هدى حسين
(مصر)

هدى حسينفتحت ملفا وأسميته "أنا ماما". أشعلت سيجارة وبقيت أتأمل الجملة التي تقف أمامي وجها لوجه على شاشة الكمبيوتر.. أصدر لي ال"بيبي فون" صوتاً لطفل يبكي. تركت الملف مفتوحاً وخرجت مسرعة: شمس ابنتي تبكي في الحجرة المجاورة. حيث ينام في سريره بقربها ابني نور..
ما أريد أن أكتبه هنا لا يتعلق بمفردات الأمومة من حنان وسهر الليالي لرعاية الأطفال وما إلى ذلك مما قرروه علينا في المدارس وفرضوا به علينا أن نحب أمهاتنا نتيجة الإحساس بالذنب بسبب أشياء هي فعلتها ونحن لا نتذكرها وعلينا أن نتصرف وكأننا نتذكرها!..

أريد أن أكتب شيئا آخر.. أريد أن أكتب أن الساعة الآن السادسة تماماً. وأنني منذ مدة طويلة لم أكن مستيقظة في السادسة صباحاً. وأنني لولا أولادي لما سهرت الليل كله، بين رعايتهم وبين الكتابة والقراءة ومشاهدة الصبح وهو يطلع.. نسيم الصباح.. شيء كدت أنساه..
أريد أيضا أن أكتب أنني لا أعرف كيف أن أولادي هؤلاء هم أولادي.. كل ما حدث أنني ذات صباح غير متوقع في السادسة تماماً، وجدت مياها تنهمر تحتي. اتصلت بالطبيب فطلب مني أن أتوجه حالا إلى المستشفى. وبعد ساعات وجدت نفسي في حجرة وأمي معي وصديقتي رانيا، وممرضة تدخل علي طفلين في سريرين منفصلين وتقول مبروك. بنت وولد. البنت هي الكبيرة. نزلت الساعة تسعة والواد تسعة ودقيقتين..
لم تقل الممرضة سوى أنهما نزلا.. قد يكونا هبطا من السماء! أو من الدور العلوي. أو من أي مكان غير بطني! حتى الآن وقد مر على هذا الأمر شهر ونصف، لا يمكنني أن شعر بهذا الشعور الذي يمثلونه دائما في الأفلام، ذلك الذي يجعل الأم وطفلها يتعارفان بغريزة ما حتى ولو مر على فراقهما سنين.. حتى ولو لم ير أحدهما الآخر من قبل! يبدو لي أن الأمومة شيء مكتسب، وليس غريزي كما يعرضونه علينا في التلفزيون.. فقط عندما يصرخ الطفلان دفعة واحدة طالبان للطعام أو تغيير الحفاطات أو لمجرد رغبة في حملهما لبرهة، أقول لنفسي يا إلهي! من أين أتى هذان المزعجان كي أردهما إلي حيث كانا؟!، هنا فقط أشعر أنني أم.. فقط لأنني لا أريد في لحظات الصخب الغير محتمل هذه أن ألقي بهما في الشارع من أقرب نافذة! لكنني لا فكر أبداً في أن هذين الشيطانين جاءا من بطني.

لا أعرف كيف تستطيع الأمهات الربط بين الحمل والولادة ووجود الأطفال في أحضانهن. أنا شخصيا لا أستطيع أن أقوم بهذا الربط. من البداية، لم أكن - رغم المعرفة والدراسة - أستطيع أن أتخيل كيف يكون جسم المرأة من الداخل مختلف عن جسم الرجل.. في بداية الحمل، لم تأتني أعراض القيء والغثيان والدوار.. كنت عادية جدا.. كانت جملة "أنا حامل" تتردد على لساني كثيراً فقط لكي أصدقها.. بمنطق "الزن على الودان أمر من السحر" كنت أحاول أن أقنع نفسي أنني أنا وزوجي قمنا بالفعل ذاته، غير أننا لسنا متعادلان في النتيجة.. ذهبت للطبيب بعد أن قمت باختبار الحمل. في السونار، على الشاشة، كانت هناك حلقتان كأنهما هالتين بيضاوتين. تشبهان صورة بالأبيض والأسود لدبلتي زواجنا.. قال الطبيب: أنت حامل في توأم. هناك مشيمتان. ضحكت، بدون شعور بهول الموقف، وقلت لنفسي يبدو أنني أنا وزوجي كان لكل منا بصمته المستقلة في هذا الفعل الذي أنتج المشيمتين! لم يكن وحده الفاعل، لذا لم تكن مشيمة واحدة! لكنني مع مرور الوقت، بدأت تظهر أشياء متحركة داخل المشيمتين على الشاشة، وأنا لا يمكنني أن أفهم كيف أنني آكل طعاماً عادياً جدا، بينما ينتج عن ذلك أشياء متحركة تنمو في معدتي: الجبن والفلفل الأخضر والدجاج لا ينتجون أطفالاً! لهذا اعتبرت أن ما أراه على شاشة السونار هو شيء موجود على الشاشة فقط، أتفرج عليه عندما أذهب للطبيب.. أما ما يحدث لبطني فيمكني اعتباره تورما وقتيا سيزيله الجراح بعد فترة.

