أمين صالح (البحرين)

XXXXXXXXXX

من الطبيعي أن الكتابة، سواء أكان النص شعرياً أو سردياً، هي حالة فردية تقتضي العزلة وتستدعي طقوساً ذاتية، لكن هذا لا يتعارض مع الكتابة المشتركة، لا في جوهرها الإبداعي ولا في تقنية وطقوس الكتابة. فالكتابة المشتركة لا تعني ذوبان الواحد في الآخر، والتلاقي بين كاتبيْن أو فنانيْن لا يحدث على المستوى الذي فيه تلتحم ذاتية وشخصية أحدهما بالآخر على نحو يتعذّر فصلهما، بل على مستوى المشاركة والتفاعل والجدل، بين شخصين يتحاوران إبداعياً ويكون ثمرة الحوار، ثمرة الفعل أو الحلم المشترك، نتاجاً أدبياً أو فنياً يكتسب قيمته وأهميته من جدّيته وجدّة شكله وعمق رؤاه.

سئلت أكثر من مرّة عن تجربتي في كتابة «الجواشن» مع الصديق الشاعر قاسم حداد.. في موقع ما، قلت:

«إنها أحد التبلورات التي تشكـّل سياقاً منسجماً مع طموحي التعبيري الذي يذهب إلى مغامرة الكتابة، ولأن تجربتنا ترافقت عبر الزمن والمسافة الفنية والرؤية المتقاربة، فقد تحولت إلى كتابة نص مشترك مشحون بالمتعة والمكتشفات الخاصة».

في موقع آخر قلت:

«النص ثمرة رفقة أدبية طويلة، وصداقة حميمة، ورؤى مشتركة فنيا وفكريا. كانت التجربة انحيازاً لرغبة الاكتشاف بوساطة كتابة لا تخضع لأية سلطة».

وفي موقع آخر قلت:

«كان مهماً بالنسبة لكلينا أن يُقرأ نص الجواشن كما لو أن كاتباً واحداً قد كتبه. بمعنى أن يأتي القارئ تاركاً خلفه أي إدراك مسبق لخاصية الكتابة عند كل واحد منا، كي لا يشغل نفسه بأمور هامشية لا تتصل بالنص ككيان قائم بذاته.. مثل عقد مقارنة بين الأسلوبين، أو البحث اللامجدي عن حضور كاتب هنا وآخر هناك. لذلك كان التجانس ضرورياً وشرطاً أوليّاً لكتابة عمل مشترك».

ثمة تأكيد هنا على الرفقة الحياتية والثقافية، وعلى التجانس الرؤيوي في ما يتصل بالفكر واللغة وفعل الكتابة، وعلى الطموح التعبيري الجمالي المشترك.. كشروط ضرورية لأية كتابة مشتركة.

أود الإشارة إلى أن تجربة الكتابة المشتركة، أو الفعل الإبداعي الناتج من تفاعل أكثر من مجال فني، ليس شيئا جديدا أو محض نزوة عابرة. إنه نتاج تجربة إنسانية خلاقة رأت في تداخل الذوات المبدعة، وفي تلاحم الأشكال الفنية والأدبية المختلفة، حقلا خصبا ينبغي ارتياده واكتشافه واستثماره على نحو خلاق.

الأشكال الفنية ليست كواكب معزولة عن بعضها البعض، مكتفية بذاتها ومسيّجة بالتخوم، إنما هي عوالم متداخلة، متفاعلة ومتناسجة في ما بينها، تتصل بوشائج معرفية وجمالية، وعناصرها قابلة للتلاقح والإخصاب.

بيد أنه يمكن للتجربة أن تكون مشوهة أو مخيبة. لكن المحاولة - لنقل، المغامرة - ممكنة. وهي ليست بدعة أو ضلالة، ولا حالة استثنائية. إذا توفرت الشروط والعناصر الملائمة لفعل الكتابة، أو لخوض التجربة، تصير المغامرة جديرة بالذهاب إليها، وممارستها، وحتى تجرّعها دفعة واحدة.

فتّش عن المتعة

المتعة من العناصر الأساسية التي تتأسس عليها مثل هذه التجارب. المتعة تجنبك الوقوع في شرك الأنانية والتعصب والهيمنة التي قد ترافق أي فعل مشترك يقوم به شخصان أو أكثر. إنك تذهب إلى الفعل لتلتحم بالآخر (دون أن تفقد حريتك واستقلاليتك)، لتتوحّد معه بحيث يتحقق التناغم في الرؤية والطموح والرغبة.. ولا التحام أو توحّد أو تناغم في غياب المتعة.

