عباس بيضون

جمال عبدالناصربعث والدي أوائل عام 1967 برسالة إليّ وأنا في فرنسا ذكر فيها بلسانه هو، أمله في عقلي وحكمتي. لم يكن العقل بالتأكيد هو ما أريده لنفسي. لم أكن توصلت آنئذ الى مديح الجنون الذي تواتر فيما بعد في أدبياتنا، لكان أرضاني مع ذلك ان يأمل في تمردي وجرأتي. لكنه أبي على كل حال ولم يكن لسانه لساني منذ أمد طويل. بل كنت لا اعرف له لساناً، فجلّ ما يقوله مسلوخ من الكتب. لكأنه لا ينطق بعبارة إلا ولها سابقة عند الطبري وابن الأثير والمبرد والمسعودي، ان لم يكن لها أساس في القرآن ونهج البلاغة. أي انه ما كان يقول كلاماً ليس له أصل ولا نسب، لا يقول كلاماً ولد بدون ان يدلّ بسلسلة من الآباء والأجداد. كنت اسمعه وأقرأه بغير فهم فهذا الكلام الأثري ما كان يطابق في حال ذكاءه ورقته وخجله، بل ما كان يطابق أي شيء. عانى غير مرة من اكتئاب والاكتئاب لم يكن له فيما احسب اسم في الكتب التي يثابر على مطالعتها، وكنت اسأله عما به فيجيبني انه قلق الوضيم. طالما شعرت ان كلامه لا يلابسه وانه، ما دمنا في فعل لابس، اشبه بثوب على غير قدّ صاحبه. بل إنني كنت لذلك اشعر ان صوته ليس منه، وان دخيلته النبيلة بقيت لذلك سراً عليّ، كنت في الواقع أستفسر أفعاله وحركاته فيما بقي لسانه شبه اجنبي على سمعي. كان جسده وأعصابه وأخلاقه تتعرض جميعها لترجمة عسيرة فظة.

ثم ان والدي كان في الشكل غيري. طالما تأملت وجهه المنحوت وعينيه الزرقاوين وذقنه المربعة وكأني انظر الى تحفة. كان افتناني به لا يخلو من الشعور بأنه شبه أجنبي عني وانني لا انقل الى جيل آخر ملامحه وإماراته. أي انه لا يدوم فيّ ولا يبقى فأنا لن املك ان أعيد جماله ولا مهابته. من هنا كان معبوداً اكثر منه أباً. لكنني وأنا أحله بين آلهتي كنت في الواقع اطرده من نفسي، أحله في هذا المقام العلوي الذي لا يقطع الشبه بيننا فحسب، بل يقطع الكلام ايضاً. كنت في افتتاني بهيئته أكاد لا اصدق وجوده، وربما يعني هذا من ناحية اخرى انه قد لا يكون بالنسبة إليّ موجوداً. لن أدخل في تفسير أوديبي حق لهذه القصة على فرض سلامته. فليس هذا مرادي منها. حين مات والدي عقب حادث فظيع ظهر شبهي به شيئاً فشيئاً. لكن هذا كان في الغالب موصوماً بشعور قوي بالذنب لم اشعر به يومئذ لكني تلقيت عواقبه طوال حياتي. وكان عليّ ان انتظر الى ان بلغت سن والدي لأستعيده بحرية وصفاء خاليين من الألم.

هذه قصة لا أدري إذا كان ممكناً تعميمها على كثيرين في جيلي، بل لا أدري إذا كان يمكن ان تكون استعارة كبرى لهذا الجرح الأولي الذي وسم، فيما بعد، تجربتنا كلها في الثقافة وفي السياسة وربما في تضاعيف العيش وأسبابه.

ولدت عام 1945 في قرية من اعمال صور (شحور) وانتقلت مع أهلي الى صور وأنا في التاسعة. كان في بيتنا مكتبة وعلى أبواب الستينيات وأوائلها أخذنا نجتمع صحبة مشغوفة بالأدب ونقرأ من ديوان المتنبي وابن الرومي والشوقيات. نقرأ بصوت عال ونتلذذ ونحن نجهر بهذه الاشعار. كانت وعاء نفوسنا وترجمان أشواقنا ولم يكن بينها وبين أنفاسنا ونبضنا ومسامنا فرق. مع ذلك كانت هذه صنعة لا نقدر عليها وحين فكرنا بأن نستعير لكتاباتنا الوليدة وجدنا أمامنا المهجريين وبدوي الجبل والجواهري وبالطبع ابو شبكة والأخطل الصغير. كنا في اول معالجتنا للشعر. قفزنا بالتأكيد درجات بقراءة المتنبي، مع ذلك كان علينا ان نباشر تدريباً ثانياً نبدأ فيه من الدرجة الاولى. كان أمامنا في رزمة واحدة، سعيد عقل وقصيدة التفعيلة ومجلة شعر. لن أروي الآن كل القصة لكني اذكر اننا قرأنا سعيد عقل، على مضض. مهما قيل في كلاسيكيته فإن هذه الكلاسيكية نفسها حاجز. قد يكون سعيد عقل اول الكلاسيكيين فهو يعيد تخيل الماضي ويتموه به لكنه لا يواصله. ثمة لحظة انقطاع في شعره نشزت في أسماعنا. قرأت سعيد عقل وأنا اشعر بقدر خفي من الصمم في اشعاره. لكن ما دار علي عام بل وأشهر حتى استسلمت له. ظلت الخشة مع ذلك في أذني ولم انتظر حتى تصفو ذائقتي له او ان يطابق مزاجي. الحق يقال إنه لم يعد هناك وقت للمطابقة، ومنذ ذلك الحين سنتحمس لأشياء لا نشكل معها تركيبة واحدة ولا نتلاحم معها إلا بقدر من العسر. من ذلك الحين ستكون انحيازاتنا من وراء مشاعرنا وداخلها في آن معاً. كان هذا شأننا ايضا مع شعر التفعيلة ومع السياب وخليل حاوي وأدونيس، وسيكون هكذا مع الماغوط وبصعوبة أكثر مع أنسي الحاج. كان المتنبي جداً قديماً وربما إلهاً لكنه لم يكن أباً حقيقياً. ولا نستطيع الرجوع إليه إلا عبر تحولات طويلة معقدة. إلا أن شعراء التفعيلة لم يكونوا ايضاً جلدنا ولا لحمنا. إذا كانوا أقرب عهداً فإنهم ليسوا من ثوبنا ولم يلابسونا. كانوا تقريباً اجانب علينا إلا أننا لم يكن بقي لنا جلد، وصرنا نحن بالتدريج اجانب على أنفسنا.

