه الشاعرة كمهرب في الملمات الشعورية، لتضيء به عتمة النفس المقهورة، أو خدعة سينوغرافية تزين به خلفية مشهد الحياة، إنما هو معادل فسيولوجي سيكولوجي ربطي الدلالة بطبيعتها.

    وأصل هذا التواشج يكمن، كما يبدو، في أن المرأة تحدث تماسها بالحياة وفق ديالكتيك حياتي ( فيزيولوجي/سيكولوجي ) يسميه فراس السواح " أنوثة القمر وقمرية المرأة " وذلك في كتابه " لغز عشتار - الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة " فحياة المرأة الفيزيولوجية والسيكولوجية برأيه " ذات طبيعة قمرية وإيقاع قمري، فهي مرتبطة بدورة شهرية معادلة لدورة القمر الذي يبدأ هلالا في أول الشهر، ليتلاشى في آخره " منذ أن وخزها ببغاء أحمر بذيله الحاد بين ساقيها كما تقول الأسطورة.

    وذلك التصور، بالإضافة إلى سلسلة طويلة ومعقدة من الإعتقادات والأساطير القمرية، كان هو المحل الذي اتكأ عليه القدماء لتفسير سر مزاجها المفاجئ، والمنذر على الدوام بالتقلبات، بأسطورة أخرى تميل الى أن أصل القمر امرأة إسمها " رابية " هذا حسب تصوراتهم، فمعظم الثقافات تميل الى تأنيث القمر، ومماثلته بالمرأة باعتباره قيمة سالبة، كما تراه راعيا لخصوبة النساء فهو الذي ينفخ الحياة في أرحامهن، بل تحمله من الوجهة اللغوية معنى من معاني الجنون.

    وقد تصعد هذا المنحى الذكوري في القرن السابع عشر ليتحول إلى مطاردة كنسية لكل امرأة تنظم الشعر أو تعبد القمر، فيما يدل على إهتداء ذكوري فطن لمكمن أنثوي على درجة من الخصوصية الشعورية، فتلك طقوس سرانية محرمة من المنظور الذكوري، رغم أسبقية العبادة القمرية في الفكر الإنساني، والميل الى إسباغ صفة النور على القمر، وليس على الشمس ، بالنظر الى أن الليل ، حسب الاعتقادات الأسطورية، كان هو لحظة الخلق الأولى وبالتالي جاءت أولوية القمر.

    وقد ساد ذلك التصور قبل أن تهزم الثقافة الذكرية نقيضها الأمومي، ويتم الإستحواذ الشموسي على الصلاحيات والخصائص القمرية. وحسب القراءات النسوية، سواء البنيوية التي تؤكد على الرمز من خلال مادية الدالة، أو تلك الميالة إلى اللغة كصورة إنعكاسية لشفافة الوعي، كان هنالك سعي مستمر وشرس لطرد المرأة بشكل منظم من كل مرافق الحياة، أو على الأقل تذكير مناشطها.

    بموجب ذلك المنحى الذكوري المجحف، أو الناقص ربما، أحرقت الكنيسة ثلاثين الف امرأة بدعوى أنهن ساحرات، وعلى ذلك استهدفت العقيدة الذكورية كل موحيات قدسيتها، من خلال تجريد القمر ذاته من قدسيته، خلال منعطف الإنتقال من المرحلة الأمومية إلى صيغة الثقافة الذكورية، حيث فصمت العلاقة ما بين خصوبة الطبيعة والمرأة بوجه عام وخلع عن المرأة الكثير من مستوجبات قدسيتها، لكن المرأة كانت دائما أقدر على الإنبعاث من جديد، وإعادة إنتاج نفسها، وكان الشعر أحد تلك المنطلقات الإنعتاقية، وهو الجدل الانساني الذي يمكن تلمسه مختصرا فيما كتبته منى لطيف غطاس :

    المرأة أرض الأرض امرأة
    قالها كتاب كثيرون
    وأنا أيضا

    بشر ميالون للشر يجرحون الأرض
    يجرحون المرأة
    قالتها قصائد كثيرة
    وقصائدي أيضا
    لكن النساء الجريحات يشفين
    والأرض أيضا

    أما القراءات الأدبية الحديثة فتميل في مسألة صلة المرأة بالقمر إلى تأكيد وجود علاقة وثيقة بين الشاعرة واضطرابات " متوالية ما قبل الطمث " PMS التي تعني في الأصل الانجليزي " التغير القمري " فهذه الفترة الحرجة جسديا ونفسيا، والمصنفة اليوم كاختلال صحي يستوجب الرعاية، بقدر ما أسهمت في تصعيد تطرفات الشاعرة سيلفيا بلاث الشعورية، وأكسبتها طراوة تعبيرية لتسمية الأشياء بشكل شعري سافر وشرس، قادتها إلى الإنتحار، وهو استنتاج تأويلي متطرف، ترقى به كيت موس إلى مستوى النظرية.

