"أتحرر من ملابسي/ كمحترفة ستربتيز"، هكذا يحلو للشاعرة جيهان عمر أن تفعل الشعر، بلا خجل تتستر وراءه، لأنها على اقتناع أن ما تقوم به إنما يندرج في باب الأفعال العادية، تضمّنه قصائد مجموعتها الشعرية الثانية، في عنوان مبتكر "قبل أن نكره باولو كويلو"، الصادرة حديثاً في القاهرة، لدى دار "شرقيات" للنشر، وتنهي جلّ القصائد "من دون أن تفصح/ عن قصدها"، لتترك القارىء مشحوناً بمحاولة البحث عن إجابات، تستدعي حال الشراهة في تعرية الذات.
تبدو جيهان عمر في انكفائها على ذاتها، واستغراقها في نبش داخلها، كمن لا يعنيها العالم الخارجي، لكنها في تعبيرها عن تلك الذات، المسكونة بالحركة الزائدة، في كل الإتجاهات، نجدها تشتبك مع من حولها، مصغية الى تفاصيل كثيرة، تبثّها شاشات الفضائيات: "بفرشاة الملابس/ أكنسُ المحتلين/ فيتساقطون على الزجاج/ بجماجم مهشمة/ أستطيع سحقها".
هذه الرؤية الموسعة، للحوادث الكبيرة، تنبع من ذات غارقة في ذاتيتها، مما يجعلها تدرك جمالها الداخلي، أو تعرف أن للشعر بهاء، يلوّن المشاعر بالفرح، ويشبع رغبتها في فعل شيء تجاه ما يحدث حولها، ويجعلها تشعر بذاتيتها: "أفتح برطمان العسل/ بفخر مستتر.../ أملأ ملعقة صغيرة.../ وأبدأ في تذوق نفسي".
تحتل الذاكرة مساحة كبيرة في القصائد، بانفتاحها على عالم الطفولة، ما كانته الأنثى وهي تتشكل، والكل ينظر إليها كدمية منذ لحظاتها الأولى: "كان يجب أن أرضى بدور الدمية/ التي يقذفون بها في الهواء.../ فتصدر ضحكات". تظل تلك الصورة راسخة في الوجدان، لا تستطيع أن تغادره حتى وهي تكبر. وإذ تعي كيانها الأنثوي، تُجبَه أيضاً بالرفض الصارم، وبقاموس "لا" الضخم. ولا تلبث في غفلة منها أن يقبض الرجل على تلك الصورة، فتتحول من دمية في يد الأهل، إلى ماريونيت يحركها الرجل. هنا تنتقل الذات من كائن هش إلى كيان صلب، قادر على تخليص نفسه، أياً تكن الوسيلة: "سأحضر مقصاً كبيراً/ وأقطع كل الخيوط/ التي تربط جسدي/ بأصابعك/ وأتركك هكذا.../ تحرّك الفراغ".
يحفل الديوان بتوليد الصور من المخيلة، وابتكار أوجه مغايرة للعلاقة العادية، بما يضمن الابتعاد عن فخ الاستسهال، والتكرار، حيث العنان للخيال، يقود القصائد إلى مناطق شائكة، تتفق مع ما تنحو إليه الشاعرة، وتسعى الى تحقيقه بالقصائد من مكاشفة: "يغمض عينيه/ يتخيّلها امرأة أجمل/ تغمض عينيها/ تتخيله رجلاً يحبّها/ كان الأربعة في الفراش"، يكتشفون تفاصيل جديدة، وطرقاً في ممارسة الحياة، لم يتوصلوا إليها من قبل. في قصيدة تحمل عنوان المجموعة، تسرد الشاعرة أشياء غاية في الدقة، والرهافة، حول حياة بنات ضباط الجيش، اللاتي يعشن في منطقة معزولة، تضم عائلات الضباط من مختلف الرتب. بحسّها المرح تعود إلى الوقوف على كيفية اختيار الأهل لاسمها، هي وصديقة لها، بل اسماء بنات الحي كلهن، تيمناً بسيدة مصر الأولى، ويتوقف معها القارىء أمام مشهد استقالة الأب الجبرية، قبل أن يصبح مثل خيل الحكومة، في انتظار طلقة الرحمة، أو قبل أن تبتلعه تروس الطائرة، التي يقوم بصيانتها. تعود الشاعرة إلى منطقة الذكريات، التي لم تبارحها، تنبش في طبقاتها، ليتوقف المشهد في المخيلة، بفتح الفم على اتساع لا حدود له، حين تفقد الصديقة حياتها خنقاً بيد الجار، الذي كان يمر بضائقة مالية، ووجد خلاصه في قلادتها الماسية، "فأطبق بيديه على رقبتها الناعمة/ وتبعثرت روايات باولو/ المتراصة فوق البيانو/ - أثناء المقاومة -/ حيث لم تكن للروايات أقدام/ كي تصعد بها السلم الموسيقي". هكذا يرتبط باولو كويلو بمشهد القتل، بما يبرر للقارىء سبب الكره، البادي في عنوان المجموعة.
وكما غاصت جيهان عمر في طبقات روحها البعيدة، تعمقت أيضاً في قلب الحبيب، ذكرياته، طفولته، شبابه، علاقاته، لتُخرج منه العقد المزمنة، التي تغيب في لا وعيه، وتشكل وعيه، كما في قصيدة "طفل مصاب بالأوتيزم": "لماذا تنزعج هكذا؟/ لأن الحياة تنفلت منك؟/ مع أنها تؤدي مهمتها فقط". وتتسع الرؤية حين تخرج من أناها، في رحلة صحراوية إلى منطقة الواحات، حيث ترى الطبيعة البكر في كهوف جبلية، تظلل تأوهات العشاق، وتختبر كيمياء الجسد، وتشكل الرغبة من جديد على نحو مفاجىء ومدهش.
تعكف جيهان عمر على ذاتها، تصطاد منها ما يعينها على اكتشاف مناطق روحها المجهولة، فاتحةً كل النوافذ، لتضخ الهواء الجديد في قلب تلك الذات، التي تتضخم رغبتها في الخلاص من القيود، فيجدها القارىء قلقة في مستويات عدة، وتجرّب أن تتماسك وتتصالب، حتى لو استدعى ذلك منها زيارة الطبيب النفساني. وتنهي القصائد بالتخلص من قيودها، وتحررها حتى من وعيها، لكنها تقف مترددة كأنها تعوّدت ذلك السجن الإختياري، غير قادرة على تخطي العتمة، وتبديد حزنها، وانتشال جسدها من هزاله، وإلقاء روحها كفراشة، في دفء النور، ليقف السؤال أمامها حاجزاً، ومانعاً، أقوى من الرغبة في الطيران، والتحليق بعيداً، في ما يحقق الإنسجام الكامل مع الذات: "أي مصير... ينتظرني؟"!.
النهار- ابريل 2007