سمعت فيروز في بعض أغانيها الاولى بأذن مرتابة. اجتهدت لتطابق سمعي لكن شيئاً غير محدد ظل يفلت مني. بدت لي بخيلة ومصنعة، فالصوت لا يتحول الى رقة صافية إلا بشيء من التصنيع تختفي معه مادته الاولى. كان في الصوت ما في الطيف وما في الاثير وما في الصدى، شيء لا يمكن إمساكه وتتبدد حال ذلك ويخلق كل مرة في النفس والأذن عطشاً وشوقاً لا يتلبى تماماً. كان شأني مع فيروز شأني مع الشعر الحديث. مانعت قليلاً ولم ألبث ان سلمت. حلّت فيروز حيث حل الشعر وحيث ستحل أمور اخرى كثيرة. يبدو الغريب مقدراً وكأن لا حيلة لنا في منعه وكأننا مجبورون على قبوله. علينا نحن ان نتغير قليلاً او كثيراً لنغدو قادرين على استقباله. ما عدنا ننتج أنفسنا من داخلنا بل صرنا نستضيف ونستدخل. ما نستضيفه لا يعلق ولا ينفد الا بعد أن يلوي شيئاً في داخلنا، اننا منذ الآن هذه المضافة الإجبارية. نستقبل بدون إرادة كافية ولا اختيار واع. ان لنا منذ الآن نفوساً مركبة مصنعة. بل إن نفوسنا لم تعد تطابقنا، صرنا معها اثنين، وصرنا مع زماننا اثنين، ومع الغريب اثنين، والحقيقة ان نفوسنا الجديدة تجمعت من هذه المسافات والثنائيات.

II

قد لا يبدو التخلي عن ثنيه البنطلون وتضييق اسفله الى 18 سم بهذه الأهمية، انه البنطلون وليس شعراً ولا موسيقى. لكن هذا اللااهتمام قد يكون البرهان السلبي على خطر تدبير كهذا. فأن يتغير البنطلون هكذا لم يكن بالحسبان ولا يبني على سابقة. رأينا بالطبع آباءنا يخلعون الغنباز ويستبدلونه بالثوب الغربي وينفضون الطربوش ويسيرون حاسري الرؤوس. هذان حدثان ثوريان كنا لا نزال شهوداً عليهما ولا يزالان يجرجران ذيول معركة لم تنته بعد. مع ذلك فإن البنطلون كان حتى ذلك الحين بالنسبة لنا هو البنطلون. لا اتخيله الا برسمه وقدّه والثنية بلا شك جزء منهما. نعرف انه كان شيئاً آخر، تكفينا مشاهدة الأفلام التاريخية لنعلم انه كان اقصر وأضيق وبلا ثنية. مع ذلك فإن اللعب بنماذجنا لم يكن قد غدا تقليداً بالنسبة لنا. البنطلون الاول الذي لا ثنية له ارتديناه بشعور أننا نتقزم فيه وأننا نخسر من ذكورتنا. اذ لم يغب ان أجسادنا تتفصل ببنطلون كهذا على نحو يجعلنا نشعر انها معروضة وان أجساداً ظاهرة هكذا اقرب الى الأنوثة. الذكورة، رغم كل شيء بالنسبة لنا، هي التي لا تجازف بأن تظهر وتؤثر ان تختفي وراء حجاب. كرهنا أنفسنا ونحن نرى أجسادنا مزمومة في هذه البناطلين، لكننا لم نمانع طويلاً ولبسناها بحرص على ان تكون ثنيتها مكشوفة ومقدارها أضيق ما يكون. كل هذا لعبة مع أجسادنا كنا نفضل ان تبقى مستورة. كان ذلك اول مراهقتنا ولا زلنا نلامس أجسادنا بورع، قد يكون الاستمناء والتشهي المكتوم من بوادره. كنا مغلوبين بهذه اللعبة لكنها دلالة ايضاً على غلبة أجسادنا علينا فلم نكن نحسن ان نتدبرها وأن نتدبر معها شهواتنا ورغائبنا، ونبقى دائماً مكسورين بهذه الرغبات رازحين تحتها. ليس بلا دلالة ان الرفيق الذي كان اول من هداني الى البنطلون الذي بلا ثنية هداني ايضاً الى السينما التي يعرف كل نجومها، وكان فضلاً عن ذلك رساماً، ولا بد ان اضيف انه كان خلاسياً ضارباً الى السواد. وهذه أمور أفردته عنا كثيراً. كنت اعيش في وحشة الكلمات. بينما هو في غمرة الأضواء والألوان ولا بد ان صلته بجسده وثيابه تكونت في هذا الغمار.