    وتهتدي كيت في دراستها " سيلفيا بلاث الحقيقية " إلى ذلك التصور وفق قراءة تحليلية لتأملات كاثرين تومبسون المعمقة في يوميات بلاث ، وملاحظات تفكيكية فطنة لقصائدها المرتبطة بأثر القمر، وهو ما يتوفر بالفعل في نصوصها من خلال ذلك الحضور الباذخ، ثم مفاعلة كل تلك الافتراضات بأدلة علمية من قبل الأطباء الذين أشرفوا على علاجها من حالات الإكتئاب، وباستعانة مباشرة من كاتبة سيرتها آن ستفنسون، بالإضافة إلى شهادة قريبتها أولوين هيوز.

    بهذا الإلحاح الوجداني الحاد يكون القمر مفتاحا هاما لمزاج الشاعرة، ومعايرتها شعوريا، فهو مقياس الزمن الأول، والرمز الأكبر للزمن الدوري، يستحيل على المرأة/الشاعرة الفكاك من سطوته، كما يصعب أن ينجو من إلحاحه نص شعري أنثوي، وربما كان في نص ظبية خميس ما يشبه الإعتراف الأنثوي الودود بهذه الصلة الشعورية الأزلية:

    كلما قرر جسدي مطره الدموي الشهري
    والذي يمشي كظلٍ خلف دورة القمر
    ويُعبر عن بكائه عبر بوابة جسدي
    حزناً على عجزه المخذول
    عن التوحد بذكورة القمر النزقة

    إذا ، لا تنهض سيرة شاعرة إلا باستدعائه ومنادمته، فهو جزء من بيو-غرافيتها، لدرجة أن سيلفيا بلاث التي طالما تغنت به، لم تغادر الحياة منتحرة إلا بعد أن أشهدته - أي القمر - بطقسية جنائزية، على مآل امرأة في حالة إستكمال لموتها، وذلك في قصيدتها " حافة " حيث أسدلت الستار على قمر ساكن، يأبى الحراك وكأنه يحايث يأسها وانسحابها من مشهد الحياة إنتحارا.

    نسوية من أجل الشعر

    ومهما تعددت النبرات الشعرية فإنها تصدر عن حنجرة واحدة، معتمدة في الأساس على رافعة أنثوية تنحت شكل الذكورة، بمزاج لا ينفصل عن مرجعيات الطائفة، من حيث إخلاصها الوثيق لقاموس الأنوثة، ووفائها لما يسميه تودروف ضمن مفهوم الشعرية " الشفرات المعيارية " الذي يتم بموجبه كبناء ثقافي تبئير الأنساق والخطابات، بحيث تتبدى سطوة ذلك الهاجس الوجودي الحاد في صيرورة النص الأنثوي الخفية كما في نواياه المعلنة، واستراتيجياته الخطابية.

    ذلك يعني أن النص الشعري الأنثوي لا يتكون من سلسلة أحداث منحسمة ومتجانسة الصياغات الفردية، إنما يتبين من سمكه، كما يفكك فوكو الخطاب، عدة مستويات من الأحداث الممكنة، اي مستوى عباراته في انبثاقها الفريد، ومستوى ظهور موضوعاته، وأنماط تعبيره، ومفاهيمه وإختياراته الإستراتيجية، ومستوى اشتقاق قواعد تكونه الجديدة، انطلاقا من قواعده السابقة، ضمن نفس الوضعية، وأخيرا مستوى ظهور تشكيلة خطابية ما مكان أخرى ضمنه، مع ملاحظة العبارات التي تمت صياغتها خارج الخطاب ذاته كنص شعري، وضمن حقول مفاهيمية مختلفة، وأنماط تعبيرية تمتلك سيرة مغايرة لإنبثاقاتها، ضمن شرطية تاريخية، أو مستلزمات اجتماعية، أو حتى نوايا عصيان فردي، تتموضع على خطه البياني كطفرات.

