ربما يكون التساؤل عن السبب الذي حدا بالشاعر السوري حازم العظمة إلى عدم إنهاء نصوصه (أغلبها) الواردة في مجموعته الشعرية: "طريق قصيرة إلى عراس" مشروعاً، وربما تكون الإجابة عليه محفوفة بصعوبة من نوع ما. إذ إن عدم إنهاء النص يشكّل، في سياقه، نهاية له. بمعنى: إنه اختار لإنهاء النص طريقة تتمثل في عدم إنهائه، ليس بمعنى تركه مفتوحاً، وليس بمعنى جعله نصاً لم يكتمل، بل الأمر بدا وكأنه كتب "بروفات" نصوص، وقام بنشرها:
"...على الرمل لكنة الغريبة/ كانت تمدد الليل/ بينك والبيوت/ تمدد عشباً من مرتفعات في الصيف/ أنك بعد كل هذه الحياة هنا/ أنك بعد كل هذه الحياة هناك/ أن رماداً خفيفاً.../ خيوطاً من نهارات قديمة/ أغصان ليمون/ من بساتين بغرناطة/ أن قمحاً/ من برار بيضاء" (ص 28-29)
إن إنهاء النص بجمل متلاحقة تبدأ بـ "أن..." ولا تنتهي بمعرفة ماذا بعد ذلك، هي ذاتها عدم إنهاء له، إذ إن النص بدا وكأنه بحاجة لكتابة أخرى. ودون الدخول في تفاصيل النظريات النقدية التي تؤكد على تبادل الأدوار بين الشاعر والقارئ، والتي تجعلني أمنح دور الكتابة الأخرى لهذا الأخير، فإنه بات واضحاً، إلى حد كبير، أن النص الشعري الجديد لم ينفك يقدم مقترحاته الكتابية، والتي تجعل القارئ مضطراً لأن ينظر إليها على أنها مختلفة حقاً. في هذا السياق، يتقدم نص حازم العظمة بوصفه مقترحاً جديداً.
كل كتابة دعوة لكتابة أخرى، وكل نص هو "بروفة" نص. فحينما يكتب الشاعر (في) موضوع ما، أو حوله، أو يتقدم به من جديد، فإنه يفترض أن هذا الموضوع بحاجة لكتابة أخرى، وعندما تتم تلك الكتابة يفترض، مجدداً، أنها بحاجة لكتابة أخرى، وهكذا... إذ إن ما يكتبه الشاعر لا يتعدى الـ "البروفة"، وكلما كتب، فإنه يفترض أنه لا يكتب سوى "بروفة"...
يعتمد الشاعر لتأكيد ذلك على تقنيات عديدة، منها ما يمكن أن أسميه: كتابة المشهد ومحوه. يتخذ المحو، هنا، شكل إعادة كتابة المشهد ذاته، إنما بطريقة أخرى، وبعلاقات لغوية أخرى. كأن الشاعر يرتاب من إحساسه بأنه أكمل فعلاً رسم المشهد وحدد ملامحه وحدوده، فيسارع من فوره إلى محوه، وكتابته مرة أخرى بطريقة مختلفة، ليوحي أنه لم يكتب سوى هذه الـ "بروفة":
"حين كنا نعود من نهارات رمادية/ نتوجه إلى الموضع كثيف العشب بأعلى التلة" (ص 77) "بعدها روت كيف كانت تعبر من بوابات واطئة/ من خصور التلال الرمل ثم من قاعات الأعمدة/ ...وبطريقة ما من غرف العنفات والأبواب الزجاج/ إلى حيث الشارع في الظهيرة/ وسوق الصوافين/ وبائعات التين/" (ص 78)
سيعيد تشكيل هذا المشهد مرة أخرى، بمعنى: إنه سيقدم "بروفة" أخرى للمشهد ذاته:
"ونحن بدورنا كنا سنعبر من خصور التلال الرمل.../ من قاعات الأعمدة، من غرف العنفات والأبواب الزجاج/ إلى حيث الشارع في الظهيرة/ ومظلات الرعاة/ وبائعات التين" (ص 80)
سيمحو، أيضاً، هذه الـ "بروفة"، ويكتب نصاً آخر من مفردات "البروفة" ذاتها، وذلك بعملية لا تنتهي من الكتابة والمحو:
"وكنت تقف هناك في الموضع كثيف العشب بأعلى التلة/ وأن ملأً كانوا هناك في الشوارع الفسيحة ينهالون بالمطارق الكبيرة على أجرام في وسط الساحة ولا تسمعهم/ ثم أنك لا تسمعهم وهم يشكلون بالمطارق الكبيرة أجراماً لها أوبار لامعة/ لها رذاذ يبرق في الهواء المرتجف أمامهم" (ص 80- 81)
يميز رولان بارت بين نص قرائي ونص كتابي. الأول يقرأ لمرة واحدة فحسب، ولا يعود إليه القارئ مرة أخرى. أما الثاني، فيقرأ دائماً، وتعاد كتابته مع كل قراءة جديدة. وهذه الحالة الأخيرة تفترض خطأ القراءة التي سبقتها، مؤذنة بالوقت ذاته لقراءة أخرى تفترض الافتراض ذاته، وهكذا... في عملية لا تنتهي من القراءات التي تؤدي غالباً لاكتشاف معنى جديد... وذلك وفق مبدأ: كل قراءة هي خطأ قراءة.
