القصيدة بيدرها. هنا الزرع والحصاد. هنا القمح والزؤان. شمس حارقة تزيد السهل غربةً وريح تبدّد الحب ولا تترك سوى قش اللوعة والانتظار. قصيدة الشاعرة الإماراتية نجوم الغانم من عصارات الوجع، تسكب دمعها بصمت كما تقطّر الزيوت، على مهل وبتأنّ حتى لا يعلو صوت البكاء وللبكاء صوت. قصيدة الفراق هي، ولخطى الفراق صدى، تلمّه الشاعرة الهادئة، المتألمة بسكون، لتجعل منه درباً للذاكرة، وحواراً مهموساً همساً حتى لا يستفيق الصغار من نومهم، وحتى لا يعلو الحزن سقف الدار.
"لا وصف لما أنا فيه" (صادر لدى "المؤسسة العربية للدراسات والنشر")، صوت مصاب يطلب دواء، إكسيراً ليبرأ، يعيد خلط الاوراق مرات ليقرأ غيبها علّه يدرك ما جرى بعد سماء مقمرة وأشجار يانعة كانت تعلو من الداخل كغابات العصافير العاشقة، فهوت واصفرت أوراقها.
هي الشاعرة، تتبدل أماكن قصيدتها، وتتغير المواسم والفصول، تنشر أحلامها على مقاعد الغربة. ويبقى بين ذهابات وإيابات، الحنين، تميمتها وحرزها. الحنين الى المطارح الاولى، الى الياسمينة، الجهنمية المسوِّرة البيت بألوانها، الى ذاك الرجل الذي تناجيه بالحب، واليه كل قصيدة كأنها تعيده بها اليها لتعزيم الفراق. الرجل غربتها وماضيها، وطنها وأحلامها المفككة، ولا تحاول جمع حبّاتها المبعثرة بل تحاكيها، كقارئة غيب، في أصفادها، تجمعها بين كفيها وتفردها لتسمعها، لتلتقط صدى البحر والسفن المبحرة من جوفها: "كثيرة كانت البيوت/ التي وطئتها اقدامنا/ قليلة الضحكات/ التي ظلت تحرس عودتنا/ طويلة/ الليالي التي تركتنا ننطفئ في البكاء.../ أما الأزمنة التي سرقنا مفاتيحها/ فلكم كانت قصيرة/...".
مسافرة هي نجوم الغانم والقصيدة زاد سفر، توسّع رؤاها، تزيل حدود الأفق لترى أبعد، ولتسلّم الحنين بأصابع دامية. فبقدر ما تعبر دروباً، يظل الماضي يلاحقها، يناديها، فتراسله بكلمات تشبه الغربة الشتائية الرمادية، تلك التي ترمي بين الأبيات صقيعاً حارقاً تتقن كلماتها المختارة من بين آلاف الكلمات رسمها بألوان الماء الشفافة، المكسوة بسرية الاستعارات البخارية. كأنها تتوسل قارئها الاّ يخطو عتبة أسرارها بل أن يبقى شاهداً من خلال زجاج، من وراء أسوار الحياة، تلك التي رفعت حجارتها برياح ساهرة على راحتها. ونظل نصوّب عدسة نفوسنا الى الكلمة، كلمة نجوم الغانم المرصعة في معدن ثمين، نسرقها لنتحلى بها. فالشعر النادر بجماله وأحاسيسه وانفعالاته نغار منه وعليه فنمدّ الاصابع لالتقاط نجومه ونبني عليها نذوراً او نتأمل في مساراته، في تلك اللوحات التي تحكي رموزها سيرة امرأة صارت شاعرة للحب، او أحبت الانسان وما حوله، السفر والرجوع منه، الذاكرة والنسيان، فتوجتها آلهة الحياة شاعرة.