    وهكذا يمكن مقاربة جانب هام من قواعده النوعية، أي تاريخ أفكاره كممارسة اجتماعية حقوقية مثلا، لمراقبة تضاريسه وخيوطه الموصلة وقطائعه وانشقاقاته وتصدعاته وأشكاله المتجددة، فهو، ككل الخطابات، لا ينساب بهدوء في وحدة فكر متناسق، بل يتأسس على انشقاقات وتعارضات متباينة، ينبغي وصف مستوياتها وأدوارها، أي بما يشف كهاجس عن الألياف الشعورية والفيزيولوجية التي تنسج بموجبها منظومة الأنوثة، فأطياف المفردات المثقلة بوعي تراجيدي كأساس للتعبير اللغوي هي الدعامة المعجمية لسرانية ذلك النص، بما هي مادة البناء النصي المحاذي لتداعيات الهوامي، الذي تتحشد فيه الأنا بكل قلقها وعطالتها ورهابها وتوقها الإيروسي.

    وبمراكمة الأدلة والقرائن النفسية أو بمعنى أدق تحشيدها وفق تصور بنيوي يتجاوز النص إلى مجمل المنتج، يمكن أن تتفسر نداءات الذات الأنثوية بموجب هوس السلالة، فالعلاقة التبادلية بين البنى الواعية واللاواعية لذلك النص تنم عن كوجيتو مدبر برهافة أنثوية، حيث تفصح أنطولوجيا الأنوثة عن كائن يجهد لإعلان السخط والحداد دائما، ولإيذاء الجانب المتطبع منه، والتبرم من التواتر الهبائي واللاجدوائي من الظاهرة الإنسانية، مع قدرة فذة على الإنبعاث من جسد الضحية لتلطيخ وجه الجلاد، الأمر الذي يجعل من التصور النقدي القائل بأن تاريخ الرواية هو تاريخ المرأة مسألة متحققة في تاريخ الشعر أيضا، وإن من زاوية مغايرة.

    وبشيء من الإصغاء إلى كل السياقات المودية الى صوت الشاعرة، يمكن الوقوف على محايثة متينة ما بين بوطيقيا الأنوثة ومستوجبات خطاب النسوية المهموم بتحقيق أنسنة الحياة كلغة وتاريخ وثقافة، كرد أنثوي على فعل التذكير المتمادي، فالحداثة المادية يمكن أن يكون الشعر صوتها وشعورها، أو ربما صيغتها التعبيرية كفن، التي تصب مجتمعة في نسق أعلى، لا يمثل حسب افتراضات الخطاب الحالة النهائية، أو آخر مرحلة من عملية انبناء طويلة وملتوية تتشابك فيها اللغة بالتفكير والتجربة الاختبارية بالمقولات، والمعاش بالضرورات المثالية، وعرضية الأحداث وجوازها بالإلزامات الصورية.

    وهكذا حقق الشعر الأنثوي حضوره كمزعج أبدي، بتعبير نيتشة عندما تأتت للمرأة بعض الروح العلمية، المحاذية للشعر بما هو معرفة وسلطة أيضا طبيعتها الجفاف، حيث التماس الطردي مع تنظيرات النسوية، المطالبة بالتنادد ، منذ أن كتبت سيمون دوبوفورار في " الجنس الثاني " ان المرأة لا تولد أنثى ولكن المجتمع هو الذي يجعلها كذلك، مؤكدة على نظرية نسوية بجانب نظرية المساواة، وتساءلت عن السبب الذي جعل العالم دائما ملكا للرجال، وعن سر التغير الآن، وعما إذا كان ذلك التغير سيتيح للمرأة فرصة التقاسم الحر مع الرجل.

    وقد تشظت تنظيرات الرؤية النسوية المضادة، التي تستهدف الرجل في المقام الأول، عند كيت ميليت في " السياسة الجنسية " وعند بتي فريدن من خلال دعوتها الصريحة في " الباطن المؤنث " إلى رفض باطرياركية الرجل وتعزيز الوعي بالذات الأنثوية، حد الإستقلالية أو التأسيس لقارة أنثوية مناقضة للذكورة، على اعتبار أن تلك الذوات الأنثوية مضطرة للعمل ضمن حاثات الخطاب ونمطيته، لدرجة تكون معها في النهاية فواعل سلبية، أو منحازة على أقل التقديرات، فهي ترزح تحت وطأة الثأر الجنوسي، وردات الفعل، فعلاقات السلطة هنا هي التي تحدد الشكل الأمثل لإعادة إنتاج الخطاب.