فقدنا الثنية وأخشى ان اقول إننا ربما توجسنا ان نكون فقدنا عضواً، وتعرضنا لشيء من الخصاء. غدونا مزمومين وهزيلين في بنطلوناتنا، تقبلنا هذا كعقاب لكننا ما لبثنا ان أدمنّاه. كنا بهذه البنطلونات مكشوفي لا الأجساد فحسب بل والرغبات ايضاً، ففي بنطلون كهذا نخشى، حتى الموت، ان ينتفخ البنطلون بتلك الرغبة التي لم نحسن إخفاءها. لقد انكسر النموذج ولم يكن هذا بعيداً عن انكسار جسدي، ظهرت الذكورة المخبأة وستعاني هكذا فضيحتها. بدأ اللعب بالبنطلون وهذا لعب بأجسادنا ومطارح رغباتنا اشبه باستمناء علني. انفتح الباب امام لعبة كبيرة كهذه لن تنتهي. بعد البنطلون المزموم الضيق الأسفل سيأتي الشارلستون الواسع الأسفل وبثنية غالباً. لن يكون الأمر اسهل مع الشارلستون. لم يعد البنطلون حرزاً منيعاً فالسنوات التي قضيناها بالبنطلون الضيق جعلتنا نألف هذا التصريح البعيد بضآلتنا وحتى بذكورتنا، والغرق في الشارلستون والبنطلون ذي الثنيات من فوق لم يكن يترك لنا أجساداً. كنا نرتدي هذه البناطلين الضافيه وكأنها أجساد إضافية. في الحقيقة كنا نعيا بأجسادنا فيها وكأنها اصيبت بنوع آخر من الخصاء. هكذا بدأت سلسلة من التحولات. دخلت الموضة السنوية الى حياتنا، من الياقة الضيقة الى الواسعة الى المعتدلة. من الكرافات النحيلة العقدة الى العقدة الضخمة ومن الكرافات القصيرة الى الطويلة. من الجاكيت بزر الى زرين الى ثلاثة أزرار ...الخ. كنا نحمل أجسادنا من حال الى حال. نلاحقها ولا نراها تستقر. لقد دخلت في طاحونة تغيرات لا ترحم. كانت في حال سيولة دائمة وكأنها بلا حدود ولا كيان، لكنها ايضاً دخلت مع ذلك في الجمع، في الزي الواحد، في الجسد الواحد.
كان الميني جيب أمراً فوق التصوّر وفوق الخيال. لقد التقينا في الشارع. بهذه السيقان المصبوبة كما خلقها الله وكان علينا ان نراها بلا حرج. لكن مراوغة هذا الحرج كانت بالنسبة لنا محل التباس وحيرة. لقد التقينا بتهاويمنا الجنسية عيانا لكن بدون قدرة ولا جرأة على استنطاقها. حكمت الموضة بأن تكشف الصبايا عن قدر من أجسادهن. لكن لم يكن دار كشف مماثل في خوالج رغباتهن ومتعتهن وتدبير لذاتهن. لم يكن بالطبع دار شيء مماثل في مبادرات الشبان ومخيلاتهم وأساليبهم. ذهلوا فقط من هذه التقدمة المحرمة، حتى أن ذلك أعماهم عن ان يبحثوا عما وراءها. الأرجح انهم لم يملكوا القوة ولا الحرية على بحث كهذا. ظلت السيقان المكشوفة بالنسبة لهم اشبه بمنظر طبيعي. لا احسب ان كثيرين لاحظوا هذه المفارقة، رضي الآباء والأخوة الرجال او اشاحوا عما جرى وكان هذا الاجماع واقياً من ان ينفذ الى المشهد غير ما على سطحه. كان واقياً وربما حاجزاً من ان تلتبس حرية الزي والتعرية النسبية بحريات أكبر. لا بد ان هذا الكشف كان لذلك حداً. كان شرط ظهور السيقان ان لا يلتبس بشيء آخر. ظل هذا العري الجزئي مغشى ببراءة كاذبة او حقيقية، لكن ذلك بقي حدا صلباً لا يتجاوز بسهولة كذلك الحد الذي يضيع بين الصداقة والحب، ظلت السيقان المكشوفة هكذا حداً ضائعاً بين الرغبة والكبت. رضي آباء كذلك او اشاحوا عن بدايات البيكيني، لقد خرجت الأجساد الى الضوء بدون كثير مقاومة. لكن العري الخارجي كان في أحيان كثيرة ذريعة لاحتشام داخلي، كان لا بد من وقت أكبر ليكون هذا بداية نظر آخر الى الجسد والرغبة.

كان العرض يتسّع. انتشر الترانزيستور وصار من الدارج ان نرى أشخاصاً يتمشون برفقته وأذنهم عليه. كان غناء عبد الحليم حافظ يندلع في الشارع ولا يعدم المسمع ان يغني في صحبته. لم يكن الشارع قد تكوّن تماما لتتكون ضوابطه، والواقع أن هذا الصخب من مظاهر تكونه. الراديو الثقيل الخشبي الذي كان قطعة في البيت تحول الى غرض في اليد يحمله الواحد كما يحمل ساعته. صوت الترانزيستور الفالت في الطريق، هو كما كانت ماركة اسطوانات تقول، صوت سيده. لا بد ان حامله يشعر انه يتكلم بصوت المطرب كما تقول ساعة يده وقته الخاص. بل الغالب انه بهذا الصوت يجعل من الطريق ايضاً حيّزاً خاصاً. كان بصوت عبد الحليم حافظ يطلق نفسه ويتنادى مع الآخرين، مع الترانزيستورات الأخرى غير المرئية ومع أصوات السوق وأصوات النهار. صارت الترانزيستورات والراديوهات شبكة لقاء عام في أوقات معلومة، قد تكون «أنت عمري» أغنية أم كلثوم لكنها غالباً خُطب الرئيس جمال عبد الناصر.