الوجع، الفراق، الانتظار، اللوعات، تكتبها بقلم من نور حتى لا يقف أمامها حاجز. هكذا من قصيدة الى أخرى تخترق صياغة الكلمات لحمنا فيتبادر الى خلدنا فجأة أننا من قدر هذه المرأة التي اضافت الى المرأة شاعرة وبقينا نساء نستظل تحت شجرة شعر الفراق والحب والسفر. "لا وصف لما أنا فيه"، نشيد جُبلت موسيقاه الاثيرية في لحم الكلمة، فتعانقا. أسمعها تغني قصيدتها بصوت مرتجف كضوء قنديلها، بصوت حزين كالخريف المطل من نافذتها، فأتوغل أكثر في اسرارها حباً بالغناء وبذاك اللحن الذي فرض عليّ وأنا اقرأ: "الغيمة البيضاء/ الغيمة المعقودة خلف السور/ اضاءت الليل الطويل ببياضها القارس/ كانت تتبع قلبي/ وهو يفتش عن شعلته: في العتمة".
نجوم الغانم حثّتني على أكثر من قراءة لكل قصيدة. اصطادتني في ماء بحيراتها فعلقت في عباراتها، في وصفها ذلك الحزن، في جلوسها أمام نافذة الايام العابرة، تنتظر، تتساءل، تحترق "تحت أطياف اشباح العصور"، والشعر يعلو من رحم امرأة تعرف طعم الولادة كما الموت، وتعرف لسع العشق كما "انكسارات الليل وخيانات الازقة".
أتأمل في كلماتها المرتعشة كما في الظلال التي تتلاعب بها اصابع الشمس فتدعوني لأقشر خشب اللغة المتين وصولاً الى اللب الأثيري الذي تمضغه النفس كالسكّر المذاب، كالمر اللذيذ.
أحببت هذه اللوحة المتممة بألوانها وخطوطها وأحرفها السوداء: "مثل هارب من معركة/ احتشدت الطيور فوق الأسطح/ خشية أن تلسعها أضواء الالعاب النارية/ فاكتوت بهجر اصحاب بيتها". هكذا تنتدب الشاعرة العصافير رسولات عنها، فلا يهزمها الهجران. من قصائدها، حين يقفل الكتاب على اسرار كاتبته وتنزل العصافير كأوراق الخريف من اعشاشها وتذبل الجهنمية بألوانها القانية، يبقى في ذاكرتي المحتدمة بذاك الصراخ الصامت، لا الحزن، بل عصارة الحزن، لا الكلمة بل رنانتها، صداها، لا العبارة بل المفاصل التي تحركها، تليّنها، وثمة موسيقى تلقائية تشعل العنصر الخطابي، وتعلو به من ماديته الارضية وتهيم به الى مصاف الروح.
لقصيدة نجوم الغانم سيرة وقدر وصيرورة تتوارى باحتشام خلف غشاوات، وكلمات مستترة تهوى لعبة الظل والضوء المرتعشة مما يزيد من حسوية اللغة، من هيكلها القوي على عطوبية، تنكسر فيها المشاعر ويبقى الجذع واقفاً صلباً.
كلمة دالّة، كلمة تتفتح كما المحارة ولا تسخى في شقها العشبة المحميّة، بل تنفتح الى الداخل، الى العلاقات الصامتة، القابعة تحت الكلمات.
هذا النشيد التعزيمي في كل مقطع من قصائد نجوم الغانم لا يفسَّر سوى بذاته. وهل تفسَّر الموسيقى؟ المادة يصعب ولوجها، غامضة بقدر ما هي مشعة كضوء القمر، تتنفس بارتياح ما دامت من عناصر الاشجار والعصافير والليل والنجوم هي. يبقى هذا الراحل عن دنياها. والفراق كالموت والانتظار كالموت. ونجوم الغانم تموت الف ميتة وهي تلقي بقصيدة الحب والقبلات والمواعيد، في نار موقدها وتظل ساهرة على احترامها حتى الغفوة المختصرة لكل الحياة.
النهار"
السبت 3 ايلول 2005