"لكل تاريخ آخَرُه، وكل حقيقة مخترقة بآخَرِها الذي هو أسطورتها "
أسطورة الأصل وعبقرية الجسد
عشرون ديناراً وخطأ فني يبددان هويتي مدى الحياة، ويقلقان نسبي، ويجعلان من وجودي رتلاً من الخطى، وحالة وحشية فيها جمال التيه وقلق الترحال، وهشاشة الامتداد والتواصل.
في ليلة مولدي، ولد ثلاثة أطفال اثنان وأنا، واحدنا مات، وعندما دخلت الممرضة لتقول والدموع في عينيها: "البيبي مات"، وضع أبي في يدها عشرين ديناراً، وقال بالتأكيد ليس ابننا من مات، تهمهم الأم من وسط غيبوبة الموت، ماذا حصل " للبيبي "، يرد والدي، انه يرضع، تخرج الممرضة لتعود بي باسمة وتقول: فعلاً، ليس ابنكم من مات.
أبي لم يجرؤ على سؤالها عن الحقيقة، خاف أن يكون قد اشتراني بدل ابنهم الذي مات. كانت تلك الحكاية التي رددها على مسامعي عشرات المرات، والتي تتحول إلى مزاح عندما أدقق في الأسئلة، ويعاد التلفظ بها في لحظات غضبه، أربكت كياني وزعزعت ثوابتي. لم يعذبني مطلقاً، من أنا؟ ومن أهلي؟ فانا على الأقل لم أعرف غير من عشت بينهم من أهل، لكني استعذبت الدخول في متاهة السؤال.
سؤال ليس له من إجابة إلا الأحاسيس، فالأمر لا يمكن جزمه بالطب ولا في مختبر، صحيح أن فصيلة دمي من نوع فصيلة دم العائلة نفسه، لكنه من فصيلة "A+ " من النوع المنتشر في العائلات الأخرى.
أمي ترفض القصة وتؤكد نسبي، وهي صادقة، فإذا كان أبي يريد الولد فأمي تريد الابن، وتستند إلى لون عيوني التي تشبه عيون خالي، ليس في اللون، بل في مشحة بنية في العين اليسرى تشوب عسلية العين، تلك البقعة البنية بالنسبة لامي دليل على نسبي لها، لدي عاطفة اتجاهها تؤكد أمومتها لي، اعشقها، وأتذكر رفقتي الطويلة معها. عدم شبه أخوتي لي سؤال آخر، قد يكون الاختلاف في الشكل نتاج ترتيبات جينية (وراثية) محضة، والاختلاف السلوكي نتاج لكوني الابن الأول، الابن المشروع الذي يربى ليحمل اسم العائلة، في حين يعامل الأطفال الآخرون بدلال واستهتار، أسئلة كثيرة بقيت تحت رماد الزمن، لكنها عادت فجأة إلى السطح، انفجرت من أعماق اللاوعي كحلم أسود ملتهب.
قبل زواجي كنت انتظر هتاف الابنة البكر، كتبت اسمها على كتبي وعلى يدي، فأنا أبو هتاف، هكذا بدأت أرى نفسي، وبعد الزواج بدأت أراها تكملة لوجودي، حيث وجودها ضرورة لتحقيقي كأب وصلت معي الأمور لتحديد الليلة واللحظة التي تشكلت فيها الخلية الأولى من هتاف، نعم ليلة عيد الفطر، ليلة عذبة وجميلة قضيتها مع زوجتي بعد مشاحنة بسيطة بيننا سبقت ذلك بيومين قضيناهما بعيدين عن بعضنا؛ ليلة كنت فيها في ذروة اشتياقي لها وغضبي منها، وهذا ما حملته هتاف في لاوعيها (عشق عارم وغضب مكتوم). هل يمتلك الإنسان القدرة على هذا النوع من الإحساس؟ هل يحدد الأزواج لحظة الإخصاب بالأبناء؟ هذا ما حصل مع طفلتي الأولى، لم يتكرر في أخيها الذي تلاها بعد ست سنوات، قد أكون فقدت حماسي للأبناء، أو تكون هتاف قد أطفأت ظمئي للامتداد، وبخاصة أنها حققت لي كل ما تمنيته فيها كآخر لي، فهي الأنثى وليست الذكر، تولد بعملية جراحية في الشهر نفسه من السنة نفسها لكن بعد ثلاثين عاماً، في الأجواء نفسها: الثلوج والمظاهرات والدماء، والطباع نفسها لعنتي العناد والإدعاء .
