بلغ سعدي يوسف السبعين وإذا انتظرنا حتى هذا الحين لنحتفل بسعدي فقد تأخرنا. سبعينات سعدي ليست ككل سبعين، كانت رحلة عوليسية بل سندبادية تعددت فيها موانئه وتعددت رحلاته، اتعب الجميع وما تعب، قطع اعماراً في عمر واحد وأفنى حيوات في حياة واحدة، اتعب الشعر وما تعب، بقي يهلهله ويرفقه ويشيله ويحطه ويمزجه بأخلاط وأنواع. ها هو شاعر حديث انفتح له ما لا ينفتح إلا لأساطين وعتاة ومعلمين كأبي العتاهيه وبشار وأبي نواس، معلمين نعم وإذا استحق يوسف اسما فقد جاز ان نسميه المعلم. إذا ما كان لأحد ان يضع عمره في الشعر وأن يغالبه ويبقيان متعالقين متشابكين قدر ما فعل سعدي يوسف، معلم وصانع وصاحب ورشة كبرى شببنا جميعا فيها ولو بمقادير مختلفة، إذ ما من شاعر كان مدرسة لمن بعده قدر ما كان سعدي، لم يكن هذا حاله في شعر العراقيين فحسب بل في شعر الجميع. شعر سعدي في امتداده كان نقداً ونظراً في الشعر واستشرافاً لمستقبله في آن، وإذا جاز ان يوجد كل ذلك في اثر حي فقد وجد في ديوان سعدي، من (قصائد مرئية)، والقصيدة الحديثة في طفولتها، وجد سعدي موقعه وهو منذ ذلك اليوم، تجربة بعد تجربة، يتقدم أمامه ويوسع وجهته، تجربة بعد تجربة فأصحاب الاستراتيجيات الكبيرة لا يتقدمون في طريق مستقيم ولكنهم يلتفون ويداورون. وسعدي كادح شعر وعلى الطريق أكمل ورشته، مختبر للإيقاع ومختبر للفولكلور ومختبر للتاريخ ومختبر للمفردات العادية واليوميات ومختبر للهلهلةة الشعرية ومختبر للتدوير وقصيدة البيت الواحد والمونتاج الشعري. ومختبر للشعر وورشه، ديوان سعدي لذلك مدرسة لمن يريد ان يتعلم، والأرجح ان القصيدة تنشأ عمقيا وأفقيا من هذا الزواج بين البانوراما التاريخية والتكرار الفولكلوري وإيقاع الأغنية مع البعثرة اليومية والفريسكات الكبيرة مع المونتاج والتقطيع البصريين، لشد ما اكتشف سعدي ولشد ما اشتغل وشد ما وجد وأوجد، انه بذلك الشاعر الذي جمع بين الإلهام والعمل واستطاع ان يوجد اتساقا نادرا بين الاستراتيجيا والانجاز الجزئي، بل اوجد بالشعر وحده وداخل الشعر وحده مدرسة في فهم الشعر. مدرسة نعم، فسعدي يوسف يملك من داخل ديوانه الخارطة والدليل ومن يقرأه بعمق لا يفوته ان يفهم شعره كنظام إيقاعي وتخييلي وإدراكي. الأرجح ان عملاً بهذا الجد وبهذا الدأب هو وسيط نفسه ولا ينتظر ان يتوسط له سواه. ذلك يعني ان الذين يقرأون القصيدة كعبرة وخلاصة وباب مفاتيحه في الخارج سيتأخرون عن ان يدركوا ان سر الشعر ونظريته فيه. لكن عمارة سعدي التي نجدها مكتملة مع سبعيناته وربما قبلها هي أيضا ممر إجباري للشعر ومن لا يواجهها لا يسعه ان يبدأ، وإذا كان نقد الشعر لا يزال أحيانا كثيرة تكسير مفاتيح كثيرة برانيه في إقفال الشعر فإن علينا ان نجد مفتاح سعدي في بابه ولا نشك إننا سنقع آنذاك على كنوز كثيرة ولربما أمكننا ان نجد تلك العدة الهائلة التي هي أيضا نقد الشعر.
لست شغوفا بتطويب احد ولا أظن ان سعدي شغوف بالتطويب، لا زلنا في الحياة، وليس لدينا في أيدينا العارية ما نهديه لشاعر كسعدي، يمكننا ان نهدي لأنفسنا قراءة جديدة لشعر سعدي من نعومته الى اليوم، إذا فعلنا فلن نضيع مكانه ولا مقامه.
السفير2004/11/09
إقرأ أيضاً:-