    وتبلغ تلك الصلة ذروتها المفهومية عند لوس أريجاري التي طردت من مدرسة لاكان الفرويدية للتحليل النفسي، إثر رسالتها الفلسفية عن " مرآة المرأة الأخرى " عندما تحدت دعائم الفكر الفلسفي الغربي المؤسس في أصولياته على تهميش المرأة، واتهمته بالعجز والغطرسة الأبوية منذ أفلاطون إلى فرويد، بسبب إنشغاله النرجسي بالرجل ورؤيته الظالمة للمرأة كصورة معكوسة في مرآته العقلية.

    وهذا لا يعني بالتأكيد أن المرأة أو الشاعرة كانت بمعزل عن النقد الموجه للحركة في الولايات المتحدة من قبل تيري غاريتي مثلا في " المرأة الحسية ". أو عند ليليان روبنز في " الحرب الإيروسية " حيث اتهمت الحركة بتعطيل الدعاوى الحقوقية من خلال افتعال معارك هامشية ضد الرجل، وإعلاء نماذج مثل كاميلي باغليا الخروف الأسود للنسوية، كما تلقب، التي لا تعرف من النسوية إلا جانبها الحسي، مثلها مثل مادونا التي اعتبرت السمة الأقبح للنسوية، حيث تم التعامل معها كأيقونة ثقافية مسلّعة، وكعنوان لرفاهية الأنوثة وسمتها الإعلانية.

    أما في فرنسا فقد كتبت فرانسواز بيك في " تحرير النساء - سنوات الحركة " عن إنحراف التيار الراديكالي في النسوية عن مهمة طرح أفكار لتحسين وضع المرأة إلى التحول الجذري بين الجنسين، لدرجة أن قمة نسائية من جميع أنحاء العالم عقدت في تايبيه سنة 1994 من أجل اعادة تنظيم وقيادة الحركة، وتخليصها من " النسوقراط " مع التأكيد على القطيعة مع كل مظاهر القروسطي والميتافيزيقي، والتقاطع مع متواليات النهضة والتحديث والحداثة والليبرالية والعلمانية والعولمة، فالأنا الحداثية النسوية بقدر ما كانت إجتماعية ومعرفية تسلحت بلسان تعبيري أدبي أيضا، كان النص الشعري الأنثوي أحد روافدها.

    وقد كان ذلك الجدل يعّلب ويعاد تصديرة كمنتجات ثقافية، بالنظر إلى دخول العالم في سياق حضاري معولم عابر للقارات، ولذلك كان الخطاب الأمريكي مثلا يحاذى بخطابات موازية، كما في فرنسا عند سيغريد فيغل " حول ديالكتيك نسائي للعقل " وعند أليني فاريكاس " نسوية، حداثة، وما بعد حداثة - من أجل حوار بين ضفتي المحيط ".

    وظهر ذلك التأثر عربيا في دعاوى نوال السعداوي، التي لم تتعرض للإنتقاد الا في وقت متأخر، برأي الدكتورة أنيسة الأمين، لكونها من جهة لم تعط الكتابات الفرويدية حقها من الإستعياب، ومن جهة ثانية بسبب ترويجها لأيدلوجيا نسوية تحريضية لا تتوافق مع الشروط الإجتماعية التي تحياها النساء، لتبقى لها قيمة الدلالة والإشارة كصوت عال جريء، أخرج المرأة من عتمة الممارسة إلى علنية الكلام، ونزعت هالة التقديس والتابو عن هذه المسألة المعيارية في حداثة المجتمعات.

    كما يمكن التماس مع ذلك المؤثر في كتابات فاطمة المرنيسي، التي تبدو طورا استكماليا لكتابات قاسم أمين منذ ظهورها ( تحرير المرأة 1899 ) و ( المرأة الجديدة 1901 ) فقد كان ذلك التنامي المطرد ينعكس بشكل مرآتي صريح وتصاعدي في النص الشعري الأنثوي بموجب ثقافة معولمة يتحاور بموجبها المادي بالروحي، حيث يطال حتى الفكر الديني، ففي تركيا مثلا كتبت بيلوفر غول " مسلمات وحديثات " فلم يعد الخطاب الشعري الأنثوي بمنجى من هذه الطروحات الحقوقية المتمادية في مطالبها الإنسانية.