مع قاسم أتقاسم الرغيف والهواء والحلم، فليس غريبا إذن أن أتقاسم معه كتابة نص أو بيان أدبي. بيننا لغة مشتركة، رؤية مشتركة، وحياة مشتركة. حتى عندما يكتب أحدنا نصه الخاص على نحو مستقل فإنه لا يطمئن كليا إلى نصه إلا عندما يمر تحت مجهر أو مرشح الآخر، أي قبل أن يقرأه الآخر نقدياً.

«الجواشن»، بالنسبة لي ولقاسم، كانت تجربة استثنائية في مسارنا الأدبي. وبعيدا عن التفاصيل التي قد لا تثير اهتمام القارئ، يمكن الإشارة إلى أننا مع الجواشن شعرنا، ربما على نحو أكثر كثافة وعمقا، بضرورة القيام بمغامرة فنية لا تعرف على أين تأخذك أو تقودك، تماما مثل الحالم الذي يعهد بكيانه إلى الحلم، فتمضى مستسلما إلى حيث تأخذك اللغة والمخيلة والذاكرة.. أو مثل المسافر الذي يبيح ذاته لمصادفات السفر ومجازفاته.

كنا أيضا، مع الجواشن، نختبر لذة الحرية.. حرية أن تلهو بالزمن، بالأمكنة، بالسرد، باللغة، بالمعنى، بالقارئ.. ليس اللهو الصبياني، الفوضوي، العابث، بل هو اللهو بصلصال العناصر من أجل أن تخلق شيئا لا تعرف شكله وملامحه إلا بعد اكتماله.

«الجواشن» مشروع عفوي لم يكن مخططاً له، ولم يكن نتاج بحث طويل أو مفاوضات معقّدة. أردت أن أشترك مع قاسم حداد في كتابة معينة لكن لم أعرف إن كانت هذه الكتابة رؤيةً أم بياناً، وهو أيضاً لم يعرف. لكنه قبَل الخوض في التجربة بلا تردد. فكرنا في كتابة رواية، ووضعنا خطوطاً لها، وحددنا مسارات واتجاهات واضحة ومرسومة بعناية.

لم نكن نعلم كيف سيتشكل الأسلوب أو اللغة. كتبنا عشرات الصفحات. كان هناك توقف وانقطاع بين فترة وفترة، وكنا نمرّ أحياناً بحالات من الضجر والكسل والإنهاك. هذا أفضى بنا إلى التعثر، اليأس، التأجيل. وفي لحظة معينة، حسبنا أن التجربة لن تنجح. ثم اكتشفنا أن الخلل يكمن في الموضوع، وفي الطريقة.. ذلك لأننا رسمنا خطوطاً ومسالك، على ضوئها مشينا، وفي جيوبنا الكثير من المشاعل والخرائط والبوصلات.

كنا نفتقر إلى أهم عنصر في الكتابة: المتعة. لذة الاختراق، ومتعة الاكتشاف. لذلك قررنا أن نمزق كل الصفحات التي كتبناها، ونتخلص من كل البوصلات، وبدأنا في نسج كتابة لا نعرف مساربها، ولا إلى أين تصل، وكيف تنتهي، أو بأي لغة أو أسلوب، ومن دون أن يكون هناك أفق أو خريطة معينة نهتدي بها. كان طريقنا سالكاً، نيّراً، واضح المعالم، ولا مفاجآت فيه. عدنا إلى نقطة الانطلاق، واخترنا الطريق الوعر، الشائك، الذي يزداد غموضاً كلما أمعنّا في التوغّل.

عندئذ وجدنا نفسينا في فضاء رحب، موهوبين بحرية هائلة. لم يعد لدينا التزام بموضوع أو أفكار أو شخوص. اتخذنا موقف القارئ الذي يفتح الكتاب ولا يعرف إلى أين يذهب وكيف سيصل.

