ما هي السعادة؟ كيف يمكننا أن نجد لها تعريفاً مقنعاً؟ منهم من يقول إننا لا نستطيع أن نتلمّس السعادة إلا بعد انقضائها، ومنهم من يقول إنها تأتي لاحقاً، وإنها طموح الجميع. منهم من يقول أيضاً إننا نصنع السعادة في راهننا، في حاضرنا، ونعيشها من دون أن نفقه لها تعريفاً صريحاً. قد نجدها في عمق الحزن، في سلسلة إنفجارات تهزّ عاصمة مثلاً. قد تكون في 11 ايلول، اليوم الذي اصطدمت فيه طائرتان في برجَي "مركز التجارة العالمي" في نيويورك. وقد تكون شيئاً غير موجود أساساً، لذا لا يستطيع البعض منحها، ولا يتوقع الآخرون الحصول عليها للسبب عينه، لكنهم يأملون ألا تأتيهم التعاسة، نقيض السعادة، كما يبدأ الشاعر والروائي سامر أبو هواش روايته الثانية، "السعادة أو سلسلة إنفجارات هزّت العاصمة"، الصادرة لدى "منشورات الجمل"، بعد تجربة أولى في "عيد العشاق" تناولت المرحلة التي تلت اغتيال رفيق الحريري مباشرة.
هكذا يخوض أبو هواش في السعادة، العنصر الأكثر إبهاماً في تركيبة البشر، يبدأ بها الرواية في حوار بين عاطف ونجيب. عاطف الذي يحكي عن حديث بينه وبين محبوبته عن السعادة، وعن مدى قدرته على منحها إياها، فيكون جوابها أنها لا تريده أن يكون سبباً لتعاستها فحسب. هكذا، يؤكد السعادة بنفيها، بإيجاد نقيض لها: التعاسة. لكن الحديث عن السعادة، بين نجيب وعاطف، تعقبه مجزرة ينفّذها أحد المسلحين حين يدخل إلى مقهى في "الداون تاون" حيث يجلسان، ويردي الجميع. يقضي نجيب، وينجو عاطف. المجزرة تلك، تذكّر بواقعة حقيقية حدثت في بيروت، هي الجريمة التي اقدم عليها أحمد منصور عندما فتح النار على زملائه في مركز الضمان الإجتماعي.
ينتقل الروائي إلى موضع آخر، إلى شخصية أخرى، على تماس مع شخصياته الأولى، ويرتفع إلى الجوّ، إلى السماء، إلى الحديث عن المضيفات وعن علاقة زينون بهنّ. يمتلك زينون شخصية خاصة وغريبة، لديها موقفها المختلف عن مواقف سائر الشخصيات الأخرى. شخصية غير تقليدية، فذّة ومتفلتة من عقالها، معادية للنساء، وحرّة في حركتها داخل الرواية. زينون هذا، يعشق النساء ويعتبر المرأة، كما تراها جدّته، مجرّد "بخش". ورث هذا الفهم عن جدته، التي يزور لبنان من أجل أن يودعها وهي تحتضر. زينون يعيش في دبي، ويأتي إلى لبنان في الإجازات. يربط أبو هواش بين هذين العالمين، لبنان ودبي، بحبل سرّة هو الطائرة. الطائرة هي المكان الذي يعدّ على مسافة واحدة من البلدين، اللذين يعتبرهما متشابهين إلى حدّ بعيد. في دبي بدأت الحياة تتماهى مع بيروت، وصارت الأجواء في المدينتين متطابقة إلى حدّ كبير. أو قل إن دبيّ قطفت حلم اللبنانيين في أن تصل مدينتهم إلى ما وصلت إليه هي، لذا يذهبون إليها.