في هذا الوقت كان العرب جميعاً يجلسون الى راديوهاتهم وهذه حينذاك هي بطاقات هويتهم الجديدة. هي علامات مواطنية تجتاز الحدود. الناس يتنادون ويتواصلون ويجتمعون عبر الراديو وعلى مدى الرقعة العربية. يجلس كل في خليته ويرسل إشارته الضوئية ويتلقى دائماً جواباً سريعاً. يسري البث الإذاعي في كل الانحاء كتيار حميم وخاص. كانت الأمة تتكون عند ذاك في لحظة مسحورة مسروقة من التاريخ. صوت عبد الناصر يخرج من كل فم ويتحول الى مراسلة هائلة وتنادٍ على طول العالم العربي.
أم كلثوم كانت لليل وفيروز لليقظة وعبد الحليم للعصاري وللنهار. فيما صوت عبد الناصر الدافئ والأليف ووجهه المنحوت وقامته النصبية لكل الأوقات. لم يكن هؤلاء واحداً بالطبع ولا حتى متقاربين لكنهم كانوا نماذجنا الاصلية. أم كلثوم للكاتارسيس، التطهير، ليلها اقرب الى مسرحية يونانية يواجه المرء فيها قدره الماضي ويعنو له. عبد الحليم للحظات عاطفة تخترق الرسوم واللعبة القدرية، لكنها ترتد حاسرة وتنكسر بالتأنيب والذنب، وفيروز للمستقبل، لعالم لا تزال رسومه تتخايل، متحرر من القدر والفظاظة مسكون بالغفران والخلاص والعاطفة. عبد «الناصر كان كل شيء القدر» والانتصار على القدر، التاريخ والخلاص من التاريخ. كان استبداده هو تطهيرنا التاريخي ومعاناتنا الضرورية للذنب، لكنه كان ايضاً الخروج من أزمة الضمير. القوة وربما العنف يجذراننا في عالم لا يرحم. والقوة والعنف هما الطريق للتحرر من وصمة التاريخ والقدر واستشراف المستقبل. الأمة، الدولة، التحرير، التحديث، القوة والوحدة والاتصال بالحاضر والمستقبل. ليست هذه عناوين فحسب، كانت حتى ذلك الحين مترابطة وواحدة تقريباً، كانت تطهيراً ولحظة اختراق وإشارة خلاص. هذا ما تستطيعه فقط أنظمة توتاليتارية. وحدها تشكل سنترالا زمنيا وتكون عقوبة مشروعة وسماحاً تاريخياً في آن معاً.

الليل أضيف ايضاً، لم تعد الشمس وحدها بل القمر ايضاً، القمر الملتبس والمضلل والمسامر. التلفزيون كان تقريباً هذا القمر المنزلي، الشاشة المضيئة الصغيرة تنقل أنوار العالم النائم كما ينقل القمر نور الشمس المختفية. ينقل في تلك العلبة السحرية لعبة القدر التي تغدو سراً منزلياً. نشرات الأخبار تجعل القادة والقرارات والمجادلات الكبرى تدخل الى بيوتنا وتشاطرنا وجبة العشاء والاسترخاء على الكنبات. انها لحظة الحقيقة مخلوطة بالكذب، لحظة شبه الحقيقة وشبه الكذب. سيكون البيت مليئاً منذ الآن بالخيالات والأطياف وسيبدو الليل وكأنه إعادة خادعة للنهار. سيكون سحره هو المعادل الفعلي لالتباسنا التاريخي، هو التحويل الدرامي للحظة المليئة التي بدت أم كلثوم وعبد الناصر راويتيها البارزين. سنحتفل بأول سهرة رأس سنة. في مجتمع إسلامي سيكون هذا اول عيد ينتقل الى الليل. انتهينا ايضاً الى أعياد ميلادنا الشخصية، كان الليل المهمل يتحول الى حياة بديلة. لكن السحر لن يدوم طويلاً.
سيعود القمر المنزلي سارقاً للأنوار، كما يقول ابن المعتز نقلا عن عبد الفتاح كيليطو، لن يعتم ان يعود مضللاً وخادعاً ورسالة شؤم يومية، ستدخل الخيالات والأطياف كالوساوس والكوابيس والنذر الخطرة الى منازلنا وغرف نومنا وسيكون الليل بذلك فترة تطهير لا نهاية لها.

