خصوصية النسيج الذي تشكل منه الديوان الجديد"ليل ثقيل على الليل" للشاعرة نجوم الغانم وراءه رؤية مكتملة النضج لعلاقة الشاعرة بأفق تجربتها والمراحل التي قطعتها منذ صدر ديوانها الأول "مساء الجنة" عام 1989 مرورا بدواوينها "الجرائر"، "رواحل"، "منازل الجلنار"، " وصف لما أنا فيه"، "ملائكة الأشواق البعيدة"، حيث يتمتع هذا العمل الأخير لها والذي صدر أخير عن مشروع قلم أحد مبادرات هيئة الثقافة والتراث بأبوظبي التي تحتفي بإبداعات الإماراتيين، بفرادة علاقة اللغة بالمجاز والصورة بالأبعاد الدلالية وبنية الجملة بالحالة الشعرية بدءا من العنوان، هذا العنوان الذي يحمل الأفق الدلالي للتجربة في مختلف تقلباتها الإنسانية.
قسمت الشاعرة الديوان إلى عناوين رئيسية تنضوي تحتها نصوص، قصيدتان تحملان نصوصا مرقمة الأولى تفتتح الديوان "ماء المساء" والأخرى"من دفترها ذي الأوراق البنفسجية" تختتمه، وفيما حملت نصوص القصائد العناوين الرئيسية الأخرى عناوين داخلية، وجميعها تلقى عناوينها على دلالتها بظلال قوية.
الـ "ليل" الـ "ثقيل" في العنوان الرئيسي للديوان والذي قصدت الشاعرة إلى تنكيره ونعته، هو ليلها / هواجسها / خوفها / غرباؤها / صحراؤها / صور الذكريات التي تطارد عاطفتها وأفكارها / أحلامها وأمنياتها، تفر بكل هذا الـ "ليل" إلى الليل تتخفى فيه تارة وتحتمي تارة وتبحث تارة أخرى عن أرواح تخفف من أوجاع الفقد والانتظار والشوق التي تثقلها:
لنطرق باب الليل
فإن أجابت أرواحه فلأنها
مستيقظة
ولأنها مستيقظة
فستصغي لصوت خوفنا الذي يشبه
صراخ الطيور المهاجرة في العتمة.
كل منا يشبه الآخر عندما نفر
ويكون علينا أن لا نترك أثرا
في مكان
و حتى في ذرة الهواء.
لنطرق باب الليل
ونحلم أنه سيفتح لنا.
تخشى الشاعرة ليلها كما تخشى الليل، فكلاهما مثقل بذاكرة الغياب وهواجس الوحدة، لذا فإن النوم يشكل غفلة لقلب لابد أن يكون يقظا، لأن في غفلته خيانة لحضور صور الحبيب:
تطمئن للحظة
ثم تهب من فراشها ملدوغة بالظنون
توجه إصبعها مهددة الليل
برميه بنار حزنها لو تركها تكتوي
كسائر الأمهات
تقبل أن تخزها شوكة الموت
على أن يقتل قلبها
بسكين الغفلة.
لكن الليل أكثر رأفة من ضوء النهار وأقل خيانة وإن خان الشاعرة من قبل، ففي الليل تحتمي بالأرواح والصور والذكريات والأحلام والآمال على أوجاع كل ذلك، من توحش ضوء النهار الذي يفضح المستتر من الآلام على ملامح الوجود والأجساد المغتربة ويتيح للأعداء الانقضاض:
نسينا لماذا كنا نريد أن نموت
لكننا لم نعرف أيضا
كيف نقبل على الحياة.
إن تجربة الديوان تعطي الـ "ليل" صورا وألوانا وظلالا ومعاني ثرية، تمتد لتحتضن تجليات الحياة، ومسارات علاقاتها الإنسانية، لينأى بلفظه أحيانا كثيرة ويحضر بدلالاته يأسا وموتا وفقدا وغيابا:
تتعثرين بأفكارك التي تتكدس في
رأسك كآلات للقتل
وتموتين على مهل دون أن
تنتبه لك الأيام
أو تلتفت الملائكة لاحتضارك.
ستذهبين سريعا
وهذا أجمل ما سيحدث لك
بعد أن لم يبق لأحلامك
أجنحة لترفرف.
وعلى الرغم من دلالات عنوان الديوان "ليل ثقيل على الليل" على التجربة عامة، إلا أن نسيج القصائد يفتح على أفق أكثر اتساعا، فنحن أمام قصائد تغوص في عمق الذات وما يختلجها من رؤى تبحث عن الحب والحرية، وتتجادل مع الواقع رافضة لأجوائه الحارقة "رمل الصحاري"، لقيود تقاليده وعاداته:
ثيابها لا زالت غارقة في الليل
تسير بين أزهارها مدثرة نصف
وجهها بمعطفها الرمادي الثقيل
حتى لا تلسعها أطراف الأغصان
الراكضة في إثرها لتعيدها إلى نفسها.
وفي قصيدة "يوميات لوديف" نعيش زخما في رؤية الشاعر لتجربتها في مونبلييه، حيث تنطلق الروح لتلامس مفردات الحياة في لوديف ومونبلييه، لتقرأ حركة الحياة وذاكرة الغرف التي تسكنها في النزل:
الأنفاس المتقطعة
أصوات التنهدات
وصرير الأسرة مدفون في مكان ما
والخريطة مخبأة..
لعلها مخبأة في جوف السرير أو الليل.
أخلد للنعاس
حين يأتي كفراغات بين اليقظة والوعي
وأظن أنني أرى أرواحهن تدخل وتخرج،
العاشقات الحاضرات بهيئتهن الفاتنة على الجدران..
وعلى الرغم من سطوة الفقد والغياب والوحدة وقسوتها على التجربة لكن ذلك لا ينفي حضور إرادة قوية لدى الشاعرة على الافلات من ذلك وتحقيق الحياة، البحث عن والتمتع بجماليات روح الحياة:
ولأننا أصبحنا أسماكا تطير
عندما يداهمها الخوف
فلن تغرقنا الأمواج
ولن يميتنا جفاف الأنهر
وإن اقتضى الأمر
فسأطير.
إن الثراء الذي حفلت به تجربة هذا الديوان يؤكد أننا أمام شاعرة تسعى إلى ترسيخ صوتها الشعري لكي تضمن له مساحته الخاصة على الساحة الشعرية الإماراتية خاصة والعربية عامة، وربما أشد ما يلفت النظر في هذه التجربة وهو تلك القدرة على تخليق صورة شعرية غير تقليدية وتتميز بحس جمالي عال، صورة تشتغل على الحسي والمعنوي وتفتح البعد الدلالي على مصراعيه.
ايلاف
2010 1 نوفمبر