لا يكتفي عبد الله سفر في كتابه «يذهبون في الجلطة» (دار طوى) بالسرد القصصي المكثف. زهده في التفاصيل ولغته المتقشفة وتشبثه بقوة بخيط التوتر الذي يخترق الوقائع اليومية ليصل بينها، كلها عناصر تؤسس لمستوى من المعالجة الشعرية لعالم معتم، تتشكل بين ثناياه وقائع منسية، تستعاد بقوة الحنين. وكما يرى سفر اعتماداً على مقولة يستعيرها من ميلان كونديرا فان هدف الشعر لا يتمثل في إرباكنا بفكرة مدهشة، بل جعل لحظة من لحظات الوجود صعبة النسيان وتستحق الحنين الذي لا يطاق. في ظل هذا المقياس الذي تغلب عليه العاطفة المتشنجة يذهب سفر بنصوصه القصيرة التي لا يتجاوز بعضها السطر الواحد إلى معانقة الغياب وتأمل حالات شتى من الفقدان والهجر «كأننا نغادر فجأة، وهناك من يغلق الباب وراءنا» وهي الفكرة التي يتكرر الشعور بوطأتها في كل النصوص التي يكمل بعضها البعض الآخر، كما لو أنها فصول متتالية من رواية انتهى الكاتب إلى خلاصاتها المرتبكة. ولا يخفي سفر رغبته في عدم الانجرار وراء الشعر، باعتباره نوعاً كتابياً وذلك من خلال التمترس وراء كتلة سردية، هي مزيج من الوصف والحوار وتقاطع التفاصيل التي تعيدنا إلى الحكاية الأصلية. تلك الكتلة لا تملأ فراغاً بقدر ما تخفف من وطأة اللغة الهاذية، من خلالها نجح الكاتب في الإخلاص لمفهوم النص المستقل الذي لا يتحرك في إطار هوية أدبية محددة سلفاً. التنقل بين الشعر والنثر كان يتم بخفة، غير أنه لم يكن مقصوداً لذاته. الكتابة هنا تقتفي أثر أسبابها ودوافعها. يقول: «لم يكن يريد اختبار الألم، عندما دس يده في الجمر/ تلك طريقته في إطفاء الصور/ يريق الألم عليها حتى تخمد أنفاسها/ وتعود ثانية إلى الغياب».
عن طريق تقنيته في المزج بين نثر لا يسعد بليونته وشعر لا يستجيب لتوتره يصل عبد الله سفر إلى ضالته وهو يتقصى أسرار الفجوة التي يعيشها بطله الذي هو صورة مرآتية له، حتى لتبدو النصوص كما لو أنها مقاطع مجتزأة من يومياته. هناك من وما يختفي دائماً. يعذبه أن يقف وحيداً على مسرح غادره الممثلون. هل صار عليه أن يكتفي بالتذكر وسيلة لاستعادة الأدوار كلها؟ أمن أجل أن نتأكد من وجودنا، صار علينا أن نستمر في رواية أحداث لم تقع، أحداث يستلها الكاتب من حياته الشخصية ليشير من خلالها إلى ذكرى أشباح مرت به ولم تسمح غيبوبته لها بالظهور العلني؟ يتعذب البطل ليتذكر، يتذكر ليتعذب، وهو جدل غامض يخيم عليه شعور فاجع بأن الموت لم يكن حلاً. يقول سفر: «كنت معبأً بالجنائز» شعور من هذا النوع يقع خارج الوصف. لجأ البطل إلى اللهو به، التلفت بين لذائذه الموجعة، من أجل أن يثير حساسية جسده التي شعر أنها في طريقها إلى الاختفاء هي الأخرى. يقول: «ظلت له الشوكة، كلما اشتاق غرزها في إبهامه/ لتغزوه أيام عطرها» ما يتبقى يكون هدفاً. غير أن كل ما تبقى لا يعدو عن أن يكون مجرد ذكريات صار عليه أن يروضها، ينسيها وحشيتها ويضمها إلى عالمه الفارغ بحنان.
«يحشو مسدس الغياب بالدمع ويصوب على البوم فارغ» سوف يكون عليه أن يفكر في حل من هذا النوع وهو يعرف أن الشعر لن يقف إلى جانبه دائماً. هناك نثر لا يخذله حين يعيده إلى حقيقة أنه صار منسياً، بعدما غاب الجميع، بل يقيده بوقائع صار عليه أن يستعيدها كلما فكر بحياته. لقد اختار سفر بطلاً صامتاً، تحيط بسريره وقائع، خيل إليه أنها قد ذهبت إلى حياته السابقة التي خيل إليه أيضاً أنها قد طوت صفحاتها إلى الأبد. «في قلب الضجيج نضج صمته/ بنشوة الكشف وجذل الدود الناغل قام إلى عربته يدفعها إلى المنحدر».
اللافت في هذا الكتاب أن وقائعه لا يمكن أن تروى إلا بطريقة لا تمت إلى نشوة القراءة بصلة. كان الكاتب مخلصاً للغياب، باعتباره حدثاً شخصياً غير قابل للوصف، وهو يهب ذلك الحدث ندرته من جهة أنه لا يتكرر. ذلك ما تفرضه علينا تقنية الكتابة وهي توزع أدواتها بين الأجناس الأدبية كلها من غير أن تتخلى عن دوافعها الحكائية. كان لدى عبد الله سفر ما يؤلمه ويعذبه ويحيره. أبلغنا أنهم يختفون. واقعة دفعته إلى الجهر بألمه قبل أن يختفي هو الآخر.