n11051701.jpg

جميل الشبيبي

(العراق)

 

يشكل اللون الأسود في ثقافتنا الواعية وغير الواعية إشكالية عميقة الجذور ومستمرة في أعماق الذات العربية، خصوصا في منطقة الخليج والعراق، باعتبارها إرثا يحتل أعماق هذه الذات ويمنعها من إزالة تلك الحواجز السميكة بين الأبيض والأسود. وتعتبر الأسود آخر معاديا يحمل كل المساوئ التي ألصقتها القرون به، فهو شهواني ومتخلف، وعبد عند السادة البيض، وهو اقرب إلى الحيوانية في سلوكه وأعماقه.. وقد احتلت هذه الإشكالية حيزا كبيرا في الروايات التي كتبتها كاتبات خليجيات بشكل خاص، باعتبارها إشكالية حياة، تحيطها الممنوعات والتحذير من العلاقة بالأسود الذكر. نذكر من تلك الروايات، رواية «جاهلية» للروائية السعودية ليلى الجهني، التي عددت الأسماء المعيبة التي ألصقت بالأسود فهو «الكور / العبد/التكروني/الكويحة».

السواد حين يكون امرأة

في رواية «جارية» ـ دار الآداب ـ بيروت ـ ط1 2014 للروائية البحرينية منيرة سوار، يحتل السواد مساحة واسعة من الرواية عبر تساؤلات وعذاب امرأة شابة سوداء البشرة، تحمل إرث الآخرين عن لونها، فتكون نموذجا للمضطهد الذي يقبل باضطهاده ويصدق أقوال الآخرين عن لونه، إذ تعترف «جارية/ جوري» بأن سبب شقائها وحزنها هو لونها الأسود «سأبقى أبدا النقطة السوداء الوحيدة في هذا العالم الأبيض الذي صنعته حولي… كيف يمكن أن أغير أنا الأخرى واقعي الأسود». ثم تلاحظ أن معضلتها تبدأ من الداخل «من الجينات التي قررت أن يكون جلدي أسود، بحيث لا يجدي تلوين ولا تقشير».
وكلما تتقدم خطوة في عملها، وتحرز نجاحا فيه، تزداد نكوصا في داخلها، وتكبر تساؤلاتها، عن العرق الأسود وتداعيات الآخرين عنه عبر التاريخ، لتكون البؤرة عبودية أجدادها للبيض، وهي إشكالية جعلت عالمها مغلقا على التساؤلات، بدون خطوات تجاه الحياة، عالما من البياض تحلم بالانخراط فيه، وعالما من السواد تحلم بالانسلاخ عنه. الأول يمثله هيثم الرجل الأبيض المثالي الذي يأسرها بكل عمل يقوم به كما تقول، فيه «يا ربي لم خلقته بكل هذا الجمال، وخلقتني بهذه البشاعة؟». و»عبيد» الأسود ابن خالتها، الذي يحاصرها ومعه عائلتها التي ترى فيه فتى أحلامها القادم وهو يطاردها بجملته المخيفة «إبحثي في داخلك جيدا.. إنبشي جوال ذكرياتنا معا، ستدركين أنك ما كنت يوما لسواي ولن تكوني». إنها تعيش إشكالية الاسم الذي وضعته عائلتها: «جارية» وبين الاسم الذي وضعته لنفسها ولم يعترف به أحد من عائلتها «جوري» لتنفصم هويتها بين امرأتين.
وتعمد الروائية منيرة سوار على تكبير صورة الأسود المغترب عن نفسه، في مجتمع، يقبله كإنسان ويرفض التعامل معه على أساس العلاقات العائلية، فجوري يمكن أن تعيش حياة طبيعية، بدون تمييز واضح، إذا حذفنا اللون الذي تعيش ضمن أفقه، لكن التمييز في اللون الذي يحد من تطلعها في من ترغب فيه، يشل تفكيرها ويجعلها أسيرة هذا اللون.
هل يمثل الفضاء الذي وجدت جوري نفسها فيه فضاء معاديا بسبب هذا التمييز؟ وهل تشبه أزمة جوري أزمة الببغاء «بيبي» التي وجدت نفسها مقصوصة الأجنحة داخل بيت جد جوري الأسود كي تدجن وترضى بمصيرها. وبيبي الببغاء تشبه جارية، فهي من أصول إفريقية قص جناحاها ودجنت في العيش في منطقة ليست لها، وكذلك جارية جاءت من إفريقيا السوداء لتعيش مستلبة من الآخر الأبيض. إن عذابات الشخصية الرئيسة في الرواية ناتج من تضخيم الإحساس بالدونية، وهو تعبير عن نسق متوار في أعماق الذات السوداء عبر قرون من العبودية والاضطهاد والعسف، وضعت هذه الذات موضع تساؤل دائم، على الرغم من التغيير في كل مرافق الحياة، لتبقى النقطة السوداء علامة فارقة لا يمكن محوها أو التخفيف من حدة وضوحها في عالم البياض السائد.