أدور حول الموضوع، لا أجرؤ على الدخول إلى لب القصة. وما فيه من مس بالمقدسات وجرأة على المسلمات. ولكني سأحاول وأقول لقد أتت اللحظة التي اخترقت المألوف، ذلك حدث بعد ثلاث سنوات من ميلاد هتاف، عندما أحبت زوجتي أن ننجب طفلا آخر، وذهبت إلى الطبيب للمراجعة وبعد بضعة مراجعات أكد لها الطبيب أن جاهزيتها للحمل جيدة، وأن عليَّ أن أعمل فحص البذرة ليتأكد من قدرتي على الإنجاب وكانت النتيجة صاعقة، العدد في أقل حالاته ونسبة النشيط متدنية جداً وبينما وأنا أقرأ النتائج تقدم مني الممرض، وقال لي: لا تفقد الأمل، فهناك فرصة للعلاج، وهناك اليوم فرص أخرى مثل الحقن أو الزراعة، نظرت إليه متسائلاً. قال: في ضوء معطيات الفحص لا يمكنك أن تنجب بشكل طبيعي، وبينما هو يتكلم وأنا أدور على الأرض، وهناك سؤال بدا يتململ في رأسي: وهتاف ؟، هتاف ابنتي؟ ولم أكن أعرف أن مرض ما قد يتفاقم فجأة ويغير المعطيات، أو أنه قد يحصل خطأ ما في جهاز الفحص يضع وجودي على حافة سؤال - نعم سؤال - يعيدني إلى نقطة البداية وسؤال الأصل، وأستيقظ على سؤال الممرض هل عملت الفحص قبل ذلك؟ قلت: لا. وسألته بدوري: هل يمكن أن يكون قد حصل خطأ ما؟ فينظر إلي متعجباً ويده تشير إلى جهاز الحاسوب: لا مستحيل الحاسوب من يعطي النتائج، وأنت تعرف الحاسوب لا يخطئ.
هل من المعقول أن يخطئ الحاسوب؟ وإذا كان لا، فمن المخطئ؟ أنا، إحساساتي، ليلة عيد الفطر، لحظة الميلاد، التشابه، برج القوس، خفقات قلبي عندما أحملها، تناغم جسدي مع جسدها، القشعريرة التي تلهب دمي عندما تلاعب شعري أو ألاعب شعرها، هل كل هذا خطأ؟! كل ذلك قد يكون خطأ في حين أن هذا الصندوق الأبله لا يخطئ!
وأعود إلى الشارع وأهيم على وجهي من شارع إلى شارع، والأسئلة تتزاحم، والحوار مع القدر، أي قدر هذا الذي يحبك قصتي وبمخيلته يعيد سرد حياتي! والسؤال القديم يعود: كلما سألت من هتاف! يعود السؤال ومن أنا! وهل ما بيننا هو لقاء الأبوة أم تماثل اللقطاء؟!
وعندما عدت إلى البيت أخذتني بين يديها وهي تهمس بابا لماذا تأخرت؟ بدأت أقول إذ لم تكن ابنتي فليس هناك من إيمان ولا من حقيقة.
حالة قلق عارمة والسؤال يتجاوز اللحظة ويتحول إلى سؤال عن الجذر - جذر المسألة، هل من المعقول أن أكون في الأسرة الخطأ، وتكون أبنتي مع الأب الخطأ؟ وهل نحن غرباء ونلتقي كغرباء ولقطاء؟ أي وعي شقي هذا وأي سؤال مجنون؟!
ويعود كلام الممرض يدق في رأسي: الجهاز لا يخطئ أبداً، أي إله هذا! إنه صنم العصر إله لا يكذب، ويستطيع أن يُكذب كل الأشياء ويخطئ كل الحقائق ويسقط كل المقدسات: الإحساسات، والمشاعر، والفرح، وليلة المغامرة وعبقرية الجسد وطبائع هتاف، أليست فيها خلاصة تلك الليلة؟ ألم أحس بها تنتقل من جسدي إلى جسد أمها كميلاد أسطورة وتحقق معجزة، تحمل معها ما كنا نتقاسم أنا وأمها من اشتياق ممزوج بغضب، لحظة امتزجت فيها عرامة الشوق بسطوة الغضب لتتكثف كلحظة يجتمع فيها ساد ومازوش في قصة واحدة أو لكتابة قصة واحدة - قصة العشق الذي يعانق عبقرية الجسد ليجدل طفلة الحلم وبنت القداسة أم قصة الأب اللقيط الذي يغتصب زوجته الشرعية لتحمل بالابنة المجهولة النسب وكأنها حلم شيطاني يكتبه لاوعي آثم ليؤسس لتاريخ خرافي وذاكرة من نوع آخر.