III

لا يمكن ان نتكلم عن الحقبة الناصرية من 1956 الى 67 إلا بالإنجازات: تأميم القناة، الجلاء، حرب الـ1956، التسلح من المعسكر الشرقي، التصنيع، الإصلاح الزراعي، السد العالي، الاشتراكية، مؤتمر باندونغ وخط الحياد الإيجابي إلى الوحدة مع سوريا... الخ. التحرير والتوحيد وبناء القوة والتحديث والاشتراكية في رزمة واحدة، لم تكن هذه مجرد أشواق، تحققت بالسهولة التي تقوم بها المعجزات. لقد انفتحت طاقة سحرية ودخلنا في فترة سماح تاريخي، وها هو كل يوم يعلن جديداً. تصالحت الأزمنة وتصالحت الأهداف وتصالحت السبل، وها نحن أمام التاريخ يُبنى عياناً ويُشاد كعمل يومي. انه امتلاء ليس فيه لحظة تفاوت ولا لحظة شغور، انها قفزة امام الزمن وكل شيء متكامل مترابط موحد. لقد زالت فجأة حواجز لا تقهر وسقطت مواصفات جازمة وأزيلت كوابح وظروف كأنها لم تكن. اختفى إرث باهظ وأثقال ألفية بدون مقاومة. دخلت استراتيجيات ومفاهيم عليا بقوة الأمر وبسرعة الكلمة وربما بإرادة الصوت الذي يملي ويقرر وسط الجموع الغفيرة. الصوت الذي يدخل تحت جلد كل واحد ينبعث فيه عزماً بلا سابقة، سواء كان واقفاً في الساحة أم في خليته الصغيرة متمدّداً امام الشاشة الزجاجية المضيئة، الصوت الذي يغمر في اللحظة ذاتها كل الرقعة العربية ويجمع الكل في شبكة واحدة. الحكومات عندئذ صور والحدود والظروف والوقائع رسوم. في أيدينا، في أيدي القائد لا فرق، العجلة والمصباح. الأمة تتكون او تكونت بلا ريب. لقد حدث ذلك. انه حدث، فعل، واقع. لقد وجدت الأمة وتعطّل القدر او تعطل الزمن. تمّ في لحظة واحدة التطهير والتعويض والخروج والخلاص. في لحظة واحدة من الشاشة الصغيرة، من علبة الترانزستور أشرق نور العالم.

هل كان ينبغي ان ننتظر هزيمة 1967 حتى نخرج من السحر. هل كان ذلك سحراً فحسب. ستكون هي المرة الأخيرة التي تترابط فيها استراتيجيات متفاوتة وتتلاحم في مشروع واحد: التحديث والتوحيد والتحرير والإصلاح الاجتماعي. بعد ذلك، كما سنرى. سيستقل كل واحد من هذه بنفسه وسيغدو أولوية او مشروعاً مستقلاً. ستكون هي المرة الأخيرة التي تندرج فيها هذه جميعها في دولة وإمكان تاريخي. اذ بعد ذلك سيتحول كل منها الى طوبى تنتهي في ذاتها، هل انتظرت هزيمة 1967 حتى تنفصل وتنفرد، لا بد ان بوادر ذلك وبعضها قوي بدأ قبل الهزيمة ووافاها بعد ان حصلت. نفهم من طه حسين وسلامة موسى مثلاً ان إصلاح المجتمع هو غاية كل إصلاح وكل تجديد سواء في الأدب او الثقافة او اللغة او السياسة او الاقتصاد، جميعها تتصل داخل مشروع واحد نطاقه الدولة والمجتمع. لن تصبر الراديكاليات العربية على هذا الجمع. إذا أخذنا مجلة شعر مثلاً سنجد ان الثورة تبدأ وتنتهي في الشعر وحده. إذا نظرت الى المقاومة الفلسطينية، حركة فتح التي بدأت قبل هزيمة 1967 يمكن أن نفهم ان التحرير يبدأ وينتهي في السلاح وحده.

هزيمة 1967 كانت بالطبع طلاقاً مع التاريخ. كان من الصعب بعد ان نفهم ان الأمة والتاريخ تحققا ذات يوم وأن هذا كان سحراً زال او رؤيا فيما يراه النائم انقطعت. نزلنا يوم الهزيمة ويوم استقالة عبد الناصر الى الشارع بالملايين. نشجنا طويلاً كما لو اننا على وشك السبي او الخروج. شعرنا أننا لن نجتمع بعد كأمة وأن هذه الرؤيا التاريخية لن تعود. كان الفراغ، الفراغ غير المفهوم والسحري والعجائبي هو الذي يسود، محل الامتلاء غير المفهوم والسحري والعجائبي الذي مر خطفاً.
دار كلام كثير عن هذه اللحظة/ الجرح، لكنها بقيت مع ذلك في دائرة من عدم التصديق، في نوع من الغياب الزمني. لنقل إنها بقيت الى الآن لحظة ما فوق تاريخية. هي للآن لم تُستوعب ولم تدخل في الوعي، لقد كانت لحظة ابوكاليبسيه وتبقى لحظة ابوكاليبسيه. بهذا المعنى لن تدخل في المعقول ولن تتجرّد من لازمنيتها ولا تاريخيتها. ستبقى دائماً قطيعة ولن تولِّد سوى قطيعات او قطائع من نوعها، منذ ذلك الحين سندخل في نوع من القطيعة المفتوحة، ستكون لنا رؤى القطيعة وسياسات القطيعة واستراتيجيات القطيعة. حين نتكلم عن سياسات اليأس لا نغادر هذا المكان. فقدنا، وربما نهائياً، المشروع العام، سيكون للتحديث سياقه وللتوحيد سياقه وللتحرير سياقه وللحرية سياقها وللعدل الاجتماعي سياقه، بل إن هذه جميعها ستغدو نهايات في ذاتها. ستتحوّل الى طوباويات تتغذّى من نفسها وتصب فيها. ستكون غايتها الأولى ان تبقى نفسها وأن تعيد نفسها في نسق تكراري. هي هكذا لا تحتاج الى مستقبل ولا الى مجتمع ولا الى ظرف محدد وربما الى زمان ومكان، وهي بالطبع لا تؤسس ولا تنجب سوى نفسها. لا تحتاج الى أكثر من حضور مشهدي وتفاقم في العرض والدويّ. إنها تقريباً صوتها ولو بدا هذا الصوت مجدداً هو أيضاً الجامع والشامل والكفيل بخلق أساطير صوتية عالياً. مكان هذا الأداء، من هنا أو هناك، لن يكون سوى القطيعة المفتوحة، مكانها هناك فوق التاريخ، في لحظة قيامة مستمرة متجددة، في حركة رمزية تستهلك في رمزها، طقسية تنتهي في طقسها، مشهدية تنتهي في انفجارها.

