الشاعرة عناية جابر تصطاد التفاصيل، تجرّ اللغة إلى منطقة الإغواء الكامل، وتمنح القصيدة شغف البوح، واستمالة اليومي إلى الإنساني، والعابر إلى لحظة مكوث طاعنة، تلك التي تهذّب الكلام، وتُعيد توصيف البلاغة، تطلق الشعري خارجها، ليكون أكثر سحرية في علائقه، وهوسه بالتعرّي والإخفاء، بالصمت والصخب، لاستبانة شروط الكتابة التي تدّل عليها، وتجاهر بها، بوصفها لعبتها الشخصية، ومغامرتها للملمة الجسد المسكون بالتشظي..
عنونة أحد كتبها الشعرية «لا أخوات لي» الصادر عن سلسلة آفاق عربية تبدأ بـ(لا) الناهية الحاكمة بفعل الجزم، لتؤكد مركزية الأنا الرافضة والمتعالية، والمسكونة بالوحدة والتفرد، والباعثة على استكناه ما يلامس لعبتها في البحث عن معنى أو امتلاء، حيث تحتك اللغة بالجلد كما يقول رولان بارت لتنبعث رائحته وبوحه، فتلك الأنا تستدعي العالم عبر اللغة إلى غوايتها، وتفرض على الـ(لا) المتعالية وجودا استيهاميا لا يحتمل وجود امرأة أخرى تشبهها أو تشاطرها التكرار..
في قصيدة عناية الكثير من شيفرات الطبيعة (السماء، المطر، الضوء، باب، قطة، نافذة، الرعد، الشارع، الزهرة) مثلما فيها الكثير من شيفرات الجسد (لمس، ضجر، غياب، حب، خيانة، مزاج، ساتان، توحد) وهذا التعالق بين شيفرات الطبيعة والجسد يتموضع في الكلام ليشرعن اعترافها أو بوحها الشخصي، وليستدرجها إلى الاستيهام مع فكرة استدعاء الرجل الحبيب الغائب أو الحاضر، حدّ أن القصيدة تتلبّس قناع دعوته، واستدعاء رائحته في المكان لتكون عتبة تعبيرية لغريزة التشهي، وللكشف عن طاقة (الأنا) التي لا تكتفي باستعارة اللغة بوصفها الشرفة، بل تطلّ بشراهة على عالم يمور بالكثير من النقائض..
جملة الاستدعاء هي الشحنة التي تغمرها بالقلق، وتعيدها إلى هواجس المعنى واحتمالاته، مثلما أن جملتها فنيا – بسيطة في بنائها النحوي، وتكاد تقترب من الجملة الصحافية، جملة الفكرة والصورة، التي فيها الكثير من الكشف والوضوح، لكنها تحتمل بالمقابل العمق بوصفه الدلالي والمفتوح على التأويل والرؤيا والمسكوت عنه..
وفي كتابها الشعري الآخر «عروض الحديقة» الصادر عن دار الساقي تبدو الشاعرة أكثر توجسا واندفاعا، وهي تبحث عن فكرة الغائب عبر الكلام، إذ تستعيده بوصفه أثرا، أو خربشة على الجلد، أو وجعا، أو لحظة انتظار..
قصائدها تتلاحق كثيرا بذات الشغف، تتنمر، تصخب، تمارس بوحها (الأنثوي) وكأنه لذتها الوحيدة والسافرة، لذة الاستغراق والاستعادة والامتلاك والتعويض، إذ تتحول جملتها الشعرية التصويرية إلى ما يشبه النداء، أو التذكّر الذي يشاغبها بالحضور والانكشاف.
الطبيعة والجسد يتبديان أكثر في هذه القصائد، تمنحهما الشاعرة الكثير من الدفق والتوهج والاشتباك الحميم، حدّ أنهما يتماثلان في الوجع والحنين والفقد والتذكّر، أو تصطنع لهما سياقا قابلا للتفجّر، لا تبدو فيه الكلمات بريئة أو هشة، بل هي الأكثر مدعاة للفتنة، والانغمار بلعبة استدعاء الجسد- الصوت، الأصابع، الجلد، القلب- لممارسة لعبة البحث والاستسلام المسكون بالخفة والوعد..
لحاء الشجر قاس،
بظفري نزعت طبقة يابسة
وتذكرت قلبي..