وبين ذاكرة الحكاية وسؤال الذاكرة، تتكرر المأساة - مأساة السؤال عن الأصل، أصل الأب، وأصل الابنة، وهل هناك جهاز آخر لا يخطئ بإمكانه تأكيد نسبنا وتحديد أصلنا.
طمأنينة القلق والهروب إلى الفراغ
وبمقدار ما كانت اللحظة مربكة، كان المستقبل يفوقها رعباً، وبمقدار ما كان السؤال معذباً، فإن الجواب قد يكون كارثة، ولذلك عشت أياماً وأنا أسير حالة من البحث، بحث يدور حول الحقيقة ويهرب منها، أسأل أصدقائي، أبحث في الانترنت، انبش في المجلات الطبية أعرف أن الإجابة النهائية عند الطبيب، لكن لا أريد إجابة نهائية لأنها ستكون نهاية السؤال، وقد تكون نهاية الأسطورة، وقد تكون بداية أسطورة أخرى لكنها أسطورة أخرى ، أسطورة الضياع والجرأة .
قال لي أحد أصدقائي: إن طاقة الجسد الانجابية قد تتغير بشكل دراماتيكي بسبب أحد المرضين: الإيدز أو السرطان. لقد أصبح الموضوع أكثر قتامة والخيار في ذروة جنونه، لكنني بالتأكيد لن أتردد في اختيار المرض، المهم أن لا ينتصر ذلك الصنم على عبقرية الجسد، ليتحطم الجسد تحت ضربات المرض، لكن ليحافظ على أسطورته على صدقه على عبقريته، هتاف ابنتي وهذا ما يقوله جسدي وما قاله، قاله لحظة سريانها، قاله في لحظة اندفاعها من جسد إلى جسد، قاله الجسد الآخر في لحظة التلقي و الاستقبال، لمعت بيننا فجأة ، أحسسنا بها معاً، انكمشنا وتسترنا بالغطاء. في صباح اليوم التالي، قبلة العيد لا تحمل في طياتها شهوة ولعوبة زوجين عاشقين، بل طهارة أب وامٍَ في حضرة الأبناء، نعم كانت حاضرة منذ تلك اللحظة، وعلى مدار الأربعة أعوام، وأنا أحس بها وهي جنين يقاسمني جسد أمها وروحها، وتقاسم أمها لهفتي وسؤالي، و وهي حاضرة وسيدة الوجود بحضورها : وهي تعاني لحظات الميلاد وصرخة المواجهة الأولى - تلك الصرخة التي لم أعرف أهي صرخة الانبهار بالنور أم اختناق السمكة المقذوفة خارج البحر؟ لكنها كانت صرختها الأولى، صرخة الضياع صرخة السؤال.
بركات الخرافة ولعنات الصنم
في الليل جاءني الشيخ جد العائلة، ذلك الصوفي صاحب الكرمات جدي الفقيه أبو القفه، ذلك الشيخ الذي عرف في القرية بكونه يستدين قوته من أصحاب الدكاكين حتى موسم الزيتون، وهو لا يملك من الأرض قيراطاً واحداً، ولا يملك من الشجر شجرة واحدة وعندما يسأل يقول: ها أنا أجمع ما يتركه الناس من نعمة وأصبح عندي من الزيتون قفة سأعصرها وأسدد ديوني وأعيش بما يتبقى لي، والناس تنتظر خسرانه لتؤنبه وتسخر منه وعند لحظة الحسم يتدفق الزيت ليملأ البركة، بركة البد، فيسدد منه كل ديونه، ويسأل: هل تبقي لأحد شيء عندي، فيقال: لا. فيسأل هل من محتاج هنا؟ فيعطيه، ثم يتناول من يد زوجته إبريقاً من الفخار فيملأه بالزيت، ويعطيه لزوجته ويقول لها: هذا لك وللأبناء، وسنلتقي في الموسم القادم، ويمسح بيده على بركة الزيت، و يقول يا أرض ابلعي زيت الرب واحفظيه بركة ونعمة، ليعيده الرب للناس كلما طلبوا بركاتي . تتململ الأرض صاغرة ويجف الزيت ويخرج الشيخ ويسير ليتلاشى في خط الأفق كفناء شهاب توهج فجأة أو غياب شمس شقت صمت الأفق لتغوص في بحيرة ماء ، ولم يره بعد ذلك أحد.
