أدونيس
(سوريا/باريس)

أنا مَن كَتَبَه، فكيف أقرأُه؟
1
من هواجسي الأولى [1] تجديد النظر باستمرار إلى تاريخنا في جوانبه جميعًا، وبخاصة السياسية والثقافية، خصوصًا أن بناء الحاضر مرتبط عضويًّا، كما يخيل إليَّ، بمستوى فهمنا للماضي، تجاوبًا وأفكارًا.
الكتاب، في هذا المنظور، حلقة في مشروع. وهو في ذلك يفيض عن حدود الشعر، بالمعنى الحصري الموروث وبالمعنى الشائع. هكذا يتقاطع فيه الشعرُ والتاريخ، حينًا، ويتواكبان، حينًا آخر. وأنظر هنا إلى "التاريخ" بدلالته الواسعة – علمًا وفلسفة، وصراعًا سياسيًّا وفكريًّا. ولئن كان النص التاريخي نقلاً للحدث ووصفًا، فإن النص الشعري اختراق واستشراف. التاريخ يعرض، والشعر يستكشف.
هكذا أعود إلى الينابيع الأساسية لهذا التاريخ، في سَفَرٍ داخل الجسد الثقافي العربي، على غرار دانتي، لكنْ في الأرض، لا في السماء، أتقرَّى نظامَ حياتنا الماضية: سياسيًّا، في فرادة طغيانه، وثقافيًّا، في فرادة إبداعاته. فبين السياسة – ميدانًا للقمع والتسلط، وبين الثقافة – ميدانًا للإبداع والحرية، يتحرك الكتاب وينبني. إنه أشبه بمحترَف يزخر بصور العربي في مهاويه وذرواته، وبتناقضاته جميعًا، الأخلاقية والفكرية والكتابية.
وأعي في هذا كلِّه أن القطيعة مع الماضي يجب أن تتأسس في سياق علائقي: بالمجتمع، بالتاريخ، بالآخر، وبالطبيعة، وبالذات، وبالحاضر والمستقبل. دون هذا السياق، الرائي والمنخرط معًا، المحايِث والمتجاوِز في آن، لا تصح القطيعة، أو لا تكون إلا لفظية.
ولما كان الماضي مستودعًا للعناصر التي لا تزال الأكثر حضورًا وفاعلية، وبخاصة في جوانبها الدينية، في المجتمعات العربية، فلا بدَّ من العودة إليه لقراءته وفهمه في ضوء التجربة الراهنة، العربية والكونية. ولا تعني هذه العودة الاستعادة أو المنوالية التكرارية، وإنما تعني رؤيته على حقيقته، في ما هو، وفي جميع أحواله، لكي نعرف كيف ننفصل وكيف نتصل.
2
هكذا أخلق حوارًا – يبدو أحيانًا معقدًا، وأحيانًا ملتبسًا – بين الحاضر والماضي، تطلُّعًا إلى مستقبل في مستوى الحرية، وفي مستوى الكينونة.
أدَّت طبيعةُ هذا الحوار إلى أن أتجنب البناء السردي الملحمي، وأن أبتكر شكلاً بنائيًّا تتداخل فيه الأزمنةُ والأشكال. هكذا جمعتُ في كلِّ صفحة من الكتاب بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين أساليب فنية متعددة، على نحو متداخل ومتشابك. وهو بناء مستفاد من الفنية السينمائية، في المقام الأول.