    وهكذا صارت كل شاعرة حقوقية بامتياز، وكل شاعرة هي مشروع يقظة للوعي النسوي، أو هذا هو الإفتراض المتوقع، فعند تأمل النص الشعري الأنثوي يمكن تلمس التحالف المستوجب بالأيدلوجيا من خلال ربطه تارة بالعلمانية، وأخرى بالدعاوى الحقوقية ( النسوية وحركات التحرر ) ومرة بالإيمانية الإرتكاسية والغيبية، وبالأسطورية أيضا.

    على كل هذه النواحي تتوزع نضالات المرأة الشاعرة، حيث تؤكد ذلك المنحى - عربيا - الشاعرة الفلسطينية الأصل الأمريكية الجنسية ناتالي حنظل في كتابها ( شعر المرأة العربية - أنطولوجيا معاصرة ) بتأكيدها على أن النصف الثاني من القرن العشرين احتشد المشهد الأدبي بشاعرات عربيات، على قدر من الوفرة والتنوع والمغايرة، كما اتسم بالغنى في الأصوات والمخيلة، وعكس بشكل لافت التطورات الهامة التي حدثت في العالم العربي من الوجهة الثقافية والإجتماعية والسياسية، وهو الأمر الذي أشادت به الشاعرة الأمريكية ادريين ريتش حيث اعتبرت القصائد دلالة على التغيير الثوري والأصيل في الشعر العربي، وكذلك الشاعرة جوي هارجو التي اعتبرت أنطولوجيا الشاعرات العربيات تذكيرا هاما وحيويا بدور الشعر.

    وربما يعني هذا الإلتفات البحثي جانبا من الدراسة الجادة التي تطالب بها ظبية خميس للإقتراب من صوت المرأة في الشعر العربي لتجاوز قراءات صورية لا تتعدى عملية التزيين الحضارية، التي تدفع برابعة العدوية إلى سماء الأسطورة، أو لا تمل من تقديم ديوان الخنساء، أو الوقوع في حب قصائد ولادة، فدراسة نص الشاعرة والكاتبة العربية، برأيها " يأتي ضمن منجز الحداثة في الشعر والأدب العربي فلا يمكن لأنسنة وعصرنة النص الجديد أن تغفل عن صوت المرأة كمشروع متحضر نادت به الأفكار والحركات الإجتماعيةالعربية والعالمية خلال القرنين الأخيرين من هذا الزمان ".

    وعلى ذلك التوجه تميل حنظل أيضا إلى تسجيل إسهام الشاعرات العربيات في مقدمة قوى التغيير لرؤية المستقبل، والتورط في مستوجباته، فبدل الإرتكاس لروح الماضي، إعتمدن النهل الواعي من مزدوجتي التراث والحداثة، بمعنى الإتكاء على الأصيل من المفاهيم، والتفاعل المنفتح مع المنجز الحضاري العالمي، حيث أصبحن بأشعارهن قوة تغيير حقيقية في عالم عربي يعاني من الإرتباك، فكان الشعر طريقتهم للتعبير عن واقع الإنسان العربي، وسبيلا لاكتشاف الذات، من أجل علاقة واعية بعوالمهن الداخلية والخارجية، وهكذا صارت الشاعرة أداة لتثوير الكائن، والإرتقاء به عبر اللغة.

    هذا ما تؤكده الدراسات النقدية عند التعامل مع اللغة كممارسة إجتماعية تحمل على عاتقها إعادة إنتاج البنى الإجتماعية وتشكيل الخطاب في علاقاته الداخلية مع الفئة، وضمن جدلية التأثير والتأثر مع كافة الخطابات والتحولات، فلغة النص الشعري الأنثوي بهذا المعنى هي مفهومية في الأساس، لا تنفصل عن فاعلية السلطة والأيدلوجيا، ولا يمكن تجريدها من مضامينها الإجتماعية ومشروعية صراع الذوات المنتجة لها من الوجهة التاريخية كعملية إنتاج، وهنا يكمن قانون ذلك النص الشعري الأنثوي ومسبباته، فهي لا تنتج ضمن صيرورة أدبية محضة، ولا بوعي مستقل، إنما تحدث ضمن مسالك وظروف واضطرارات، وبالتالي فإن هذا النص ليس إجتماعيا في موضوعاته وحسب، بل في عملية إنتاجه أيضا.