في الشهور الأخيرة من الحمل شعرت أنني بقرة. تضخمت بطني بشدة وصارت حركتي صعبة جدا.. أنا لا أكره البقر. يكفي أن حتحور بقرة، إلهة الأمومة، ذات بركة اللبن المسماة بالقمر. إلهة العيد المتجسد في حجر الفيروز الذي يجمع لونه بين صفاء السماء وخضرة البراعم اليانعة.. لكن أن أتحول من بقرة وحشية إلى بقرة داجنة فهذا أمر لا يطاق. مع ذلك لم أستطع الفكاك منه. تمثل ذلك في أنني أنا التي لا أقتنع إلا باعتمادي على نفسي في كل شيء وبحرصي الشديد على الحرية والخصوصية، صرت لا يمكنني حتى ارتداء جورب بدون مساعدة.. لا يمكنني أن أعتلي سور البانيو للاستحمام بدون مساعدة.. وصار لزاما علي أن أخضع لفحص الطبيب، هذا الفحص المقرف الذي لا يستطيع الأطباء فيه معرفة مدى اتساع فتحة الرحم سوى بإدخال إصبعهم في فتحة التناسل.. كنت ثائرة جدا من الداخل، وهادئة جدا من الخارج.. كأنني أخزن إلى جانب لحم المواليد المنتظرين بغضاً سينفجر تحت تأثير البنج لحظة الولادة. كنت أشعر أنني مختبئة تحت جلد امرأة أخرى. امرأة أرتديها بمعنى الكلمة. ضخمة ولها قدمان متورمتان يمكنني أن أدخل قدمي فيهما، ولها وجه منتفخ.. امرأة تضربني في ظهري وبطني وتعذبني بثقل ركبتيها وتخلخل مفصل قدميها وصداعها المستمر الذي يحتل رأسي.. ناهيك عن عدم قدرتي مع تورمها حولي أن أجلس إلى الكمبيوتر، أي أن أكتب.. ثم يأتي مزاجها العجيب المائل للنوم طوال الوقت مما أصابني بالكآبة.. كنت أنتظر ذلك اليوم التي يغرب عني فيه وجهها حتى أستطيع رؤية الفجر ثانية.. أما هي فكانت تستطيع أن تظهر نيابة عني فقط لأنها أضخم مني، وكنت مسجونة بداخلها أنتظر لحظة الإفراج: إزالة الورم المتحرك في بطني كان يعني لي إزالة هذه المرأة من فوقي..

ذات صباح استيقظت في السادسة على رغبة شديدة في التبول.. وفوجئت بماء غزير يخرج عني.. قال الطبيب اذهبي فورا للمستشفى.. هنا نمت تحت تأثير البنج، ثم أفقت فوجدت طفلين..
شمس تعاني كثيرا من الغازات هذه الأيام ويصعب عليها التجشؤ بعد الرضاعة لدرجة تزيدها انتفاخا بالهواء. ونور الذي طهرناه أول أمس، مازال يعاني كل مرة يتبول فيها من آلام شديدة تجعله يصرخ بعنف.

شمس ونور كلاهما يحب النوم على ظهره، وهذا أمر خطير، إذ أنه يجعل ما يجترانه من لبن ينزل في الرئة بدلا من الأمعاء ويعيقهما بذلك في التنفس.. لكنهما لا يدركان ذلك.. يحتاجان لتمرين من تمارين العلاج الطبيعي للأطفال لمدة عشر دقائق خمس مرات يومياً حتى يتخلصا من السوائل المتراكمة في الرئة. يصعب جدا عمل التمرين لهما، لأنهما لا يحبان البقاء بدون حركة لمدة دقيقة واحدة، حتى وهم نياما.. نور وشمس ينامان قليلا أيضاً.. وكأنهما لم يعودا يطيقا البقاء دون الفرجة على الحياة حولهما.. دون ممارستها..
شمس لها ملامح وجهي وجسمي وأنا في مثل سنها، غير أنها شقراء وشعرها أصفر يبدو أنه سيصبح مجعداً وعيونها بنفسجية زرقاء.. شمس تشبه قطعة الجبنة الرومي الطعمية. ولها حركات عجيبة كأنها تلعب باليه مائي. أما نور فيشبه أباه عندما كان في مثل سنه، لكن ببشرة سمراء وشعر أسود يبدو أنه سيكون ناعماً. له عيون ناعسة كأنه عبد الحليم في زمانه.. يحب أن يتعرف على كل شيء بيده. اللمس عنده مهم جدا. وأصابعه الصغيرة يحركها دائما كأن بها لغة ما يتحدث بها.. لغة مايستروا..
كلاهما جميل، شيطان وملاك في آن.. أحبهما بشدة وأكرههما بعنف.. عندما يصرخان أتساءل لماذا وافقت على أن أصبح أماً؟! وعندما يبتسمان أشعر بالفخر الشديد.. لكنني أعرف تماماً أنني كانت ستنتابني نفس المشاعر تجاههما لو كنت تبنيتهما، ولم يكونا قد خرجا من بطني.. أكيد هناك شيء في الأمومة ليس له علاقة بالحمل ولا بالرضاعة، عكس ما كانوا يحاولون تعليمنا في المدارس... دور المرأة كوعاء لإنضاج الأطفال، ودور ثديها كإناء للحليب يجعلان الأمومة تبدو وكأنها مجرد وظيفة، مهنة لها مؤهلات جسدية وعوامل خارجية مساعدة على الإخصاب.. أظن أن الأمومة أبعد من ذلك بكثير.. أظنها مسئولية قبل كل شيء. وورطة أيضاً، ينبغي التعامل معها بعقل.