قالت لي جدتي من أمي مرة، بينما كنت أجلس في حضنها وتطوقني بيدها وبالأخرى تخض (شكوة اللبن) وتستخرج منها الزبدة.. وتتمتم بكلمات "يا بركة سيدي أبو القفه". قالت وهي تنظر في عيوني. إنك تشبهه تماماً، نعم أنت تشبه أبي "سيد العارفين ومبارك المقربين "، نعم كان يقول سأولد مرتين، لأعود ملعوناً مرة ومباركاً مرة أخرى فأيهما أنت؟ لم أتكلم لأني لم افهم ولكني كنت مبهوراً بلون عيونها و وتشقق قسمات وجهها وهي تتشكل وتهتز بفعل الخوف والقداسة والخشوع.
بعدها بسنوات نادت لي، وأنا ألعب مع الأطفال، وأخذت تعلمني قراءة الفاتحة، وبعد أن حفظتها أشارت إلى قبره، ذلك القبر الوحيد في الجنينة والملفح بالجبة السوداء، وقالت اقرأها له، وإذا مت قبل أن تكبر، فاحفظ ذلك عني، إذا احتجته في حياتك فاذهب إليه ليلاً في ليلة الخميس، وخذ معك هدية المؤمنين والمحبين، خذ له سراجاً من الزيت وحفنة من البخور واقرأ له الفاتحة وانتظره، وإياك أن تيأس، انتظره حتى لو طال الليل، فأغلب الظن أنه سيحضر قبل الفجر بلحظات، لأنه في بعض الأحيان يكون في سفر بعيد، لكنه يحضر كل ليلة خميس ليصلي صلاة القدس ويعبر إلى هنا، وسواء أكان في بلاد الهند أم في الحجاز، فيمكنه الحضور قبل الفجر، انتظره وقلبك مملوء بالإيمان بحضرته وحضوره وسيحضر ليملأ الأرض بركة.
في حضرة الوهم المقدس.
لا أحد يمكنه أن يكذب إله العصر وصنم الحداثة إلا أنت يا سيدي يا صاحب الكرامة و البركة، ها انأ آت إليك بالزيت، والبخور، و بالشوق، والنور، شوق لمعرفة الحقيقة، ونور يطفئ هلوسة السؤال، ها أنا قادم، تائه ، لائذ بك ، طالب البركة. وبعد ساعات من الانتظار الممزوج برهبة الليل ورهبة المقام، الخالي من كل شيء إلا من الوهم المقدس، نمت ، لاستيقظ على يد مباركة تهزني، استيقظ مفزوعاً؛ لا تفرغ يا ولدي. عظيم أنت بسؤالك، وكبير بضياعك، وأنا سعيد بكونك مني، مع أنك لست لي. حاولت أن أتكلم خانني الصوت، وغابت اللغة، قال لا تفعل فانا أعرف ما تريد؟
نعم، فكما كانت أنيسة أمك، فإن هتاف ابنتك.
فتحت فمي دون أن يخرج شيئاً، قال لا تخشَ شيئاً ثق بجسدك وصادقه يصدقك،امنحه الإيمان يمنحك الحقيقة ، اتبعه ينصفك، قد لا ينجيك لكنه لن يخذلك.
وحاولت الكلام مرة أخرى
ضغط بيده على كتفي وقال: كما قلت لك أنت مني ولكنك لست لي.
ومسح بيده على وجهي مرة أخرى، لم أعِ نفسي إلا والشمس تحرق جسدي الممدود بجوار القبر على الصخرة الكبيرة في فناء المقام.
وأعود إلى البيت وزوجتي تستقبلني بعيون فيها اتهام بالجنون وشعور بالشفقة، لتقفز هتاف، وتقول أين كنت؟
- أبحث عنك أو عني أو عنا معاً.
- أنا هنا، فأين أنت؟
- أنا كنت هناك و لكني الآن هنا وسأبقى هنا.
وأتذكر قول جدي الشيخ: أنت مني ولكنك لست لي . لأقول لها:
أما أنت، فأنت لي ، حتى لو كنت لست مني.