نفكر هنا بما بعد 67. بعد 67 لم يعد هناك مشروع، افلتت الطوباويات من عقالها، لم تعد هناك اغراض بل حركات تأمل انها في جموحها وفلتانها ستؤدي الى شيء. بدأ شبه حريق. علمنا الآن لماذا لم نرد ان نسمع أم كلثوم. ثأر أحمد فؤاد نجم من السيدة العجوز ومن الشاب الباكي المذعور عبد الحليم حافظ. سخرنا من أجراس فيروز التي لن تقرع. وأعلنا نهاية واقعية نجيب محفوظ المحايدة. كنا لا نزال نعوّل على الشعر ونظن انه وحده يستطيع ان ينفرد بثورة، وأن ينوب عن الثقافة وربما عن التاريخ والمجتمع فيها لكن ارستقراطية مجلة شعر تجاه السياسة لم تكن مرضية، فاحتجاج ليس له مدلول سياسي بدا فارغاً. سمى وضاح شرارة أنسي الحاج بائع الغضب الأحدي مع ذلك، فإن السياسة نفسها لم تكن أكثر من دينامية سائلة بلا غرض ولا أفق. كنا يسارويين بنقد لإنفراد الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي واستبداده وبيروقراطيته، كنا ديموقراطيين لكن مع حرب الشعب والديموقراطية المركزية ودكتاتورية البروليتاريا والفن الحديث والتسوية والثورة الجنسية. كنا مع الثورة المستمرة وغير المنقطعة والدائمة بدون ان نتخلى عن الحلم بديموقراطية مباشرة. تكلمنا عن حرب الشعب لكن أحدًا منا لم يكن يملك بندقية، وحين بدأ السلاح يلعب في الأيدي لم نعد في السن التي يحسن فيها حمل السلاح. اكتفينا بالتفكيك والتركيب وذهبنا هكذا الى حرب لم نفعل سوى الارتعاد من أهوالها، بالطبع لم نكن نعرف ماذا نفعل، الثورة الفلسطينية لا تقدر على تحرير فلسطين، ولا تريد ان تحرر لبنان ونحن حلفاء الثورة الفلسطينية لا نعرف ماذا نفعل لفلسطين وماذا نفعل للبنان. كنا ماركسيين لكن بدون مشروع اشتراكي وبدون أي مشروع آخر. كان علينا فقط ان نبقى مستنفرين وجاهزين ومعبئين للا شيء.

IV

سنة 1968 اعتقلت اثر توزيع منشور عقب إحراق الكوماندوس الإسرائيلي لطائرات لبنانية على أرض المطار.
كانوا أوقفوا عمر ورياض، ولأسهّل الأمر على نفسي قلت إن التملص عبث وأنتظرهم في منزلي بعد أن لبست شيئاً سميكاً لأتقي الضرب. فوجئوا بوجودي وكانوا يظنون ان رجلاً ناضجاً مثلي لا بد سيلجأ الى الاختباء. أما أنا فآثرت الذهاب الى السجن بدلاً من التورط في مماطلة لا أحسنها، إذ لا طاقة لي على أن ابتكر لكل ساعة وأحتال لكل ليلة، وأرتجل كل يوم شجاعة جديدة. كنا وزّعنا مناشير ضد الجيش واستحقينا السجن.
لم نكن سذجاً حتى الإيمان بأن الثورة عندنا ستقوم او تنتصر، وكنت هنا لإثبات أمر آخر. أمر آخر أثبته لنفسي ولا أدري أو لم أعد أدري ما هو. لكن ما فعلته كان بالنسبة إليّ اختباراً خاصاً، ولم استطع ان أراه جزءاً من مسيرة. ذهبت الى اليسار الشيوعي كما ذهب غيري من أمثالي يومذاك. كان ذلك مقدوراً علينا، ولم نذهب بفعل تجاربنا الخاصة.
كان مقدوراً علينا إذاً أن نكون شيوعيين. الشيوعية بالنسبة إلينا أشبه بطبقة صوتية ملائمة او موجة يمكن التحدث عليها. لا نحتاج سوى الى تدريب بسيط لنحسن ذلك، ولا بد بالطبع من بعض السهر. بقليل من القراءة والإصغاء والتمرين يغدو فننا كبيراً ومتيناً لدرجة نُذعن لها نحن أيضاً. انه الآن ينتمي الى فن أكبر وأعظم بالطبع، كان لعدد قليل من الكلمات، والصيغ أثر عجيب في تقويته وجعله فاعلاً. غدونا نحن أكثر اقتناعاً به وكأننا نسمعه من غيرنا، وبدت ابتكاراتنا وحتى حذلقاتنا صحيحة وصار كلامنا حقيقياً لدرجة اننا بتنا أول المؤمنين به. هذه بالطبع لعبة مع أنفسنا صرنا نظنها، مع الوقت، قانوناً.
كان لنا معلم في داخلنا وغدونا تلاميذ أنفسنا. ليس في ذلك قوة شامانية بالطبع، فقد عثرنا على الطريقة وها هي تعمل من تلقائها. قمنا بترتيب صحيح ولا بد أن هذا أنتج. تفكيرنا الخاص، بتدريب ما، لا يعود خاصاً. أما متى يحدث المسّ، متى تندلع شرارة الواقع فهذه كمسألة الخلق تبقى حلقة مفقودة. المهم ان فننا يتحول هكذا الى نظام ويكون علينا ان ننحني له قبل غيرنا، وسنكون أول من يصدقونه وستستمر هذه الخدعة طويلا. سيكون علينا ان نصغي بامتثال عميق لأنفسنا، ان نترك حجرة للتاريخ او الواقع في رؤوسنا، حجرة او مرصداً، وان نقدم تقارير عن الواقع او التاريخ بدون أية نية في ان نفعلهما. كان كلامنا متقاطعاً ومتشابكاً وكأنه خارطة او صورة جوية لهما، يهمنا ان يكون مطابقاً لكن بدون أي أمل بشيء آخر. من كمال تحليلنا ذلك الوقت أن يكون الواقع متكاملاً ولا نفاذ ممكناً إليه. لم نفكر في أن نبني اشتراكية في لبنان، وكان تحليلنا قائماً على استحالتها، لكن ذلك لم يمنع من ان نكون اشتراكيين بل زادنا إصراراً. كان هذا اليأس يجعلنا جنود المستقبل او جنود المستحيل، وهذه المجانية تليق بعمل لم يكن في قراراته إلا فناً.

