"بطعم الفاكهة الشتوية"
شعر مُراق من نوع الماء أو الدمع، هو ما تكتبه التونسية لمياء المقدّم في ديوانها الأول "بطعم الفاكهة الشتوية" الصادر لدى "دار النهضة العربية". إلا أن ماء قصيدتها مخادع، فهو سرعان ما ينساب ليجتمع في قعر ورقي لا يمكن النفاد منه. هكذا تقرن المقدّم السهولة بالاستعصاء، لتوحي لنا أنها قالت الكلمة البديلة وليس ما أرادت قوله بالضبط، كما لو كان الكلام حفراً متعباً في كتلة صلبة كلما جرحتها ندّت عنها بضع قطرات من الماء الشعري. ربما يسعنا تشبيه "صنعة" المقدّم باستخراج الكاوتشوك: عليك أن تزيّح القشرة الصلبة مرّات ومرات لتحصل على السائل المبارك. على هذا النحو، يغدو حلم الكلمات هو الوصول إلى حال السيلان. يصبح الذوبان جنّة المعنى القصوى كما نلاحظ في "اللحظة التي يتحول فيها كل شيء / إلى سائل لزج" أو في "أرغب في ماء كثير جداً / ليس لأروي عطشي المنساب في كل اتجاه / بل لأبني حائطاً". كيف لا، وقلب الشاعرة سائل هو أيضاً "مثل المطر". وفقاً لهذه المعادلة الصعبة، ثمة تضاريس كثيرة تطالعك في الديوان رغم الانسيابية النثرية الظاهرة. تضاريس لغوية نافرة تعوق على القارئ أحياناً إمساك طرف الخيط الأدبي، لكن تسمح له في الوقت نفسه بتحسس الإنساني الذي يبدو أكثر قرباً بقصد أو من دون قصد من الشاعرة، ولا سيما من خلال اعتمادها الصور البسيطة، لكن المؤثرة، كما في: "الأرض كومة لحم متعفّنة أو أكثر احمراراً بقليل"، أو "للقبح شكل نملة".
إذا كانت الفردية أحد الشروط "المعاصرة" للشعر، فإن المقدّم تقول فرديتها في أكثر من مكان، مشيرةً إلى تمتّعها بهذه الصفة منذ الطفولة عندما كانت تصنع عيناً ثالثة للدمية أمام دهشة أترابها، وموحية بتطوّر هذا التميّز، الذي تصوغه على شكل سؤال، عبر السنين، ليصنع إنسانة مستقلة: "تعلّمت الأسماء كلها كدودة وأنا أنقب الأرض المحيطة بسور البيت". لعل زاوية الرؤية المختلفة والخارجة على السرب التي تمتلكها الشاعرة، هي ما يسمح لها بطرح أفكارها حول بعض علامات الانتماء الى الجماعة، كحجاب المرأة مثلاً، الذي تستهجنه بالقول: " أكتفي بالدهشة من هؤلاء/ الذين يرسمون وجهي/ وقد حطّ غراب/ فوق جبيني/ وأفرد جناحيه/ على وجنتي". انطلاقاً من هذه العين الثالثة التي تمتلكها، العين الشعرية في الضرورة، تعيد المقدّم تعريف مسمّيات كثيرة: الحب، الله، الأم والشعر. فالحب عندها يبدو مدرِكاً ومتوازناً، وهو شعور يمكن إخضاعه لتشريح شبه علمي في محاولة للفهم: "حين التقينا للمرة الاولى/ كنت مفتوحة كمقبرة لأية ريح مقبلة/ وكان للشقاء طعم الفاكهة الشتوية"، لكن هذا الفهم ليس ذا قيمة لدى الشاعرة التي تعود لتلتفّ في اللحظة الأخيرة وتنسف الاستنتاجات المنطقية. هذا ما يبدو جلياً في "امرأة تستقبل المطر" و"أتعبتني" مثلاً، إذ تنهي الشاعرة القصيدة الأولى، البصرية بامتياز والتي تنقل فعل الحب، بطريقة غير متوقعة من طريق الطلب إلى رجلها: "ألا تعيدني إلى المرأة التي كانت/ قبل أن تسقط مطرك المتخثّر/ في أحمر شفاهها". أما في القصيدة الثانية فتنجح في نقل مشاعرها المشبوهة والآخذة في التحوّل تجاه من تحب من خلال صورة معبّرة: "كل الحب الذي منحتك إياه/ هاجم مضجعي هذه الليلة في صرر صغيرة تنبعث منها رائحة كريهة"، موحيةً للقارئ أن هذا الحب آيل الى الزوال، لكنها تعود لتقلب ذلك حين تنهي القصيدة على النحو الآتي: "ملاحظة:/ احتفظت بحبك لأنه لا يخصّك".
قد يتبادر إلينا أن أول ما تتصف به النصوص التي بين أيدينا هو العفوية، وهذا استنتاج صحيح. لكنها عفوية مركّبة، لأن الشاعرة تحاول، ومن داخل هذه العفوية، تفكيك كل شيء بما فيه الكتابة نفسها، من خلال اللجوء إلى التشبيه حيناً: "الكلمة ليمونة/ جذلى"، أو الخيال حيناً آخر: "النصوص التي لا أكتبها أكثر من تلك التي أكتبها/ وأجمل ربما". وهي تبوح للقارئ بالسبب الذي دفعها للكتابة، فوراء القصائد ثمة شبح امرأة، "المرأة التي أفردت شالها فوق نصوصي كلها/ هي أمي التي ماتت منذ سنوات/ لكنها ترفض أن تسكن قبرها/ فيما أنا أفعل".
لمياء المقدّم تقول إنها تفتح ياقتها للريح كي تتنفّس مخاوفها القديمة. تخبرنا أن الليل صديق الشعراء وعدوّ الخائفين. هي المذعورة من اللحظة وغير الموقنة من انتمائها إلى الوقت، تعيد صوغ حقائق عامّة عديدة، مصرّةً على الخوف وعلى مصادقة الليل في آنٍ واحد. بل على صحبة الشعر أولاً.
Zeinab.assaf@annahar.com.lb
النهار
27 يوليو 2007