الأب الغائب

إلى جانب صبغة السواد التي تحتل موقعا متميزا في أعماق جوري، التي أحاطت نفسها بالبياض، وبالألوان الساطعة في صالون التجميل الذي تملكه كي تعيد التوازن إلى نفسها، هناك إشكالية هيثم حلاق النساء، الذي يعبر عن أزمته بجملة غائمة كتبها في دفتر صغير سيتضح معناها عبر أحداث الرواية: «نعم أنا بكل أسف إنسان مختلف عن الآخرين، لست معاقا حواسي الخمس كلها سليمة»…»ومع هذا أنا مختلف عن الآخرين»، ثم يضيف «ذلك الاختلاف عن الآخرين كان سبب الحرب التي شنها أبي ضدي»…»رفعها قبل أن يأمرني بين ليلة وضحاها أن أرحل ولا أعود».
ثم نكتشف من خلال حركة السرد أن إشكالية «مختلف عن الآخرين «كانت عارا على عائلة هيثم لأنه ببساطة شاذ جنسيا، ثم نكتشف أيضا أن إشكالية العار التي سببها شذوذ هيثم لعائلته، قريبة الشبه بإشكالية جوري السوداء، التي ولدت لرجل أبيض من أم سوداء عبر علاقة غير شرعية، ما دفع عائلة أبيها إلى التبرؤ منها وإيداعها في بيت يأوي أولاد الحرام». عاشت فيه طفولتها دون أن تعرف أباها، وهما يشتركان في افتقاد الأب: هيثم بالطرد من البيت وجارية باختفاء الأب من حياتها. 
تسرد جوري، حياتها المعطلة بضمير المتكلم، وبحضور مطلق لا ينافسها فيه صوت آخر، ولهذا فهي التي تؤثث الفضاء الروائي بوجهة نظر وحيدة، تحمل إرثا عميقا عن لونها الأسود في فضاء مغلق، وتبدو محاولاتها في التلبس بالبياض والتقرب منه محاولات عقيمة تدفعها في نهاية الرواية إلى تبني هويتها التي جبلت عليها من خلال:1ـ «الاقتران بـ»عبيد»الذي كرهت حتى حضور اسمه في بيتها، و2 ـ رفض الاقتراب من عالم أبيها الأبيض بعد أن تأكدت انه ألغاها فعلا من عالمه،3 ـ ثم تستغني عن عالم هيثم الذي أغرمت به، بعد أن اكتشفت شذوذه. وتبدو حركة السرد في الفصل الأخير من الرواية مرتبكة ضعيفة البراهين باختيارات جوري، باستثناء تمرد الببغاء «بيبي» على شرطها اللاإنساني لتعود إلى فضائها وعالمها الرحب! ويبقى السؤال المهم بعد كل ذلك: لماذا تطرح الروائية منيرة سوار هذه الإشكالية بهذا العمق، وبهذه الحدة ثم تتخلى عنها بالمصالحة والقبول بالأمر الواقع؟ صحيح أن طرح الأسئلة يمثل أفقا لرواية ما بعد الحداثة، لكنه أفق يرتبط، بتمرد الشخصية على شرط حياتها، حتى لو خسرت رهاناتها في نهاية المطاف، فذلك يعني استمرار رفضها وتمردها، لكننا إزاء أزمة لون البشرة، التي تعني في نهاية المطاف الهوية الحقيقية للشخصية، وبهذا المعنى، فإن سرد السيرة الذاتية للشخصية الرئيسة في الرواية «جارية/ جوري» بلسانها وتضخيم رفض السواد خلال فصلين من الرواية، يعني أن الكاتبة، تستنفد كل الطموحات التي تتطلع إليها جوري ومثيلاتها في اكتساب هوية عرقية ثانية، ورفض هويتها السوداء التي جبلت عليها، تمهيدا بقبول هذه الهوية في نهاية المطاف، ليس كأمر واقع، بل بانتماء واع لها بعد أن عاشت غريبة عنها.
ثم يأتي صوت لويس آرمسترونغ»وهو يشدو أغنيته»what a wonderful world» التي تنثر الأمل وحب الحياة في فضاء الصالون ليضفي بهجة وحراكا على عالم جوري ومن حولها من الشخصيات، وقبولا طوعيا واعيا لهويتها واسمها مجردا من حمولاته العرقية التي أشاعها المحيط المعادي.

------------------------------------------------

القدس العربي-

Oct 12, 2017