V

في عام 1967 سافرت الى فرنسا، الى الغرب الذي طالما نسبنا إليه بدون ان يكون بالنسبة لنا سوى مجموعة من التخليات. لم يكن الله وحده هو الذي بعناه بلا معاناة. كرهنا الموسيقى العربية والسينما المصرية والتلفزيون المحلي، كرهنا العمارة والفولكلور والأعياد والرقص والعائلة والأقارب والطائفة والمطبخ والألوان والأزياء والأعراس والتقاليد والأمثال والتعابير واللهجات والأدب وكل شيء وجدناه أمامنا. كل هذا تم بسهولة وبلا معاناة، بعضه كان يكفي كسل طبيعي لتحاشيه. بعضه كان يكفي أول ايعاز لتركه. فرغت حياتنا بالكامل، الماركسية والوجودية، افكار جاءتنا حتى أسرّتنا وقبلناها بدون نقاش. هذه الشبكة من التعطيلات سميناها الغرب.

ما ان وضعت قدمي في الباخرة المسافرة الى مرسيليا حتى اختفى كل هذا الغرب المزعوم. كان عليّ أولاً أن أتعلم الأكل بالشوكة والسكين، ففي البيت أتناول اللقمة بالأصابع والملعقة باليمين أسهل علينا من الشوكة باليسار.
أين الغرب حين أتكلم الفرنسية بلهجة فظيعة. حين يرمقني الفرنكفونيون عندنا وأنا اجرح لغتهم الجميلة وكأنني اكسر تحفة في بيوتهم؟

أين يكون الغرب حين نستوقف بدون نجاح يذكر فرنسيين لحديث قصير في المقهى؟ نتعب من صداقة هوائية لا تجعلنا أقرب. نتعب من الأجندات الثقافية المتراكمة التي لا نستطيع ان نحصّل منها سوى القليل وسوى الشعور اننا نزداد تأخراً. من المكتبات العظيمة الخانقة التي ندخلها خائفين كما لو اننا في مقبرة ونخرج منها اضعف وأكثر شعوراً بالفارق. نحن هنا لنعاني أكثر تأخرنا وبعدنا، فهذا الغرب محجوب عنا ولن يكون في وسعنا ان نصل اليه أو أن نراه.

مع ذلك فإن الذي لم اقدر على فهمه من الناحية الأخرى هو الحنين. الحنين الى ماذا. ليس بالطبع الى الجدران الكالحة المحفرة ولا الأثاث الضخم وماكنة الخياطة المعطلة والخزانة ذات التاج العالي. لا الجنينة المخربة ولا الأزقة التي تفور بالناموس والذباب والسواقي التي تخترقها برغوة الجلي والغسيل. ليس حتى لوالديّ اللذين قلما أبادلهما كلمة ولا الجيران الذين يشبهون حيطان بيوتهم. لم يكن لي هناك صديقة ولا أصحاب. عالمي ليس فيه ما يخصّني وحياتي فيه تنقضي في عادية وعمومية كاملين. حتى ذكرياتي لا أراني بوضوح فيها وكأنها حدثت لغيري. كانت أقل من أن أتذكرها او أتذكرها وأنا شاعر بسخف ذلك وكأنني به أهين نفسي. من اللحظة التي انسلخت فيها من حضن أمي وأنا أخاف أن اقترب منه ولا أتحمل ان تعانقني. كأنني تركت في هذا الحضن كل ما هو حميم، فباتت السخرية من كل ما هو عاطفي او حميم علامة تحرري. أيمكن ان يكون هذا هو الحضن الشاغر الذي ملأه غرب خيالي. شعرت بخجل من ان يكون هذا الحنين الى لا شيء أو لا أحد سوى الرغبة المؤسفة بالعودة الى حضن أمي. شعرت بالمهانة وربما الذنب لكنني لم اقدر..