يمثل الجزء أو الهامش الأيمن من الصفحة الذاكرة العربية، السلطوية السياسية – في الأحداث اللاإنسانية، أحداث الفتك والقتل، وفي الحركات التمردية الثورية – مفترِضًا أن المتنبي، دليلي في هذا السفر، هو الذي يسترجعها عِبْرَ مواجهاته وصراعاته وتجاربه السياسية ومطامحه.
ويمثل الجزء الأعلى من متن الصفحة الحاضر–المستقبل، منوَّرَين بالمتنبي، حياةً وتجربة، ومستلهَمَين من حياته، ومن حضوره التاريخي والشعري.
ويمثل الجزء الأسفل لحظة التأمل التي تتوحَّد فيها الأزمنةُ الثلاثة.
وقد خصَّصتُ الهامش الأيسر من الصفحة لإشاراتٍ مرجعية لِمَن يريد مزيدًا من الإحاطة بالأحداث أو مزيدًا من التوثيق.
هناك، إضافة إلى ذلك، "هوامش" – صفحات كاملة – تصل في ما بين فصول الكتاب، احتفاءً بالمبدعين العرب القدامى، في مختلف الميادين، وبالطاقات الخلاقة في تاريخنا. والمحرك الأول لهذا الاحتفاء يكمن في التوكيد على أن طاقة الخلق لا تُستنفَد: بها يُعْرَفُ معنى التاريخ. الإبداع هو الذي يضيء التاريخ، وليس العكس – ذلك أن التاريخ مجرد حاضن.
تَرِدُ في هذه "الهوامش" جميع الأسماء الكبيرة في تاريخ الإبداع العربي، التي كانت مهمَّشة، بشكل أو بآخر؛ وبينها أشخاص كثيرون ماتوا قتلاً أو نبذًا. إنها، في آنٍ، إشاراتٌ إلى السموِّ في الإبداع العربي، وأمثلةٌ على التفرد، وعلى عنف السلطة.
ولكلِّ فصل نسقٌ بنائي أبجدي يتألف من مقاطع بعدد الحروف الأبجدية. ولكلِّ "هامش" نسقٌ أيضًا، من عشرة نصوص، يحتفي كلٌّ منها باسم من تلك الأسماء الكبيرة.
3
الجزء الثاني من الكتاب أكثر اتساعًا؛ ولعله أكثر تنوعًا وغنى من الجزء الأول. فهو يتضمن، إلى جانب السَّفَر التاريخي، سَفَرًا خياليًّا في مدن عربية، رمزية، يقوم بها شخصٌ متخيَّل اسمه "أبجد"، هو في الوقت نفسه صديق للمتنبي – دليلي الأساس.
هذه المدن التي يقرأها أبجد في ضوء الحياة العربية تتسلسل، هي كذلك، أبجديًّا. وهو يقرأها في واقعها الرمزي، وفي ما تمثله حضاريًّا.
يتضمن كذلك هذا الجزء الثاني من الكتاب ثلاثة "كتب":
1. يوميات سيف الدولة، المتخيَّلة.
2. يوميات أخته خولة، المتخيَّلة هي كذلك، التي تروي علاقاتِها بالمتنبي؛ وهي علاقات لا يؤكدها أي دليل تاريخي.
3. دفاتر المتنبي، وهي كذلك مبنية على التخيل.