تكتب عناية جابر سيرة قلقها الشخصي، قلق الأنثى التي تعشقها وتعشق حريتها وحلمها، إذ تحافظ على (أناها) وكأنها سرّ الخلق والمعنى، توظّف لها الطاقة الصوتية والرقة والغرور والتعالي والضعف، وكل الخيارات التي تجعلها أكثر انحيازا إلى هويتها في الوجود والجندر والحب من دون مواربة أو خديعة. كل شيء في قصائدها يتقنع بهذا القلق الهش والصافي، بدءا من الصوت بنبرته الخفيضة كما تسميه فاطمة المحسن، وصولا إلى مساكنتها للتفاصيل التي كثيرا ما تستدعيها، تلك التي تلامس روحها المائية المبلولة بالألم وضجر الحياة اليومية، والغواية التي تطأ عتباتها، وتستعيدها عبر كلمات لها حضورها التعويضي (رقتي، جلدك الطري، يعطش، الشاطئ، الموج، اللجّة، المطر، الشتاء، المياه النازلة، الغيمة، الرسائل المبللة، قطرة) ولها مناطق اشتغالها، تلك التي تبدو- نافرة ومتوهجة في سياقها التعبيري، وحتى شيفرة الرجل الذي يشاطرها ثنائية الجسد والطبيعة لا تحضر إلا بوصفها معنى لمّاحا لهذه (الاستعارة المائية) استثنائيا، مثيرا، تبتكر له حضورا فائقا، يحرّضها بالمقابل على أن تحتفظ بصوتها اليقظ، الصوت العميق الذي يعكس دأبها في البحث عن فرادة الحميمية خارج صوت الرجل الغاوي بمرارته وسخريته.
صوتك سمين وهازئ
في ذهنك امرأة أخرى
المساجين يصنعون السلال والأشياء المزخرفة،
إنها تبقيهم هادئين.
أكتب الشعر لأنه يبقيني هادئة..
هذه المواجهة تفترض وجودا متضادا بين الجسد المفرط في صخبه، وبين الشعر الباعث على الهدوء، وهو ما يفترض وجود رؤية متجاوزة للعابر من اليومي والهامشي إلى ما هو جوهري، حيث تجاوز المألوف والمكرر في كتابات البوح، فرغم جرأة عناية وتلقائيتها في مقاربة صورتها الواقعية مع صورتها المتخيلة، إلاّ انها تبدو أكثر تلذذا بكتابة نصها في النقائص. نص شخصي، نص مزاجي، نص في السكرة، يتلفع بالكثير من الطراوة والشجن، والكثير من الإهمال أيضا، وربما هي تكتب نصا آخر لقرينتها في المرآة، القرينة التي تشبهها في البحث عن سرائر غائمة للذة، وعن هاجس الفقد والنقائض، وصورة الرجل الذي يعبر مثل لص يترك أظافره وكدماته على الجلد في القلب ويغيب..
منذ سنين، نقطة ماءٍ تركت أثراً،
لساني يتهاوى/ قربها،
وعندما حدثتكَ عن البحر/ وعن شيئك اللطيف،
أو مهما كان ما حدثتكَ عنه/ فذلك لأني أتألم،
وكدماتٌ داكنة تدبغُ قلبي الصغير.
قصائد عناية تأخذنا إلى الشقاوة، وإلى التأمل، وإلى الاستغراق خارج شرقيتنا المتوحشة في عشقها وحربها، فهي تصنع مشهدا/ جُملا متوالية في تشكّلها الصوري، تتكثف نثريتها الشعرية دونما ضيق في التقاط التفاصيل، وفي شحنها بالحسي، ورغم كثرة استعمالها أدوات الربط وهي ممارسة سردية تثقل النص، إلا أن هذا لا يخلّ في التوتير الشعري/الإيقاعي كثيرا، وفي تصاعد حركية المشهد الشعري، وفي الإبانة عن مفارقته ودهشة مونتاجه، والكشف عن حمولاته التعبيرية والدلالية..
نزلت إلى الشاطئ
زوارق صغيرة راسية قربه
نثار الزجاج يغطي الرمل،
مسامير، أحذية متهرئة.
سنونوة حطّت على صخرة البحر
حيث الموجات عقدت العزم
على المجيء، واللجّة تنفتح متباطئة
الحافة السفلية للمقهى منخورة بالرصاص..
عناية جابر شاعرة تُغنّي، تجرّ المعنى إلى لحظتها الشعرية، تشاطرها المفارقة والبوح والغناء، تلمس عبرها رائحة الرجل، والأثر، تتأمل العالم عبر هذه المشاطرة الباهية، إذ يكون الغياب هو الصانع الماهر، وهو الخلق التعويضي الذي تستحضره لتعيش لذة بجماليون الأسطورية معه..
(من الغياب أصنع لكَ تمثالاً/ وعليه أن يستمر/ على هذا الوضع، بينما الغرفةُ تنظر إلى عُريي)
القدس العربي- SEPTEMBER 29, 2015