الحنين الى لا أحد او لا شيء، كان قوياً بقدر ما كان بلا موضوع. لا شيء لم نقم بتسخيفه ولم يعد في حياتنا ما يستحق ان نشتاق اليه. لا يناسبنا ان نعاني شوقاً الى ما سبق ان رميناه بدون اكتراث. كان الحنين لذلك مفاجئاً وغير مفهوم فنحن لا نعرف، بالضبط، ما تعدّه نفوسنا لنا. لم أكن مستعداً لأمر كهذا لذا تعثرت به. كان يعني أني لا استحق تولوز ولا أوروبا. فتنتني تولوز كما ستفتنني فيما بعد، كل مدينة أوروبية. كنت آتياً من أمكنة ليست سوى مبيت فحسب، لا صفة لها ولا ذاكرة عنها. الحنين الى شيء كهذا كان مهيناً، لكن ما حيلتي مع هذا الجوع الذي يعصرني من الداخل ولا اعرف ماذا يريد، لم يكن عندي سوى سفاسف لتلبيته، وربما خشيت، حتى الموت، من ان يكون موجهاً الى أشياء طالما احتقرتها.

تجولت في فرنسا وألمانيا وبعض أوروبا لكني عشت في لبنان، ولا استطيع مع ذلك ان اتكلّم، بالجملة عن اللبنانيين، أمضيت فتوتي وشبابي في مدينة متعددة الطوائف جالست في الصف المدرسي زملاء من مذاهب مختلفة. لم أسألهم عن طوائفهم. لست الوحيد الذي لم يهتم، أصادف فخورين بأنه لم يخطر لهم حينها أن يسألوا. يظنون ان هذا كان عصر البراءة، لكن عدم الفضول تجاه الآخر قد يخفي أكثر من التسامح. قد لا يكون الأمر سوى إنكار ضمني.

لا أعرف من هم اللبنانيون فكيف استطيع ان اعرف من هم الألمان في ألمانيا والفرنسيون. تجربتي الصغيرة لا تسمح لي بأن استسهل اتهام شعب بالعنصرية. البعض يجدونها التهمة الوحيدة التي لا تتطلب دليلاً. يصدقونها بلا أي تحرّ ويفترضون ان الغربيين لا يظهرونها بتعال إضافي علينا وأنها حينئذ تبقى أساس كل تدبير سلبي او محتاط تجاهنا. إنها الإجراءات الأمنية المتزايدة في المطار والأوراق الكثيرة اللازمة لتأشيرة السفر أو حق الإقامة وهي النظم الجامعية، وقد تكون السيستام برمته.

يمكن ان يكون الاستاذ الذي رفض ورقتك عنصرياً، يمكن للشرطي وقاطع التذاكر والسائق ان يمتلكوا شكوكاً مفرطة في رجل ملون، لمجرد انه كذلك. لكن السائق الباكستاني الذي قال لنا في نيويورك بعد ان شكرناه على مساعدتنا بحمل الحقيبة بأن لا داعي للشكر فهو يفعل ذلك حتى لهؤلاء الكفرة الأميركيين يخيف أكثر. انه في بلاد العدو ويحسب كل مسايرة جبناً، أي تنازلاً أخلاقياً، وانه في عمله اليومي يراكم ويحصد المذلات، ولن يكون في جلده حقاً إلا إذا تمكن، عندئذ يصعب حساب ماذا سيفعل.
قال روبير إنه لا يؤمن بمسألة الهوية. كان جالساً على تراس السيتي كافيه محاطاً بكثيرين جاؤوا للاجتماع به. حسم من قبلها أموراً كثيرة بالطريقة نفسها «لا توجد بالنسبة لي». ذلك يعني أنها توجد بالنسبة لأشخاص أدنى تفكيراً، أشخاص يقبلون بعد ان يضيعوا أوقاتهم، وربما حياتهم في مسائل لا تستحق التفكير بها. كنا نلتقيه للمرة الأولى في اجتماع منظم مع كاتب ضيف. وبالطبع كان في المستوى وأكثر مما يجب. بتَّ أموراً كثيرة بسرعة. بدا مرتاحاً ومنشرحاً وبالضبط لأننا نطرح مسائل غير موجودة ولأننا لا نفهمه بالتأكيد. كنا كثيرين لكنه أفلت منا جميعاً. كان رشيقاً وماهراً بالتأكيد وهو يعيد مسائلنا إلينا كرسائل أخطأت العنوان. لا ينظر الى أحد. ظلت عيناه بعيدتين وكأنه لا يرى سوى أفكاره. وسنخرج من هذا اللقاء بعد ساعتين وكأنه لم يكن او إننا لم نوجد قط لمسائلنا نفسها.

لم يعد مهماً أن نجيب بأن المسألة ليست مسألة إيمان، وليس مهماً أن نلومه، فنحن قد نفعل الشيء نفسه. نقول للذين لا يبالون بالموت في سبيل مبدأ، انه لا يستحق او أن المسألة كلها بحت هراء. لم يهتم روبير ببحيرات دم سالت في سبيل هراء كهذا. كان نحيلاً للغاية وبعينين مشقوقتين وأصابع طويلة، كان يبدو فريداً فعلاً كنصب للحقيقة او آلة لنزع الأوهام.
قامته الجافة تبدو وكأن ليس فيها ماء، كذلك عقله. لقد ولد راشداً ولم يبع قلبه لأي كذبة ولأي شغف غير أكيد. لا اعرف لماذا، فجأة، رثيت له. فهمت انه لن يجد الكثير ليرويه عن حياته. الأمور التي تبدو باطلة الآن تستحق تعاطفنا كحب قديم، لا ننسى ان أفضل أيامنا امتزجت بها. لم نخلطها فقط بالأكاذيب بل صدّقنا أحياناً دمنا ودموعنا. هل رشدنا أم اننا لا نرشد أبداً، أفكر، على سبيل التعزية، بأن البشرية أفنت تاريخها أيضاً في سبيل قضايا غير موجودة.

السفير
28 مايو 2010