يقطف الروائي شخصياته، كلاً عن غصنها. بعيدة هي هذه الشخصيات، بعضها عن البعض، لكن أبو هواش يجمعها عن شجرة واحدة، ويضعها في سلّة واحدة. يجعلها تتلامس، "يفتعل" أحياناً علاقات في ما بينها، ويستعمل الحدث السياسي والأمني في البلاد ليجمعها. خبر موت فيل في بيروت، هو الذي يجمع بين الشخصيات تلك. خبر موت الفيل، هو الخبر الذي يلفت الجميع، ويستعمله أبو هوّاش، كواو عطف بين مشهد وآخر. يستعمل اسلوب المشاهد المنفصلة، التي يجري كلّ منها على حدة. الشخصيات تكون منفصلة، وإذا التقت فإنها تلتقي في الحديث عن الوضع السياسي والأمني في البلد. وغالباً ما يدخل الفيل على خط الحديث، الفيل الذي يشغل الشخصيات كلها، وينفد منه أبو هواش إلى الواقع اللبناني الراكض وراء وسائل الإعلام والأخبار العاجلة، والذي منذ اغتيال الحريري، واندلاع حرب تموز، يزداد توتراً، والتصاقاً بالحدث اليومي. هذا الحدث اليومي ليس عند ابو هواش، سوى فيل، لا يفهم الجميع من أين أتى إلى شوارع بيروت، علماً أن الفيلة لا تعيش في هذه المنطقة من العالم. يختم أبو هواش روايته، بأسلوب كتابته الأقرب إلى التحقيق الصحافي الريبورتاجي. فهو ينقل أحاديث الناس كما هي، النقاشات عن الحرب وعن التفجيرات، كلام المقاهي وانغماس الناس في الحدث السياسي. تنقل الرواية حالاً واقعة في البلد، تحتدم تماماً بعد حرب تموز، مما يؤثّر فعلياً في التركبية السوسيولوجية للمجتمع اللبناني. فحتى المشاكل الزوجية في البيت الواحد، ترتبط بالحدث. مثلاً عاطف، الذي يشهد مقتل نجيب أمامه في المقهى، يعود إلى المنزل بعد الحادثة، وينام بجانب زوجته، التي يعاني معها علاقة فاترة. تقول له: "حبيبي كل شيء رح يضبط ما تخاف، أنا رح ظل حدّك". هذه هي زوجته، التي "على الرغم من كل شيء، من احساسه الدائم بأنها غير سعيدة معه، تظلّ شعلة حب". المأساة، مقتل نجيب بهذه الفظاعة، تجعله سعيداً مع زوجته، إذ تجعلها تقول له إنها ستبقى إلى جانبه إلى الأبد. هكذا هي سعادة نجيب وزوجته أروى. سعادة زينون في الحرب، في المفاجآت، وإن تكن كارثية وحزينة. السعادة يراها زينون في أحداث 11 أيلول، في كاترينا، في حرب تموز، في اغتيال الحريري. يعني أن الناس، يحبون المفاجآت، لأنها تسلّيهم. يتحدث إلى صديقه جورج، يقول له: "أتعرف ماذا فعلت الإغتيالات... ملأت ايامنا... صار هناك ما نحكي به، ونناقش حوله". من هنا، يحاول سامر أبو هواش أن يبحث في الشخصيات عن معنى للسعادة. يصنع فانتاسمات خاصة، وينفذ إلى أكثر الأشياء خصوصية، لكنها لا تكون حميمة في الضرورة. ينقل، مثلاً، حواراً بين رجل وزوجته عن رائحة فم الزوج، وكيف لشؤون مماثلة أن تكون خصوصية، وأن تنقل بسلاسة إلى القارئ. أو مثلاً، يبتكر موضوع جمعية مناهضة للتلفزيون، تحت شعار "اقتل تلفزيونك"، مستخدماً قصائد له ليصنع منها مشهداً روائياً. فلسامر أبو هواش قصيدة يقول فيها: "بأيّ ثمن علينا التخلص من هذا التلفزيون". هكذا يدمج الشعر بالرواية، بالتحقيق الصحافي، بالخبر، وبالتغطية التلفزيونية. ينقل عالم اليوم، كما لو أن الرواية تصير خبراً عاجلاً، أو العكس، لكنه يوصل الفكرة كما هي. "السعادة أو سلسلة انفجارات هزّت العاصمة"، هي الخبر العاجل الذي يودّ سامر أبو هواش أن يُمِرّه على الشاشات. وفي الرواية. أن تكون السعادة مرادفة للألم... في أسوأ الأحوال.
النهار
27 ابريل 2007