أما الجزء الثالث والأخير من الكتاب فإن نصيب الغنائية فيه أوضح منه في الجزأين الأول والثاني، ذلك أنه الأكثر إفلاتًا من قبضة الحدث.

4
هكذا يبدو الكتاب، في أجزائه الثلاثة، كأنه رواية حبٍّ لتاريخنا العربي، وصراع مرير معه في آن. ويغلب على هذه الرواية البُعدُ التراجيدي، فيما تخترق ظلامَه شهبٌ من الفرح، شهبُ الفرادات التي تمثلها تلك الأسماءُ الكبيرة الخلاقة في هذا التاريخ.
يجمع الكتاب، فنيًّا، بين أساليب مختلفة، كما أشرت: ففيه جانب موزون بطريقة تستعيد ذاكرة الوزن الحكائية، قصديًّا، بغية التطابق مع الدلالات السياسية–الثقافية، وبخاصة في الهامش الأيمن من الصفحة، حيث تستعاد الأحداثُ التاريخية الدامية، أحداثُ الفتك والقتل.
وفيه كذلك أسلوب الكتابة القائم على التفعيلة، بتراكيبها الحديثة، وعلى التفاعيل بصيغها الكلاسيكية – وهذا قليل جدًّا.
كلٌّ من هذه الأساليب يتصادى مع الآخر، دون أن يذوب فيه أو يتماهى معه. هكذا يمكن أن يُقرأ الكتاب بصفته رواية–قصيدة، أو بصفته شذرات وتشظِّيات، أو بصفته هيكلاً معماريًّا مقسمًا إلى "غرف"، بشكل يتيح لكلٍّ منها أن تكون، في آن، منفصلة ومتصلة، عبر خيط هندسي جامع وجامح.
وفي حين يبدو صوت اللغة في بعض "الغرف" مليئًا بالذاكرة، يبدو في بعضها الآخر كأنه إقصاء كامل للذاكرة عبر التجريب والتخييل والاستشراف. لهذا قد يشعر القارئ أنه يمر، فيما هو يقرأ، من غرفة إلى أخرى مختلفة، مع أنها مجاوِرة. وقد يشعر أولئك الذين تعذَّر عليهم، لسبب أو آخر، أن يروا الكتاب في وحدته وشموليته، أنهم يمرون بين غرف–عوالم متباينة، وأن عليهم أن يغيروا، بين "غرفة" وأخرى، أدواتِهم في المقاربة، وفي التذوق، وفي المعرفة. ففي كلِّ "غرفة" سرٌّ ينتقل خفية إلى ما يجاورها، ويصعب الإمساك به. وفي هذا قد يخيَّل لبعضهم أن مفتاح الكتاب ضائع. والحق أن هذا "المفتاح" ليس موجودًا في أيٍّ من "الغرف"، وإنما هو موجود في مكان آخر، في غرفة–جامعة، أو في "بيت" جامع، لا يُدرَك إلا بدءًا من إدراك حركية الاستقصاء والاستشراف التي توجِّه الكتاب وتهيمن عليه.
يقودني هذا الأمر إلى الاعتراف بأن الكتاب محيِّر في ما يتعلق بكيفية قراءته. وإذًا، لا بدَّ من أن يكون محيِّرًا في كيفية فهمه. فبعد مرور فترة طويلة على صدور جزئه الأول، نشأتْ بيني وبينه مسافةٌ تتيح لي أن أنظر إليه من خارج، موضوعيًّا، بصفتي قارئًا. ولا أتردد في القول أنني أُصاب، أنا مَن كتبه، بشيء من الحيرة: كيف أدخل إلى الكتاب؟ كيف أقرأه؟
5
لا ينفصل الشعرُ في الكتاب عن الفكر. ثمة فاعلية في لغته تتجاوز حدود الانفعال والحسِّ إلى رؤية فكرية ثقافية: إنها فاعلية رؤية لا تفصل بين الانفعال بالشيء واكتناهه في جميع حالاته. غير أن الفكر هنا هو من الوردة عطرها – ذائب في الرغبات والتخيلات: فكر جسد–صورة. أو لنقل، وفقًا لتعبير جورج شتاينر: الشعر هنا هو "موسيقى الفكر".
في ذلك أتابع التأسيس لما بدأه امرؤ القيس، وأبو نواس، وأبو تمام، والمتنبي، والمعري. فالشعر والفكر في الكتاب بنية واحدة في عالم من الصور. فليس الكتاب رؤيةً شعرية تصوغ منظومةً فكرية، وإنما هو، بالأحرى، رؤية فكرية تصوغ عالمًا شعريًّا.
نجد هذا التزاوج في جميع الأعمال الشعرية الكبرى، في مختلف ثقافات العالم، بدءًا من القصيدة الكبرى جلجامش. يهبط الشعر في الكتاب ويصعد في أعمال مما وراء العقلنة. خصوصًا أنه لا يكتب "الحس المشترك" – المباح، المقبول، المكشوف، العام – وإنما يكتب اللامشترك، المراقَب، الملتبس، الممنوع، الجدالي. إنه غوص في العتمة، وتعرية للخفي المكبوت.
الكتاب شهرزاد شعرية – تلك التي وصف أمثولتَها كارلوس فوينتِس بأنها "حكاية ماضٍ يرويها الحاضرُ لإنقاذ المستقبل".
*** *** ***
--------------------------------

عن موقع (معابر)

أقرأ أيضاً: