يقال ان شبح اقتصاد السوق طال حتى ضروب الفنون والثقافة في الصين المعاصرة. مهما يكن، فيما الفن الطليعي لم ينخرط بشكل قوي ضمن هذا التيار رغم وقوعه في أزمة، فانه يتابع النمو كبؤرة صغيرة لكن ثابتة وعالية الجرعة الثقافية التي تفتخر بازدياد الغنى النصي والمكانة المقبولة. لإعطاء تفسير لهذه الظاهرة يجب الأخذ بعين الاعتبار الإحياء المتعدد للمفاهيم التقليدية للشعر الصيني وللشعرية وسط ظروف متسارعة التبدل خلال المرحلة المعاصرة. وثمة عامل آخر يستحسن أخذه بعين الاعتبار يتمثل في طبيعة باب او نوع الفن الطليعي لجهة محتواه الاجتماعي وفي طبيعة التجريب الفني بذاته، وهذا يخلق بطبيعة الحال مشكلة للتحليل الأدبي والثقافي.
ولا بد من الإشارة إلى ان المقصود هنا صينياً بالفن الطليعي (آفون غارد) فئة عريضة مغروسة في التاريخ الأدبي المحلي بعد انعتاق الأدب من القبضة السياسية اكثر من كونها مغروسة في جماليات الخطاب الشعري العالمي. وينطوي هذا الشعر الطليعي على جراب أو سلة تختلط فيها النصوص المسماة "غير رسمية"، و"تجريبية" و"ما بعد ماوية".
جدير بالذكر إلى انه منذ ثمانينات القرن الماضي تمكن وهج نور الفن الطليعي ان يحجب إلى حد معين الشعر "الرسمي" او "الأرثوذكسي".
بالطبع لا يمكن لإلقاء نظرة عجلى على نصوص قليلة، ولو بارزة، ان تمثل كامل الشعر الصيني المعاصر. المقاطع التالية تنتمي إلى أواخر تسعينات القرن الماضي وما بعد. يعتبر كل من زي تشون (المولود عام 1963) ويو جيان (1954) الشاعرين الأكثر تأثيراً في الصين منذ أوائل التسعينات، ويعتبران تباعاً ممثلين مهمين للشعر الرفيع الاهتمام وذاك صاحب الاهتمامات الدنيوية أو الأرضية. تعتبر ين ليتشوان (1973) صوتاً بارزاً ضمن جماعة "الجسد" التي كانت جريئة في طروحاتها فأنعشت المشهدية الشعرية خلال عامي 2000 و2001. أما يان جان (1973) فقد حفر لنفسه اسماً بشعر "أدائي" إبداعي يستعين بالسمعي البصري وسيلة فضلاً عن اهتماماته الموسيقية والنقدية.
***
مراقبة حياة قطرة مطر
بلى ستمطر
الشاعر فوق كرسي في المقهى
يطلق نظرة عجلى صوب السماء يتمتم بهدوء
ويتراجع لسانه صوب الظلام
لكن عميقاً داخل تلك السحب السوداء، حياتها،
قصتها الصغيرة النازلة قطرة قطرة، على وشك الابتداء
كيف يمكن قول هذا، هذا الشيء الصغير، يحدث كل لحظة
إني مهتم بأشياء أكبر يقول الشاعر لقارئته
مطيعاً ذاك السطر المستقيم غير المرئي المتساقط
لكن المحافظ على تماسكه مع جواره متعامداً مع التراب
تماما كما ابنة الشاعر المنسجمة مع روضة الأطفال
ومن ثم تلتوي في السماء مع أساليب التعليم
وكونها التوت لا يمكنها والحال سوى ان تلتوي..
يو جيان (998)
***
لم تزل مبللة بالدهان
مدي يديكِ
مزقي وجهكِ
قيسي عمقه
زيدي قوته
تمكني من قذارته
سيطري على حقيقته
قصّري طوله
أصلحي عرضه
إرفضي ما يساويه
ثم البسيه من جديد
(متعاملة معه برفق)
ثبتي تعابيره
صوّبيه نحو الخواء (بمعنى، كل الكائنات الفانية)
وكوني لطيفة كفاية لتمدي لسانك
وتتحسسي إذا كان وجهك لم يزل هناك
وعما إذا كان لم يزل موجوداً هناك أم لا
تماماً حيث هو عندها
رجاء، اجمعي راحتيك
وستشعرين بالتأكيد
بتفانيك وبتعابير وجهك الشجاعة
مثل لوحة إعلان لم تزل مبللة بالدهان
يودّ كل عابر
ان يترك عليها بصمة مخلبه.
ين ليتشوان (2002)
***
لص الأوقات الصغيرة للمدينة
من مقدار قبضة ثلج من السنة الماضية
تعصر كتلة من الوحل الأسود
للخواء التام. لا تستطيع العثور على حجر تركله
لذا تبقي يديك وقدميك في مواضعها
الشوارع مكنوسة جيداً بشكل لم تعد تؤمن لك مأوى
الحافلات لم تعد مزدحمة
لم يعد بمقدورك العثور على الفتاة التي تبيع الأحذية
والسائلة عن أحوالك، أو حتى على الدكان الذي
لم يعد يبيع طعاماً مدخناً بل الهمبرغر
اللعينة! كل هذه الأشياء تغيرت
وليس من أحد يكلمكَ
الشقيق الأكبر قصد فيتنام سعياً وراء الثروة
والأخ الثاني لديه عصابته الآن، الأخ الثالث ذهب ضحية احتيال
الأخ الرابع دهسته سيارة، الخامس عاد إلى الحقل
وأنت لا مكان تقصده. عام 1968 ولدت هنا
أنت ابن مدينة، أخذت على عاتقك بناء حياتك منذ صغرك
لست غشاشاً، لصاً، زانياً، أنت اكثر غفراناً من الراهب
تمر برجال الشرطة، متمهلاً هذه الأيام
لكنهم لا يكلفون أنفسهم النظر إليك
خطاك بدأت تتباطأ، الناس يجرون من حولك
طوال الوقت، تجلس
في الحديقة العامة، السياج يؤلم مؤخرتك
للمرة الأولى تتساءل عن حرفتك المحببة
لا أحد يحتاجك الآن، ولدت في الزمن الخاطئ
ين ليتشوان
***
ما يقوله النسر
(قصيدة نثر)
هل علينا عدم قراءة الخارطة؟ عند الأسى
يقبع مفترق الطرق الأول، مع درب صوب الأغنية
ودرب صوب الحيرة؛ عند الحيرة ثمة
المفترق الثاني، مع درب نحو المتعة وآخر
صوب الخواء، عند الخواء هناك المفترق الثالث، مع
درب يؤدي إلى الموت ودرب نحو البصيرة، عند البصيرة
المفترق الرابع، مع درب صوب الجنون ودرب باتجاه الصمت..
***
عندئذ أتخلص من لحمي، وأتحول إلى قطرة ضوع
تغرق حتى نملة. عندئذ أتحول إلى نملة، ثاقباً
دربي داخل دماغ فيل، وأزعجه حتى يسحق قوائمه الأربع. عندئذ أتحول إلى فيل، وتصدر عن جسدي الضخم رائحة نتنة. تواً أتحول إلى نتانة فيما أولئك الذين يغطون أنوفهم حين يشموني هم من الرجال. تواً أتحول إلى رجل، إلى ألعوبة بيد القدر...
زي تشوان (1998)
***
ضد كل الخداع المنظم
ضد الإعلانات، ضد النسيان، ضد تمزيق بطاقة هوية أي شخص ووجهه البشع، ضد الخروج سالماً من شدة انهمار النيازك رافلاً في طاقية ذهبية لكن ناسياً اسم ابنتك. ضد آكلي اللحوم الراقصين. ضد الكومبيوترات المحتضرة. ضد العيش كما المنجل. ضد الضوع الليلي المحتضر ليلاً. ضد المجلات التقليعة والدوت كوم. ضد أحلام اليقظة، أردية يرى ما بداخلها، انفجار القلب كما ريش الإوزة... شراب يقتل المرء من على بعد عشر خطوات، حقيرون يحكمون العالم... مجلات البورنو كأوراق امتحانات... ضد الخوف...
يان جان
المستقبل - الأحد 17 أيلول 2006