في نص العظمة افتراض من هذا النوع، لكن المفارق في الأمر أنه لا يمنح القارئ، دائماً، حق القيام بهذه العملية، إنما يمنحها لنفسه، أو بتعبير أكثر صحة، يمنحها لنصه. لا أريد أن أحمّل الشاعر مسؤولية عدم الثقة بالقارئ واعتباره، وفق ما يقرر نيتشه، قارئاً كسولاً، لكنني سأعتبر ذلك من باب لفت نظر القارئ لهذه الإمكانية. وذلك مع تعديل طفيف بالمبدأ الذي ذكرته، ليصير: كل كتابة هي خطأ كتابة. وتعديل بالافتراضات أيضاً، فلم يعد القارئ هو الذي يعتبر القراءة السابقة خطأً، بل الشاعر نفسه من سيفترض خطأ الكتابة السابقة. سيفترض خطأ كتابته هو لنصه ذاته.
ليست الحوارات التي ينشئها مع أصدقائه في متن النص، أو التي يقدمها كإهداءات لهم (وهي كثيرة)، هي ما يجعل نصوصه ليست نصوص عزلة، بل اللغة ذاتها تجعلها كذلك، بجوانبها المتعددة، بغناها، بعدم يقينيتها: بمعنى إن المناخ العام لشعر العظمة في هذه المجموعة، وفي مجموعته السابقة: "قصائد أندروميدا"، مناخ يتميز بتلوين المعنى، بتلوين الفكرة(الشعرية)... عبر منحها أشكالاً متعددة، يرى أنه من الممكن أن تظهر فيها، كأن يقدم معنى ما، أو فكرة ما(شعرية)، ثم يعيد تقديمها بشكل آخر: "أو حين كانت الإضاءة/ تشبه غابة تحترق/ وبرار ذئبية/.../ أو فيما بعد/ وكنت تعبر من سقوف خشب واطئة/ من حقول تضاء../.../ ثم تعود لتقول: إنك نسيت هذا الطرف من الحكاية/ لتقول إنك كنت تمر/ من برار ذئبية/ وإنك كنت عبرت من هذه البوابات من قبل.../..." (ص 102- 103) إلى آخر ما هنالك من مقاطع وقصائد تؤكد هذا المناخ العام، وتمنحه هذه القدرة على التلون والاتساع والانتشار، الأمر الذي جعل تلك النصوص ليست نصوص عزلة، جعلها نصوصاً توالي انكشافها على الحياة، وتعيد استكشاف الجوانب المضمرة في الجسد البشري بوصفه دالة النوع بأسره.
نصوص ديمقراطية، إنها لا تتعسف على القارئ فتزجه في احتمال واحد للمعنى، أو احتمال واحد لكتابة هذا المعنى، بل تمنحه خيارات متعددة للمعنى ذاته، وللطريقة التي يمكن أن يظهر فيها، فتجعل القارئ أكثر حرية، وأمام خيارات عدة. كذلك لا تتعسف على الشاعر ذاته، وتورطه بكتابة واحدة على أنها الشكل النهائي لقوله، بل تمنحه إمكانية التجريب بلا انقطاع، والكتابة وفق أشكال وطرائق عدة. كأنما هي نصوص كتبت لوحدها.
نصوص تجريبية، متعددة المستويات، تقوم، أصلاً، على "الخطأ" بوصفه نصاً في المجهول.
***
الكاتب: حازم العظمة
الكتاب: طريق قصيرة إلى عراس - شعر
الناشر: بيت الشعر السوري - بيروت 2006
إقرأ أيضاً: