تجمع سعديّة مفرّح في كتابها "شهوة السرد" الصادر حديثاً لدى "الدار العربية للعلوم ناشرون"، باقة من المقالات "المنشورة في أوقات مختلفة على مدى سنوات طويلة تناولت فيها فنّ السرد في تجلّياته المختلفة". أرادتها أن تكون "شاهدة على زمنها في الكتابة، وعلى زمن الكتابة فيها". تؤطّرها جيّداً هوامشَ أولية تقف عند حافّة التأويل لشهوة النصوص السردية من دون أن تدّعي أنها "تخوض في النقدي في سمته الأكاديمية أو حتى البحثية".
يُفتتح الفصل الأول من الكتاب "هوامش على كتابة الذات" بسبب امتناع نجيب محفوظ عن كتابة سيرته. تحاول الكاتبة الإجابة عن سؤالها: "أين سيرة نجيب محفوظ؟"، في سؤال آخر: "هل لطبيعة محفوظ الشخصية وخصائصه الذاتية دور في ذلك؟"، وتكمل: "نجيب محفوظ اشتهر دائماً بشخصيته المسالمة المرحة والمحافظة في الوقت نفسه"، ولعله وفقاً لتلك الطبيعة التقليدية، "ظلّ على حذر من كتابة السيرة الذاتية التقليدية". ما يستتبع مجموعة أسئلة تُطرح على تحليل الكاتبة هذا. هل تكون الشخصية المسالمة المرحة والمحافظة والتقليدية عائقاً يحول دون كتابة السيرة الذاتية؟ وما الرابط بين الشخصية وكتابة السيرة؟ كل من كتب سيرته، هل كان صاحب شخصية غير مسالمة وغير تقليدية؟ إلى أن تقول: "لا بدّ أن محفوظ وجد نفسه، وهو في صدد كتابة سيرته الذاتية، إن كان قد نوى ذلك بالفعل، مطالباً بصراحة قصوى تكاد تقترب إلى درجة ما يسمّى اعترافاً في ما يتعلّق به شخصياً وبأسرته أو بالآخر... لا بدّ أنه وجد أن الكثير مما قد يعترف به عبر سيرته الذاتية يمكن أن يصطدم بالكثير من علاقاته الإنسانية والرسمية، وربما بعض تقاليد مجتمعه العربي المحافظ، فعدل عن كتابة تلك السيرة". هل هذا سبب مقنع وكافٍ لانصراف محفوظ عن كتابة السيرة؟ علماً أن طه حسين مثلاً، كانت له علاقات إنسانية ورسمية، وعلى نطاق واسع، إن لم يكن أوسع من محفوظ، بصفته وزيراً للمعارف، وكتب سيرته الذاتية في "الأيام" من دون أن تثنيه علاقاته عن ذلك. ثم ألا ينتمي طه حسين إلى المجتمع العربي نفسه الذي ينتمي إليه محفوظ، وإلى التقاليد المحافظة ذاتها؟ تتابع أن محفوظ كتب "أصداء السيرة الذاتية"، وليس سيرته الذاتية، "من دون أن يضطرّ خلالها إلى ممارسة صراحة تزعج آخرين، أو تتسبّب بخلل في طبيعته النفسية وعلاقته التقليدية بمجتمعه". فإذا لم يمارس صراحته، فهل يكون لجأ إلى الكذب إذاً، مع أن أصداء السيرة هي كالسيرة تتطلّب الصدق والصراحة؟ ثم هل أقام محفوظ اعتباراً حقاً لعدم إزعاج الآخرين، وللمحافظة على علاقته التقليدية بمجتمعه، وهو لم يتورّع في رواياته الواقعية عن هتك المستور ونقل الواقع كما هو، على قبحه أحياناً وفساده، كما لم يتردّد في روايات أخرى عن طرق باب الدين، كما في "أولاد حارتنا"، إضافة إلى تطرّقه في روايات أخرى إلى قضايا سياسية شائكة؟ من ناحية أخرى، أي خلل يمكن أن تحدثه الصراحة في طبيعة الكاتب النفسية؟
في "رسائلهنّ المعتّقة في رماد الحبّ"، تسأل الكاتبة، وتكون محقّة في سؤالها، "كلما لاحت في أفق النشر الجديد رسائل جديدة من أديب ما إلى أديبة: لماذا لا نقرأ رسائلهنّ إليهم؟".