كنا نتبادل أحيانا الأدوار. أكتب صورة شعرية ويكتب هو سرداً أو حالة معينة يتركها ناقصة لكي أكملها. وقد أسرفنا في اللهو حتى بات أحدنا يكتب جملة ويأتي الآخر ليقتحم الجملة ذاتها بكلمة أو عبارة، فقط لنربك ذلك القارئ الذي يأتي إلى النص راغباً في معرفة من كتب ماذا، وأين يقف أمين وأين يبدأ قاسم.

بعيداً عن الأنانية

هناك عنصر آخر مهم في أية كتابة مشتركة، ليس فقط القواسم المشتركة بين الاثنين لغوياً ورؤيوياً وحتى حياتياً، بل لابد أن تكون هناك سمة أخلاقية أيضا وهي انعدام الأنانية، لأنها لو وجدت عند أحدهما فإن المشروع برمته سوف ينهار بعد أيام قليلة من البدء فيه.. في الفعل الإبداعي المشترك لا مجال لبروز نزعة التفوق أو الشعور بالأنانية والغرور والأفضلية.

أنا محظوظ للغاية لأنني رافقت قاسم حداد في تجربتيّ الحياة والكتابة معاً.. هذه الرفقة الخصبة، الغنية، السخية، التي لا أنانية فيها ولا بخل.. والمكتنزة دوماً بالحب والفهم والدعابة.

أن تتقاسم مع قاسم الرغيف والشعر يعني أن تحصّن نفسك من أي انكسار محتمل، أن تصون روحك من التشوّه الذي صار يطال من كان يحلم معك بغد ٍ مشرق، أن تقطع الخيوط التي تشدك إلى مرابط الامتثال والخنوع، مراقد الكسل والتكرار. يعني أن تنحاز فقط إلى ما يتيح لحريتك التحقق: حرية العيش خارج سطوة الرسمي والأيديولوجي معاً، حرية أن تبدع بلا شرط ولا تحفظ.

والذين يعرفون قاسم جيدا يدركون أنه قادر أن يكون، بلا عناء ولا تردد، جناحاً يوفّر لك الفيء والطمأنينة، يداً حنونة تزيح عن كاهليك غبار التعب والقنوط، وعيناً تسهر عليك كلما آويت للنوم لتحرس لك أحلامك العابثة.. وهو يفعل كل هذا بلا مقابل، ودون أن يرجو مكافأة.. يكفيه أن يرى في حدقتيك سريرا يأوي إليه آن يتعب.

بيننا اتصال حياتي يعمّق الجانب الإبداعي، واتصال إبداعي يعمّق الجانب الحياتي. بيننا لغة مشتركة، حلم مشترك، ورؤى نتقاذفها في جذل.

شفيفا يأتينا، في جيب سترته ما لا يحصى من بشاشة، وفي الجيب الآخر صور شعرية ينثرها كالبذور، لا ليقتفي الآخرون خطاه، لكن ليدل الجهات إلينا. ودوما يرش الطريق بنثار الحب.

منذ أن استضافني في بيته، ذات أمسية من أمسيات العام 1970، وأنا ماكث هناك، في ذلك البيت، في تلك الأمسية، مع تلك الرفقة والعائلة.

أخذتنا الرحلة إلى هنا وإلى هناك، على المستوى الفيزيائي والمادي، على الصعيدين الثقافي والحياتي. عبرنا معاً المسافات، اجتزنا معاً الأزمنة وصادقنا الأمكنة. اختبرنا على مدى السنوات كل ما يختبره الأصدقاء من تناغم وتنافر وفرح وحزن وأمل ويأس، تبادلنا ما يتبادله الأصدقاء من انتصارات ومخاوف وشكوك.. كل هذا على مستوى الواقع اليومي الملموس، التجربة الحياتية والثقافية المحددة زمنياً. لكن روحياً، أو نفسياً، مازلت – حتى هذه اللحظة - هناك: في ذلك البيت، في تلك الأمسية، مع تلك الرفقة والعائلة.

من يقبل أن يغادر بيتاً يفيض فيه الحب والدفء، تضيئه على الدوام أرواح تشعّ جمالاً وبراءةً؟ بيتاً يزدهر فيه الشعر والموسيقى والضحك؟ بيتاً تزهو فيه الضيافة؟

الحديث عن قاسم هو حديث عن حضور مشع، يدفئ القلب ويضيء الروح. أحب أن أسميه: هبة الطبيعة الثمينة.

الاتحاد- 9 ابريل 2015