ردّ ظاهرة تبادل الرسائل بين أدباء وأديبات تبادلوا عواطف الحب أولاً، إلى الثنائي جبران خليل جبران ومي زيادة. وتدّعي سبر نفسيّتيهما، محلّلة سبب تعلّق الواحد بالآخر. فجبران، بحسب الكاتبة، "كان يرى في مي، التي لم يرها في الواقع قطّ، صورة متخيّلة ومناسبة للمرأة التي يتمنّاها خليطاً ثقافياً وحضارياً من جِدّة الوطن الجديد وحيويته وتدفّقه العلمي الثرّ من جهة، ومن حنينه الى الوطن القديم حيث القيم الأخلاقية التي تكفل للرجل واقعاً محدداً ومقبولاً من المرأة الزوجة مهما بلغ من الثقافة والتقدم العلمي من جهة أخرى". قد يكون صحيحاً نشدان جبران المرأة المثقّفة في مي، وتجسيدها بالنسبة إليه حنيناً إلى وطنه، لكن ما معنى أن تكفل القيم الأخلاقية للرجل واقعاً محدداً ومقبولاً من المرأة الزوجة؟ وهل كان جبران في بحث عن تلك القيم؟ أما مي، "فقد رأت في جبران تلك الصورة المتخيلة للرجل الأديب المترفّع عن ماديات العلاقات، والناظر إليها باعتبارها ندّاً له وشريكاً لرحتله المقبلة في الحياة... فكانت تحاول في رسائلها إليه أن تصير تجسيداً لحلم متمنّى". أمام تحليل الكاتبة هذا، يبرز الشك في كون جبران "مترفّعاً عن ماديات العلاقات"، بعد ظهور دراسات تبيّنه مادياً في علاقاته مع النساء اللواتي عرفهن، إذ مارس الجنس معهن، مما يحطّم تلك الهالة التي أحاطه بها كثيرون من كونه متسامياً ومتعفّفاً عن العلاقات المادية والجسدية. لكن الكاتبة سرعان ما تقدّم قولاً مضاداً، حيث ترى أن في الرسائل التي كتبها جبران إلى ماري هاسكل "تختلط الكلمات على الورق برائحة الجسد"، فهل تتلاءم رائحة الجسد مع ذلك "الأديب المترفّع عن ماديات العلاقات"؟ ثم تجزم أن علاقتهما لم تكن حباً، إذ إنهما "حاولا إقناع نفسيهما، قبل إقناع الآخرين، بأنهما يعيشان قصة حب حقيقية، وربما تاريخية". من هنا، "لم تكن الرسائل المتبادلة بينهما عفوية في الشكل الكافي، وكانت في كثير من جوانبها مباراة أدبية وفكرية بينهما".
إذا كنا نطرح علامات استفهام على ما تسمّيه الكاتبة "محاولات في التأويل"، فلأن التأويل قابل للمناقشة وللنقد، وربما للنقض، وتجاوزه بتأويلات أخرى. وعليه، تندرج الآراء فيه في باب اللانهائية، وهي ليست منزّلة لأن باب التأويل يظل مفتوحاً أمام والجه. ولكن، ألا يحتاج التأويل الى حجج وبراهين تقبض على المنطق، وتُخرس الشك بالإثبات الدامغ؟ هذا مع الأخذ في الاعتبار أن المقال، كما هي حال مادة هذا الكتاب، قد لا يتّسع لحشو من الأدلة والبراهين، لكن هذا لا يبيح في الضرورة إطلاق الآراء جزافاً ومن دون طائل. في المقابل، قد لا يشفع كثيراً للكاتبة تصنيفها قراءاتها بأنها تقف عند "حافّة التأويل"، لتنفي عنها التأويل المحض، لأنه مهما يكن من شأن ما تدلي به، فيجب أن يكون مقروناً بالمنطق أولاً وأخيراً. كما نتساءل عن مدى اقتناعها بما قالته في ما ذكرنا، وخصوصاً أنها تعترف منذ بداية كتابها بأنها نشرت فيه مقالات "على الرغم من عدم رضاها على بعضها". فهل ما سبق ذكره ينتمي إلى هذا البعض؟ وإذا كانت غير راضية على بعض المقالات، فلماذا تنشرها إذاً؟
في الفصل الثاني، "هوامش على كتابة الرواية"، تعالج مفرح روايات مختلفة. تسأل: "هل هو زمن الرواية بالفعل هذا الذي جعل الفرسان الشعراء يترجّلون عن ركاب خيول الشعر العصية على الترويض لينطلقوا راجيلن في سهوب الرواية الرحبة؟"، وذلك في معرض قولها إن "هذا على الأقل ما فعله الشاعر الدكتور غازي القصيبي حين أصدر روايته الأولى، بعدما أصدر أكثر من عشر مجموعات شعرية". ثم تغوص الكاتبة في روايته "شقة الحرية"، وفي روايات أخرى لليلى العثمان، وعلاء الأسواني واسماعيل فهد اسماعيل وغيرهم. إلى أن يحلّ الفصل الثالث "هامش على كتابة القصة القصيرة".
في الفصل الأخير "هامش في التوثيق"، تسجّل مفرّح "رحلة الرواية والقصة القصيرة في الفضاء الكويتي حتى نهاية الألفية الثانية". وُلدت القصة القصيرة على يدي الشاعر خالد الفرج عام 1929 مع "منيرة"، فدفع في ذلك عجلة الفن القصصي قدماً في الكويت. في "السبعينات والثمانينات والتسعينات، كانت الظاهرة الأبرز في حركة القص الكويتية هي الحضور النسائي، إثر ولادة الكثير من القصاصات الكويتيات". ثم تتوقّف الكاتبة عند القائمة التي أعدّها اتحاد الكتّاب المصري، بأفضل مئة رواية عربية، حيث ترد رواية ليلى العثمان "وسيمة تخرج من البحر"، ورواية "إحداثيات زمن العزلة" لاسماعيل فهد اسماعيل. تعتبر أن "للاختيار دلالته الخاصة"، لأن "الفن الروائي هو الفن الأدبي الأحدث ظهوراً في الكويت، لذلك فإن ما تحقق من إنجازات كويتية على صعيد هذا الفن يمكن اعتباره من الإنجازات المهمة جداً". والحال، فقد تأخّر ظهور الرواية الكويتية إلى عام 1962 مع "مدرسة من المرقاب" لعبد الله خلف. أما الرواية الأولى بقلم نسائي، فكانت "وجوه في الزحام" لفاطمة يوسف العلي.
النهار- 9 ديسمبر 2009